الإمام محمد ابو زهرة

ابن تيمية

حياته وعصره - آراؤه وفقهة

ملتزم الطبع والنشس

ذار الفكر العربى

الإدارة : 1١‏ شارع جواد حسنى ص . ب ١١٠١‏ القاهرة : 5١3150057‏

الإمام محمد ابو زهرة

ابن تيمية

حياته وعصره - آراؤه وفقهة

ملتزم الطبع والنشس

ذار الفكر العربى

الإدارة : 1١‏ شارع جواد حسنى ص . ب ١١٠١‏ القاهرة : 5١3150057‏

048,64" محمد بن أحمد أيى زهرة , 1854 - 151/5 ,

محعاب

ابن تيمية : حياته وعصره ؛ أراؤه وفقهه محمد أبى زهرة. - ط » جديدة . - القاهرة : دار الفكر العربى: 1991 .

ص ؛ "١0‏ سم .

يشتمل على إرجاعات ببليوجرافية .

١‏ - ابن تيمية تقى الدين أب العباس أحمد بن عبد الحليم , 575١‏ -58؟/! ه . ؟ - الفقه الإسلامى

, مذاهب . " - الفقه الحنيلى . ! - العنوان‎ - ٠

تعريقء بالشيخ الإمام محمد أبو زهرة

الإمام محمد أبو زهرة غنى عن التعريفء إن لا يختلف اثنان على أنه كان إمام عصره بلا منازع: ولكن من حقه عليناء ومن .حمق قارئه؛ أن نسطر عنه كلمات ولو فى أسطر قليلة تشير إلى نشأة ذلك الإمام؛ والجو الذى ولد وهاش فيه والمواقف الشجاعة فى الإصلاح الاجتماعى والإسلامىء ولو أدى الأمر إلى الوقوف ضبد اتجاهات السلطان.

هذا الإمام هى : محمد بن أحمد بن مصطفى بن أحمد ين عيد الله, المولود فى عام

وأسرة أبى زهرة ينتهى نسبها إلى الأشرافء وأكنها لا تدعى ذلك كما يفعل الكثيرون, ممن يرفعون بذلك النسب خسيستهمء وإن كانوا فى واقع حالهم لا يستحقون الرفعة.

- بدأ الشيخ حياته التعليمية فى الكتاب. شأن كل أزهرى فى ذلك الوقت» ثم المدرسة الأولية حيث تعلم ميادئ القراءة والكتاية, ثم انصرف إلى المدارس الراقية, وبها أتم حفظ القرآن الكريم: وتعلم مبادئ العلوم المدنية كالرياضة والجغرافياء بالإضافة إلى العلوم العربية, وفى سنة ٠111م‏ التحق بالجامع الأحمدى بطنطا حيث ظهر نبوغه وتفوقه على أقرانه مما أثار إعجاب المحيطين يه من زملاء ومريين. وفى عام دخل الإمام محمد أبى زهرة مدرسةه ة القضاء الشرعى بعد أن اجثاز امتحان مسابقة قة كان أول المتقدمين فيه, رغم فارق السن, وعدد سئثوات الدراسة بينه وبينهم.

- وقد تنقل رحمه الله فى عدة مناصب بين كلية أصول الدين, وكلبة الحقوق؛ وتدرج فى مرائب التدريسء من مدرس إلى أستاذ مساعد,ء إلى أستاذ ذى كرسىء إلى رئيس قسم الشريعة: إلى أن أحيل إلى التقاعد عام 1154م: واختير عضوا بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر فى فبراير عام ؟151: وهو المجمع الذى يعتبر بديلا لما كان يسمى فى ال ماضى هيئة كبار العلماء.

يتحدث عن نفساء يقول:

- اختلطت حياتى بالحلو والمرء وابتدأت حياتى العلمية بدخول المكتب لحفظ القرآن الكريم» وإذا كان النبات قبل أن ي.تغاذا سوقه يعيش على الحب المتراكب وقد يرى بالمجهر سورة النبات فى ذلك الحبء فكذاك يذشا الناشئ؛ مناء وفى حبته الأولى فى الصبا تكمن كل خصائصه فى الكبر» وكنت أشدر وأا فى المكثب بمرين ظهرا فى حياتى قيما بعد.

والأمر الثانى : أن نقسى كانت تخميق من السيطرة بغير حق,.

ويسبب هذين الأمرين كانت حياة الشديخ أبو زهرة سلسلة من المواقف الشجاعة. يناضل فى سبيل الحق ضد المباطلء وام يرحل عن دنيانا إلا وقد ترك ثروة" من العلوم الشرعية الإسلامية التى تصيط بكثمر من الموضوعات من كل جوانبها. قهى الكنز الذى لاينفد, والنبع الذى لا يزال يتهل منه الظامثون, ولا يضيق يكثرة الناهلين.

رحمه الله رحمة واسعة: وهزاة شير ما بجزىي عالما عاملا لم مرد إلا العزة والرفعة للإسلاموالمسلمين.

الناشر

محمد محمود الخضرى

0 المؤافات الكاملة للإمام محمد أبى زهدرة موضحة فى آخر الكتاب

بسم الله الرصمن الرديم

الحمد لله رب العالمين: والصلاة والسلام على س.يدثا ممصمد النبى الأمى؛ وعلى آله

أما بعد: فقد كتبت فى الأ ة الأردعة أ.؛.. .ماب المذاهب التى تّاسمت الجماعة الإسلامية من حيث انتشارها وذيوعها والاخذ دهاء وقد أفردت لكل واحد مجلداً فصات فيه القول فى حياته. وعصره. وعلهه وفقهه ومنادج استذباطه وأاقرته دروساً على طلبة قسم الشريعة من الدراسات العليا بكلية الحقوق من جامعة القاهرة.

ونا وفقنى الله سبحانه وتعالى إلى إشراج هذه المجموعة الفقهية والتاريخية لجمهرة العلماء والمثقفين فى مصرء اتجهث النية إلى دراسة الطبقات التى تلى الأئمة الأربعة من المجتهدين الأحرار» أو المجتهدين المنتسبين إلى همذهي. من مذاهبهم؛ وقدمت ذلك على دراسة الأئمة الآخرين كجعفر بن محمد إمام الإمامية» وزيد بن على إمام الزيدية: وأبى داوود الظاهرىء وابن حزم الأندلسى إهام الفقه الظاهرى فى مصادره وموارده.

وإئما اخترت بعد الأئمة الأربعة دراسة المجثيدين على مناهجهم؛ لأن ذلك دراسة لفقه الجماعة الإسلامية؛ وتعرف لأدواره: وتقص لثمرات ما غرسه أوائك الأئمة أصحاب. المذاهب الأربعة: فهى تكميل لا إنشاء؛ واستمرار لا ابتداء.

وعندما اتجهت ذلك الاتجادء برز إلى الخاطر إدام شغل عتيرة بفكره ورأيه ومسلكه؛ فدوى صوته بآرأئه فى مجتمعه؛ فتقيلتها عقول واستساغتهاء وذساقت عنها أخرى وردتها؛ وانبرى لمنازلته المخالفون؛ وشد أزره الموافقون؛وهى فى الجممين يصول ويجولء ويجادل ويناضل؛ والعامة من وراء الفريقين قد سيطر عليهم الإء جاب بشخ دمه وبيانه؛ وقوة جنانه

وحدة لسانة؛

واعترتهم الدهشة لما بجئ به من آراء بجدد بعا) أدن هذه الأمة, ويعيد اليها دينها غضاً قشيباً كما ابتدأ.

ذلكم الإسام الجرئ هو تقى الدين بن تيمية صاحب المواقف المشهودة؛ والرسائل المنضودة: اتجيت لدراسته مستعيناً يالله سبحانه؛ لآن دراسته دراسة لجيل؛ وتعرف لقيس من النور أضاء فى دياجير الظلامء ولأن آراءه فى الفقه والعقائد تعتنقها الآن طائفة من الأمة الإسلامية تأخذ بالشريعة فى كل أحكاهها وقوانينها؛ ولأننا نحن المصريين فى قوانين الزواج والوصية والوقف قد نهلنا من آرائه؛ فكثير مما اشتمل عليه القانون رقم 0 لسنة هأغخوذ من آرائه. مقتبس من اختياراته. وشروط الواقفين والوصايا اقتبست أحكامها فى قانونى الوقف والوصية من أقواله.

ثم إن دراسة ذلك الإمام الجليل تعطينا صورة لفقيه قد اتصل بالحياة» وتعلق قلبه وعقله وفكره بالكتاب والسنة والهدى النبوى: والسلف الصالح رضصوان الله عليهم أجمعين» فهو يأتى بفكر سلفى سليم أخذ بأحكام القرآن الكريم؛ والسنة النبوية؛ يعالج به مشاكل الحياة الواقعة بالقسطاس المستقيمء بل يلقى فى حقل الحياة العاملة الكادحة المتوثبة بالبذرة الصّالحة التى استنبطها من الكتاب والسنة فتنبت الزررع؛ وتخرج الثمرء وتؤتى أكلها كل حين بإذن ريها.

وإنا وقد اتجهنا إلى دراسة ذلك العالم الكاتب الخطيب المجاهد الذى حمل السيف والسنان كما حمل القلم والبيان» سنجتهد فى دراسة حياته؛ ومجاوبتها لروح عصره. وتأثيرها فيه؛ ثم ندرس آراءه كعالم من علماء الكلام وآراءه كفقيه؛ واجتهاده؛ والأصول التى تقيد بها؛ ومقدار الصلة التى تريطه يالفقه الحنبلى.

وإنا نستعين بالله. ونسأله التوفيق, فإنه لولا توفيقه ما تيسر لنا أمرء ولا وصلنا إلى غاية. إنه نعم المولى ونعم النصير,

محمد أيوزهرة

وه

المهيذ

([ك بغ ابن تيمية فى الثلث الأخير من القرن السابع والثلث الأول من القرن الثامن.

ومن وقت أن ظهر عالماً بين العلماء؛ ومرجعاً يرجع إليه فى الإفتاء, والناس مختلفون فى شأته بين قادح ومادح؛ وما زال ذلك الاختلاف إلى يومنا هذا؛ فالناس فيه فريقان: قريق غالى فى تقديره حتى رفعه إلى مرتبة فوق كبار أئمة الفقهاء. فتجاوز به أقدار الأئمة الأعلام. كابى حنيفة ومالك والشافعى والليثء ومنهم من حسب أنه لم يصل إلى مرتية الاجتهاد. وما اجتهد فيه فقد تجاوز فيه طوره؛ وتعدى فيه حده؛ بل من الناس من كفره حاسياً أنه خلع الريقة وانطلق من قيود السالفين» وعدا عدوا على الدين.

وإن المشاهد قديما وحديثاً أن الرجل الذى يختلف الناس فى شأنه بين إعلاء وإهواء, لايد أن يكون رجلا كبيراً فى ذات نفسه عظيماً فى خاصة أمره: له عبقرية استرعت الأنظار؛ واتجهت إليها الأبصار, فيكون له الولى الموالى, والعدى المتربص المؤاخذ الذى بتتبع الهفوة؛ ويحصى السقطات.

وكذلك كان ابن تيمية رضى الله عنه, كان عظيما فى ذات نفسه. اجتمعت له صفات لم تجتمع فى أحد من أهل عصره. فهى الذكى الألعى؛ وهو الكاتب العبقرى, وهى الخطيب المصقع؛ وهى الباحث المثقب؛ وهى العالم المطلع الذي درس أقوال السابقينء وقد أنضجها الزمان؛ وصقلتها التجارب» ومحصتها الاختبارات؛ فنفذت بصيرته إلى لبهاء وتغلفل فى أعماقها ٠‏ وتعرف أسرارها؛ وفحص الروايات. ووازن بين الآرا ء المختلفة, وطبقها على الزمانء مع إدراك للقوانين الجامعة؛ وربط للجزتيات, وجمع للأشتات المتفرقة ووضعها فى قرن واحد.

(5! واقد أدته بحوثه ودراساته للثروة الفقهية والعقلية التى كانت بين يديه ميراثاً عن الأسلاف إلى أن يجعل من نفسه حاكما على متخالفها؛ قاضياً فى الآراء المختلفة فى قضاياهاء ولقد سار فى الحكم عليها سير القاضى العادل تسيره المقدمات ولا يسيرهاء وتوجهه البينات ولا يوجههاء وما كانت بيناته إلا كتاب الله وسد'ة رسوله لله وأثار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعينء وها كان منهاجه إلا منهاجهم فى أقضيتهم وأحكامهم؛ فءا يجده سائراً مع الكتاب والسنة وآثار الصحابة أيده ونادى به وما يجده مخالفاً لها جاهن ببطلانه

٠

أياً كان قائله, ومهما يكن ناصره؛ فتحركت بذلك الطوائف المعتنقة لهذه الآراء التى يهدمها- لنازلته ومناهضته ورميه بالشطط ومجاوزة الحد.

- وإنه لم يق يقتصر على الفروع يقضى فيهاء ويحكم على الآراء ء المختلقة بيشأنها؛ بل تكلم في مسائل من علم الكلام, » فتكلم فى خلق القرآن؛ وتكلم فى قدرة الإنسان وإرادته بجوار قدرة الله تعالى وإرادتة؛ وهى المسائل التى أثارها الجهسية والقدرية فى الماضى, وتكلم فى المشتبهات من آيات الصفات ت؛ ووصف الله سبحانه وتعالى بالاستواء؛ وقد فحص هذه المسائل يطريقته غير متقيد إلا بالكتاب والسنة ومناهج الصحابة وكبار التابعين» وبحكم العقل المستقيم, قلم يت يتقيد برأى من جاء بعدهم أي كانت مكانته العلمية: ومنزلته التاريخية, فخالف فى ذلك أيا الحسن الأشعرىء ومكانته بين العلماء مكانته, وأتباعه كثيرون: بل هم الجمهرة العظمى من العلماء فى عصره؛ ورمى الأشاعرة وال ماتريدية بأثهم فى مسالة الإرادة جهمية؛ فعندئذ تصدى له الأتباع مجاهرين بعداوته ورموه بالشطط والخروج والضلال» وكانت بينه وبيئهم حرب عوان نال منهم بالقول وألبرهان: ونالوا منه بالزج فى غيابات السجن؛ وتأليب ذوى السلطان,

. 4- ولم يكتف بأن يثير عليه خصومه من الفقهاء والمتكلمين فقطء بل أثار صوت الحق الذى كان ينطق به طائفة أخرى أشد لجباً؛ وأقوى على العامة سلطاناً؛ تلك هى الصوفية جاهر بمخالفتهاء وندد بطرائقها؛ وأعلنها عليهم حرياً شعواء؛ ورماهم بالشعوذة: وإفساد النفوس؛ وأنكر عليهم ما ينشرونه بين أتباعهم من التوسل بالأولياء والصالحين: وعد ذلك من قبيل اتخاذ المخلوقين شفعاء للخالق ليقريوهم إليه زلفى» كما كان يقول المشركون فيما حكاه الله عنهم إذ قال: (ما نعبدهم إلا ليقريونا إلى الله زلقى)(') إذ شدد ابن تيمية النكير؛ وبالغ فى التشديد؛ ولم يترك مجالا يمكنه أن يعلن فيه ترهات بعضهم إلا أعلنهاء واشتد اللجب فى الخصومة بينه وبينهم, والتقوا للمناظرة والمجادلة؛ وما كان يخفى أمراً من أمرهم, فما كان يخفى فى نفسه شيئاً لا يبديه لهم؛ بل إنه ذهيت جرأته إلى أن يعلن على رءوس الأشهاد أنه لايصح الاستغاثة بأحد من الخلق؛ ولا بمحمد سيد الخلق: وجار بذلك فى الجموع الحاشدة؛ ولم يفرق فى إعلان آرائه بين العامة والخاصة:ء فهو يقول للعامة ما يقول للخاصة؛ لأنه يعتقد أنه دين» وواجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يلزمه بإرشاد كل ضال فى اعتقاده. سواء أكان من العامة أم من الخاصة, بل إن هداية العامة ألزم؛ لأن العالم مسئول عن إرشادهم؛

/

وإن ضلوا وهى يستطيع الإرشاد وإنارة السبيل فعليه وزر من وزرهم؛ فإنه كان يأخذ بقول على رضى الله عنه: (لا يسأل الجهلاء لم لم يتعلمواء حتى يسأل العلماء لم لم يعلموا).

ه- واسترسل فى إعلان آرائه استرسال العالم اأدريق الوثيق فى حجته وقد آتاه الله لساناً مبيناًء وقلياً حكيماء وقلماً عليما؛ ولم يكتف بما «سبق؛ بل هاجم الشيعة هجوماً عنيفاً بقلبه وقلمه ولسانه؛ لأنه حسبهم مالئوا خصوم الإه. لام من الصليبدين على المسلمين وكشقوا عورات المؤمنين وحسبهم مالئوا التتار على السكان الآمذين» ومكنوهم من رقابهم وأرضهم يعيثون فيها فساداً؛ فجرد عليهم ذلك الفارس الذى حارب التثار بسيفه. قلماً عضباً ولساناً حاداً» وأخذ يرد أصولهم؛ ويدحض حججوم غير وان ولا كسل؛ ودون الرسائل الكاشفة؛ وقد رأى فى حال الشيعة الذين عاصروه من الباطنية والحاكمية وحال النصيرية, وطرائقهم السرية ما جعله هووسائر المعاصرين يتظنون فيهم الظنون, ويقبلون عنهم الأقاويل؛ فكان قوله فيهم يتفق مع ذلك كله, ذلك بأنهم كتموا أمورهم وأسرو) فى أنفسهم وجماعاتهم ما لا يبدونه؛ وبالغوا فى الحرص والكتمان؛ وكانوا يدبرون التدابير لاغتيال الزعماء والكبراء من أهل الجماعة الإسلامية, وظهرت أآثار ذلك منهم فى القرن السادس والسابع وتسامع الناس به. وام يعد أمره خفياً وكانت المعركة قائمة مستعرة الأوار بين أهل الإسلام وحملة الصليبء فكان للظن ما يسوغه ويسهل قبوله.

1- خاصم ابن تيمية كل هؤلاء؛ وليس الغريب أن يكون له من بينهم قادحون:؛ يورثون قول السوء فيه لأخلافهم: بل الغريب أن يستمر فى دعوته وتألييهم عليه من غير خوف, وليس الغريب فى أن يقضى سنين فى غيابات السجنء بل الغريب ألا يعثدوا عليه بأيديهم

وما السبب فى أنهم لم يمدوا أيديهم بالأذى البدنى إلا مرة واحدة أثار الصوفية فيها العامة فى مصرء وهو يلقى درسه؛ فامتدت بعض الأيدى إلى جسمه بالأذى: وسرعان ما ارتدت كلية إلى صاحبها.

السبب فى ذلك أنه كان رجلا مخلصاً ابتدأ حياته محبوباً من ااكافة, وكان من الواضح للعامة والكافة إخلاصه: فهى الفقيه العالم الذى يجاهد بسيفه فى سبيل الله ولم يقتصر على الجهاد بعلمه وقلمه ولسانه. بل جرد السيف لقتال التتار, وككان شجاعاً فى هيدان القثال: كما كان شجاعاً فى ميدان العلم والسياسة:؛ ذهب على رأس وفد من دمشق

9

يدعى قازان ملك التتار إلى منع العبث والفساد. وخاطبه بقلب جرئ” ولم يتردد في أن يصف أعمال ذلك الملك العسكرى القاسى فى جبروته بوصفها الحقيقى.

وكان مع العامة درعاً حصينة فى كل بلاء ينزل بهم يتافح عنهم بلسانه وقلمه وسيفه, ويشاركهم فى ضرائهمء فكانت القلوب تصغى إليه. والأفئدة تهوى نحوهء فسهل ذلك قبول قوله. وإن كانت فيه مجاهرة بمخالفة المألوف المعروف عند الملماء فكانت أعماله شاهدة بسلامة دينه.وقوة يقينه؛ والأعمال تسترعى الأنفس أكثر مما تسترعيها الأقوال؛ وفوق هذا كانت له شخصية رهيبة قوية» ونفس حلوة جذابة؛ وقلب رءوف خافق؛ وعقل جبار تافذ: وإرادة قوية حازمة؛ وكل أوائك يجعل له عند الناس مكانة؛ ويجعلهم يقبلون ما يقول؛ أى على الأقل إن يخالفوه لا ينايذوه؛ وإذا أضيف إلى ذلك لمعان حجته. وفصاحة بيانه. وقوة بلاغته, علمنا تحت أى تأثير كان المستمعون له؛ فوق أنه كان ينهل من العذب الصافى: والورد المورود إلى يوم القيامة. وهو كتاب الله تعالى وسنة رسول الله مَل فهى ياخذ بالباب المستمعين إلى المحجة البيضاء؛ وكان كثيرون من الدهماء يصغون إليه؛ وكثيرون من الخاصة:

ولذلك وجدنا الذين يكيدون لذلك العالم الجليل من العلماء المعاصسرين يكيدون له عند السلطان, ولم نجد من العامة إلا قليلا تحت تأثير عوامل اصطناعية لا طبيعية: وكان ذلك يحدث فى مصر لا فى الشامء إذ فى الشام يعلمه العامة والخاصة؛ وفى مصر لم يكن معلوماً لكثيرين من العامة, فكان من السهل إثارتهم عليه.

1- هذه لمحات لتلك الشخصية الرائعة التى نحاول وضع أيدينا على مفتاحها؛ وتعرف خواصها! واستكناه حقيقتهاء وتقصى أخبارها؛ ونتتيعهاء وصاحبها صغير إلى أن يبلغ أشده؛ ثم استوى رجلا قوياً» وعالماً علياً.

وإن سيرته نيرة مبسوطة مذكورة: ذلك بأن تلاميذه الذين أخلصوا له فى حياته وبعد وفاته» تقصوا حيانه؛ وبسطوا الوقائع التى نزلت به والتى اعترك فيها مع غيره؛ وبعض أوائك قصوها علينا قصصاً واقعياً موضوعياًء ولم يضفوا على الأخبار بمبالفات الخيال؛ ذلك لأنهم شاهدوا وعاينواء فأكتفوا يتدوين شهادتهم وعيانهم.

' 5

وإن سرد الوقائع من غير توسيعها بالخيال؛ يسهل على الدارس دراسة الشخصية دراسة علمية؛ يرد النتائج إلى مقدماتها؛ والفروع إلى أصولها؛ والآثار إلى المؤثر فيها.

ولذلك لا نجد الصعوبة التى كنا نجدها عند دراسة الأئمة الأربعة» وتعرف أشخاصهم من سيرتهم التى دونها كتاب المناقب» فإنا كنا نجد مبالغة وإغراقاً فى المدح بالمعقول وغير المعقولء فكان استخلاس الحقيقة من بين المدون المسطور صعباً عسيراً.

أما هنا فإنا نجد السيرة مدونة تدويئاً صحيحاً خالياً فى أكثر الأحوال من المبالغة؛ وإن بالغ بعض الكتاب: فإن تمييز الحق الصحيح من بين ثنايا المبالفة سهل با موازنة بين الكتايات.

8- واكن إذا كان تعرف شخصيته الإنسانية من وقائع سيرته سهلا يسيراً؛ فإن أمراً آخر يعترضنا فى تعرف شخصيته العلمية» إذ أن تعرفها صعب عسيرء بل أصعب من تعرف الشخصية العلمية للأئمة السابقين, كالإمام أبى حنيفة: والإسام مالك وغيرهما؛ لأن العلم فى عهدهم كان يؤْخذ بالتلقى؛ إذ أنه كان فى الصدور؛ ولم يخرج إلى الكتب والسطور, فكان من السهل أن تعرف كيف تكونت شخصية الإمام العلمية؛ لأننا نتتبع الشيوخ الذين التقى بهم ومناهجهم؛ فمعرفة الشيوخ تسهل معرفة ما تلقاه التلميذ. ومن معرفته؛ ومعرفة ها أنتج هى نستطيع أن نمرف مقدار الأثر العلمى الذى تركه: ذلك بأن العالم الحق هو الذى يتغذى مما تركه من سبقه؛ ويقدم غذاء جديدا لمن يجئ بعده.

أها ابن تيمية فقد جاء فى القرن السابع والمذاهب مدونة؛ والسنة مبسوطة؛ في كتبهاء والعلوم المختلفة قد دونت فى موسوعات ضصخمة؛ فكل العلوم من فلسفية ودينية ولغوية وتاريخية قد دونء فلم يعد من السهل معرفة الشيوخ الذين تلقى علبهم: لأنه لا يتلقى فقط من الأشخاص الأحياء: بل يتلقى من الذين سبقوه بأجيالء بالكتب الثى أورثوها الناس, ورب كتاب يقرؤه الشادى فى طلب العلم فاحصاً مستومباً يوجهه أكثر من معلم يوقفه

«

ويقرته. 9- وإن ابن تيمية بلا شك تلقى على شيوخ قرأ عليهم الحديث وعلوم اللغة وعلوم الدين من تفسير وفقه وعقائد» وغير ذلك من العلوم التى كانت معروفة فى عصره. وكانت ١١‏

من العلماء الفطاحل؛ ولجده كتب فى أصول الفقه الحنبلى مبسوطة قيمة: وهى فقيه من فقهائه ذوى القدم الثابتة فيه.

بيد أنه لايد أن نفرض حتما أن ابن تيمية لم يقتصر فى دراسته على العلوم التى تلقاها من شيوخه الذين شافهوه؛ بل إن التكوين الأكبر لفكره وعقله يرجع إلى ما قرأ وفحصء لأنه أتى بجديد لم يكن فى شيوخه من يعرفه؛ ومن له قدم فيه؛ فنراه درس الفقه كله دراسة مقارنة واضحة: متعرفاً أسراره وغاياته؛ ونراه على إلمام بأصول المذاهب الإسلامية المعروفة بين الجماعة الإسلامية: ونراه دارساً فاحصاً, ثم نرى له تأملات فلسفية عميقة استخرج بها فاسفة الشريعة سائفة سهلة القبول.

وعلى ذلك لابد أن نفرض أنه قرأ كل الثمراث العقلية والفلسفية والدينية التى زخر بها عصر فلايد أن نفرض أنه قرأ كتب الفلاسفة؛ والردود عليها؛ وكتب الغزالى» وابن رشد: وغيرهماء بل إنا نجد فى بعض مذاهجه فى علم الكلام تلاقياً فكرياً بينه وبين الغزالى أحياناً؛ لايمكن أن يكون من محض المصادفة؛ لابد أنه اطلع على الرسائل الفلسفية لإخوان الصفا التى حاول أصحابها منحرفين ومستقيمين أن يدرسوا الشريعة على ضوئهاء وإنه من المجزوم به أن يكون قد اطلع على المحلى لاين حزم.

وهكذا فهىقد درس كل العلوم الإسلامية التى كانث مدونة: وتضافرت بذلك الأخبار, ثم أخرج مما درس عنصراً حي قوياً أمد به جيله والأجيال التى جاءت بعده. ٠‏

ولم يكتف بالدراسة الإسلامية؛ بل درس غيرهاء ولعل أظهر ما يدل على ذلك كتابه (القول الصحيح فيمن بدل دين المسيح) فإنه يكشف عن كاتب هلم إلماماً بالديانة المسيحية فى أصلهاء وكمأ راجت فى عصره.

٠‏ - ومن هنا نجد الصعوبة فى دراسة شخصية ابن تيمية العلمية: فإننا لانستطيع أن نحصى الينابيع التى استقى منهاء ولا أنواع الغذاء العقلى الذى تغذى بها عقله؛ فأنتج ما أنتج» ووصل إلى ما وصل إليه.

وسواء أعلمنا على وجه اليقين ذلك أم لم نعلم: فمن المؤكد أن المجموهة العلمية التى سجلها التاريخ لابن تيمية فى سجل الخلود هى فريدة فى بابهاء لم يكن فى نهجه فيها تابعاً مقلداً أو حاكياً؛ بل كان مستقل الفكر الذى لم يحاك أحداً سبقه فى كتابته, وإن كان لكل ما

١

سبق من أثار علمية دخل فى تكوينه الفكرى والعلمى» فهو وإن كان قد تغذى من علم

السايقين: قد أتى بأمر هى خلاصة ما انطبع فى نفسه؛ واستقام فى فكره, كالجسم يتغذى

من كل غذاء, ثم يكون من ذلك مزيج فيه كل العناصر التى تغذى منها. ولكن له خواص تجعله

ليس واحداً منهاء وليس على شاكلة أى واحد منهاء وكذلك كان ابن تيمية رضى الله عنه. وسنحاول أن نبين ذلك ما استطعنا إليه سبيلا. ,

-١‏ هذه إحدى الصعويات التى تعترضنا عند دراسة ذلك العالم الجليل. وهناك صعوبة أخرى» وهى عصرهء فعصره امتان بكثرة الأحداث, وتواليها وتعدد أنواعهاء فدولة الإسلام قد انحلث إلى دويلات صغيرة» كان بأسها بينها شديداً؛ كل واحدة تنتهز الفرصة للانقتضاض على الأخرىء وحسار الملك عضوضاً ولم يعد له قرار ثابت, فتعددت الأسر المالكة وتعدد المتنافسون عليه, وكل رامه؛ وكل ذى جند أراده, فتزلزل السلطان: واضطريت الأمور. وصارت الشعوب الإسلامية نهباً مقسوماً للمتنافسين من طلاب الملك والمتنازعين فيه.

حتى إذا أغار الصليبيون على عقر الإسلام وراموه بسوء وجد من الملوك ذوى الغيرة فى مصر والشام من صدوا جموعهم؛ ولم يطمئن المسلمون قليلا حتى انثال عليهم التتار انثيالا» وكأنهم يأجوج ومأجوج من كل حدب ينسلون؛ وكانت الفرق التى تعمل فى الباطن قد أخذت تدس للجماعة ما يزيدها انقساماً, وتجعل الخلاف أشد احتداماًء ولى تجاوزنا الآفاق واتجهنا الى الأندلس جنة الإسلام فى الدنيا لوجدناها قد انقسمت إلى دول صغيرة؛ حتى صارت كل مدينة دولة قائمة بذاتهاء والعدى يقتنصها واحدة بعد الأخرى» حتى انقض١‏ , آخر الأمر من بعد ذلك العصر على البقية الباقية» فالقاها فى اليم من غير رحمة ولا ش ءة, وهل يتتظر الرحمة من الأعداء, إلا من ينتظر من النيران الماء,

هذا إجمال للعصر الذى عاش فيه ذو القلب المؤمن المتوثب ابن تيمية, وإذا كان الإنسان ابن بيئته ونتاج عصره. وهى فى ذلك كالبذرة الصالحة لا تنبت نباتاً طيباً إلا فى جو يلائمها ؛ وأرض تغذيهاء فكذلك الرجل العبقرى يبادل عصره. ويتغذى من حلوه ومره: ويتجه إلى إصلاحه من بعد؛ ولذلك كان لابد من نظرة إلى ذلك العصر الذى عنى ذلك الفقيه العظيم بالامه وأوصابه ودراسته ليست سهلة لتشعب نواحيه وتعدد مناحيه. ..

١

-١١‏ وإننا يعد دراسة حياته وعصره. لا نجد من السهل دراأسة علمه. لأنه لم يكن متخصصاً كالائمة السابقين, فابى حنيفة كان فقيهاً ولم يعرف إلا بأنه فقيه, وإن كانت له فى صدر حياته جولة فى دلم الكلام؛ فقد اطرح الخلاف فى علم الكلام إلى التخصصض فى الفقه واستنباط الأحكامء ومالك كان فقيهاً ومحدثاً ولم تكن قد تميزت التفرقة بين الفقه والحديث تمييراً كاملاء والشافعى وإن كان الفصيح الأديب قد تخصص فى الفقه وأصوله وهكذا... ولذلك كانت دراسة علومهم سهلة: لأنها ناحية واحدة؛ والنواحى الأخرى كانت آراء اعتنقوها بوصف كونهم علماء مسلمين, لا بوصف كونهم متخصصين: أما ابن تيمية فجولاته فى الفقه جعلته فقيه عصره. وجولاته فى علم الكلام جعلته أبرز شخصية فيه. وتفسيراته للقرآن الكريم» ودراسته أصول التفسير ووضعه المناهج لهاء جعلته فى صفوف المفسرينء وله فى كل هذه العلوم آراء مبنية على فحص ودراسة: ويعد أول من جهر يها وإن كان يقول أنها مذهب السلف وليست بدعاً ابتدعه. ولا يديئاً ابتكره, وإنما هى رجعة إلى حيث كان الإسلام فى إبان مجهه أيام كان غضاً لم تلق عليه السنون غبار التقائيد والنسيان.

ولابد من دراسة هذه التواحى العلمية كلهاء وتعرف جولاته فيهاء وما خالف فيه أهل عصره ولا يصح أن يكتفى بناحية عن الأخرى, فلا يصح الاكتفاء بدراسة فقهه, وترك ما أثار من أراء فى علم الكلام؛ فنكون قد أهملنا شطراً كبيراً من حياته؛ قد لاحى عن رأيه فيه؛ وبسببه لبث فى السجن بضع سنينء ولا يصح أن تكتفى بدراسة مسائل علم الكلام, ونترك فقهه. وهى فقيه عصره الأكبر.وقد وصل بدراساته الفقهية إلى مرتبة الاجتهاد كما ذكر معاصروه؛ وخالف فى كثير من المسائل الأئمة الأربعة» وقد مات قى السجن بسبب مخالقته فى مسائل فى الطلاق وغيرها هما أفتى فيه.

١١-رإذ!‏ اتجهنا إلى دراسته باعتباره فقيهاً من غير إهمال النواحى الأخرى, فإن تعيين مرتبته فى الاجتهاد ليست أمرأً هيناً ليناً» فإنه بدراسته الأولى كان حتبلياً؛ ولم يقطع صلته بالمذهب الحنفى قط, وكان يعتبره أمثل المذاهب, لأنه أكثرها اتباعاً للسلف الصالح, ولذلك فضل من البيانء سنذكره فى موضعه إن شاء الله تعالى.

ولقد كانت أسرته كلها حنبلية؛ واقد أتم عملا لأبيه وجده فى فقه الحنابلة وأصوله, فقد ذكر العلماء فى المذهب الحتبلى أن من كتب الأصول فى مذهب أحمد مسودة بنى تيمية, ١‏

موضع دراسثنا.

فكان حتبلياً بنشأته وأسرته وثقافته الفقهية, وميله فى دراسته؛ مع أن له اختيارات من غير مذهب أحمد, بل له اختيارات حلق بها فى أفق الكتاب والسنة وفتاوى الصحابة وأقضيتهم؛ ووصل فيها إلى نتائج تخالف ما عليه الأئمة أصحاب المذاهب الأربعة, كفتواه فى الحلف بالطلاق» وعدم إيقاع الطلاق بها. وكفتواه بأن الطلاق الثلاث بلفظ الثلاث أو فى مجلس واحد يقع طلقة واحدة. فإنه فى هذه المسائل وأشباههاء اجتاز دائرة الاختيار من المذاهب الأربعة إلى الكتاب والسنة وأقوال الصحابة. غير ملتفت إلى ما وراء ذلك.

وإذا كانت هذه حاله؛, ففى أى مرتبة من الاجتهاد يكون وضعه. أهى مجتهد مطلق كالأئمة الأربعة: أى أصحاب أبى حنيفة؛ كابى يوسفء ومحمد بن الحسن وزفر بن الهذيل. فإن هؤلاء الصحاب مجتهدون مطلقون (كما هو رأيتا). أم هى مجتهد منتسب تقيد بالأصول الحنبلية» وسار على نهجهاء وإن كان قد وصل إلى نتائج فى الفروع تخالف الحنابلة, بل تخالف كل فقهاء المذاهب الأربعة.

إن هذه مسالة تقتضى تتبع الفروع التى خالف فيها أحمد وغيره. والأصول التى بثى عليها أحكام تلك القروع فيما انتهى إليه, وفحص هذه الأصول على ضوء الأصول الحنيلية, فإن كانت داخلة فى عمومها تمير بعيدة عن منهاجهاء قررنا أنه مجتهد منتسب؛ لأنه مقيد بأصول المذهب الحنبلى فهى منتسب إليه؛ واجتهاده كان فى الفروع لا فى الأصولء وإن كانت الأصول التى بنى عليها مخالفة فى بعض الأحكام أنواعاً جديدة ليست داخلة فى عموم أصول أحمد, فإئه مجتهد مطلق خلع قيد التقليدء والاتتساب إلى الحنيلية معاً.

وإن هذه الثتيجة لا يمكن الوصول إليها إلا بعد دراسة آرائه الفقهية دراسة عميقة, فإننا نجد فيها الهادى المرشد إلى تعرف قيمة فقهه عامة, ومدى اجتهاده فى المسائل التى خالف فيها خاصة,

4- وإن السبيل المعبد للكشف عن قيمة ما وصل إليه هى دراسة كثبه ورسائله, وهى فياضة بثمرات عقله؛ بل إنك تستمع فيها إلى خفقات قلبه: وتلمس منها مشاعر تقسه. م١‏

وإنه لكى يتجلى عمله بالنسبة لغيره؛ لابد أن ندرس آراء غيره فيما خالف فبه؛ لأنه بالموازنة بين الدليلين نعرف أهدى الرأيين والصواب منهماء وإنه لكى يتجلى ذلك تمام التجلى لابد أن نتكلم كلمة عن الفرق التى هاجمهاء فقد وجدناه هاجم الشيعة. واختص بالمهاجمة الباطنية وااحاكمية والنصيرية الذين كانوا فى عصره: فلابد من إلمامة موجزة بيعض أخبار الشيعة ومناهجهم, ووجدتاه قد هاجم الجهمية. وهاجم الأشاعرة فى مسالة الجبر والاختيار, فكان لايد من معرفة ما رأه الجهمية فى هذه المسألة, وما رآه الأشاعرة والفرق بينهماء ثم ما رآه هوء والفرق بينه وبين دا رآه المعتزلة, فإن ذلك يكون توضيحاً لأساس الخلاف ومناحيه, وفوق ذلك يكون توضيحاً لعقلية ابن تيمية؛ ولقد تكلم فى خلق القرآن ووضح الأقوال فيه, فلايد أن نمس أدوار هذه المسالة.. وهكذا ... وترى أيها الباحث أن الرحلة فى هذا شاقة., وقد بعدت الشقة فى نواحيهاء ولا معين إلا الله سيحانه وتعالى على بيائها.

ولا ننسى فى هذا المقام أن نشير إلى مواقفه فى الدفاع عن الإسلام عند وجود مهاجمة لمبادئه من بعض النصارى فى قبرص؛ فتصدى للذود عنهاء والترصد لهم يقلمه, كما

ترصد التتار بسيفه.

وإنا نضرع إلى الله جلث قدرته أن يمدتا بعونه وتوفيقه وهدايته إنه على ما يشاء

جٍِ 3

ال

القسم الأول حياة ابن تيمية 11١‏ - لكلا

ولإدته وأسرته

6 - هى أحمد تقى الدين أبى العباس بن الشيخ شهاب الدين أبى المحاسن عبد الحليم بن الشيخ مجد الدين أبى البركات عبد السلام بن أبى محمد عبد الله بن أبى القاسم الخضر بن على بن عبد الله, وتعرف هذه الأسرة بأسرة ابن تيمية(١)‏

ولد فى العاشر(' من شهر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة من بعد الهجرة النبوية» وكان مواده بمديتة حران مهد الفلسفة والفلاسقة. والصايئة والصابئين من أقدم عصور الإسلام. وقد نش التنشأة الأولى فيها إلى أن بلغ السابعة من عمرهء فأغار عليها التتار» ففر أهلوها منهاء وكان ممن.هاجر أسرة ابن تيمية» هاجرت إلى دمشقء ولم يكن الطريق خالياً من الأعداء. بل لم يكن أمناً؛ ولم يكن معبداً, ولقد لاقوا مشقة فى السفرء فقد سافروا ليلا هاربين» وهى أسرة علم؛ أثمن متاعها الكتبء فهى للعلماء متاع وثروة وغهذاء وحلية نقيسة, وحملها فى الانتقال والرحلة شاق عسير .

وخصوصاً إذا كان الانتقال فراراًء وقد نقلوها على مركبة لعدم توافر الدواب التى تحملهاء ولأنها يشق حملها على الدواب» وقد كاد العدى يلحقهم لتوقف العجلات عن السيرء فاستعانوا بالله ونجوا من القوم الظالمين .2 ' )١(‏ اختلق العلماء في علة تسمية الأسرة بابن تيمية. فقيل إن جده محمد بن الخضر حج على درب تيماء. فرأى هناك طفلة اسمها تيمية؛ ثم رجع فوجد امرأته ولدت بنتا فسماها تيمية؛ وقيل إن جده محمداً كانت أمه واعظة وكان اسمها تيمية, فنسبت الأسرة إليها وعرفت بها . (؟) أكشر الروايات على أنه ولد فى العاشر. وقليل من المؤرخين من يذكر بجوار هذه الرواية أنه ولد فى الثانى عشر من ربيع الأول ولعلهم يريدون أن يقولوا إنه ولد فى مثل اليوم الذى ولد فيه النبى عله , لأنه سيحيى شريعته ,

١7

١‏ - وصلوا إلى دمشق يعون الله واستقروا فيها أمنين: وكل ذلك وذو النفس المرهقة الحس يرى ويسمع ويدركء وهى الفلام أحمد تقى الدين: فقد رأى الهول الأكير فى غارات التتار المفسدة:ء ورأى الفزع الأكبر فى السكان الآمنين» يهبرعون إلى النجاة؛ وما يكادون ينجون: ثم رأى أسرته تعانى مشقة الطريق» ومشقة حملها الثمين؛ وتخاف الضيعة:؛ رأى كل ذلك ااغلام الذكى المحسء فانطبع فى نفسه صغيراً كره التتار, وكره الاعتداء. ومن هذا الابتداء نعرف بعض السر قيما كان منه: وقد استوى رجلااذ مكتمل القوى: فقد كان يقود الجحافل لقتالهم مع أنهم أعلنوا الإسلام وأعتنقوه. وصار شأنهم كشأن غيرهم من طوائف الإسلام؛ واكنه رأى من ماضيهم البغى والعيث فى الأرض فساداً؛ فعلم أنهم إن كانوا مسلمين فهم بغاة يجب قتالهم حتى يتويو) أى يقدر عليهم؛ فقاتلهم لهذاء واتخرج من تحت سلطانهم الشعوب التى يهضمونها حقوقهاء ويعيثون فساداً فى أرضها .

١‏ - لم يذكر المؤرخون الذين قرأت لهم القبيل الذى تنتمى إليه أسرة ابن تيمية؛ فلم يذكروا له نسبة إلا أنه الحرانى فنسبوه إلى بلده حران موطن أسرته الأولء ولم ينسبوه إلى قبيلة من قبائل العرب, وإن هذا يشير إلى أنه لم يكن عربياء أو لم يعرف أنه عريى منسوب إلى قبيلة من القبائل العربية, وإذلك نستطيع أن نفهم أو أن نعلم علماً ظنياً أنه لم يكن عربياً؛ ولعله كان كردياًء وهم قوم ذوو همة ونجدة ويأس شديدء وفى أخلاقهم قوة وحدة؛ وإن تلك الصفات كانت واضحة جلية فيه مع أنه نش فى دعة العلماء. واطمئنان المفكرين وهدوء المحققين. وإن الأكراد كانت لهم فى القرن السادس والسابع ال مواقف الرائعة فى الدفاع عن . الإسلام والمسلمين» فوقفوا في صدر الجبهة الأولى للإسلام ضد الصليبيين» وتلقوا الصدمة الأولى» ثم الصدمات التى تليها حتى أيئسوا الصليبيين من التحكم فى الإسلام؛ أو على الأقل فلوا من حدتهمء وخضدوا من شوكتهم, حتى أعادوهم هم والمصريون من بعد ذلك إلى بلادهم محطومين .

وأم يذكر المؤرخون شيئاً عن أمه. ولاقبيلها وهى فى الغالب ليست عربية, ولقد عاشت إلى أن اكتمل مجد ابنهاء وعاونته فى جهاده. وعندما كان بمصر معتقلاء كان يكتب إليها رسائل تفيض براً وعطفاً وإخلاصا وإيماتاً ,

4 - انتقلت أسرته إلى دمشق واستقر بها المثوى» والعالم الجليل حيثما حل وجد مكانه من الهدى والإرشاد وكذلك كان الشيخ شهاب الدين والد تقى:الدين موضع بحثناء 16

فإنه بمجرد أن وصل إلى دمشق ذا ع فضله واشتهر أمره فكان له كرسى للدراسة والتعليم, والوعظ والإرشاد؛ بجامع دمشق الأعظمء وتولى مشيخة دار الحديث السكرية: ويها كان سكنه. وفيها تربى ولده ثقى الدين(!)

ومما لوحظ على درس ذلك العالم الجليل أنه كان يلقى دروسه غير مستعين بقرطاس مكتوب أو كتاب يتلى منه؛ أ مذكرات ليستعين يهاء بل كان يلقى الساعات من ذاكرته الواعية: وعقله المستذكرء وهذا يدل على ققوة الحافظة؛ والقدرة على البيان؛ وثبات الجنان: وهى الصفات التى برزت فى ابنه, وكانت من أخص صفاته التى كان يقرع بها الحجة: ويشده لها المجاوب: ويتحير لها المناظرون الأقران. ١‏

نشأ الغلام فوجد أياه على هذا القدر من العلم والتقدير فكان ذلك موجهاً له إلى العلم, وفى الواقع أن الأسرة كلها قد توارثت العلم والنزوع إليه. فقد كان جده مجد الدين عا ماً جليلا يعد من أئمة الفقه الحنبلى المخرجين فيه. وله كتابات فى أصول قيمة؛ وقد رحل. إلى البلاد فى سبيل العلم؛ ودرس وأقتى وانتفع به الطلبة؟" وله كتاب المنتقى فى الأحكام .

وكان قد تلقى العلم هن عمه فخر الدين؛ وكان عالماً وخطيبا وواعظ أ . وجمع تفسيراً للقرآن حافلا فى مجلدات ضخامء وقد تخرج على ابن الجوزى خطيب بغداد وواعظهاء وحل محله فى الوعظ فيها ,

نشاتك

9 - هذه أسرة تقى الدين بن تيمية؛ وهى أسرة علم امتازت بقوة البيان» وقوة الذاكرة» وحبست نفسها على العلم, وكان من النتائج لهذه البيئة العلمية أن يتجه الفتى الناشئ: فيها إلى العلم, فاتجه إليه الغلام ابن تيمية صغيراً؛ فحفظ القرآن الكريم منذ حداثة سنه. واستقر حافظاً له إلى أن قاضت روحه إلى ريهاء حتى أنه تلا فى السجن القرآن » وختم ثمانين ختمة أو تزيدء فقد كان أعظم عدته؛ وأسعف ذخيرته ,

' واتجه بعد حفظ القرآن إلى حفظ الحديث واللغة؛ وتعرف الأحكام الفقهية: وحفظ ما يسعفه به الزمن وقد بدا فيه منذ صغره ثلاث من مزاياهء هى التى تمت وظهرت ثمراتها فى كبره. ٠١‏ (1) توفى والد ابن تيمية سنة 141 بدمشقء راجع تاريخ ابن كثير ج ١!‏ ص 5 . )1١(‏ توفى جد ابن تيمية يحران سنة 07 راجع تاريخ ابن كثير ج ؟١‏ ص ١08‏ , 19

0

أولاها: الجد والاجتهاد, والانصراف إلى المجدى من العلوم: والدراسات. لايلهى لهو الصبيان, ولا يعبث عبثهم .

وثانيتها : تفتح نفسه وقلبه لكل ما حوله يدركه ويعيه. فلم يكن الغلام المنقطع عن الأحياء والحياة إلى الحفظ والاستذكار فقط .

والثالثة : الذاكرة الحادة: والعقل المستيقظ والفكر المستقيم, والنبىخ المبكر.

٠‏ - وقد كانت ذاكرته حديث زملائه من الفتيان: بل تجاوز صيته دائرة الصبيان إلى دائرة الرجال. وتسامعت دمشقء وما حولها يذكائه ونبوغه .

جاء فى كتاب العقود الدرية فى مناقب ابن تيمية ما نصه. (اتفق أن بعض المشايخ العلماء بحلب قدم إلى دمشق؛ وقال: سمعت فى البلاد بصبى يقال له أحمد بن تيمية: وأنه سريع الحفظ, وقد جئت قاصداً لعلى أراه. فقال له خياط : هذه طريق كتّابه. وهى إلى الآن ها جاء؛ فاقعد عندنا الساعة حتى يجئ ... فجلس الشيخ الجليل قليلاء فمر صبيان» فقال الخياط للشيخ الحلبى هذا الصبى الذى معه اللوح الكبير هى أحمد ين تيمية: فناداه الشيخ فجاء إليه. فتناول الشيخ اللوح؛ فنظر فيه ثم قال: يا ولدى امسح هذا حتى أملى عليك شيئاً تكتبه ففعل, فأملى عليه من متون الأحاديث أحد عشر أو ثلاثة عشر حديثاً؛ فقال: أقرً هذاء فلم يزد على أن تأمله مرة بعد كتابته إياهء ثم رفعه إليه. وقال؛ اسمعه؛ فقرأه عليه عرضاً كلحسن ما أنت سامع: فقال: يا ولدى امسح هذا ففعلء فأملى عليه عدة أسائيد انتخبهاء ثم قال اقرأ هذا فنظر فيه كما فعل أول مرة فقام الشيخ وهى يقول: إن عاش هذا الصبى ليكونن له شأن عظيمء فإن هذا لم ير مثله) .

١‏ - تلك قصة تروى عن شخص التقى به؛ وراويها أحد تلاميذهء وتبدى القصة عارية عن المبالفة, بعيدة عن الغلى. فإنه مما تضافرت به الأخبار عن الإهام مالك رضى الله عثه, أنه كان يستمع من ابن شهاب بضعة وثلاثين حديثاً ثم يتلوها فى الجلسة؛ ومنها حديث السقيفة: وإن كان ثمة فرق فهو بين العصرين, فعصر مالك كان عصر حفظء الاعتماد فيه على الذاكرة لاعلى الكتبء ومن شان ذلك أن يقتوى الحافظة ويرهفهاء لأن من المقررات المستمدة من الاستقراء أن العضى الذى يكثر عمله يقوى ويشتد أما عصر ابن تيمية فكان عصر التدوين والتسطير والكتابة وليس من شأته أن يقوى الحافظة للاعتماد على المسطور دون ما فى الصدور .

7

ومهما يكن فمن الثابت أن ابن تيمية رضى الله عنه قد تاه الله ذاكرة واعية منذ صباهء والذاكرة كما يقرر علماء النفس والتربية هى المقياس الأول للذكاء قوة وضعفاً» ويظهر أن قوة الذاكرة قد ورثها ابن تيمية عن أسرته, فقد رأينا أن أياه كان يمتان بأنه يلقى دروسه فى الجامع الأكبر يدمشق غير معتمد على كتاب: وقد كان مختصاً بذلك من بين قرنائه وزملاثئه والولد سر أبيه, فلا عجب إذا جاء ابن تيمية مختصاً بما الختص به أبوه. وزاد ذاكرته قوة وإرهافا من بعد المواقف الجلّى التى كانت تحتدم بالجدل بينه وبين مخالفيه من الفقهاء وعلماء الكلام والصوفية والشيعة وغيرهم.

5- اتجه ذلك الغلام منذ صغره والعود أخضر إلى العلم ينهل من مناهله ويأخذ من ينابيعه؛ وأم يكن من المعقول أنه اتجه إلى غير العلم فى صدر حياته؛ ثم عدل عنه إليه؛ ولم يكن من المعقول فرض ذلك, لأن أسرته كانت من الأسر التى اتصرفت للعلم والخطابة والوعظ والتأليف فى الفروع وفى الأصولء وقد رأيت بعض أخبار أجداده وأبيه فى هذا البحث؛ وأن أباه كانت له منزلة خاصة: فقد كان على مشيخة الحديث فى بعض مدارس دمشقء فكان المنطقى أن ينصرف إلى العلم منذ نشاته. لأنه لا يتصور مثله, فلم يكن أبوه تاجراً كواد النعمان أبى حنيقة. فكان ينصرف إلى الأسواق فى صدر حياته حتى يعدل عن الانصراف إليها. ويعكف على طلب العلم كما أشار عليه بذلك الشعبى إذ رآه فتى أل معياً ذا عقل علمى, وإن كان مع عكوفه على طلب العلم لم ينقطع عن التجارة والتجار كما بينا فى كتابه.

'؟'"- وإذا كان أبى تقى الدين له رياسة فى مشيخة الحديث: فلابد أن يتجه ابنه أول ما يتجه بعد حفظ القرآن إلى حفظ الحديث وروايته؛ وتلقيه عن رجاله, وسماع الكتب على المشايخ الكبارء وسماع الدواوين الكبار, كمسند الإمام أحمد. وصحيح البخارى: ومسلم, وجامع الترمذى؛ وسان أيى داوود السجستانى والنسائى وابن ماجة؛ والدار قطنى. سمع كلاً هنها مرات عدة وأول كتاب حفظه فى الحديث هو الجمع بين الصحيحين للإمام الحميدي(!) كما قال بعض معاصريه. وأقد قالوا: (وإن شيوخه الذين سمع منهم؛ أكثر من مائتى شيخ,

وسمع مسند الإمام أحمد مرات)0().

)١(‏ داجع فى هذا الكتاب الكواكب الدرية فى دمن مجموعة عن ابن تيمية وخلافه مع غيره من الفقهاء ص 195 ,

)١(‏ راجع الكتاب المذكور,

ولاشك أن ذلك كله يهيئ ذلك الغلام فى صفره بيسرء ومن غير عناء لمقام أبيه, وقد مكث على رياسته للحديث نحواً من أريع عشرة سنة؛ فاكتسب بذلك نفوذاً على الشيوخ فوق منزلته الشخصية التى هيأته لذلك المنصبء ومكانته العلمية التى مكنته منه, وهى الذى جاء فن دمشق فاراً طريداً من غارات التتار,

4؟- وأقد كان مع دراسته للحديث يدرس علوماً أخرى؛ فدرس الرياضة وعنى بالعلوم العربية عناية خاصة؛ فدرسها كأنه يقصصد إليها ليتخصص فيهاء فحفظ المنثور والمنظوم: وأخبار العر ب فى القديم, وأيام ازدهار الدولة الإسلامية. وبرع فى النحو براعة واضحة, حتى أنه ليتأمل كتاب سيبويه ويدرسه دراسة فاحصة ناقدة: فيخالف بعض ما فيه معتمداً على ما درس فى غيره: فلم يكن المتهجم عن غير بينة؛ المندفع فى القول عن غير حجة وسلطان مبين.

, لقد كان مع هذا بدرس الفقه ا لحنيلى؛ و يتتبع سير ذلك المذهب الجليل ‏ وأبوه فى هذا ألموقف نعم الموجه, فهى من شيوخ ذلك الفقه, كما هى من شيوخ الحديثء والبارزين

فيه

وفى وسط ذلك البحر الخضم من العلم كان ينزع إلى تعلم تفسير القرآن؛ ومراجعة ا موسوعات التى كتبت فيه ويقرؤها بعقل فاحصء وفكر حر غير مقيد إلا بالأثر الصحيح: واللغة الصحيحة: والعقل الحاكم, والوجدان المستيقظ؛ والفكر الحكيم.

6 كان يسسير فى هذه الدراسسة وهو يافع تحت ظل أبيه العالم؛ فإذا كان ثمة ملازمة أجدته فهى ملازمة أبيه؛ وقديماً قال أبو حنيفة فى التوجيه العلمى عندمًا سثل عمن وجهه: (كنت فى معدن العلم والفقه, فجالست أهله. وازمت فقيها من فقهائهم).

وقد تحققت تلك الملازمة لتقى الدينء فقد لازم أباه؛ ودارس العلماء ونهل من كل ينابيع العلم»وكان فى دمشق معدن العلم فإن ذلك المصر كان ثانى اثنين أوى إليهما العلماء فى المشرق والمغرب وأول المصرين القاهرة, فإنه بعد أن اضطيد العلماء فى يلاد الأتدلس, وانقسمت طوائقها؛ وأخذ الأعداء يتلقفونها قطعةٌ قطعة أخذ العلماء يفدون إلى القاهرة

ف

أفواجاء ويأرزون إليها ليجدوا الحماية فى ظل المسلمين فيهاء وحكاهها الذين كانوا يحسنون ضياقة العلباء وإيواءهم: ويجرون الأرزاق عليهم؛ ويحبسون الأحباس لهم.

ولا أغار التتار فى الشرق؛ واستولوا على المدائن الإسلامية يعيثون فيها فساداً: وانسابوا فى الدولة الإسلامية حتى سقطت حاضرة الخلافة فى أيديهم فر العلماء بعلمهم إلى دمشقء ومنهم من اتخذها مستقراً ومقاماًء فوق ما كان لها من مكانة علمية ذاتية» ومنهم من اجتازها إلى مصرء حيث البعد عن غارات التتار وغيرهم.

- كانت دمشق إذن فى عهد ابن تيمية عش العلماء؛ ولهذا كانت أسرة ابن تيمية من الأسر التى آوث إلى ذلك العش الكريم واتخذت لها مكاناً فيه, وأعطاها الحاكم حق العلم فجعلوها فى الذروة والسنام. |

وقد كان فى دمشق مدارس للحديث كان يحدث فيها باحاديث رسول الله مله أمثال النووى وابن دقيق العيد. والمزى» والزملكاني يدرسونه دراسة فاحصة لرجال الأسانيد. ولتون الحديث مع موازنة المرويات بعضها ببعضء وقد تجمعت الأحاديث ودونت؛ فكانت الدراسة عن بينة واستقراء جامع» وفحص عميق: وقد زخرت المكاتب بالكتب الضخمة التى أنتجتها الدراسة فى هذا العصرء حتى أن الإنسان ثيقراً الباب من الأبواب, فيجد الأحاديث الواردة فيه مجتمعة كلهاء غريبها وحسنهاء وصحيحها وضعيفها مع التنبيه على مراتبهاء ومتوافقها ومتعارضهاء فيسهل على الدارس طلب الحق فى ا موضوع يأيسر كلفة؛ وأقل مجهود, مع عقل مستقيم؛ ومنطق سليمء مقيد بقيود الأصول والتخريج والاسستنباط.

وكان بجوار مدارس الحديث مدارس الفقه؛ فهذه مدارس للفقه الحنبلى: وتلك مدارس للفقه الشافعي: وقد خص آل أيوب المدارس الشافعية بفضل من العناية» فقد كان صلاح الدين رضى الله عنه شافعياً متعصباً للمذهب الشافعى, فأعلى ذلك المذهب فى دمشق والقاهرة,

17- وبجوار دراسة الفقه والحديث كانت دراسة العقائد, وقد بالغ بنى أيوب فى نشر مذهب أبى الحسن الأشعرى فى العقاك: على أنه السنة التى يجب اتباعهاء والطريقة التى ,

يجب انتهاجها وقد كان لذلك المذهب فضل انتشار فى الغرب كما هى فى الشرق. الف

حتى لم يكن شئ يخالفه إلا ما كان عليه الحنابلة!') وكان الحنابلة يسلكون فى دراسة عقائدهم مسلكهم فى دراسة الفقه. يستخرجون العقائد من النصوص: كما يستخرجون الأحكام الفرعية من النصوص.ء لأن الدين مجموع الأمرين فما يسلك فى تعرف أحدهما يسلك لا محالة لاستخراج الثانى: وكانت فى القرآن أيات فيها وصف الله سبحانه وتعالى بما يفيد فى ظاهره التشبيه بالحوادثءوفى الأحاديث ها يشبه ذلك فكانوا يفسرونها على مقتضى ما تؤديه اللغة بحقيقتها ومجازها,

أما الأشاعرة فيسلكون فى تعريف العقائد مسلك الاستدلال العقلى والبرهان المنطقىء وذلك لأن شيخهم أبا الحسن الأشعرى نشأ فى أولى حياته نشأة اعتزالية فاثقن طرائقهم فى الاستولال, ثم خالفهم فى النتائج التى وصلو) إليها؛ ونازلهم بالحجة والبرهان, وبالطريقة التى يتقنونهاء واذلك كانت طرائقه تتفق مع طرائقهم, وإن اختلفت النتائج: وحاريهم بالأسلحة التى يجيدونهاء وقد درب هو عليهاء ولهذا الخلاف فى المنهج بين الحتابلة والأشاعرة فى إثبات العقائد وفهمها كانت المدارس الأشعرية متميزة فى جانب والحنابلة فى جانب آخرء وبينهم بعض المناوشات الكلامية: رهى قيها الحنابلة بالتجسيم.

4- وكان للحنابلة بين المدارس الفقهية والاعتقادية مدارس خاصة بهم مثل المدرسة الجوزية والمدرسة السكرية. كما كان لهم المدرسة العمرية التى أنشأها أبى عمر بن قدامة بناها بسفح قيسون للفقراء المشتغلين بالقرآن والفقه!".

(1) قال المقريذى فى خططه (حفظ صلاح الدين فى صباه عقيدة آلفها قطب الدين أبو المعالى مسعود بن محمد النيسابورى؛ وصار يحفظها صغار أولاده. فلالك عقدوا الخناصر: وشدوا الينان على مذهب الأشعرى. وحملوا فى أيديهم كافة الناس على التزامه. فتمادت الحال على ذلك فى جميع أيام الملوك من بنى أيوبء ثم فى أيام مواليهم الأتراك: وكذا فعل ابن تومرت فى المغرب بعد أن أخذ عن الفزالى مذهب الأشعرى: وكان هذا هو السبب فى انتشار مذهب الأشعرى فى الأمصار, حتى لم يبق مذهب يخالفه إلا أن يكون المتبعون مذهب اين حنبل, فإنهم كاتوا على ما عليه السلطان,

(1) راجع فى هذا البداية والنهاية لابن كثير الجزء الثالث عشر س 4ه- وأبى عمر بن قدامة بانى هذه المدرسة هو أخو موفق الدين عبد الله أحمد بن قدامة صاحب المغثى فى الفقه الحنيلى: وكان أكبر هن موفق الدين: وهو الذى رباهء وقد كان عا ما زاهداً ورعا تقيا منصرفا للعلم خطيباء ومع ذلك ما كان ينقطع عن غزو الصايبيين مع صلاح الدين الأيوبى رضى الله عنه, وقد ولد سنة 518 وتوفى سئة /01: وكان على هذهب السلف الصالح سمتاً وهديا, وأخذاً بالكتاب والستة رضى الله عنه,

"4

وفى هذه المدارس الحنبلية تخرج أبن تيمية» ودرس فى كنف أبيه ورعايته وتوجيهه, وكان لابد قد رأى الأشاعرة: وهم يهاجمون الحنايلة, ويرمونهم بالتجسيم والتشبيه؛ ووجد طرائقهم الجدلية» ودراستهم للعقائد التى تجمع بين النهج الفلسفى العقلى, والنهج العقلى: قدرس الطريقتين وأتقنهماء وإنه فى هذا السبيل درس المنطق وأشكاله وأقيسته.

ولم تكن ثمة محاجزات تحول دون الدراسة والفحصء فالعقل البشرى طلعة يحاول التعرف وا لوصول إلى المعرفة, ولابد أن الفتى تقى الدين» وهو ذو الهمة؛ قد ندب نفسه للجدل مع الأشاعرة» وقبل الجدل معهم لابد أن يكون قد عرف ما عندهم معرفة دقيقة ليحكم عليه بأنه حق أو باطلء لأن الحكم على الشئ فرع عن تصورهء حتى إذا تكون له رأى فى منهاجهمء سواء أكان لهم أم كان عليهم لابد أن يكون قد عرف طرائق بحثهم وجدلهم, ليستطيع أن ينازلهم بسلاحهم إن كانوا معه على خلافء فإن الخصم مأخوذ بسلاح خصمه دائماء ليستطيع أن ينال منه؛ ويزهق باطله ولايد أنه قد اطلع على آراء المعتزلة الذين تصدى الأشاعرة لنزالهم: ثم آراء الفلاسفة الذين تصدى الغزالى وهو ممن اعتنق آراء الأشعرى لبيان تهافتهم.

وهى فى كل ذلك يغذى عقله, وينمى مداركه. ويرهف تفكيره؛ ويعد نفسه لمنازلة الأقزام من كل طائفة.

وإنا لا نفرض هذه الفروض على أنها احتمالات متصورة: لا واقع يؤيدهاء بل إنك فى رسائله وكتاباته, كما تتبين النقل والآثار تلمح عقلا فلسفياً متأملا مدركاء عميق الإدراك بعيد الغور؛ بل إن شئت فقل إنه أصدق رجال العلم تصويراً للعقلية الإسلامية, المتأملة العميقة, فإنه ليس الفيلسوف هى الذى يهيم فى أحلام الفلاسفة وتأملائهم وأخيلتهم فقطء بل إن كل من يقرى الحقائق» ويناضل عنها بعقل متأمل مدرك عميق: بعيد الغور فى الفروض والتقديرات هو آأيضاً فيلسوف, وإن كان يتكلم بالحقائق الدينية المقررة, وينطق بأحكام القرآن وأحاديث الرسول مله محررة ثابتة؛ بل إنا لنحسب أن الغزالى وهو يكتب تهافت الفلاسفة كان هى فى كتابته فيلسوفاً عميق القكرة بعيد الغور لا يقل عن صاحب تهافت التهافت.

فليست الفلسفة آراء تعتنق» ولكنها عمق إدراك وحسن تأمل, وإخلاص فى طلب

"6

الحقيقة, وكل ذلك كان ابن تيمية فيما كتب» فهى الفيلسوف الدينى المستقيم القكرء سواء أرضى بهذا الوصف أم لم يرض.

-٠٠‏ وإذا ألقينا نظرة فى كتابته الفقهية لنتعرف منها دراسته الأولى فإنا نجد فقيهاً مطلعاً متقصياً قد علم أقوال المتقدمين والمتأخرينء وأقيسة القياسيين. ونظرات الأثريين» وتعمق المخرجين. وكل مسألة يعرض فقههاء ترى الفقه المقارن مفحوصا مدروساً يرجع فيه النتائج إلى مقدماتها والفروع إلى أصولهاء والمسببات إلى أسبابهاء فى إدراك للب الشريعة ومغزاهاومرماها.

وإنا لنلمح بصفة خاصة أنه كان حريصاً الحرص كله على معرفة آراء الصحابة. واتجاهات فقههم فى استقراء وتتبع. وخصوصاً فقه الذين امتازوا بالعلم والخبرة والتجرية, والدراسة والفحصء كعمر بن الخطابء وعلى بن أيى طالبء وعبد الله بن عباس» كما كان يحرص على معرفة فتاوى التابعين الممتازين كسعيد بن المسيب؛ وإبراهيم النخعىء والقاسم ابن محمد؛ وغيرهم من كبار التابعين. وعلى ضوء هذه الدراسة» بهذا الحرصء ويعقله العميق ' النافذ وصل إلى ما وصل إليه من اختيارات ليست فى المذاهب الأريعة أو منهاء كاعتبار الطلاق الثلاث بلفظ الثلاث؛ والطلاق المتتابع طلقة واحدة. وكاعتبار الحلف بالطلاق ليس طلاقاً وغير ذلك من المسائل التى سنبينها عند الكلام فى فقهه بعونه سبحانه وتعالى.

-'١‏ وفى الجملة إن ذلك الفتى ربى نفسه تربية عالية: فتعلم العلوم التى كانت رائجة فى عصره. ولم يترك باباً من الأبواب إلا أثقنه. ولقد قال فيه أحد معاصريه: (قد ألان الله له العلوم: كما ألان لداوود الحديدء كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائى والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن» وحكم أن أحداً لا يعرفه مثله؛ وكان الفقهاء هن سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا فى مذاهيهم منه مالم يكوتوا عرفوه قبل ذلك , ول يعرف أنه ناظر أحداً فاتقطع منه؛ ولا تكلم فى علم من العلوم؛ سواء أكان من علوم الشرع أم من غيرها. إلا فاق فيه أهله والمنسويين إليه, وكان له اليد الطولى فى حسن التصنيف), ١‏ ,

هذه ثمرة الدراسة الواسعة المدى التى تلقاهاء وعالجها فى نشأته وشبابه. حتى صار له شأته. وشغل عصره والأجيال. وجدد الإسلام» وأعاده قشيباً كما بدأ غضاً؛ وأزال عنه غبار القرون الذى تكائف عليه حتى حال دون إدراك حقيقته ومعرفة غايته.

ف

توليه التددريس

7 شب أحمد عن الطوق: وامثلا قلبه بالمعرفة. واستوى رجلا سوياً وإن كان مثله فى سيعة الصسبا وغرارة الحياة» وتقدم ليغذى النفوس بمعارفه بعد أن تغذى بمعارف السابقين وأثمرت فى قلبه أينع الثمار وأغزرها وأنضجهاء وتقدم واثقاً بنفسه ومعونة ريه ليؤدى الأمانة التى حملها الله له, بما أودع نفسه وقلبه وعقله من مدارك ومواهب: وبما هيأه له من تثقيف وقوة تفكيرء وعمق إدراك والزمن فى حاجة إلى مثلهوالإسلام فى أشد الحاجة -فى وسط هذه الظلمات- إلى من ينير السبيل لإدراكه على وجهه: ويبينه للناس كما جاء به الرسول الكريم؛ وقد كان المكان له مهياًء والكرسى الذى ينبغى أن يجلس عليه كان شاغراً.

ذلك بأن أباه وقد كان له كرسى فى الجامع الكبير فى دمشقء وكانت له مشيخة الحديث فى بعض مدارسه قد توفئ سنة 147: وأحمد فى الحادية والعشرين من عمهرهء ويقول ابن كثير فى البداية والنهاية أنه قد تولى الدراسة بعد وفاة أبيه بسنة, فجلس مجلسه, وحل محله. وعلى ذلك يكون قد تولى التدريس وهو فى الثانية والعشرين من عمرهء فجلس نظيراً لأئمة الحديث الممتازين كابن دقيق العيد وغيرهم من أثمة ذلك العصر الذين كانوا يدرسون فى لك المدارس» وفى الجامع الكبير بدمشق.

؟ا- وقد وصقه الذهبى أحد معاصريه فى جسمه ونفسه فقال: «كان أبيض أسود الرأس واللحية شعره إلى شحمة أذنيه؛ كأن عينيه لسانان ناطقان, ريعة من الرجالء بعيد ما بين المنكبين» جهورى الصوت؛ فصيحاًء سريع القراءة تعتريه حدة: لكن يقهرها بالحلم. ولم أر مثله فى ايتهالاته واستعانته بالله وكثرة توجهه» تلك صفات جسمية ونفسية فوق ما له من همزايا عقلية, تجعله ذا هيبة خاصة: وقوة تأثير» ونفوذ فى قلب من يتحدث إليه, ومن بلقى سمعه إليه لا يلبث أن يلقى قلبه ومشاعره بين يديه.

تقدم أحمد بهذه الصفات الشخصية:. وهذه المواهب, وتلك المدارسء وذلك الغلم الغزير» فألقى دروسه فى الجامع الكبير بلسان عربى مبين؛ فاتجهث إليه الأنظار واستمعت إليه أفئدة سامعيه. وانتقل كثيرون من المسستمعين إلى تلاميذ مريدين متحمسين معجبين» وصار له من بينهم مخلصون إخلاص الحواريين الصديقين» وكانت دروسه تجمع الموافق والمخالف» والبدعى والسنىء ومعتئق مذهب الجماعة. ومذهب الشيعة: فكثر تلاميذه. وكثر سامعوه؛ وكثر التحدث ياسمه فى المجالس العلمية, ا"

وهى فى ذلك لا ينى عن البحث والاطلاع: والاستزادة من المعرفة بعقل جبار مدرك؛ وحافظة واعية, وتفكير مستقل سليم.

4''- ودروسه؛ وإن تعددت تواحيها تجمعها جامعة واحدة؛ واتجاه واحد؛ وهى إحياء ما كان عليه الصحابة أهل القرن الأول الذى تلقى الإسلام صافياً لم يرنق بأفكار غريية» ولم تدرس فيه نحل يائدة أراد أن يحييها أصحابها مستورة بستار المسلميزء فيجمعوا بين أمرين: إحياء تراثهم وإفساد إدراك المسلمين لدينهم.

كان ينهج النهج الذى يعود بالإسلام إلى عهد الصحابة فى عقائدهء وأصوله وفروعه, وإذا استيقن أن ما يقول هو ما كان عليه الصحابة دافع عنه بالمجة والبرهان؛ وكل ما يواتيه عقله ودراساته من أدلة عقلية ونقلية, ويقرب ما يقول بعبارات مستقيمة, وتعليلات سليمة: بواقع الحياة وما يجرى بين الناس,

وهى فى هذا يلقى بكل أسلحته العلمية» ومن رآه من كبار العلماء يثير إعجابه: لقد رآه المحدث الكبير اين دقيق العيدء وقد كان حجة العصر فى الحديث وعلومه فقال فيه:

«رأيت رجلا جمع العلوم كلها بين عينيه. يخذ منها ها يريد ويدع ما يريدهروقال له أول هرة رأه وسمع كلامه: كنت أظن أن الله تعالى ما بقى يخلق مثلك»(!,

برزت هذه المعارف. وتلك الخواص؛ وذلك الامتياز البين: وابن تيمية حول الثلاثين من عمره؛ وقد صار مقصداً للعلماء. والطلاب, الذين يستمعون إليه ليحكموا عليه فيعجبوا به, والطلبة ليستفيدواء فيستهديهم بفكره وقلبه وإخلاصه وبلاغ بيانه.

6 وإن ابن تيمية بمحاولته إعادة الإسلام إلى عهده الأولء وإزالة ما علق به من غبارء قد أثار خلاف كثيرين كما استهوى بالإعجاب كثيرين. فكان له موافقون وأكثرهم من تلاميذه ومريديه, أى من الجيل الذى يليه؛ فقد وجد فيهم النفوس الخصبة التى تتقبل ذلك التجديد بإعادة الإسلام قشيباً غضاً كما بدأ. ورأى فيهم النور الذى يضئ للأجيال القايلة, وكذلك كل مصلح يريد بعث الأفكار من رقودها والعزائم من خمودها يتجه إلى الشباب فيبث فيهم تعاليمه؛ فإن الغد هى يومهم, فإذا ألقى فيهم قوله؛ فهى منير الحاضر والقايل,

٠١١ التقلان المذكوران عن ابن دقيق العيد من كتاب القول الجلى من شمن مجموعة تراجم ص‎ )1١ 584

وإذا كان تلاميذه قد وافقوه فقد خالفه كثيرون غيرهم؛ ومنهم من ضاق صدره حرجاً بقوله» ومنهم من خالفه؛ وقال: مجتهد يخطئ ويصيبء فخالفه فى بعض ما يقول غير مكفر ولامؤثم.

وعلى ذلك نقوك إن الناس فى تلقى كلامه قد اتقسموا إلى ثلاثة أقسام؛ فريق شايعه وناصره. وفريق قاومه ونازله, ومنهم من كفره؛ وفريق خالفه. ومن هذا الفريق من وأفقه فى بعض مأ قاله وخالفه فى بعضه. واقد قال الأواون فيه مقالة الخيرء ورفعوه إلى أعلى مراتب الاجتهادء وغالى الفريق الثانى فى مذمته. وكان الآخرون بين هؤلاء وأولتك: ولذلك لم يرض عنهم الفريقان.

وأقد قال الذهبى فى ذلكء وهو من الفريق الثالث «ومن خالطه وعرفه قد ينسبنى إلى التقصير فيهء ومن نابذه وخالفه قد ينسبنى إلى التغالى فيه؛ وقد أوذيت من الفريقين من أصحابه وأضداده.. وأنا لا أعتقد فيه عصمة: بل أنا مخالف له فى مسائل أصلية وفرعية, فإنه كان مع سعة علمه؛ وفرط شجاعته. وسيلان ذهنه وتعظيمه لحرمات الدين- بشرًا من البشرء تعتريه حدة فى البحث» وغفضب وصدمة للخصوم تزرع له عداوة فى النفوسء وأولا ذلك لكان كلمة إجماع؛ فإن كبارهم خاضعون لعلومه معترفون بأنه بحر لا ساحل له؛ وكنز ليس له نظيرء واكنهم ينقمون عليه أخلاقاً وأفعالاء وكل يأخذ من قوله ويترك».

هذه أقسام الناس بالنسبة لأقواله كما وصف الحال مؤرخ من أكبر مؤرخى الإسلام ومعاصر يتحرى الدقة: وإنه ينسب مخالفة مخالفيه ومنابذتهم له ورميه بالخروج إلى حدة خلقه؛ وعنف قوله. وصدمه للخصوم.ء ولعله قد كان كذلك: يل نجزم بأنه كانت فيه دة وشدة: ويبدى ذلك من قوله؛ ولكننا لانحسب أنها السبب وحدها فى مخالفة المخالف.,تحول المخالفة إلى منابذة. بل لعل المناقشة لبست ثوب الحدة عندما نابذوه. وخصوصاً أنه يرجع الأحكام التى ينطق بها إلى ما كان عليه السلف الصالح؛ فما كان قوله بدعاًء بل كانت فى نظره ونظر القاحصين فحصا دقيقا سنة,

إن ما كان فى عصره من شيوخ الشعوذة قى الصوفية, تاؤيلاتهم الكثيرة والتقليد

المطلق فى العقائد» وطريق فهمهاء وفى الأحكام والتخريج عليهاء لا يمكن معه أن يكون من

بدعى إلى التحرر من كل تقليد إلى كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه السلف الصالح- أن

مقبول القول؛ مسلّمٍ التفكيرء بل لابد من منازلات. وخصوصاً أن الذين عاصروه من الفرق المختلفة لم يروا فى مسلكه ما يطمئنهم. بل كان يكشف مستورهم فا مخالفة لايد منها. ولا يمكن أن يكون إجماع على منهاجه الذى جاء به ولا يمكن أن يكون محل الرضا.ء إذا كانت المخالفة والمنازعة والمجادلة فلايد أن تكون المخاصمة والمنابذة» وخصوصاً أنه لا ينى عن الدعوة إلى ما يراه عند العامة وعند الخاصة فى المدارس.وفى المساجد.

لاشك أن الإجماع كان منعقداً على مقدرته العلمية واللسانية والجدلية والتعليمية ولكن تلك المقدرة يرى الكثيرون فيها حرباً عليهم فلايد أن ينازلوهاء لأنهم يجدون فى المنازلة دفاعاً عن كيانهم؛ ووجودهم بوصف كونهم فرقة دينية لها كيان ووجود.

1- وإنه لا يكتفى بما يلقى فى دروسه وما يلقيه على العامة فى الجامع الكيير فى المجتمع الكبير كل يوم جمعة؛ بل قد صار مقصداً يسال فيجيب بالكتاب» فيذيع ويشتهر بين الناسء ويتناقله الناسخون؛ فيذيع ويشيع مسجلا فى القرطاس ولا يكتفى بتلقى الأفواه. ظ

ومن هنا ابتدأت المعركة. أرسل إليه أهل حماة يسالونه عن الصفات التى وصف الله نفسه بها فى القرآن؛ من الاستواء وإضافة الكرسى لله سبحانة فى قوله تعالى «وسع كرسيه السموات والأرض»(١)‏ إلخ.. فاجابهم بالرسالة الحموية» وفيها يخالف الأشاعرة فى مناهجهم: فيتصدى له المخالفون بالمناقضة: وأكنهم لايقوون على فصاحة لسانه. فيشكونه إلى القاضى الحنفى وهى أشعرى أو ماتريدى؛ وهما فرقتان متلاقيتان, ولنترك للحافظ ابن كثير تلميذ ابن تيمية يقص الواقعة فى تاريخه فى حوادث سنة 9/8". |

«قام عليه جماعة من الفقهاء وأرادوا إحضاره إلى مجلس القاضى جلال الدين الحنفى فلم يسضرء خنودى فى البلد فى العقيدة التى كان قد ساله أهفل حماة المسماة بالحموية» وأرسل قطلب الذين قاموا عنده؛ فاختفى كثيرء وضرب جماعة ممن نادوا على العقيدة» فسكت الباقون, فلما كان يوم الجمعة عمل الشيخ تقى الدين الميعاد بالجامع على عادته. وفسر قوله تعالى: «وإنك لعلى خلق عظيم »0) ثم اجتمع بالقاضى إمام الدين يوم السبت واجتمع عنده جماعة الفضلاء. وبحثوا فى الحموية وناقشوه فى أماكن قيهاء فأجاب )١(‏ البقرة: 0ه؟ 000 ()القلم:4

9

عنها بما أسكتهم بعد كلام كثيرء ثم ذهب الشيخ ثقى الدين» وقد تمهدت الأمور وسكنت الأحوال: وكان القاضى إمام الدين معتقده حسناء ومقصده صالحاًء!!,

وإمام الدين الذى ارتضى تقى الدين أن يجيب على الأسئلة المهجهة إليه فى حضرته هى قاضى الشافعية ولعله قبل المجاوبة فى حضرته لأنه لم ير فيه قصداً إلى العنت: وأنه غير متحيز فى الحكم, وأنه ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ولم ير ذلك الرئى الحسن فى جلال الدين قاضى الحنفية.

4 - انتهت هذه المحنة بسلام: ولم يصب فيها بالأذى إلا بعض الأتباع, ولا نريد أن نخوض فى موضوعاتهاء لأن العقيدة الحموية هى ومثيلاتها ستكون موضوع دراستنا عندما نصل يعون الله سبحانه وتعالى إلى الكلام على آراء ابن تيمية وفقهه, ونحن الآن بصدد بيان سرد حياته؛ وما عرض له. وما دعشر الطريق بين يديه» والطرائق التى سلكها فى ملاقاة خصومه, وما تحمل فى سبيل ذلك.

ويلاحظ فى الحادثة السابقة أن المحنة ما جاءت من العامة بل جاءت من الخاصة, فإن الذى حمل لواء الاعتراض هى قاضى الحنفية, وضم لنصرته بعض الأمراءء فنادى المنادون بمنع ذلك الاعتقادء كأن العقائد تحارب بالنداء والدعاء لا بالدليل والبرهان, وسنجد فى مجرى حياة ابن تيمية أنه فى أكثر الأحوال كان العامة فى الشام فى جانبه, وأن الذين تولوا الاعتراض على طريقه من متعصبة المذاهب. ولم نجد العوام قد اشتركوا فى أذاه إلا فى بعض الحوادث فى مصر.

وذلك لأن العامة لم يروا فى ذلك العالم الجليل إلا الصلاح البين» والفيرة الدينية المتبعثة من قلب عامر بالإيمان» ولم يروا فيه إلا ناصراً للعدلء شديد الحدب عليهم حريصا عليهم رءوفا بهمء وهى إذا اختلف مع العلماء وجدوا أحاديث رسول الله مَل تنثال على لسانه انثيالاء وتجرى عليه أرسالاء ويسترسل فى ذلك أمامهم استرسال عالم السنة العريق؛ المدل بنسبة ما يقول إلى رسول الله الكريم» وأى حجة تقف أمام قول الرسول» وأى قول قديم أى حديث يثبت أمام أثر النبى لله .

)١(‏ البداية والنهاية لابن كثير ص 6 من الجزء الرابع عشر. "١‏

ثم نجد ملاحظة أخرى فى الحادثة السابقة أن القاضى الحنقى يحرك الفتنة, والقاضى الشافعى يطفئهاء وسنجد أن الذى يحرك الإحن فى مصر ويثيرها حربا على ابن تيمية هو القاضى ا مالكى ولايخوض فيها الشافعية إلا قليلاء ولماذا كانت الأحوال على ذلك ؟ لعل السر فى ذلك أن الحنابلة فى الشام كان لهم تحيز خاص» وأنهم قريبون من الشافعية باعتبار أن الإمام أحمد من تلاميذ الشافعى. ويذكره ابن السبكى فى طبقات الشافعية؛ وبعض ما كان ينزل بابن تيمية كان من مخالفة الحنابلة للأشاعرة وا ماتريدية فكان القريبون من الحنابلة بعيدين عن التعصب عليهم, والإنصاف لهم, وإن خالفوهم فى الجملة مع المخالفين. ْ

- انتهت الحادثة السابقة عند النهاية السابقة وام تتشعب منها مناقشات إلا بعد ذلك بنحو سبع سئثين: ولم يكن السكوت رضا عن ابن تيمية وآرائه من العلماءء بل لآأن التتار ساوروا دمشقء: وصارت البلاد فى محنة, فشغلتهم تلك الغارات عن أن يثيروا على العلم غارات.

واكن ابن تيمية الذى حبا الله به العلم فى عصره لم يعكف على درسه ويستسلم للمقادير استسلام العلماء الذين عاصروه؛ بل أحس وهى الذى مازال شابا إذ كان فى نحى الثامنة والثلاثين من عمره أنه لابد أن بسهم فى الحرب لا بالقلم واللسانء بل بالسيف والسنان؛ فتقدم العالم الجرئ إلى الميدان وأثبت أنه لم يكن جريثا فى العلم والآراء فقطء ولم يكن القوى فى الفكر والمعقول فقطه بل إنه الفارس المقدام؛ واثقوى الذى يحمل السيف

على عاتقه, كما يحمل القلم يبناته. من محراب العلم إلى ميذان القتال

٠‏ - كان ابن تيعية عاكفاً على الدرس والفحصء والوعظ والإرشاد وبيان الدين صافياً نقياً. كما تزل على النبى مله وكما تلقاه السلف الصالع رضوان الله سبحانه وتعالى عليهم أجمعينبومع عكوفه على الدرس كان متصلا بالحياة والأحياء, ويقيم الحسبة, ويبلغ ولاة الأمر إن رأى أمراً يوجب تبليقهم. ْ

ولقد بلغه فى سنة 741 أن نصرانياً سب النبى مُه وآوى إلى أحد العلويين فحماه من غضب العامة؛ فرأى تقى الدين ذلك منكراً لايحسن السكرت عليه. فصحب شيخ دار الحديث. وذهبا إلى نائب السلطنة بدمشق, وخاطباه فى الأمر فأرسل ليحضر النصرانى:

ذا

فحضر ومعه بدوى أغلظ القول للعامة المجتمعين فحصيوه ومن معه بالحجارة ولقد أوذى الشيخ وصاحبه:؛ لأنهما اتهما بتحريض العامة: ثم أسلم النصرانى بعد أن أثبت براءته, واعتذر نائب السلطنة للشيخين وأرضاهما(),

فهذه القصة تبين لنذا أن ذلك العالم الجليل ما كان يشغله درسه عن شئون الدين العامة» والقيام على حراسته وحمايته من المتهجمين عليه؛ وأنه فى سبيل حمايته لا يخشى فى الله لومة لائم؛ فهى يثور على من يحمى الذى يسب محمداً مَل ويحرج الوالى فى تلك السبيل. وإن ناله أذى فى سبيل ذلك احتمله, كما يحتمل المؤمن الصبور,

١‏ - وأكن هذه الحادثة العرضسية وأشباهها ليست بشئ بجوار وقفاته لنصرة الدولة والعامة عند إغارة المغيرين.

لقد جاء التثار إلى الشام سنة 2,194 وهزموا عساكر الناصر بن قلاوون؛ وشتتوهم شذر مذر بعد أن أبلى الجميع بلاء حسئاً؛ ولكن كان أمر الله قدراً مقدوراًء فولى جند مصر والشام الأديان, واجتازوا دمشق فارين إلى فصن.

وصار جند التتار على أبواب دمشق؛ وأهلها فى ذعرء وفر كثيرون من أعيان العلماء إلى مصر كقاضى الشافعية إمام الدين: وقاضى المالكية الزواوى وغيرهم من كبار العلماء وكبار الرجالء حتى صار البلد شاغراً من الحكام وكبار رجال الدينء ولكن عالماً واحداً بقى مع العامة فلم يفر ولم يخرج, لان له قلباً يحول بينه وبين الفرار!'؛ وله شعور يمنعه من أن يترك العامة من غير مواس فى هذه البأساء. وله دين يمنعه من أن يترك أمور الناس فوضى لا حاكم يردع: ولا نظام يمنع؛ فقد ساد السلب والثهب» حتى أن المحبيوسين من الشطار والسراق خرجوا من الحبسء وكانوا قريباً من مائتى رجلء فنهبوا ما يقدرون عليه, وهكذا غيرهم من أهل الشطارة والدعارة,

جمع ابن تيمية أعيان البلدء واتفق معهم على ضبط الأمور» وأن يذهب على رأس وقد متهم يخاطيون ملك التتار فى الامتناع عن دخول دمشق,

.١4 ابن كثير ص ؟ ج‎ )١( ابن كثير الجزء الثالث عشر ص7"4؟.‎ )١( الف‎

؟؛ - وقد ذهب الشيخ مع الوفدء والتقى بقازان!') ملك التتار وقائدهم وقد كسا الله الشيخ حلة من المهابة والإيمان والتقى: ولقد قال أحد الذين شاهدوا اللقاء «كنت حاضراً مع الشيخغ فجعل يحدث السلطان بقول الله ورسوله فى العدل. ويرفع صوته. ويقرب منه... والسلطان مع ذلك مقيل عليه. مصغ لما يقول» شاخص إليه؛ لا يعرض عنه. وإن السلطان من شدة ما أوقع الله فى قلبه من الهيبة والمحبة سأل: من هذا الشيخ؟ إنى لم أر مثله. ولا أثبت قلباً منه, ولا أوقع من حديثه فى قلبى؛ ولا رأيتنى أعظم انقيادا لأحد مته, فأخبر بحاله وما عليه من العلم والعمل!"'؟».

ومما خاطبه عن طريق الترجمان: «قل للقازان أنت تزعم أنك مسلم؛ ومعك قاض عاهدا فوفياء وأنت عاهدت فغدرت, وقلت فماوفيت. وجرت. ثم خرج بعد هذا القول من

عنده معززاً مكرما بحسن نيته()»,

أنتجت هذه المقابلة خيراً وإن كان محدوداً, لقد أجل دخول دمشق إلى حينء وأمن الناس وزال فزعهم, فقد وعده قازان خيرا وأعلن الأمان وطيف بمنشوره فى البلد من أقصاه إلى أقصاهء ولكن طلب من الأهلين تسليم السلاح والخيل والأموال المخيوءة. ويعد ثمانية أيام كش عبث الجئد خارج المدينة» فأتلفوا الزرع والضرعء فقلت الأقوات. وحاول أحد الذين كانوا فى خدمة ملوك مصر وهمالا التتار - أن يحمل حماة قلعة دمشق على تسليمهاء فامتنعوا بتحريض ابن تيمية الذى كان ملاذ الناس فى نلك المحنة الشديدة: ولكن

(1) القول الجلى فى ضمن مجموعة من المناقب ص 157

(؟) القول الجلى ص :١177‏ وقد جاء فيه أيضاً: «إنهم لما حضروا مجلس قازان قدم لهم الطعام فاكلوا منه إلا ابن تيمية؛ فقيل له: لماذا لا تاكل؟ فقال: كيف أكل من طعامك؛ وكله مما نهبتم من أغنام الناس, وطبختموه بما قطعتم من أشجار الناس. ولقد طلب منه قازان الدعاء له فقال فى دعائه:«اللهم إن كنت تعلم أنه إنما قاتل لتكون كلمة الله هى العلياء وجاهد فى سبيلك فأن تؤيده وتنصره, وإن كان للملك والدنيا والتكاثر فان تفعل به وتصنعء فكان يدعو وقازان يؤمن على دعائه. ونحن نجمع ثيابنا خوفا من أن يقتل فيطرطس يدمه. ثم لما خرجنا قانا له كدت تهلكنا معك؛ ونحن ما نصحيك من هذا. فقال: وأنا لا أصحيكم, فانطلقنا عصبة: وتأخر؛ فتسامعت به الخواتين والأمراء فأتوه من كل فج. وصاروا يتلاحقون به ليتيركوا برؤيته. فما وصل إلا فى نحى ثلاثمائة فارس فى ركابه؛ وأما نحن فخرج علينا جماعة فشلحوتا».

8

اندفع الجند مع بعض طوائف الشيعة من بعد ذلك فى الصالحية يعيثون فيها فساداً, وحرقوا بعض مساجدهاء وقتلوا وسبوا من نساء المسلمين وهم يذكرون أنهم مسلمون, وبلخ الناس أنهم داخلون دمشق لا محالة.

خرج ابن تيمية مرة ثانية لمقابلة قازان: ولكن حجبه عنه الوزراء؛ وقد وعد بأن المدينة لايدخلها التتار, ولكنهم دخلوها وعاثوا فيها فساداً» ثم خرجوا من بعد, وكان لابن تيمية مسعى حميد فى استنقاذ الأسرىء وفك إسارهم. ثم ترك الثثار الشام ونسجل هنا أن ابن تيمية عندما فك الأسارى: فك أسارى الذميين مع أسارى المسلمين,

- وأكن فى سنة ٠٠١‏ تسامع الناس أن التتار سيقصدون الشامء وأنهم عازمون على دخول مصرء فأخذ الأهلون يفرون كالمرة الأولى؛ وهم فى هذه المرة يفرون على السماعء وكانوا فى الأول يفرون عند العيان,

ولكن ابن تيمية الذى عائج التتار بالسلم فى الماضىء إذ لم يستطع أن يشن عليهم الحرب لخور العزيمة؛ ولأنهم كانوا أصحاب العتاد والعدة؛ ولأنهم كانوا قد غزوا الديار فى عقرهاء فتمكنوا هن الرقاب: ولأنه كان يحسبهم مسلمين غير بغاة, أما الآن وقد بدت حالهم وفى الوقت فرصة, ينتظر الدنية: بل أراد أن يتقدم للميدان بالسيف لا بالقولء فجلس فى اليوم الثانى من صفر هذه السنة, والجموع تستمع إليه لأنه رجلها وقائدها؛ ولم يلق عليهم فى هذه المرة درساً فى الوعظ المجرد» بل ألقى علبهم قولا فى الجهاد فساق الآيات والأحاديث الواردة فى الجهادء ونهى عن الإسراع فى الفرارء ورغب فى إنفاق ا مال فى الذب عن المسلمين وبلادهم وأموالهم, وبيّن لهم أن ما ينفقونه فى الهرب؛ وما يضيع منهم بسببه إذا أنفق فى سبيل الله كان خيراً. وأوجب جهاد التتار فى هذه المرة؛ لأن الحرب أنفى للحربء ولأنه لاجدوى فى سلمهم وتابع المجالس فى ذلك» ونودى فى البلاد ألا يسافر أحد إلا بمرسوم, فتوقف الناس عن السير وسكن جاشهم: وابن تيمية لا يكتفى بالمجالس يعقدها ويخطب, بل يكتب الكتب بالحجج الواضحة!') ويرسلها إلى الناس حتى اطمأنوا.

وزادهم استيثاقا واطمئنانا أن السلطان الناصر بمصر قد اعتزم الخروج» وأن عساكره اللجبة مقبلة تحمى الذمار» وتدافع عن الديار. )١(‏ أرجع إلى العقود الدرية ص 1١١‏ ففيها رسالة طويلة فى الحث على الجهاد.

مه

ولكن عاد الذعر وعاد الاضطراب لما بلغهم المرجفون أن التتار قد وصلوا إلى حلبء وبلغهم فى الوقت نفسه أن السلطان ناصر الدين قد قفل راجعاً إلى مصر.

5 - تلفت الناس فى ذعرهم لا فرق بين حاكم ومحكوم إلى البطل المؤمن القوى ثقى الدين بن تيمية. فخرج إلى جند الشام يحثهم على القتال ويدفعهم إلى الميدان؛ ووعدهم بالنصر والظفرء وتلا قوله تعالى «ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور(»,

وقد طلب إليه الأمراء ونائب الساطنة أن يركب إلى مصر على البريد ليستحث السلطان على المجئ وأكنه لم يصل إلى السلطان إلا وقد عاد إلى القاهرة بعسكره راضياً من الغنيمة بالإيابء وانتثر الجند المجموعء وتقارطت الحالء فتقدم البطل الورع: واستحث السلطان وأمراءه على إعداد العدة وجمع الجندء وقال فى حدة وغلظة قولة الحق والمصلحة: «إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطانا يحوطه ويحميه. ويستغله فى زمن الأمن.. ٠‏ ثم قال: لى قدر أنكم لستم حكامه ولا ملوكه واستنصركم أهله وجب عليكم النصر, فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه وهم رعاياكم وأنتم مسئواون عنهم» ثم قوى جاش الأمراء. ومازال بهم حتى خرج السلطان بجنده إلى الشاء!).

ولكن ابن تيمية وقد ترك دمشق استولى عليها الذعر, إذ قد اشتدت الأراجيف, ونادى هنادى التردد والهزيمة بالفرارء فنادى والى المدينة بأن من قدر على شئ فليخرج؛ وأكن عاد ابن تيمية إليهم قبل أن يجيبوا ذلك الناعب تعيب البوم. فعادت القلوب إلى جنويهاء وأتاهم من ثلاث نواح, فابن تيمية قد عاد إليهم وهى أمنهم وملاذهم, وتأكدوا إقبال جند السلطان؛ ثم تأكد لديهم أمر آخرء وهو أن التتار قد عادوا من عامهم هذا؛ لما أحسوا بأن خصومهم قد أعدوا العدة وأخنوا الأهبة, ولاحظوا ضعفاً فى أنفسهمبولم يتقدموا وهم على هذا الضعف.

؟ - عاد أبن تيمية إلى درسه وعلمه. وهى لم يفارقه, فى الجملة إلا بالقدر الذى كان يضطر إليه فى مقابلات الملوك والسلاطين ومخاطبة الجموع والجنود؛ وإن هذه المحنة التى نزلت بدمشق أظهرت ابن تيمية بطلها ورجلهاء لا عالمها فقط؛ ولعل العلم يشاركه فيه )١(‏ سورة الحج: 5٠‏ (؟) راجع فى هذه الأخبار كلها البداية والنهاية لابن كثير ج ١4‏ ص .١١‏ لمن

غيره بقدرء ولكن فى مواقفه هذه لم يشاركه أحد؛ وقد تمكنت أقدامه بهذا فى الدولة وعند العامة؛ وما مكنها إلا همته وشجاعته: وصبره وإيمانه بالحق والفضيلة فوق علمه.

ولقد أقام الفضيلة والأخلاق عندما صار رجل دمشقء وحاكمها غير المتوج عندما فر حكامها فى سنة 194, وأصبح إنكار المنكر حقاً عليه بالفعل لا بالقول والقلب؛ إذ صار ميسوط اليد والسلطان فيهاء رأى الحانات والخمور فأخذ هو وصحبه؛ وقد صاروا حكام الساعة. قحطموا أوانى الخمر؛ وشقوا قريهاء وأراقوا الخدورء وعزروا أصحاب() الحانات المتخذة للفواحشء فلقى ذلك من العامة ترحيباًء إذ رأوا حكم القرآن ينفذء وعهد الرسول ل _

وإذا عز عليه أن يقيم الحقوق بقوة الحكم أقامها بقوة الإقناع وهى لها أملك؛ وعليها أقدر؛ فإن جند التثار عندما دخلوا مدينة دمشق سنة 94 وعاثوا بها فساداً» واتصل بهم سكان الجبال ومالثوهم: فخرج إليهم ابن تيمية لقتالهم فجاءه رؤسازهم مسترشدين مستهدين: فوعظهم واستتابهم وبين الصواب لهم؛ والتزموا برد ما كانوا قد أخذوا هن مال الجيشء وقرر عليهم أموالا كثيرة يحملونها إلى بيت المال» وأقطعت أراضيهم وضياعهم, ولم يكونوا قبل ذلك يدخلون فى طاعة الجند,ء ولا يلتزمون الملة» ولا يدينون دين الحق» ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله!"),

1 - اتتهت المحنة لابن تيمية بسلطان من الحكم؛ ويظهر أنه بعد أن زالت المحنة لم يسحب منه ذلك السلطان الذى اكتسبه بقوة الحقء وقوة الخلق» وقوة العلم: فقد كان مرجع الحكام مع أنه ليس له منصب رسمى يؤهله للحكم فليس قاضياً ولا واليأء ولكن سودته مواهبه وهمته وعلمهء ففى شهر جمادى الآخرة من سنة ١١‏ عقد مجلس لبعض اليهود, وألزموا باداء الجزية أسوة بأمثالهم من اليهود والنصارىء فأحضروا كتاباً يزعمون أنه من رسول الله مه بوضع الجزية عنهم: فلما وقف الفقهاء عليه تبينوا أنه مكذوب مفتعل لما فيه من الألفاظ الركيكة واللحن الفاحشء وقد جادلهم ابن تيمية وبين لهم خطأهم وكدبهم وأن الكتاب مزور مكنوبء فأنابوا إلى أداء الجزية.

.١١ ص‎ ١6 راجع هذه الأخبار كلها فى البداية والنهاية لابن كثير ج‎ )١( ,.١5 الكتاب المذكور ص‎ (0 أذذا‎

وأقد كان ابن تيمية يقيم بعض الحدود بهذا السلطان فثار جماعة من حساده وشكوا منه أن يقيم الحدود ويعزر ويحلق رءوس الصبيان: وتكام هى أيضاً فيمن يشكون منه وقد أقر الوالى عمل اين تيمية؛ وسكنت الفتنة عند هذا الحد(!).

كانت تلك المنزلة الرفيعة التى نالها اين تيمية مثيرة لحسد الحساد, وحقد الحاقدين, ولم يجدوا السبيل لأن ينغثوا سم حقدهم عند الأمراء. وتتازم الأحوال. فأرادوا أن يكيدوا له من هذه الناحية؛ ليكون الكلام أوقعء ولعله ينال استماعا.

فقد جاء إلى نائب السلطنة كتاب فيه أن ابن تيمية ومعه غيره هن العلماء والأقراد والخواص يناص حون التتار ويكاتبونهم: ويؤيدون من يمالثهم, ولكن تبين نائب السلطنة بادئ الرأى أنه مفتعل. وتحرى عن واضعه. وإم يحتج إلى التحرى عن حقيقته. فعرف كاتبه وعزر تعزيراً شديداً» وقطعت يد كاتيه.

5 - ابن تيمية الفارس والعالم:

جاء التتار يجموعهم إلى الشام سنة 2/١7‏ وساوروا دمشقء وأرجف المرجفون, وخرجت القلوب من جنوبها؛ واستعدت الجيوش المصرية والشامية لملاقاتهاء وقد أذ دعاة التردد والهزيمة ينشرون الفزع فى قلوب الناس؛ ولكن تحالف العلماء والقضاة والأمراء على أن يلاقوا العدو. ولا يفروا من دمشق؛ وابن تيمية يثبث القلوب ويعدهم بالنصر متاولا قوله تعالى مؤمناً به (ثم بغى عليه لينصرنه الله")) حتى إنه ليقول حالفاً بالله: «إنكم لنصور:.ن» فيقول له بعض الأمراء قل إن شاء الله. فيقول أقولها تحقيقاً لا تعليقاً.

أطمأنت القلوب وسكنت؛ ولكن دعاة الهزيمة أتوا الناس من ناحية أخرىء من ناحية الدين» كيف نقاتل المسلمين !! إذ ذلك ليس بحلال, يقولون تلك المقالة كاتهم مهاجمون وليسوا مدافعين. عندئذ يتقدم ابن تيمية مبينا الجقيقة الدينية فى تلك القضية: فيقول: «هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علئٌ ومعاوية؛ ورأوا أنهم أحق بالأمز منهماء وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين» ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون ' به من المعاصى والظلم: وهم متليسون يما هى أعظم منه بأضعاف مضاعفة» ثم قال لهم: «إذا رأيتمونى فى ذلك الجانب وعلى رأسى مصحف فاقتلونى», (1) واجع هذه الأخبار كلها فى البداية والتهاية. (5) سورة الحج: 5٠‏

8

حرك ابن تيمية النخوة فى القلوب؛ وسكن جأش السكان؛ ثم امنطى صهرة جواده وخرج إلى ميدان القتال محارياًء فما كان مثله أن يدعى إلى الثبات فى الجهاد وهى ينكخص على عقبيه, يل يتقدم الجموع؛ وذهب إلى مرج الصفر قريباً من دمشقء وابتدأت الموقعة التى تسمى فى التاريخ موقعة شقحب فى رمضان سنة ؟١/؛‏ وتلاقى الجمعان؛ ووقف الفارس الجرئ موقف الموت مقاتلاء وهى يثبث قلوب من حوله بقتاله وفعاله. وقد التقى قبل أن يقف موقفه من القتال بالسلطان يحثه وجنده على الجهاد فى سبيل الله وإحقاق الحق: ورد المعتدينء وكان قد يلغه أنه كاد يرجع: فساله السلطان أن يقف معه فى ال معركة فقال: «السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم» وقد حث الجند وأمراءهم على الإفطار ليقووا على القتال: وكان يروى لهم.قول النبى مله الصحابة فى غزوةالفتح: «إنكم ملاقو العدو والفطر أقوى لكم» وكان يدور على الأجناد والأفراد يأكل أمامهم من شئ معه ليبين لهم أن إفطارهم ليقووا على القتال أفضل.

وقعت الواقعة واشتد القتال واشترك فيه ابن تيمية؛ ووقف هو وأخوه موقف الموت, وأبلى بلاء حسناً. وصدق أهل الشام وجند مصر القتالء وقد استمر طول اليوم الرابع من رمضان؛ حتى إذا جاء العصر ظهر جند مصر والشام: وانحسر جند التتار» فلجئوا إلى اتتحام الجبال والتلال» وجند السلطان الناصر؛ أو بالأحرى جند ابن تيمية وراءه يضريون أقفيتهم» ويرمونهم عن قوس واحدة؛» حتى انبلج الفجر, وقد انكشفت الغمة» وزال خطر التتار من بعدهاء وكانت ثانى مرة يمنون فيها بالهزيمة وآخر مرة يغيرون, وقد كانوا مخاف الشرق والغرب» وقد كانت غاراتهم العنيفة من أقدم العصور أشبه بهزات الطبيعة العنيفة التى تغير وجه الأرض؛ كما قال جيبون: فقد قال فى تصوير هول الغارات التى يشئونها: «إن بعض سكان السويد قد سمعوا عن طريق روسيا نبأ ذلك الطوفان المغولى. فلم يستطيعوا أن يخرجوا كعادتهم للصيد فى إنجلثرا خوفا من المغول»!!),

4 - انتصر أهل الشام وجند مصر كما رأيت»: وحقق الله وعد التقى العارف ابن تيمية الذى أقسم لهم لينصرنهم الله فى هذه المرة, وقد انتصرواء ولكن قلب ابن تيمية المستيقظ وعقله المتفكرء وعينه النافذة جعلته يلقى بنظره نحو طائفة من الشيعة مالأت

,8 ابن تيمية للمرحوم الشيخ عبد العزيز المراغي ص‎ )١( م‎

التثار مرتين؛ أولتك هم طوائف تنتسب إلى الشيعة الباطنية» ومنهم من سموا الحاكمية. ومن سموا النصيرية؛ كانوا يقيمون فى الجبالء ومنهم من سموا فى التاريخ المشاشين؛ وقد مالئوا التتارفى المرة الأولى واشتركوا فى العيث والفساد: وأسر الأسرىء وسيى النساء والذرية؛ وتهب الأموال وفى المرة الثانية مالثوهم أيضاً وإن لم يجدوهم شيئاً.

اتجه بصر ابن تيمية إلى هؤلاء لأنهم فى اعتقاده منافقون غير مسلمين؛ وأنهم شوكة فى جتب الدولة المصرية الشامية يتربصون بها الدوائرء ويمالثون عليها الأعداء, ومنهم العيون والجواسيس وسنتكلم عن ذلك بعون الله تعالى فى بحثنا هذا .

ولم يجد للسكان مأمناً؛ وأوائك بجوارهمء فحرض الناصر عليهم؛ وخرج إليهم مع جماعة من أصحابه؛ ومعه نقيب الأشراف, وجاء من يعدهم الجند فقاتلوا حاملى السلاح: وقطعوا أشجار الجبل واستتابوا خلقاً منهم وألزموا بشرائع الإسلام؛ وصدرت المراسيم بذلك» وقد كتب رسالة للسلطان الناصر يحذره منهم؛ ويبين فيهم حقيقة أمرهم وأحوا لهم, وأنهم يمالئون التتار والنصارى على المسلمين؛ وقد جاء فى هذه الرسالة: «لما قدم التثار إلى البلاد وفعلوا يعسكر المسلمين ها لا يحصى من الفسادء وأرسلوا إلى أهل قيرص فملكوا بعض الساحلء؛ وحملوا راية الصليب. وحملوا إلى قبرص من خيل المسلمين وسلاحهم وأسراهم ما لا يحصى عدده إلا الله, وأقام سوقهم بالساحل عشرين يوماً يبيعون فيه المسلمين والخيل والسلاح على أهل قبرص (أى الصليبيين المحاريين للمسلمين) وفرحوا بمجئ التتار.. ونا خرجت العساكر الإسلامية من الديار المصرية ظهر فيهم من الخزى والتكال ما عرفه الناس منهم, وما نصر الله الإسلام النصرة العظمى عند قدوم السلطان: كان بينهم شبيه بالعزاء.. كل هذا وأعظم منه عند هذه الطائفة. كان من أسباب خروج جتكسخان إلى بلاد الإسلام؛ وفى استيلاء فولاكى على يغداد وفى قدومه إلى حلب وفى نهب الصالحية؛ وغير ذلك من أنواع العداوة للدسلام وأهله,

ديقول فيها أيضاً: وأقد كان جيرائهم من أهل البقاع وغيرها منهم فى أمر لا يضبط شرهء كل ليلة تنزل منهم طائفة. ويفعلون من الفساد مالا يحصيه إلا رب العباد» كانوا فى قطع الطرقات, وإخافة سكان البيوتات على أقيح سيرة عرفت من أهل الجنايات يرد إليهم النصارى من أهل قيرص فيضيفونهم ويعطونهم سلاح المسلمين؛ ويقعون بالرجل الصالح من المسلمين: فإما أن يقتلوه, وإما أن يسلبوه؛ وقليل منهم من يفلت بالحيلة». 7

هذا بعض ما وصف به أولئك الشيعة ليبرز خروجه إليهم؛ وهجومه عليهم ويزكى إصدار المراسيم السلطانية بإلزامهم بشرائع الإسلام: ولأنهم كانوا مصدر أذى للأمئين» ومصدر خطر على ال محاريين» ويبرر قطعه لأشجارهم بقوله: وقطعوا أشجارهم لأن النبى له ما حاصر بنى النضير قطع أصحابه نخلهم وحرقوه.. وقد اتفق العلماء على قطع الشجر وتخريب العامر عند الحاجة إليه؛ فليس ذلك بأولى من قتل النفوس.. إن القوم لم يحضروا كلهم من الأماكن التى الختفوا فيهاء وما أيسوا من المقام فى الجبل إلا حين قطعت الأشجارء وإلا كانوا يختفون حيث لا يمكن العلم بهم.)

49 - هذا كلام ابن تيمية يبين فيه فعاله, ونه قاد كتيبة من أصحابه جردها على سكان تلك الجبال من طوائف الشيعة الباطنية ما بين حاكمية ونصيرية من تلك الفرق» ويبرر السبب فى قتالهم؛ وعند الكلام على الفرق التى عاصرته سنخص تك الفرق بكلمة.

وإن تلك الطائقة التى تنسب نفسها إلى الشيعة العلويةء كما جاء فى الرسالة كانت تبيع المسلمين للنصارى الصليبيين المتريصين: وكانت تحرض التتار على الفساد فوق ما فى التتار من حب له؛ وكانوا يكشفون عورات أهل الشام؛ فيضيق ذرعاً بذلك ابن تيمية المسلم التقى» ويخرج إليهم فيقاتل مقائئتهم ويقطع أشجارهم.

ولعل أشد ما أصاب ابن تيمية من مرارة بيع المسلمين للصليبيين» وام يكن ذلك عن تعصب دينى» بل لأن بيع المسلم حرامء وبيعه لغير المسلم كفس ولأن الصليبيين كانوا فى حرب مع المسلمين فبيع أولياء الإسلام لأعدائه مروق لايبرره أى اختلاف طائفى أو مذهبى, وإن اين تيمية الذى لم يسوغ أسر الذمى: بل يعمل على استنقاذه كما يستنقذ المسلمء لا يتسع ضميره الدينى قط لأن يفضى عن طائفة تتتسب للإسلام تبيع المسلم الحر لعدوه الذى يقائله فى الميدان.

هن أجل ذلك لم يتركها فى عبثها واعتدائها ودسهاء واكن هل قضى عليها؟ إنه خضد شوكتهاء وأزال مجتمعها في الجبلء ولكن لم يزلهاء فإن لم تجتمع فى الجبال - اسثمر سلطان ابن تيمية قائماً, لأن العامة رأوا فيه ناصرهمء وولاة الأمر

١

مبتعداً عن مناصب الدولة ولكن كان يؤخذ رأيه فى المناصب العلمية, فإنه لما توفى ابن دقيق العيد سنة ١7‏ وكان على مشيخة دار الحديث الكاملية أشار ابن تيمية بتعيين الشيخ كمال الدين الشريشى فى محله. كما أشان بتعيين من اختارهم للخطابة وارياسة المدارس المختلفة, وكان ذلك سنة 0(0/.9,

ولم يكن سلطانه الأدبى مقصوراً على الإشارة بتعيين الشيون؛ بل إنه كان يتولى التعزير أحياناً. ولعله كان يعتبر ذلك من الإرشاد والإصلاح؛ أحضر إلبه شيخ من شيو الباطنية الذين سمى بعضهم بالحشاشين؛ وقد استطال شعر رأسه. وترك أظافره وأرسل شاربه فقص شعره وحف شاريه وقلم أظافرهء واستتابه من كلام الفحش فى الصحابة وعامة المؤمنين. وأكل ما يغير العقل من الحشيشة. وسائر المصرماتء ومخالطة أهل الذمة, وأخذ عليه وثيقة ألا يتكلم فى تعبير الأحلام وغيرها بما لا علم له يه.

٠١‏ - وقد اتجه إلى إزالة البدع والمنكرات؛ فقد علم أن صخرة تزار وتنذر لها النذور قذهب مع أصحابه. ومعهم حجارون يقطعون الصخورء فقطعها وهدمها وأراح المسلمين من وزرها!'),

ثم نصب نفسه للكشف عن ستور أهل التصوف, الذين اتخذوا الشعوذة سبيلا للتأثير فى العامة؛ وأقامها عليهم حرياً شعواء وخصوصاً أن بعضهم هالا التتار فى أثناء حملتهم على الشام وعيثهم فساداً فيهاء وكان جلّهم من الرفاعية الأحمدية أتبياع السيد أحمد الرفاعى؛ وقد ناقشهم مرة فكشف شعوذتهم؛ إذ كانوا يوهمون الناس أن لا تمسهم النار ببركة السيد أحمد الرفاعى رضى الله عنه. ويدخلون النار فلا تمسهم لأثهم يطلون جسمهم بمادة لاتحترق» فلما أرادوا أن يصنعوا ما يصنعون فى حضرة نائب السلطنة بشهود ابن تيمية؛ قال لهم: «من أراد أن يدخل الثار فليدخل أولا إلى الحمام وليغسل جسده غسلا جيداً» ويدلكه بالخل والأشنان: ثم يدخل بعد ذلك إلى النار إن كان صادقاً» فقال شيخهم: «نحن إنما تنفق أحوالنا عند التتار» وليست تنفق عند الشرع» فانكشفت بذلك حالهم, وهو ممالأتهم للثتارء فاشتد الذكير عليهم لفعالهم وممالأتهم لأعداء الوطن الشامى.

)١(‏ البداية والنهاية لابن كثير ج ١5‏ ص 8؟. (؟) الكتاب المذكور ص 4"؟, 13

٠ 0 | محنة‎

؟ - لسنا نقصد بمحنة الشيخ إهانته. فد عاش رحمه الله معززاً مكرماً. حتى فى محبسه؛ فحيثما حل كان الإجلال والاحترام: وإنما نقصد بالمحنة الحبس: وتقييد حريته فى الخروج والدعوة.

يلغت مكانة ابن تيمية الذروة. فقد علا على المنافسة» وصار اسمه فى كل مكان؛ وكان من حق مثله أن يفترء ولكن لم يصب الفرور قلبه. وحسيك أن تعلم أن الفخر الذى ناله المصريون إلى اليوم لأنهم الذين حطموا قوة التثار» وفرقوهم, وردوهم على أدبارهم خاسئينء إنما كان مرجعه فى الدور الأخير إلى ذلك العالم التقى فهى الذى ثبت القلوب بقوله. وقوى العزائم بروحه وجمع الجموع؛ والأجناد. وخاض المعركة بنفسه. وكان روحها الدافع وقلبها الخافق, ومزيمتها الوثابة وقد حمى الدولة فى الخارج, وعمل على حمايتها فى الداخل بإزالة من كانوا يحصون على المسلمين أعمالهم؛ ويبلغونها لأعدائهم؛ ويكشفون العورات» وإن لم يجتثهم من أصلهم؛ فقد أخضعهم.

إن العالم الذى رأى صخرة التتار تتحطم نهائيا فى مرج دمشق عليه أن يعلم أن العامل الأول فى تلك الواقعة الأخيرة إنما هى ابن تيمية العالم الورع التقى.

ولكن الفرور لم يمس قلبه؛ لأن الفرور والإيمان لا يجتمعان؛ إذ الغرور من الشيطان؛ والإيمان من الرحمن, وإذا كان الله سبحاته قد طهر قلبه من الفرور والحسد فقد أعطاه عزيمة من حديد, ولساناً ذرياً قوياً وإرادة عاملة وقد كان كل ذلك لمصلحة الإسلام والمسلمينء وقد أثارت منزلته حقد من لم يبلغ شأوه من هذه الصفات ولم يصل إلى مرتيته منهاء وخصوصاً أن العلماء فى ذلك'الزمان كانت تجرى عليهم الأرزاق من بيت المال؛ فالقريب من السلطان منهم يكون له رأى فى أرزاقهم: وقد رأينا ابن تيمية صار له شأن فى التولية وإن ثم يعرف له شأن فى العزلء وها فعل إلا وهى يقصد وجه الله سبحانه لا يبغى من أحد جزاء ولا شكوراً؛ وهى ما تخير لنفسه منصباً؛ بل رضى أن يكون الواعظ المرشدء والمدرس الجيد.

له - علا ابن تيمية فأثار أحقاد كثيرين: ومنافسة بعض العلماء وخصوصياً حين رأوه يستشار فى تولية بعض المناصب فهو الذى أشار كما رأيت بتولية من تولى مشيخة الحديث بعد تقى الدين بن يقيق العيدء ورأوه من بينهم ينفرد بالمنزلة عند العامة تسكن بسكونه؛ وتهتدى بهديه» وتخضع لرأيه ودعوته. لم ينظروا إلى الأسباب التى رفعته. لأنهم

3

لم يفعلوهاء ولى توافرت لهم الإرادة الماضبية والنية التى تواقرت له لكان لهم مثل مكانه, واكن نظروا إلى التتيجة فلم ترضهم: وأزالك حسدهم: ولقد قال فى ذلك ابن كثير فى تاريخه:

7“ «كان للشيخ تقى الدين من الفقهاء جماعة يحسدونهء لتقدمه عند الدولة, وانقراده بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وطاعة الناس له ومحبتهم له؛ وكثرة أتباعه وقيامه بالحق وعلمه وعملة».

حسد بعض العلماء ذلك العالم الجليل على ما حباه الله من فضله؛ وإذا لم يحسد مثله على ها وصل إليه من مكانة عند العامة والخاصة:. فإن الحسد يزول هن الوجودء فانه كلما ازداد الفضل لدى شخص ازداد حساده وإن الحساد عملهم دائما أن يحسنوا الناس على ما أتاهم الله من فضله؛ إذا عجزوا عن المجاراة فالحسد يثيره فضل فى المحسود, وعجز فى الحاسد؛ ولم يكن فى عصر ابن تيمية من يستطيع مجاراته فى أسباب فضله.

- وقد وجد الحسد الحطب الذى ينقث فيه النار. وتحرق بها المحسود؛ فإن قول الحق الذى كان يجرى به لسان تقى الدين رضى الله عنه لم يجعل له صديقاً إلا من الذين لا غرض لهم؛ فالطوائف الكثيرة أغضبهاء قاد الجيوش حاربة الشيعة وحاول أن يجتثهم من مقامهمء وقثلتهم جيوش الناصر بإرشاده ودعوته, وقطع أشجارهم: وهم إن اختفوا فى العامة يستطيعون أن ينفثوا سمومهم فى الخاصة بتأجيج نيران الحقد والحسد فى قلويهم: وفى أعماقها الجذوة الصالحة للتأجيج,

وقد حارب الصوفية: وانطلق اسانه فى إمام الصوفية وفيلسوفهم محيى الدين بن عربى؛ وأخذ يهدم فكره وأراءه؛ وأخذ يحرض أولياء الأمر عليهم للكف عن شعوذتهم فذهبوا إلى نائب السلطة ليكف حملة الشيخ عليهم» وأن يسلم لهم حالهم فخاطبه فى ذلك فقال رضى الله عنه هذا غير ممكن,ء ولايد أن يدخل كل أحد من المسلمين تحت الكتاب والسنة قولا وفعلا ومن خرج عنهما لابد من الإنكار عليه. وأنه مذكر عليهم أفعالهم مستمر على الإتكار إلى أن يغيروا.

فكان هئلاء ممن ثاروا وأوضروا الصدورء وحركوا السخائم: وأزعجوا الأمراء بالشكوى منه المرة بعد الأخرى؛ وأثاروا الغبار حوله. ولكنه كان مجادلا قوياً مناظراً. فكان يكشف حالهم يحجته الباهرة؛ وأدلته القاهرة: والعامة معه؛ ولكن لايريد أولياء الأمر على أئ حال أن يكثر هذا النوع من الجدل؛ وهو قد يؤدى إلى الفتن» فينتهزها حساده لنفث

مومهم. 123

6 - وقد كانت له آراء كثيرة تخالف آراء الفقهاء فى العقائد, وقد ابتدأوا يناقشونه قى العقيدة الحموية عندما أجاب بها عن أسئلة أهل حماة سنة 114. وألبوا عليه بعض الولاة» ولكن كرثت اليلاد كارثة التتار ففر الحساد هاريين وصمد لها تقى الدين» ويرز فى الميدان» واستمر نجمه يعلو ويضئ فى ظلمات الحوادث ومدلهمات الخطوب» وما انجلى الليل» وتنفس الصبح إلا وقد تحرك حسد الحسادء وزاده شدة عظم منزلته؛ وعلو درجته.

وإذا كانوا فى مدلهم الخطوب ومعترك الحوادث قد سكتوا أفلآن أصوائهم لاتسمع فى وسط قعقة السلاح, ولأنهم إن تكلموا فالولاة عنهم معرضون لايغضبونه؛ لأنه أجدى عليهم فى الحروب من خصومه. والعامة لايلتفتون إليهم؛ لأنه الكبير فى نظرهم؛ وهو سندهم فى الشدائد التى تنزل بهم؛ ثم إن أولتك العلماء وإن أكل الحسد قلويهم لهم دين وخلق يمنعائهم من أن يثيروا القول فيهء وهى ياذحى الأعداء؛ ويشد عزائم الأولياء» ويسعى فى أمن البلاد» واطمئئان العباد, ويجاهد بقلمه ولسانه ونفسه ليحمى الأمة» ويعلن العدل, ويرد البغاة, لذلك سكتوا حتى استقرت الأمور, وابتدأوا معه الحسابء وأخذوا يحصون عليه القول. ويرمونه بأنه يخالفهم؛ ويهاجمهم بالمخالفة ويعرض بهم فى كل تصرف

٠ يتصرفه‎

ومن ذلك ما يحكى أنه قل المطرء فجف الزرع: فاستسقى الناس ريهم بقراءة الحديث الشريف» فأخذ بعض أتباع الشيخ يقرأ البخارى فأخذ يقرأ كتاب أفعال العباد, وفيه رد على الجهمية؛ ففهم الفقهاء أنه يعرض بهمء لأنهم أشاعرة: وهى يعد أبا الحسن الأشعرى من الجبرية» فشكوه إلى القاضى الشافعى فسجنه فبلغ الخبر الشيخ» وذهب إلى السجن وأخرجه منه!'). ْ

)١(‏ حكى ابن كثير القصة كاملة؛ وها هى ذى: «وقع بدمشق خلط وتهويش بسبب غياب نائب السلطنة واتفق أن الشيخ جمال الدين المزى قرأ فصلا بالرد على الجهمية من كتاب أفعال العباد للبخارى بسبب الاستسقاء؛ فغضب بعض الحاضرين من الفقهاء وشكاه إلى القاضى الشافعى ابن صصرى؛ وكان عند الشيخ فسجن المزى: فبلغ الشيخ تقى الدين, فذهب إلى السجن وأخرجه بنفسهوراح إلى القصرء فوجد القاضى هناك فتقاولا بسبب جمال الدين المزى فحلف ابن صصرى لابد أن يعيده إلى السجن وإلا عزل نفسه: فأمر النائب باعادته تطييبا لقلب القاضى؛ فحبسه عنده فى القوصية أياماً ثم أطلقه, ولا قدم نائب السلطنة ذكر له الشيخ تقى الدين ما جرى فى حقه. وحق أصحابه فى غيبته فتألم النائب لذلك: ونادى فى البلد ألا يتكلم أحد فى العقائد؛ ومن عاد إلى تلك حل ماله ودمه؛ فسكنت الأمور) | ه بتلخيص ج ١4‏ ص/ا.

56

1 - والحنابلة كانوا فى جانب» وسائر الفقهاء والعلماء فى جانبء وقد نوهنا فى الماضى إلى شئ من ذلكء فالحنابلة ما كانوا يتبعون طريقة أبى الحسن الأشعرى» وأبى منصور الماتريدى كما نوها من قبل وبقية الفقهاء كانوا يفهمون العقائد على ذلك النحو. وقد جاء “بن تيمية؛ وهى حنبلى النشأة والمذهب والطريقة الفقهية فى الجملة: ونصب نقسه للدفاع عن طررة الحنابلة ونفى أنهم مجسمة أى مشبهة كالحشوية» وأنهم يتبعون الأثر فى فهم العقائد كما يتبعونها فى فهم الفروع؛ وبماله من مكانة يمكن للحنابلة» ويقوى سلطانهمء فغضب لذلك الفقهاء الذين كانوا يجانبونهم ويستصغرون شأتهمء؛ وقد صاروا بهمة الشيخ وعزيمته ذوى الأمر والنهى» وإن كانوا غير رسميينء فكان ذلك سبباً آخر من أسباب إثارة الخصام, واحتدام الجدلء والالتجاء إلى الحكام.

- وهنا تذكز أمراً لابد من ذكره؛ وهى أن الشيخ رحمه الله ورضى الله عنه كان فى خلقه ولسانه حدة. ويظهر أنه كان يتبرم فى بعض الأحوال باعتراضهم: وإثارتهم اللغط حول قول قاله؛ ورأى حررهء فكان يجري على لسانه ألفاظ عنيفة من مثل قوله هذا من الجهلء أو هذا من عدم الفهمء وأولئك علماء لهم أسنان, ولم يكن هى فى مثل سنهم. إن أنه فى وقت هذه الحوادث وثلك المجادلات لم يكن قد تجاون الرابعة والأريعين, فإن ذلك كان ابتداؤه سنة ٠/١6‏ وهم كانوا أسن من ذلك ومنهم من كان فى شيخوخة: فيكير ذلك عليهم وعلى أتباعه.

ولقد نقلنا فى ماضى قولنا أن الذهبى قال فيه: «تعتريه حدة فى البحث؛ وغضب. وصدمة للخصوم تزرع له عداوة فى النفوس؛ ولولا ذلك كان محل إجماع؛ فإن كبارهم خاضعون لعلومه؛ معترفون بأنه بحر لا ساحل له وكئز ليس له نظير».

فهذه الحدة فى البحث أوجدت له أعداء. ولسنا نقول مقالة الذهبى كما نوهنا أنه لولا هذه الحدة لكان محل إجماعء بل نقول إن هذه الحدة لم توجد الخلافء بل الخلاف بينه وبين غيره كان أمراً لابد منه. وحسدهم له فيما أحسب كان أمراً لابد منه. ولكن الذى اختصت الحدة بإيجادهء وكانت العامل الوحيد فى ظهوره هى العداوة الظاهرة؛ وإرادة الأذنى من غير حريجة مانعة؛ فقد يكون لهم من دينهم ما يمنعهم من إيذائه أو تعرضه للأذى: وإن أكل الحسد قلوبهم: ولكن إن بادرهم بالقول العنيف سهلت عليهم الرغبة فى الإيذاءء لأن قانون الدفاع عن النفس يسوغه. وينتقل الأمر من جدل وخلاف إلى خصومة يكيدون فيهاء وينتصرون لأنفسهم التى جرحها بقوله.

د

المحنة الأولى

4 - اشتدت العداوة إذن بين جمع من العلماء وتقى الدين رضى الله عنه. وعمدوا إلى الكيد له وحاولوا إثارة القتن حوله, ولكن كان يحميه منهم أمران: (أولهما) أن الولاة حسنوا) الرأى فيه يعرفون فيه الإخلاص والدين والعلم الغزير, وإن لم يكونوا من العلم بحيث يعرفون مكانه فى العلم ومكان غيره. والحق فى المسائل التى اختلفوا فيهاء ومنشاً الخلاف فإن ذلك أمر فوق طاقتهم وقدرتهمء فقد كانوا جنوداً من الترك وصلوا إلى ما وصلوا اليه بجنديتهم لا بثقافتهم.

(ثانى الأمرين) منزلته عند العامة فى الشامء فإن منزلته فوق المنال» وإن حاولوا النيل منه تعرضوا للفتن, ولى كان ميل الولاة مع خصومه ما استطاعوا أن ينصروهم لمنزلته عند العامة» ولخشية الفتن؛ وأقصى ما تصل إليه أيدى خصومه هو بعض أتباعه.

684 - ولكن إن تحول الولاة عن نصرته؛ وكانت المخاصمة فى غير الشام قد ينالون منه, وقد يصلون إلى غرضهم فيه وقد يبلغ الكيد أقصى مداه. وقد اتجه الأمس بينه وبينهم إلى ذلك التحو. فإن السلطان الناصر الذى كانت له المنزلة عنده وكان نوابه يكبرونه. لإكباره. قد أخذ سلطانه يضعف فى مصر وأخذ القواد يخرجون عليه وأخذ أمره يهون.

فأخذ الولاة فى مصر حينئذ يستمعون إلى المقالة فيه. وخصوصاً أنه لم يكن قريبا منهم يرون فيه ما يجذبهم إليه ويبعد قالة السوء عنه. وقد طلب إلى مصر على أثر مجلس عقد للمناظرة بينه وبين مخالفيه فى الشام؛ وانتهى ا مجلس بإقرار عقيدته؛ والنزول على فكرته('), وكان الطلب بكتاب جاء فيه «إنا كنا سمعنا بعقد مجلس للشيخ تقى الدين بن تيمية وقد يلغنا ما عقد له من المجالس؛ وأنه على مذهب السلفء وإنما أردنا بذلك يراءة ساحته مما نسب إليه». ثم جاء كتاب آخر طلب إليه أن يتوجه على البريد إلى مصرء والشيخ رضى الله عنه كعادته يواجه الأمورء ولايتردد فى مواجهتهاء وإنه الشجاع فى الرئى والميدان معاً؛ فما تلكأ عن الذهاب؛ ولكن نائب السبلطنة يعلم ما يبيت له فى مصرء وأنه فى الشام فى عزة من أتباعه وأنصاره؛ ومكانته عند الوالى» ولذلك أشار عليه بألا (1) قد نشير إلى المجالس عند الكلام فى آرائه بعون الله تعالى.

باع

يذهب إلى مصرء وقال أنا أكاتب السلطان فى ذلك وأصلح القضاياء ولكنه رضى الله عنه يثبى» وليس ذلك عن جهل بما يدبر له, فهى الحصيف الأريب الذى يعلم ما وراء الأمور من ظاهرهاء وأكنه علم أن ذهايه إلى مصر فيه نفع للعامة, وفيه نشر لآرائه. وهى فى رأيه آراء السلف الصاح فى ريوع الديار المصرية؛ وإنه صاحب قكرة يدعى إليها كلما مست الحاجة إلى ذلك وإذا كانت مصر ليس فيها أتباع له فعليه أن يوجد الأتباع: وإن كان الاضطهاد بلاحقه فله فى الرسول أسوة حسنة: فقد لقى من الاضطهاد فى دعوته ما يسهل على الداعى إلى الخير المقتدى به كل أذى, وإذا كان فى الشام نال التكريم: فليئل فى مصر نقيضه. وليكن هذا زكاة ذلك: وفوق هذا وذاك هى العالم الثبت الذى يحس بقوة حجته؛ وأنه سينال بعون الله الكرامة لا المهانة, ولذلك أجاب الوالى إجابة المطمئن الواثق بقوله: إن فى ذهابه مصلحة كبيرة وهنصالح كثيرة!'! وتجمعت الجموع لوداعه, فودعته هالعة باكية, وودعها واثقاً مطمئناً راجياً.

٠‏ - سار الشيخ إلى مصر وكان ذلك سنة ٠١/,؛‏ وحيثما حل كان نوراً وهداية, فعندما مر بغزة عقد فى جامعها مجلساً كبيراً. وألقى درساً من دروسه الحكيمة؛ فتعلقت به واستمر يغذ السير معتمداً على الله العزيز العليم. حتى دخل مصرء ووصل إلى القاهرة, وقد دخلها مستعيناً بربه معتزماً نشر المعرفة والنور فيها.

وقد كان خصومه يعدون العدة لاستقباله؛ وقد أعدوهاء وأحكموا تدييرهاء فقد التقوا به فى مجلس عقد بالقلعة» اجتمع فيه القضاة وأكاير الدولة: وأراد أن يتكلمء فلم يمكنوه لما يعرفون من قوة بيانه, وموقع كلامه, وجابهوه بالاتهام» وتولى الادعاء عليه زين اللدين بن مخلوف قاضى المالكية, فادعى عليه أنه يقول إن الله فوق العرش حقيقة: وأن الله يتكلم بحرف وصوت, فأخذ الشيخ فى حمد الله والثناء عليه فقيل له: أجب ولا تخطبء قعلم أنها المحاكمة, لا المجادلة. فقال: من الحاكم فى؛ فقيل له القاضى المالكىء فقال له الشيخ:كيف تحكم فى» وأنت خصمى؛ فغضب غضباً شديداً وانزعج» وحبس الشيخ رحمه الله؛ وآل أمره رضى الله عنه إلى الحبس ا معروق بالجب وشاركه فى محبسه أخواه شرف الدين ددين الدين.

1

١‏ - كان الشيخ على الحق فى امتناعه عن التحاكم إلى زين الدين بن مخلوف قاضى المالكية: لأن زين الدين هذا كانت فيه قسوة فى أحكامه. وخصوصاً على العلماء الذين يخالفون بآرائهم وتفكيرهم ما عليه العامة وما عليه الفقهاء» فقد حوكم بين يديه سنة بعض كبار العلماء اتهم بتتقيصه للشريعة واستهزائه بالآيات المحكمات ومعارضة المشتبهات بعضها ببعضء فحكم عليه بالإعدامء ومع أنه كان له فضل ظاهر؛ وفضيلة واضحة: ورأى العلماء فيه فى الجملة جيدء حتى أنه لما استغاث بابن دقيق العيدء وقد كان شيخ علماء الحديث فى عصره وقال له ما تعرف منى؟ قال: أعرف منك الفضيلة» واكن حكمك إلى القاضى زين الدين: ولم تشفع تلك الشهادة: بل لم تخفف الحكم بالإعدام؛ ومن الغريب أن القاضى المالكى مكث فى القضاء ثلاثاً وثلاثين سنة من سنة 586 إلى سنة 4

فهل كانت حصافة وأرب من الشيخ ألا يحكم فيه ذلك القاضى الذى يقضى بالإعدام عند الاشتباه فى أمر العلماء وفتاويهم؟ لعله لاحظ ذلكء ثم التناقض بينهما فإنه لاشك أن الفكرين متناقضان تمام التناقض. فكر ابن تيمية وفكر ذلك القاضى ا مالكىء ذلك أن ابن تيمية منطلق محلق فى سماء الكتاب والسنة وما عليه السلف الصالح فى نظره سواء أخالف فى ذلك ما عليه الناس أم وافقهم؛ فهى يعمل على تغيير ما عليه أوضاع الناس إن لم يمت بنسب إلى كتاب الله وسنة رسول الله عله وما كان عليه سلف الأمة؛ فهى ليس عبدًا للمالوف, وإكنه حاكم بحكم الله عليه. وذلك القاضى المالكى متقيد بما قرره أبوالحسن الأشعرى معتبراً ما عداه زيفاً بيناًء وضلالا مبيناًء فهى خصم بمقتضى التفكير والمنهاج لابن تيمية, فما كان من المعقول أن يحتكم إليه فى أمره. وخصوصاً أن النظر فى هذه الخصومة هى نظر فى حجج وبراهين لا فى شهادات وبينات قضائية, فكيف يقضى فى براهين ابن تيمية من يضع نفسه وفكره وعقله فى إطار المذهب الأشعرى لا يعدوه.

وفوق ذلك فإنه قد عاجله بالاتهام؛ وليس من ال معقول أن يتهم الشخص ويقضى؛

إنهما عملان متباينان؛ فالمتهم يسرد الأدلة الموجبة للعقاب, وعلى المتهم أن يقيم الأدلة

الناقية المسوغة للرأى والفكر, والقاضى يقضى فى الدليلين» وزين الدين المالكى تولى

الاتهام, ومنع المتهم من أن يدلى بحجته فصار بذلك خصما لا قاضياً؛ وأخذها عليه تقى

الدين» فرده عن القضاء وكان حقا على ذلك القاضى أن يكل الأمر إلى غيره؛ يكله إلى 1

قاض لم يسارع بالخصومة؛ ويعاجل بالتهمة.وكما سارع بالاتهام سارع أيضا إلى أمر آخرء وهى زج ذلك العالم الجليل الذى جعل لذلك القاضى المالكى ذكراً فى الوجود؛ لأنه ذكر معه مخالفاً معادياً.

5 تزل الشيخ في السجن فى رمضان سنة 0٠/؛‏ وأهل الشام فى ألم؛ بسبب ها ثال الشيخ فى مضرء ولقد امتد الأذى إلى الحنايلة الذين ينتمى إليهم ذلك الإمام الجليلء وأقد حكى الاذى الذى نالهم ابن كثير فقال: «وحصل للحنابلة بالديار المصرية إهانة عظيمة كثيرة» ومن ذلك أن قاضيهم كان قليل العلم مزجى البضاعة: فلذلك نال أصحابه ما نالهم: وصارت حالهه(!)» ولسنا ندرى أكان جهل قاضى الحنايلة هى السبب الأصلى فيما نالهم, أم أن السبب هو ما كان بين ابن تيمية والقضاة الثلاثة الذين كان يمثل رأيهم القاضى المالكى ولم يستطع ذلك القاضى المزجى البضاعة أن يدافع عنهم؛ ويجعل لهم شوكة كما لغيرهم من أتباع المذاهب الأخرى؟ الظاهر هى ذلك, والدئيل عليه من الاقتران الزمنى بين حبس تقى الدين» وبين أذى الحنايلة فى مصرء وأذى الأتباع والأنصار فى الشام.

17 - مكث الإمام فى غيابة الجب سنة؛ وفى نهايتها فى ليلة الفطر تحركت ضمائر لإخراج الشيخ: فنجمع الأمير سلار حاكم القاهرة القضاة:"الثلاثة الحنفى والمالكى والشافعى» ويعض الفقهاء؛ وتكلم معهم فى إخراج الشيخ من السجنء وإطلاق حريته» وإن ذلك الأمير قد وجد فى بقاء ذلك الإمام الجليل سجيناً مالا يتفق مع العدل والدين والخلق, وهى الذى قاد الجموع: وحرك الجيوشء وتقدم للموت؛ وكان روح المقاومة العنيفة التى انتهت بانتصار أهل الشام ومصر على الجيوش» ولكن القضاة والفقهاء لم يكن فى نفوسهم ' من الدوافع لإخراجه ما وجد ذلك الأمير؛ ومع ذلك لم يقاومواء لأن الذين على شاكلتهم يعملون على إرضاء الأمراء؛ أوعلى الأقل لا يغاضبونهم؛ لذلك قال بعضهم أنه يوافق على إخراج الشيخ من السجنء واشترط شروطأً» منها أن يتعهد الشيخ بالرجوع عن بعض ما أعلن من العقيدة فوافق المجتمعون على ذلك وأرسلوا إليه ليحضر ويكلموه, فامتنع رضى الله عنه لأنه علم أنهم ليسوا طلاب حجة حتى يقتنعواء وهم يريدون أن يفرضوا عليه ما لم يره؛ وتكررت الرسل إليه ست مرات» فصمم على عدم الحضنور إليهم؛ ولم يلثفت إلى دعوتهمء فتفرقوا ويقى السجين فى سجنه؛ وقال ابن كثير فى شأتهم بعد ذلك «تفرقوا غير مأجورين».

(1) تاريخ ابن كثير الجزء الرابع عشر ص 8؟.

لقد كلفوا الشيخ شططأً أن يرجع عن رأيه بغير بينة» وأن يعلن غير ما يعتقد» وهو يرى أنه الإيمان الصسهيح والإسلام الحق: وكأنهم خيروه بين السجن الدائم وأن يغير عقيدته وإيمانه. فقال لهم مقالة يوسف عليه الصلاة والسلام: «السجن أحب إلى مما يدعوتنى إليه»,

4" - وفى الوقت الذى قضاه ابن تيمية فى السجن فى مصر التى لاتعلم فضله, ومكانته من العلم؛ ولعلها لم تعلم عمله فى النصر الذى نالت مصر فخرهء فى هذا الوقت كانت الشام فى ألم مما نال عالمها الأول؛ وفخرهاء الذى كان فى الشدة ملاذها وأمنهاء لا يختلف فى هذا الشعور الأمير عن السوقة, حتى أن الشيخ يرسل إلى بعض قرابته كتابأ من السجنء فيبلغ الأمير أمر ذلك الكتابء فيرسل نائب السلطنة فى طلبه, فيقرؤه على الناس» ويثنى على الشيخ: ويذكر علمه وفضله. وزهده وديانته وشجاعته. يقول: ما رأيث مثله. ولا أشجع منه؛ وقد جاء فى ذلك الكتاب ما نصه «أنه لم يقبل شيئاً من الكسوة السلطائية ولا الإدرار السلطانى ولا تدئس يشئ من ذلك» فزاد ذلك قدره.

ففى الشام سيرة عطرة وشكر وثناء» وفى مصر سجن وأذىء ذلك لأن الشام رأت فضله وغايته, ورأت علمه وأدركته؛ أما مصر فما كانت تعلم مكانته ولا شجاعته؛ وإن علمه الخاصة: فإنهم يخفونه عن 'العامة: لأن الخاصة من الفقهاء والمحدثين ما كانوا يشاركونه فى الرأى والمثهاج؛ وقد ضاقت صدورهم حرجا بما يدعو إليه. والأمراء. وإن علموا بعض فضله كانوا يرضون العامة بمشاركة العلماء فى إيذائه؛ أو بالأحرى فى إغضائهم عن إيذائه وعدم العمل على نصرته.

0 - ولعل أنباء الشام وآلام أهله هى التى كانت تجعل أمراء مصر يفكرون فى أمره الفينة بعد الأخرى: حتى إذا ها حاولوا دفع الأذى عنه حال العلماء بما يشترطون عليه وعدم قبول الشيخ ما يشترطون دون ذلك. |

وقد حاول نائب السلطان فى القاهرة؛ وهى سلار أيضاً أن يوفق بين الشيخ والعلماء فأحضر أخوئ الشيخ اللذين صحباه فى السجن للمناقشة بعد أن امتنع الشيخ» فأخذ القاضى المالكى ابن مخلوف يناقش أحدهما وهى شرف الدين, وامتد الجدل بينهماء ويقول أبن كثير: «ظهر شرف الدين بالحجة على القاضى ا مالكى بالنقل والدليل والمعرفة. وخطأه فى مواضع ادعى فيها دعاوى باطلة: وكان كلام فى مسالة العرش؛ ومسألة الكلام؛ ومسالة النزول(», ش

1 ابن كثير الجزء الرابع عشر ص‎ )١( ه١‎

ويعد المناقشة أعيدا إلى السجن مع أخيهماء ولا عجب فى أن يتغلبا على القاضى المالكى: لأنهما من تلك الدوحة العظيمة آل تيمية التى توارثت العلم فرعا عن أصلء وخلفاً عن السلف. وهما صنوا تقى الدين» وأعلم الناس بطريقته ومنهاجه وأوثق الناس علماً برأيه وفكره وطرائق قوله رضى الله عنهم جميعاً.

1 - كانت المناقشة مع أخويه؛ وهى رابض فى محبسه لايريم: ولا يخرج إلى . المناقشة إن دعى إليهاء لأنه لا يناقش حيث الإرهاب؛ وفى مجالس لا يرى فيها كرامته مصونة, وهى الحر الكريم ولأنه منع القول فى حضرة أواتك القضاة والفقهاء فلم ينتصر, ولأنه رأى أواتك المناقشين ليسوا طلاب حق تقنعهم الحجة الواضحة:؛ بل هم متعصبون, لا تزيدهم الحجة إلا شدة وحدة: وهم المتحكمون فى أمرهء وقولهم لا مرد له أى على الأقل لايجد من يكفهم.

استمرت الحال كذلك إلى أن جاء أمير عربى اسمه عيسى بن مهناء كان يقدر الشيخ ويعرف فضله. لأنه شامىء وذهب إلى السجن يعد استثئذان أولى الأمر وأقسم على الشيخ ليخرجن: وليذهين إلى دار نائب السلطنة (سلار) فخرج الشيخ من السجن فى ١١‏ من ربيع الأول سنة 7-1 بعد أن مكث فى السجن نحو ثمائية عشر شهراً؛ كان فيها كالمهند المغمود فى عُمده.

خرج إلى دار نائب السلطنة؛ وأرسل إلى الشيوخ ليناقشوه عزيزاً مكرماً غير ممنوع من قولء وغير مهدد بحكم؛ وما اجتمعوا للمناظرة إلا أن قر الشيخ واطمأن فما كانت المناظرة الحقيقية إلا بعد يومين من خروج الشيخ رضى الله عنه وقبلها كانت بحوث صغيرة: حضر الفقهاء ليجادلوه: وامتنع القضاة عن الحضورء لأنهم لايريدون أن يجادلوه. بل يريدون أن يحكموا فى أمرهء وكأتها قضية خصومة تنظرء؛ وجهلوا أنه دين يقرر بالبينات من السنة والكتاب؛ وليس لأحد سلطان فيه إلا بمقدار ما يؤيد قوله من كتاب وسنة وعقل ممحصء وقد تناقشوا ويهرهم الشيخ ببيانه وحجته. وبلاغ أدلته, وروحه الدينى المستقيم.

اعتذر القضاة عن الحضور بأعذار» بعضهم بالمرضء وبعضهم بغيرهء ويقول ابن كثير أن لهم عذراً آخرء وهى معرفتهم يما عليه ابن تيمية من العلومء وماعنده من أدلة,

ىه

وأنهم لا يطيقون مغالبته بالأدلة» ومهما يكن مطوى هذه الأعذار فقد قبلها نائب السلطنة, ولم يكلفهم مالا يطيقون,

كرس الشيخ بمصر

- أصبح الشيخ طليقاً فقد فتح له باب السجن عربى حرء ققبل الشيخ الحرية من حر هثله, ولم يقبلها هن الذين كبلوا أنفسهم وفكرهم بقيود حبستهم عن إدراك الشريعة على وجهها الصحيح؛ ويعد هذه الحرية التى سر لها أهل الشام؛ وتتاشد بعض شعرائه الشعر سروراً بها وارتياحاً لها؛ كان أمام الشيخ إها أن يرجع إلى الشام موطن كرامته وعزته» وأهله هم الذين شاركهم فى سرائهم وضرائهم, وإما أن يبقى فى القاهرة فيبث تعاليمه التى حال السجن بينها وبينه» والتى كان يرجى بنشرها بين الناس مصالح كثيرة.

وقد اختار حسام الدين بن عيسى بن مهنا الذى فك إساره برضا نائب السلطنة أن يعود معه إلى دمشق إيثاراً للعافية» وليتمم ما بدأ بها؛ واختار البقاء فى مصر نائب السلطنة: ليرى الناس فضمله وعلمه؛ وينتفعوا به. ويتخرجوا عليه كما كان أهل الشام.

ولعل ذلك الأمر الثانى صادف رغبة الشيخء فإنه يريد النفع» وبث تفكيره» وهى قد اختار هن قبل أن يكون مكان المناقشة فى مصر لأنه يرجى مصالح كثيرة وأى مصلحة يرجوها ذلك العالم الجليل غير هداية الناس وإرشادهم, واكن الأقكار فى مصر لم تكن مهيأة لقبول كلامه صلاحيتها فى الشام؛ لأن بلاءه معهم ومشاركته لهم فى السراء والضراءء وكونه كان مطماتهم الذى يطمئنون إليه. كل هذا هيأ الأفكار لقبول دعوته» وتلقى هدايته, أما أفل مصر فهم الذين لم يعرفوا مواهب الشيخ ولم يختبروهاء وقد سبق الشيوخ إليهم بذكره بغير ما يهيئ العقول لتلقى قوله بالقبول. ولذلك لم يتلقوا قوله بالسهولة التى تلقاها أهل الشام؛ وخصوصاً أن الشيوخ يتريصون بهويرصدون له المراصد.

ولكن الشيخ تقدم جريئاً كعادته, داعياً هادياً مرشداً» ولم يكن له مكان خاص يلقى فيه دروسه بانتظام كما كان الشأن: بل كانت دروسه منثورة فى المساجد؛ وعلى المنابر, يفسر فيها بعض أى من القرآن ويعظ فيها وعظا ينتفع به العامة, ولاتجفره آذان الخاصة.

رن

رحمه الله يتولاها فى المدارس الخاصة كالمدرسة الصالحية بالقاهرة, فقد عقد فيها ثلاثة ٠‏ مجالس للمناظرة كان الشيخ رضى الله عنه يبين فيها آراءه بحجتها نيرة بينة فيقبلها من يقبلهاء ويردها من يردها. .

4 - بقى الشيخ نحى ستة أشهر أو تزيد يدعى الناس؛ ويعظهم: والمساجد تكتظ بالناس عند سماع موعظته, حتى نفع الله به خلقاً كبيراً ورأوا فيه رجلا خالصاً فى قلبه وعقله لله رب العالمين.

وقبل أن نخوض فيما آل إليه أمره بعد هذه الأشهر الستة نسجل هنا أمرين: (أحدهما) أن الشيخ عند خروجه من السجن صفح عن كل من أذوه. وسجل ذلك فى خطاب أرسله إلى دمشقء وكذلك شأن العالم الجليل الواسع العقل: الكبير القلب: وقد سجل ذلك الصفح فى كتاب أرسله إلى دمشقء جاء فيه: «تعلمون رضى الله عنكم أنى لا أحب أن يؤذى أحد من عسوم المسلمين فضلا عن أصحابنا بشئ أصلا لا ظاهراً ولا باطناً؛ ولا عندى عتب على أحد منهم؛ ولا لوم أصلاء بل لهم عندى من الكرامة والإجلال والمحبة والتعظيم أضعاف ما كان: كل بحسبه؛ ولايخلى الرجل إما أن يكون مجتهداً» أو مخطثاً؛ أى مذنباً, فالأول مأجور مشكورء والثانى مع أجره على الاجتهاد معفى عنه؛ والثالث فالله يغفر لنا ولهء ولسائر المؤمنين» ويقول فى هذا الكتاب أيضاً: ‏ '

لا أحب أن ينتصر من أحد بسبب كذبه على, أى ظلمه أوعدوانه؛ فإنى قد أحللت كل مسلمء زآنا أحب الخير لكل المسلمين؛ وأريد لكل مؤمن من الخير ها أريده لنفسىء والذين كذبوا وظلموا هم فى حل من جهتى».

(الامر الثانى) الذى نريد أن نسجله فى هذا المقام هو رفقه بأمه؛ ومحاولته؛ إدخال السرور فى نفسها والإحسان إليهاء فإنه لما اختار الإقامة فى مصر بعد أن خرج من السجن علم أن ذلك ربما لا يرضى أمه. لأنها تريد أن تكتحل عينها برؤيته, فكتب إليها الكتاب التالى:

من أحمد بن تيمية إلى الوالدة السعيدة أقر الله عينيها بنعمه, وأسبغ عليها جزيل كرمه؛ وجعلها من إمائه وخدمه. .

سلام عليكم ورحمة الله ويركاته:

هه

إنا نحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هى وهى للحمد أهلء وهى على كل شئ قديرء آله وسلم تسليماً. ش

كتابى إليكم عن نعم من الله عظيمة, ومنن كريمة: وآلاء جسيمة, ونشكر الله عليهاء ونسأله المزيد من فضله: ونعم الله كلما جاءت فى نمو وازدياد؛ وأياديه جلت عن الثعداد.

وتعلمون أن مقامنا الساعة فى البلاد إنما هى لأمور ضرورية متى أهملناها فسد علينا أهر الدين والدنياء ولسنا والله مختارين للبعد عنكم؛ ولى حملتنا الطيور لسرنا إليكم, واكن الغائب عذره معه؛ وأنتم لى اطلعتم على باطن الأمور فإنكم واله الحمد ما تختارون الساعة إلا ذلك: ولم نعزم على المقام والاستيطان شهراً واحداً؛ بل كل يوم نستخير الله لنا ولكمء وادعو) لنا بالخيرة: فنسأل الله العظيم أن يخير لنا وللمسلمين ما فيه خيرة وعافية».

«وقد فتح الله من أبواب الخير والرحمة: والهداية والبركة مالم يكن يخطر بالبال: ولايدور فى الخيال» ونحن في كل وقت مهمومون بالسفر مستخيرون الله سبحانه وتعالى فلا يظن الظان أنا نؤثر على قربكم شيئاً من أمور الدنيا قطء بل لا نؤثر من أمور الدين ما يكون قربكم أرجح منه, ولكن ثم أمور كبار نخاف الضرر الخاص والعام من إهمالهاء والشاهد يرى مالا يرى القائب». ٠‏

«والمطلوب كثرة الدعاء بالخيرة, فإن الله يعلم ولانعلم؛ ويقدر ولانقدر, وهو علام الغيوب؛ وقال النبى ملله: «من سعادة ابن آدم استخارته الله ورضاه بما يقسم الله له, ومن شقاوة ابن آدم ترك استخارته اللهه وسخطه بما يقسم الله له.. والتاجر يكون مسافراًء فيخاف ضياع ماله. فيحتاج أن يقيم حتي يسترفيهء وما نحن فيه أمر يجل'عن الوصف ولا حول ولاقوة الا بالله». '

«والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته كثيراً» كثيراً» وعلى سائر من فى البيت من الكبار والصغارء والأهل والأصحاب واحداً واحداً والحمد لله رب العالمين» وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً».

18" - هذا كتابه رضى الله عنه لأمه؛ وهى يفيض رفقاً وعطفاً؛ وقد يدت فيه آيات بلاغته. فهى يسهل فى تعبيره ليكون مقبولا مفهوماً؛ من غير أن ينزل عن مقامه العلمى فى التفكير.

60

وقد استرعى نظرناهى هذا الكتاب عبارتان (إحداهما) قوله «ولم نعزم الاستيطان شهراً وأحداً».. قهذه العبارة تدل على أنه وإن كان قد اختار القرار فى القاهرة بعد خروجه من السجن. لم يكن اختيار إقامة دائمة» بل كان على نية العودة إلى الشام وهى الوطن والأهل والأصحاب. والمكان الذى انبعثت منه دعوته وهدايته.

(الثانية) قوله: «ثم أمور كيار نخاف الضرر الخاص والعام من إهمالها» فما هى هذه الأمور الكبار التى يخاف الضرر الخاص والعام من إهمالها؟ لاشك أن هذه الأمور هى أمور الدين: وبيانه للناس: ونشر حقائقه, كما جاء بها النبى مله وكما فهمها فى نظرة السلف الصالح: الذين أدركوا التنزيل: وفهموا غايته ومعناه؛ هذه الأمور التى يضر إهمالها العام والخاصء أما ضرره العام فإنه ضلال الناس» وأما الضرر الخاص فهى تبعة العالم بأمر إذا

يبينه للناس؛ ثم هناك ضرر خاص أن ابن تيمية جاء إلى مصر متهما فى دينه» فكان من

حق نفسه أن يزيل الاتهام» ويخرج من مصر بريئا فى دينه غير متهم عند الخاصة وعند العامة.

وأذلك أقام ليرشد الناس ويبين لهم حقيقة دينهم: ويناظر الخاصة فى مدارسهم ومجالس الأمراء.

المحنة الثانية

-٠‏ كانت إقامته مهما تطل على نية العودة إلى أهله. ولكن الله سبحانه وتعالى اختار له إقامة بالديار المصرية أطول مما كان فى حسبانه؛ وامتحانا آخر قارب الأول زماناً: وإن كان لم يقطعه عن الدراسة والفحص ولا عن التدريس والوعظ.

والسبب فى هذا الامتحان الجديدء وإن لم يكن الأخير أن ابن تيمية استمر فى دروسه للعامة؛ وإن لم يكن فى مواقيت منتظمة وفى مكان واحد؛ واتخذ له من شباب مصر تلاميذ يلقنهم آراءه؛ وقد وجد فى مصر سلطان الصوفية قوياً؛ وقد أخذوا بمذهب الوحدة؛ وهى المذهب الذى يوحد بين الموجود والوجودء بين الخالق والمغلوق: كما هى روح الفلسفة الهندية أى التصوف الهندىء وقد نادى به محيى الدين بن عربى المتوفى سنة فى مثل قوله:

يا خالق الأشياء فى نفسه أنت لما تخلقه جامع تخلق ما ينتهى كونه فيك فأنت فيه الضيق الواسع

رأى اين تيمية الصوفية فى مصر يتنادون بهذا المذهب؛ وقد كان ممن تأثر بهذا الرأى اين الفازض الشاعر المصرى المتوفى سنة ؟11. رأى ذلك العالم السلفى ذلك المذهب موضع الحديث؛ وقد كان يقول بعض الصوفية أنهم إذا وصلوا إلى حال من التربية النفسية التى يتصلون فيها بالذات الإلهية يعلون عن التكليفه رأى ابن تيمية كل ذلك فانبرى لإبطاله بقوة حجته: وسلامة منطقه. وحمل على المذهب وقائليه.

وكان للصوفية سلطان عند الحكام؛ وقد بنى لهم من قبل صلاح الدين خانقاه؛ وهو مكان يتعبدون فيه وينصرفون عن الناس فيه؛ وينى لهم من بعد ذلك الناصر بن قلاوون الذى كان يقدر ابن تيمية ويعرف فضله- خانقاه فى سرياقوس» سنة ؟7/,

فلما ذكر ابن تيمية ابن عربى وله مكانته عندهم تقدم ابن عطاء الله السكندرى صاحب الحكم بالشكوى منه إلى الأمراء وذهب الصوفية إلى القلعة فى جموع كثيرة يشكون من اين تيمية, ويقولون إنه يسب مشايخهم؛ ويضع من قدرهم عند الناس؛ فامر السلطان بأن يعقد مجلس بدار العدلء وحضر إليه الشيخ رضي الله عنه. ثابت الجنان رابط الجأش مع أنه قيل له إن الناس قد جمعوا لك, فذهب يخترق الجموع؛ وهى يقول «حسبنا الله ونعم الوكيل» وتناقش معهم يصدع بالحجة الظاهرة, والبينات القاهرة: يفحم الخصوم: وينطق بالمفهوم من غير تعقيد ولا تلبيسبوكان له النصر المبين.

-١‏ تكاثر اجتماع الصوفية وشكواهم: والشيخ لاينى عن مجابهتهم؛ وقد وجدوا له ما يثير الناس حوله, فقد كان يقرر أنه لا يستغاث إلا بالله. حتى لا يستفاث بالنبى مله وقد قيل هذا فى أحد المجالس التى تناقش فيها مع ابن عطاء الله السكندرى: فقال بعض الحاضرين:؛ ليس فى هذا شى”» وقال قاضى القضاة إن هذا قلة أدب ولم يستطع أن يقول: إن هذا كفر.

ضاقت الدولة ذرعاً بهذه الحالة. فقد كثرت الضجات؛ وكثرت المجادلات؛ ولم تجد السبيل لإسكاتها إلا أن تتجه لذلك الإمام التقى؛ فخيروه بين أمور ثلاثة: إما أن يسير إلى دمشقء وهى موطنه؛ ومكان أهله. وإمنا أن يذهب إلى الإسكندرية على أنه مقيد فى دمشق والإسكندرية بشروط؛ ولعل منها آلا يعلن معتقده والأمر الثالث الحبس: فاختار الحبسء وأنه إذ يختار الحبس يختار تقييد الجسم فى الحركة؛ وقد ارتضاه عن تقييد الفكر واللسان؛

لام

فإن الحرية التى تملأ نفس العالم ليست هى حرية الانتقال من مكان إلى مكانء إنما هى حرية الفكر وجولاته ونشر تفكيره وآرائه» وإن الحر حقاً وصدقاً هو الذى يفهم حرية رأيه وفكره قبل أن يفهم حرية جسمه.

اختار الشيخ الحبسء واكن تلاميذه ومريديه حملوه على أن يختار دمشق ملتزما ما شرطواء ورجوه في أن يقبل ذلك وألحوا عليهء فأجاب رجاءهم فركب خيل البريد فى الثامن عشر من شوال سنة /١/؛‏ وما أن غذ فى السير حتى ألحقوا به فى اليوم من ردهء وقالوا أن الدولة لا ترضى إلا بالحبسء وكأتهم شعروا أنه إذا ذهب إلى دمشق؛ فإنه سيكون بين أصحابه وأتباعه؛ وعندئذ قد يرد إليهم شروطهم التى أجبروه عليهاء فقد أخذت يبسيف التهديد.

وأكن الذى أجبره بالحبس هى قاضى القضاة: ويظهر أن القضاة لم يجمعوا على ذلك, ولم يكن بين القضاة زين الدين بن مخلوف الذى كان يميل إلى الغلظة مع أصحاب الآراء الذين يخالقون بها ما عليه الناس؛ وإليك ما دار فى مجلس القضاء.

قال بعضهم: ما ترضى الدولة إلا بالحيس.

فقال قاضى القضاة: وفيه مصلحة له. '

وطلب من شمس الدين التونسى المالكى أن يحكم بما ذكر أن الدولة تطلبهء وكان ذلك القاضى ال مالكى من طران غير طراز زين الدين بن مخلوف, ْ

فقال: ما ثبت عليه شئ,

فطلب هذا من نور الدين الزواوى المالكى أيضاًء فتوقف هذا أيضاً؛ ولم يحر جواياً.

وهنا أنقذ الشيخ الموقف وقال: أنا أمضى إلى الحبسء وأتبع ما تقتضيه المصلحة.

فقال نور الدين الزواوى: يكون فى موضع يصلح لمثله.

فقيل له: الدولة ما ترضى إلا بمسمى الحيس,

أرسل بعد هذا إلى حبس القضاة: وأذن بأن يكون عنده من يخدمه().

)١(‏ هذه المجاوية دونها ابن كثير فى الجزء الرابع عشر ص 41 ونقلها صاحب العقود الدرية عن البرزالى ص ./1؟,

مه

؟/- هن هذه المجاوبة والنتيجة التى انتهت إليها يتبين أن العلماء كانوا فى صف الشيخ, ولم يرتضوا أن يقدموا من جانبهم على أى أذى يلحقه. بل كانت ألسنتهم مرطبة بالتقدير والاعتراف بالفضلء ولم كان التغيير الغريب»؟ فمنذ ستة أشهر يخرج من جب القلعة

بغير رضاهمء وفى هذه المرة يدخل الحبس بغير رضاهم ويطلبون الرفق به!!.

لاشك أن تغير الرجال فى المجلسين قد يكون له دخل؛ ولكن يجب أن نتبين أنه قد وجد عاملان آخران غيرا الرأى فيه. أو على الأقل جعلا المخالفة فى الرأى لا تنتقل إلى خصومة

بل عداوة.

(أول هذين العاملين) أن ابن تيمية أدلى بحجته أمامهم وأمام الناس وهى الفصيح البليغ المبين عن فكرهء وما حجته إلا آيات قرآنية وأحاديث نبوية لا يعتسف فى تأويلهاء ولا يشتط فى تخريجهاء بل يفسرها بالمأثور فيهاء ويوجهها بعقل قوى مستقيم؛ وإدراك نافذ

ولا ريب أن ذلك يكون له أثره فى قلويهم فإن لم يقبلوه لا يعادوه.

(العامل الثانى) أن المعركة فى هذه المرة كانت بينه وبين الصوفية, والصوفية على خلاف فى كثير من أقدم العصور مع الفقهاء, فإن الصوفية لهم طريق فى التهذيب والتربية غير ما يقوله الفقهاء الذين يقررون فقه الكتاب والسنة وما استتبطه العلماء قديماً؛ وما خرجوا عليه من أحكام الحوادث والعصور, ثم إن الفريقين يتنازعان السلطان على العامة, وكل يريد أن يكون العامة تحث سيطرته الفردية وحده.

فلما اصطدم ابن تيمية بالصوفية ما كان من المعقول أن ينصروهم عليه فكان ذلك الحكم الرفيق» بل كان ذلك التوقف عن الحكم؛ حتى إذا حكم الفقيه العظيم على نفسه. لكيلا

يحرجهم أمام رجال الدولة طلبوا الرفق فى المحيس. .

7- لم يكن ذلك المحبس حبساً بمعناه الحقيقى: بل كان إقامة مقيدة, فقد كان طلاب العلم منه يغدون ويروحون ويستفتى من الأمراء والأعيان» ولم يلبث إلا قليلاء حتى خرج من محبسه بقرار من مجلس للفقهاء والقضاة عقد بالمدرسة الصالحية: وأكب الناس على الاجتماع به ليلا ونهاراً؛ يبث فيهم تفكيره وآراءه ويفتى من يستفتيه. ونرى من هذا أنه لم ينزل به فى هذه المرة محنة؛ بل لعل المحبس الرفيق الذى نزل فيه كان فيه صيانة من غوغاء الصوقية الذين كانوا يتربصون به الدوائرء يدسون عليه من يرميه رمية طائشة فتصيبه وسط

6

الجموع الحاشدة التى تلتف حوله؛ ولعل هذا هى الذى أشار إليه قاضى القضاة ابن جماعة عندما قال: إن الحيس فيه مصلحة له.

ومن هذا نعلم أن خصومته فى مصر قد انفرد بها فى ذلك الوقت الصوفية الذين كانوا يتبعون آراء ابن عربى: والشيخ يبطلهاء ويتال من قائلهاء وما كانت هذه إلا المعركة الأولى: وقد انهزم فيها الصوفيةء وصان الله الشيخ وحفظه.

4- وقد وقعت المعركة الثانية عندما عزل السلطان الناصر بن قلاوون نفسه وتولى لملك المظفر بيبرس الجاشنكير؛ وكان شيخه نصر المنبجى الذى كان من أتباع ابن عربى فى آرائه ومنحاه الصوفىء وكانت هذه المعركة أشد من الأولى؛ لأن السلطان يناصر الخصوم عاناء ولأن ابن تيمية ينظر إليه على أنه من أنصار الناصرء ودبر السلطان وشيخه الأمر بعد تبادل الرأى: ووجدا أن أنجح السبل للتخلص من الشيخ أن ينقى من القاهرة إلى الإسكندرية: فإنه قد صار له فى القاهرة أتباع يحمونه, والفقهاء فيها يناصرونه؛ أما الإسكندرية فليس له فيها ولى ولا نصير؛ وقد رجوا أن يقتل غيلة فيها ليتخلصوا منه بأيسر كلقة,

سافر إلى الإسكندرية: زيظهر أن أخباره قد سبقت إليهاء وعندما وصل إليها أخذ يلقى دروسه فيهاء ويعظ الناس بهاء فهى حيثما حل كان النور الهادى» والسراج المثير؛ فالتف الناس حوله؛ وأحبوه وأنتفعوا به.

وقد كان سفره إلى الإسكندرية سنة ,٠١4‏ الليلة الأخيرة من شهر صفرء ومكث بها نحو سبعة أشهرء أى إلى الوقت الذى عاد الأمر فيه إلى الناصر ين قلاوون.

وقد جاء تقصيل أعمال الشيخ فى الإسكندرية فى كتاب كتبه أخوه شرف الدين منها ' إلى أخيه بدر الدين بالشام؛ وهذا بعض ما جاء فيه «إن الأخ الكريم قد نزل بالشغر المحروس» على نية الرباط فإن أعداء الله قصدوا بذلك أموراً يكيدونه يهاء ويكيدون الإسلام وأهله. وكانت تلك كرامة فى حقناء وظنوا أن ذلك يؤدى إلى هلاك الشيخ. فانقلبت عليهم مقاصدهم الخبيثة وانعكست من كل الوجوه؛ وأصبحوا وأمسواء وما زالوا عند الله وعثد الناس سود الوجوهء يتقطعون حسرات وندما على ما فعلواء واثقلب أهل الثغر أجمعون إلى الأخ مقبلين عليه مكرمين له؛ وفى كل وقت ينشر من كتاب الله وسنة رسوله ما تقر به أعين المؤمنين, وذلك شجى فى حلوق الأعداء. واتفق أنه وجد بالإسكتدرية إبليس قد باض فيها

56

وفرخء وأضل بها فرق السبعينية!!) والعربية؛ فمزق الله بقدومه شملهم؛ وشتت جموعهم شذر مذرء وهتك أستارهم وفضحهم واستتاب جماعات كثيرة منهم: وتوب رئيساً من رؤسائهم واستقر عند عامة المؤمنين وخواصهم من أمير وقاض وفقيه ومفت وشيخ وجماعات المجتهدين: إلا من شذ من الأغمار الجهال مع الذلة والصغار- محبة الشيخ وتعظيمه وقبول كلامه والرجوع إلى أمره ونهيه؛ فعلت كلمة الله بها على أعداء الله ورسوله؛ ولعنوا سسرا وجهراء وياطناً وظاهراً فى مجامع الناس بأسمائهم الخاصة بهم وصار ذلك عن نصر المنبجى المقيم المعدء ونزل به الخوف والذل مالا يعبر عنه»!").

ه/ا- وترى من هذا أن ذلك العالم حيثما حل كان مصدر الهدايةلقد حارت الصوفية الاتحادية التى تقول بالوحدة بين الموجد والموجود- فى القاهرة ولم يثل خصومه مثالا مذه فى القاهرة فنفوه إلى الإسكندرية حيث كان لهذا المذهب فيه قوة وأنصار راجين أن ينالوه بالأذى فيها فيكون الأذى من الرعية لامن الراعىء ولكنه هاجم المذهب فيهاء ووجد الذئب فيهاء فما زال حتى طرده منهاء واتبعه الناس بها؛ وأخذ المنبجى يحرق الأرء! إذ أراد أن يصطاد الشيخ هناك: فاصطاد هو المذهب وأنصاره؛ وأصايه بسهم مميت؛ أو على الأقل أضعف حركته؛ وهكذا أدت الرحلة إلى خير لا شر فيه؛ وحيثما حل الراعى إلى الخير؛ وجد الميدان فسيحاً لإرشاده وهدايته وإصلاحه.

وقد أتى ذلك الإصلاح مع أن المقام لم يطل؛ إذ قد عاد الشيخ من بعد نحو سبعة أشهر معززاً مكرماً؛ كما هو الشأن حيثما حلء وأين ذهب.

705 نسبة لابن سيعينء وه ابن السبعين المرسى: عاش فى القرن السابع الهجرى وتوفى بمكة سنة.‎ )١( وهو فيلسوف صوفى كان بينه وبين فردريك الثانى مجاويات» وقد جاء فيها فى التفرقة بين النلسفة‎ والتصوف قوله: «إن القلاسفة الأقدمين رأوا أن الغاية المثلى هى التشبه بالله بيئما الصوفية يدأبون على‎ الفناء فى الله وذلك بأن يكون الصوفى قابلا لأن يدع ال من الإلهية تغمره وتفيض عليه وأن يمحوه انفعالات‎ الحواس ويظهر مشاعر الروح» (العقيدة والشريعة ص 5؟1).‎

والعربية نسبة لابن عربي وهى الفيلسوف المتصوف المعروفء وقد توهنا إلى بعض قوله.

(؟) راجع ابن كثير الجزء الرابع عشر ص ٠.‏ والكتاب كله فى العقود الدرية نقلا عن البرازالى ص 4 وبين النصين خلاف قليل فى بعض الألفاظ.

() يحرق الأرم: مثل يضرب لمن يحترق غيظا .

عودة الشيخ إلى درسه فى القاهرة

خصمه الذى حمله على الاعتزالء فجاء إلى القاهرة: وجلس على عرشهاء فى يوم عيد الفطر ؟/ا وما أز استقر به المقام؛ حتى فكر فى ابن تيمية ليعيده إلى القاهرة» قوجه إليه فى الثامن من ذلك الشهن الممرورن.

جاء الشيخ إلى القاهرة وسكن بالقرب من مشهد الإمام الحسين؛ وأخذ يلقى دروسه, ويدون آراءه؛ ويكاتب السائلين والمستفتين. غير عارئ بأى أمر سوى حق العلم عليه؛ وحق الدين الذى ألت إمامته إليه.

وقد جاء إليه الذين خاضوا فى شاته يعتذرون إليهء فأحلهم من تبعاتهم؛ وقال لهم تلك المقالة الرائعة: «كل من أآذائى فهو فى حل من جهتى».

/ا/ا- ولا نريد أن نترك الشيخ مع تلاميذه ومريديه» وفى وعظه وتدريسه من غير أن عشيد إلى أمرين جديدين بالنشر اعبار يدلان على تجا سنا اس ما لكين مدائهم لون همائم ال لمين مع إشارة: فحرض الأدر علي العلماء في ذلك فظنوا أن الملك الناصر يميل إلى ذلك» فسكتوا غير معترضين ولكن الشيخ رضى الله عنه تكلم حيث جمجموا» ٠وقال‏ الكلمة 3 قوية غير رفيقة: وختم كلامه بقوله:

«حاشاك أن يكون أول مجلس جلسته فى أبهة الملك ينصر فيه أهل الذمة لأجل حطام الدنيا الفانية, فاذكر نعمة الله عليك إذ رد ملكك اليك وكبث عدوك: ونصرك على أعدائك».

ولماذا شدد ابن تيمية فى أن يكون لأهل الذمة عمائم مصبغة على غير لون عمائم المسلمين, مع أنه المسلم الصادق الذى يعرف أن الرسول أوجب الرفق بهم؛ وأن الررهسول يتبرأ ممن يؤذى ذميا وأن ابن تيمية لما استنقذ ستنقذ الأسرى من التتار لم يفرق بين أسرى المسلمين»وأسرى الذميين؟

لعل الذى حمل ابن تيمية على التشدد بالتمييز باللباس هو ما كان يخشاه من عيون

التصارى الباقين من الحملة الصليبية» وأن يكون يعض الذميين عيوئاً لهم؛ فشدد فى أن 5

يتميزو) بثيايهم تمييزاً بيناً لكيلا ينفث من يميل إلى الصليبين سمومه فى الجماعة الإسلامية,

(الأمر الثانى) الذى يجب أن نشير إليه أن الناصر عندما عاد إلى مكة واستقر به الأمر أراد أن ينتقم من العلماء والقضاة الذين مالثوا خصمه عليه وهم الذين آذوا ابن تيمية من قبلء وقد مكث بسببهم فى السجن بالقلعة ثمانية عشر شهراً.

وهنا نجد خلق العلم والدين والفضل قد تجلى فى ابن تيمية الكريم.

استفتى السلطان ابن تيمية فى العلماء والقضاة الذين ناصروا خصمه وأفتى بأن دماءهم حرام عليه وأنه لا يحل إنزال الأذى بهم؛ فقال له السلطان: إنهم قد آذوك وأرادوا قتلك مراراًء فقال الشيخ الكريم: من آذانى فهى فى حلء ومن آذى الله ورسوله: فالله ينتقم منه؛ وأنا لا أنتصر لنفسى.

ولم يكتف الشيخ بالعفو. والامتناع عن الإفتاء, أو الفتوى بعكس ما يريد السلطان بل أخذ يخاطبه فى العفو عنهم ويقول له :إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم. وما زال به حتى عقا عنهم. ْ

فعل ابن تيمية فى شأن القضاة والفقهاءء وفيهم ابن مخلوف الذى كان يطلب رأسه؛ والذى كان بمنعه من المناقشة:ء ولذلك نطق لسان ذلك القاضى بالثناء على الشيخ: وقال فيه: «ما رأينا مثل ابن تيمية» حرضنا عليه فلم نقدرء وقدر علينا فصفح وحاج عنا».

وهكذا تحقق قوله تعالى جلياً واضحاً: «ادقع بالتى هى أحسن. فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميه!(!)». ١‏ ّْ

4/- انصرف الشيخ إلى العلم دارساً وباحثاً؛ ومفتياًء ومرشداً ومعلماً؛ ويظهر أنه نوى فى هذه المرة الإقامة الطويلة فى القاهرة؛ فقد كانت إقامته السابقة على نية السفر القريب» ولكن تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن» فيسجن أو ينفى؛ أما الآن فقد مكن الله له يكثرة الأنصار» ومكن له بفعل شوكة الأعداء. ولذلك أرسل كتاباً إلى أسرته يطلب بعض كتبه, ويكلف أحد تلاميذه وهى جمال الدين المزى بالبحث عما يطلب فى خزانة كتبه؛ وقد جاء فى ذلك الكتاب: , ْ )١(‏ فصلت: 4"

+

«وقد أرسلت إليكم كتاباً أطلب ما صنفته فى أمر الكت ئس/'أ» وهى كراريس بخطى: قطع النصف البلدى؛ فترسلون ذلك إن شاء الله تعالى. وتستعينون على ذلك بالشيخ جمال الدين المزىء فإنه يقلب الكتاب: ويخرج المطلوب وترسلون أيضاً من تعليق القاضى أبى يعلى الذى بخط القاضى أبى الحسن. إن أمكن الجميع (وهى أحد عشر مجلداً) وإلا فمن أوله مجلداً أو مجلدين أو ثلاثة. وذكر غير ذلك كتباً يطلبها(.

انصرف الشيخ إلى العلم والفتيا والدراسة: ولم يرنق صفو حياته العلمية شئ: إلا أن خصومهلما مجزوا عن تحريض السلطان والعلماء عليه اتجهوا إلى العامة يحرضوتهم؛ ويحرشونهم به ونسوا أن له من الأنصار ما يزيد على أتصارهم عدداً.

ولقد حدث له من ذلك حادثان: (أحدهما) أنه فى الرابع من رجب سنة /١١‏ قد انفرد به جماعة بتحريض خصومه؛ فامتدت أيديهم الأثيمة إليه بالضربء فتجمع أهالى الحسينية ليثاروا للشيخ: فردهممولكنهم ألحوا عليه فى أن يأذن لهمء وأكثروا فى القول» فقال لهم:

«إها أن يكون الحق لى أى لكم. » أو لله؛ فإن كان الحق لى فهم فى حل منه؛ وإن كان لكم؛ فإن لم تسمعوا هنى ولم تستفتونى فافعلوا ما شئتم ,إن كان الحق لله فالله يأخذ حقه إنشاي.

وفى أثناء هذه المناقشة حضر وقت العصر فذهب ليصلى فى الجامع فنهوه عن ذلك حتى لا يوذى ثانية» فلم يلتفت إلى أقوالهم, ومضى إلى المسجد فتبعته جماعات كبيرة من الغاضيين له. :

(والحادث الثانى) كان فى هذا الشهر نقسه فقد حصل اعتداء عليه بالقول المقذع:. ولكنه فى هذه المرة لم يكن من الجهال الأغمارء يل كان من بعض الققهاء من أساء إليه بالقول ثم اعتذر إليه؛ ولعله اعتذر خوفاً من بطش السلطان أو الناسء ولكن الشيخ على أى حال عفاء وقال: لا أنتصر لنفسى, )١(‏ لعل هذه الكراريس هى أصل كتاب الجواب الصحيع لمن بدل دين المسيع؛ ويكون قد كتبه وهو فى دمشق أو على الأقل وضع أصوله قبل رحلته إلى مصر. () راجع العقود الدرية ص 84؟.

53

-٠‏ ولم يكن ابن تيمية منقطعاً للدرس والبحثء من كل الوجوه. بل كان له نوع اتصال بالسلطان؛ وهى إن حاول الانقطاع من كل الوجوه لا يمكنه السلطان من ذلك؛ فهى إن لم يطلبه الشيخ طلبه هو,

ولهذا الاتصال كان يستشار فى بعض الولاة فيقول كلمة الحق من غير موارية؛ لأن أهر العامة والقيام بينهم بالعدل هى الأمانة التى وضعها الله فى عنق السلطان؛ وأمر العلماء بإرشاد ذوى السلطان ما أمكن من الإرشاد» فبإشارة ابن تيمية ولى الناصر نائب طرايلس ستة ١‏ الا,

وا استبد بعض الحكام الظا مين بأهالى دمشق وظلسهم وفرض عليها أموالا كثيرة؛ ولم يجد اعتراض العلماء. بل أهانهم وضرب بعضهم؛ وبلغ ذلك ابن تيمية تقدم للسلطان يشكواهم» وبإشارته عزل الوالى المستبد وحبسه.

وقد كانت الرشوة فى الولاية كثيرة فى الشام وغيرهاء فما زال ابن تيمية بالناصر, حتى كتب كتاباً يشدد فيه النكير على ذلك وجاء فى هذا الكتابء «لا يولى بمال ولا برشوة فإن ذلك يفضى إلى ولاية غير الأهل». ١‏

وكانت أمور الناس فى القصاص فوضى: يتولى أولياء المقتول القصاص من غير يقتص منه بحكم الشرع الشريف.

وهكذا كانت صلة تقى الدين بالسلطان مصدر هداية للحاكمين: وينبوع رحمة للمحكومين: وهكذا تكون صلة العلماء بالأمراء؛ كما كان الشأن فى صلة مالك رضي الله عنه بآمراء المدينة فى عهده.

عودة الشيخ إلى الشام

- كانت رحلة الشيخ إلى مصر ميمونة: وإن كانت شاقة ومجهدة: وكانت مثمرة أطيب الثمرات, وإن لاقى الاضطهاد والحبس. وقد تحققت مصالح كثيرة بهذه السفرة المباركة, كما قال ابن تيمية لنائي السلطنة بدمشق عندما نهاه عن السفر وقال له أنا أكائب

السلطان. فقد كان ذلك الأمير ينظر إلى راحة الشيخ: والشيخ ينظر إلى نفع الناسء وقد 53

صح ما توقعه الرجلان: فنال الشيخ اضطهاد وأذى وتعب؛ ونفع الله به الناس» وهدى وأرشدء وأصلح وقوم, وقدم مثالا للعالم التقى الذى يبغى الرشد, ويهدى إلى الرشاد؛ وفى سبيل ذلك يلقى الأذى: ويصفح عن المؤذينء بل يدافع عنهم ولا يمكن أحداً من رقابهم, ويرفاً من آذوه بأحسن القول ليصفح عنهم؛حتى شهد للشيخ أعدى الأعداء: بأنه أتقى الأتقياء وأصغى الأصقياء.

47- وبعد أن أدى رسالته فى مصر كان حقاً عليه أن يعود إلى الشام؛ ولكنه لم يعد, بل بقى يجاهد فيهاء حتى تهيأت له الفرصة أن يعود إلى الشام لا ليستنيم إلى الراحة, ويركن إلى القرار؛ بل يعود مجاهداً حاملا السيفء يحمله اليوم» وهو كهل تجاوز الخمسين, بعد أن حمله شاباً فى حدود الأربعين.

ذلك بأنه فى شوال سنة ؟١/‏ قد أعد السلطان الناصر جيشاً كثيفاً لملاقاة التتار لم ترامى إليه أنهم قصدوا الشام ليزعجوا الآمنين؛ ويعيشوا فى الأرض مفسدين وأراد أن يصحبه ابن تيمية فى ذلك الجهادء وما كان الشيخ ليتلكا عن الجهاد؛ أو يتأخر؛ فركب الشيخ مجاهداً مدافعاً عن الشام, لا عائداً إلى أهله مستنيما للراحة بينهم.

خرج الشيخ من مصر يعد أن أقام بهاأكثر من سبع سئينء» وضعه أهلها فيها فى قلوبهم: وإن ناله أذى فليس منهم بل من حسساده والمنافسين له؛ ولا هم بعض من الشعب بإيذائه وقفت الجموع الغفيرة تنتظر الإشارة لتنقض على من يعادونه ليجعلوهم عبرة المعتيرين.

وصل الشيخ رضى الله عنه إلى دمشق؛ فى مستهل ذى القعدة سنة ؟١؛‏ وقد خرج خلق كثير لتلقيه. وسروا بقدومه وعافيته ورؤيته حتى أن النساء خرجن أيضاً لرؤيته.

وكان كشأته مصدر الأمن والاطمئنان لأهل دمشق: فإنه ما أن خرج من مصر» حتى ترامت الأخبار برجوع التتار ناكصين على أعقابهم لا يلوون على شئ” ولذلك ترك الجيش وذهب إلى بيت المقدس: وأقام فيه أياما ثم اتجه من ذلك إلى دمشق فوصل إليها فى أول ذى القعدة كما بينا .

47- أقام الشيخ بالشام واستقر به النوى: ولقد قال ابن كثير فى أحواله بدمشق: «ثم إن الشيخ بعد وصوله إلى دمشق واستقراره يها لم يزل ملازما للاشتغال فى سائر

3

العلوم, ونشر العلم, وتصنيف الكتب. وإفتاء الناس بالكلام والكتابة المطولة, والاجتهاد من مواققة أثمة المذاهب الأريعة» وفى بعضها يفتى بخلافهم أو بخلاف المشهور فى مذاهبهم, وله اختيارات كثيرة: ومجلدات عدة؛ أفتى فيها بما أدى إليه اجتهاده. واستدل على ذلك من الكتاب والسنة, وأقوال الصحابة والسلف»,

وجاء مثل ذلك فى كتب سيرته؛ وهذا يدل على أنه فى دمشق انصرف إلى الفروع: وقد أتم دراسة أصول العقيدة دراسة فاحصة عميقة دقيقة:؛ وأعلن آراءه فيها من غير مواربة؛ ولا تسترء وعرض نفسه للمحن المتوالية؛ ونزل به الأذى من الخاصة:؛ حتى أتم نشرها وكشفها للناس بدليلها؛ وبذلك بلغ دين الله على وجهه فى اعتقاده وخفت صوت المعارضء وقوى صوت المناصر؛ وأصبح الذين يعارضونه وإن كانوا كثيرين يحجمون ولا يتكلمون؛ ريحسبه فى ذلك انتصارء فبعد أن كان الذين يناصرونه يخافتون: صاروا يجاهمرون فى محصر والشام؛ وصار له أنصار بالبلدين.

فلما تم ذلك وعاد إلى دمشق جعل كل همه فى الإفتاء وتصنيف الكتب فى الفروع. وليس معنى ذلك أنه انقطع عن دراسة العقائد وبيانها؛ بل معناه إن الوقت كان يشغل بالفروع» وقد يجيب عن العقائد إن سئل عنهاء وذلك لا يمنع أن العمل الأكثر للفروع؛ وكان مكان دروسه الأساسية المدرسة الحنيلية» وأحياناً بغيرها.

44- ونا أقبل على الفروع يفحصهاء وصل إلى نتائج يخالف فيها الأئمة أو يوافق المشهور فى مذاهبهم أو غير المشهور؛ وليس معنى هذا الإقبال أنه لم يكن قبل ذلك يعنى بهاء بل كانت عناية استيعاب. وفى الثانية كانت عنايته متجهة إلى الإنتاج من ذلك الاستيعاب الشامل؛ وثلك الثروة الفقهية والأثرية التى استحفظ عليها؛ وجمعها جمعاً متناسقاً؛ وقد درسها كما درس العقائد متجها إلى ما كان عليه السلف الصالح؛ وما ورد فى القرآن الكريم والسنة النبوية, وقد وجد المعين الخصب فى فتاوى الصحابة» وفتاوى التابعين الذين لازموا كبار الصحابة؛ ونقلوا علمهم؛ ولعل هذا هى السبب فى إعجابه بمذهب أحمد ابن حنبل واستمرار إعجابه إلى أن مات؛ وهذا فوق تنشئته الأولى التى نشئ فيها على ذلك المذهب الجليل؛ ولهذا نراه يقول: «أحمد كان أعلم من غيره بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسانء, ولهذا لا يكاد يوجد له قول يخالف نصاء كما يوجد لغيره؛ ولا يوجد له

+

قول ضعيفء إلاوفى مذهبه فى الغالب قول يوافق القول الأقوىء وأكثر مفاريده التى يختلف فيها عن غيره يكون قوله راجحاً كقوله بقول شهادة أهل الذمة على المسلمين عند الحاجة كالوصية فى السفر إلى غير ذلك من المسائل».

ونرى من هذا إعجايه الكبير بمذهب الإمام أحمد رضى الله عنه؛ لا لموافقته نشأته فقطء بل لموافقته مسلكه.,

65- وليس إعجاب اين تيفية بمذهب الإمام أحمد إعجاب المتعصب الذى يحجبه عن إدراك سواه. وفهمه وفهم مراميه وغاياته, ولعله عدل رأيه قليلا فى اعتبار كل ما ينفرد به أحمد راجحاً؛ وكل ما يقوله أحمد من الكتاب والسنة, فسنجده يخالفه مخالفة صريحة جريئة فى أيمان الطلاق,

وقد كان ابن تيمية عدو التعصب فى الفروع, فقد درس فقه المسلمين كله دراسة عميقة محيطة. وكان ينهى أشد النهى عن التعصبء فيقول: «من تعصب لواحد من الآأئمة بعينه فقد أشبه أهل الأهواء سواء تعصب مالك أم لأبى حنيفة أم لأحمد. ثم غاية المتعحصب لواحد منهم أن يكون جاهلا يقدره فى العلم والدين» وبقدر الآخرين؛ فيكون جاهلا ظاماء والله يآمر بالعلم والعدلء وينهى عن الجهل والظلم. قال تعالى: «وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا(')» وهذا أبى يوسف ومحمد أتبع الناس لأبى حثيفة وأعلمهم بقوله: وهما خالفاه فى مسائل لا تكاد تحصى لما تبين لهما من السنة والحجة ما أوجب عليهما اتباعه» وهما مع ذلك يعظمان إمامهما». فاحصة منقبة بعد درسه فى صدر حياته دراسة استيعاب وتحصيل وجمع للاتركة المآرية التى تركها الأئمة رضوان الله عليهم.

41- وما دام قد خلع نير التعصبء واتجه إلى دراسة الفقه حرا إلا مما حصله من العلم, وما علمه من الكتاب والسنة وآثار السلف الصالع؛ فلابد أن يخالف فى بعض النتائج ما عليه الناس» وما عليه الفقهاء أصحاب المذاهب الأربعة, وخصوصاً أنه الفقيه الذى يفهم الفقه قهى العارف بشئون الحياةء والذى يعلم أن الفقه هى الميزان الضايط الحاكم على أعمال الناس بأنها متفقة مع الشريعة أ مخالفة» وبأتها حلال أو حرام وأنه النافذ البصيرة

4

بهذه العقلية الحرة؛ وبهذا العلم المصيط اتجه ابن تيمية إلى دراسة الفقه دراسة

فى شرع الله العارف لمصادره وموارده؛ وغاياته ومراميه؛ فعند تطبيقه على أفعال الناس لا يتقيد إلا بالنصوص والمرامى؛ ومصالح الناسء وما به تستقيم أمورهم.

وأنه قد رأى الطلاق قد اتخذ يمينا يحلف به, كما يحلف بالله, بيد أنه إن حنث فى يمين الله كفر بالعتق أو الصدقة أو صيام ثلاثة أيام؛ أما إن حنث فى يمين الطلاق خرب بيته» وطلقت امرأته: وتقطعت العلاقة المقدسة التى يريطها الله بشرعه؛ هالته هذه النتيجة وهى الفقيه المتصل بالحياة والأحياء. فيحث عن أصل لذلك فى الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح من الصحابة وكبار التابعين؛ فلم يجد ما يبرر قطع العلاقة الزوجية لمجرد الحلف والحنث؛ وهى ما قصد إيقاع الطلاق ولا أراده. ورأى ذلك أمراً غير ما كان عليه السلف, فأفتى بأن الحلف بالطلاق لا يقع به طلاق» وأنه يفترق عن تعليق الطلاق الذى قصد به وقوع الطلاق عند وقوع الأمر المعلق عليه, لتحقق قصد الطلاق فى هذا النوع من التعليق؛ وعدم تحقق القصد إلى الطلاق عند الحلف به. ولا بلزم الرجل بطلاق لم يقصدهء ولم توجد سنة أي كثاب تلزمه مع عدم القصدء كالشأن فى طلاق الهازل. .

1- أفتى الشيخ بذلك؛ وهى غير ما عليه الأئمة أصحاب المذاهب الأريعة فاستنكر الفقهاء ذلك؛ وجاهروا باستنكارهم؛ وكان ذلك فى سنة4١/‏ ولما رأى قاضى قضاة الشام ذلك اجتمع بابن تيمية» وأشار عليه أن يترك الإفتاء فى مسألة الحلف بالطلاق فقبل رضى الله عنه؛ وقد تأيدت إشارة القاضى بأمر السلطانء فقد جاء فى مستهل جمادى الأولى من تلك السنة كتاب السلطانء وفيه منع الشيخ من الإفتاء فى المسالة, ولقد نودى بذلك فى البلد.

وفى الحقيقة لم يكن ثمة حاجة إلى كتاب المنع والمناداة به فى البلد؛ لأن الشيخ قد انتصح بنصيحة قاضى القضاة. يل انتصح قبل ذلك بنصيحة قاضى الحنابلة فإن المنع بعد ذلك لا يليق يمقام ذلك العالم الجليلء والكياسة وحسن السياسة كانت توجب ألا يكون نهى لم يكن ثمة حاجة إليه.

ومهما يكن من الأمر فإن الشيخ قد امتنع زمنا قليلاء ثم عاد إلى الفتياء لأنه اعتقد أن ذلك كتمان للعلم؛ ويرد على الخاطر سؤال: لماذا امتنع الشيخ أولا منتصحاً؛ ثم عاد ثانية لأنه وقع فى نفسه أن الامتنا ع كتمان للعلم الذى أخذ الله مواثيقه على العلماء ليبيننه للناس ولايكتمونه؟ 34

إن الذى نظنه جوابا فى هذه الحال. إن الشيخ كان مترددا فى أن يفتى فى مسالة يخالف ما عليه الجمهور من الفقهاء السابقين والمعاصرينء ومثل ابن تيمية له من الورع والدين ما يجعله مترددا فى هذه الحالء حتى لا يكون قد قصد إلى غرائب الفتياء فلما أشار عليه قاضى القضاة بأن يترك هذه الفتوى الغريبة أجابء لأن ذلك كان له نداء من قلبه فأجاب؛ ثم لما أعاد المسألة نظرا وتمحيصا زاد إيمانا بصحة فتواه, والبلوى فى موضوعها عامة فلم يرتض بأن يفرق بين المرء وزوجه على غير أساس دينى سليم: فاندفع إلى الإفتاء

غير متحرج.

ويجوز أن يكون قد امتنع أولا لنصيحة العلماء. فلما جاء المنع من السلطان علم أنها الدنية فى الدين: ولعل السيب فى عودته إلى الإفتاء الأمران معاً: زيادة استيثاقه من فتواه مع عمؤم البلوى فى موضوعهاء ومنع السلطان. فتقدم بالفتيا غير هيّاب ولا وجل ليعلم العلماء من بعدهء أن ليس للأمراء طاعة فيما يعتقده العالم معصية لله.

- د اد الشيغ إذن إلى الإفتاء وترامى إلى السلطان خبر عودة الشيخ. وإن السلطان الناصر هى صديق ابن تيمية الذى لم يرتض أن يبقى فى الحبس يوماً بعد عودته إلى الديار المصرية, ولكن للملك صولة, والملوك يقبلون كل شئ إلا أن ترد أوامرهم: وإذا كان السلطان قد يرتضى من ابن تيمية مالا يرضاه من غيره. فهى لا يرضى أن ترد أوامره, وخصوصاً أنه أصدرها جهراً من غير إخفاء الشيخ لمنزلته, ومقامه عنده, يكون كمن يغضى العين على قذىء ولابد أن يوجد من ينبهه؛ ويكبر الأمر عليه.

لهذا لما علم أن ابن تيمية عاد إلى الإفتاء أرسل كتاباً فى التاسع عشسر هن رمضان سنة 15 وفيه فصل خاص بالشيخ يؤكد المنع؛ وقد أحضر رضى الله عنه وعوتب فى ذلك وكان ذلك فى مجلس جمع من القضاء وانفقهاء؛ وقد أكدوا عليه المنعء وانفصل المجلس على ذلك التأكيد من غير أن يعطى الشيخ على نفسه عهداً بامتناع, ولذلك استمر الشيخ رضى الله عنه على الإفتاء فى مسائل الطلاق غير متحرج ولا متأثم؛ ولا خائف من حكام, لأنه ما تعود أن يمتنع عن القول مخافة من الحكام: إنه العالم الجليل الجرئ الذى لا يخشى فى الله لومة لائم» وما بينه وبين النطق بالحق إلا أن يثبت فيه فإن تثبت نطق بالحق؛: غير عايئ بعقاب الحاكمين. ولا عتب العاتبين.

١.

المحنة الثتالفة

4 علم السلطان أن ابن ثيمية عاد إلى الإفتاء بعد تكرار المنع» وتكرار الرجاء, وتكرار العتب» وإن أغضى السلطان فإن القائمين يأمر الدين معه من القضاة والفقهاء والمفتين لا يغضونء وهم يرون فيما يفتى به الشيخ القول المشالف لما عليه إجماع الأئمة الأربعة؛ بل لعلهم يرون فيه ضلالا مبيناء وما يمنعهم من المجاهرة بذلك إلا مكان الشيخ وعلمه وفضله؛ ولأنهم إن جادلوه أخذ عليهم الطريقء وأقام عليهم الحجة:؛ فيعتنق الناس رأيه؛ وقد خبروه» وعلموه شاباء والآن وهى يذرف على الستين لابد أن يكون أمضى بيانا؛ وأقوى جناناء وأعرف بمواضعع الرد التى تصيب مفاصل القول.

وأقد انعقد مجلس بدار الحكم بحضرة نائب السلطنة حضره القضاة والفقتهاء والمفتون من مذاهب الأريعة. وحضر الشيخ وعاتبوه للمرة الثالثة على العود إلى الإفتاءء وكانوا حريصين على عتابه دون جداله, لأنهم يعلمون مقامه فى المناظرة ومقامه من العلم والدين الذى يمنعه من أن يفتى من غير بينة وحجة قائمة,

ونا تكرر العتب والرجاء والمنع من غير أن يمتنع قرروا حبسه فى القلعة فحبس بأمر نائب السلطنة؛ واستمر محبوسا خمسة أشهر وثمانية عشر يوما تبتدئ من يوم ”7 من رجب سنة ٠١‏ ؟5/!,

وكان الإفراج عنه بأمر السلطان جاء فى اليوم العاشر من محرم سنة ١"/ا,‏

عغودته إلى دارسه

٠‏ عاد الشيخ إلى درسه حراً طليقاًء طليقاً فى جسمه وعقله وفكره وإفتائه, فإن ذلك الإطلاق من السجن كان إيذانا بالحرية فى الفتوىء ويظهر أنهم يئنسوا من رجوعه عن ذلك الرأى الذى اختاره. فأخذ يقتى فى هذه المسألة وغيرها من المسائل المتعلقة بالطلاق: وبتكرار ذلك ألفوا منه ما يفتى بهء وسواء أقبلوه أم رفضوه فقد سكتوا طائعين أو مكرهين, راضين أوساخطين.

واستمر الشيخ فى دروسه. وبحوثه, وتصنيفاته: يكتب» ويصنف ويختار ويجتهد. وكان له فى ذلك اختيارات قيمة هى التى أظهرته فقيها مجتهداً له شخصية فقهية بين الفقهاء المجتهدينء ذوى الرأى الفقهى المستقل.

7

وفى الحق أن هذا العهد الذى يبتدئ من سنة ؟١/‏ هى العهد الذى أنتج فيه ابن تيمية تلك الآراء الفقهية التى استقل بهاء وقبل ذلك كان إنتاجه فى مسائل الاعتقادء ومناقشة المخالفين لآرائه ومناهجه كما ثوهتا.

وقد استمر الشيخ فى دراسته الفقهية ويرها . وإن كان الفقه له الصدارة فى هذا الدور من حياته. وترك ذلك الأثر الخالد الذى جعل منزلته الفقهية لا تقل عن منزلته الكلامية, بل تزيد» وهى التى جعلت أراءه لا تقف عند جيله, بل تتعدى إلى الأجيال ويجد فيها كل

9

المحنة الأخيرة -١‏ استمر الشيخ فى دروسه: وكانت فى مدرسة الحنبلية, أو مدرسته الخاصة بالقصاصين. وكان يقرأ كتبه ويراجعها ويصلح فيها ويزيد؛ ومكث على ذلك بضع سنين يبحث فأمر بالانتقال إلى القلعة,

وذلك لأن الذين يتربصون به الدوائر» أى يريدون أن يكف عن بعض آرائه؛ أو يحسدونه على منزلته عند الناس؛ وعند ذوى السلطان أخذوا يحصون عليه الهفوات: وقد تعددت مقاصدهم؛ وتباينت أغراضهم, فمنهم من كان يريد الكيد له كالصوفية والراقضة الذين استتروا لينفثوا فى الجماعة تفكيرهم من حيث لا يشعنر أحد بهم؛ ومنهم من يأكل قلبه الحسدء والحسد يدفعه إلى تدبير الكيد كالفريق الأول ومنهم من له فضل تقى وأكن يأخذ على الشيخ أنه خرج بأقوال لم يقلها أحد من الفقهاء. وقد التقى رأى هذه الطوائف فى أمر وأحدء وهو أن تقيد حرية الشيخ فى القول والإفتاء» وإن اختلفت الدوافع,

أخذوا يبحشون عن رأى له يعلمون أنه يكون أكثر تحريكا للنفوسء وإثارة لقلوب الأمراء الذين بيدهم الأمر ومصاير الحرياتء وام يعيهم البحث والتتقيب؛ لأن ذلك الشيخ الحر كان يعلن آراءه فى غير احتراس ولا خوف مادام الدليل يثبث بين يديه؛ وينير السبيل أمامه؛ فإنه لايعبا إلا بالحجة والدليل من مصادر الدين الصحيحة, ولا يهمه بعد ذلك أوافقه الناس أم خالفوه. 0

47- وقد وجدوا ضالتهم التى ينشدونها فى فتوى أفتاها منذ سبع عشرة سنة بأنه يمنع زيارة القيور. حتى الروضة الشريفة التى بها قير الرسول صلوات الله وسلامه عليه وقد جاء فى هذه الفتوى:

«وفى سان سعيد بن منصور أن عبد الله بن حسن بن حسن بن على بن أبى طالب رأى رجلا يختلف إلى قبر النبى عله فقال له: «لا تتخذوا قبرى عيداً؛ وصلوا على؛ فإن صلاتكم حيثما كتتم تبلغنى, فما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء». وفى الصحيحين عن عائشة عن النبى َه أنه قال فى مرض موته: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر مما فعلوا ولولا ذلك لأبرز قبرهء وأكن كره أن يتخذ مسجداً وهم دفنوه عه فى حجرة عائشة رضى الله عنها خلاف ما اعتادوه من الدفن فى الصحراء. لثلا يصلى أحد عند قبرهء ويتخذه مسجداً» فيتخذ قبره وثناًء وكان الصحابة والتابعون لما كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد إلى زمن الوليد بن عبد الملك لا يدخل أحد منهم إليه, لصلاة هناك ولا تمسح بالقبرء ولا دعاء هناك بل هذا جميعه إنما كانوا يفعلوته فى المسجد, وكان السلف الصالح من الصحاية والتابعين إذا سلموا على النبى ْله وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلى القبلة؛ ولم يستقبلوا القبرء وأما الوقوف للسلام عليه صلوات الله وسلامه عليه فقال أبى حنيفة يستقبل القبلة أيضاً؛ ولا يستقبل القبر» وقال أكثر الأئمة: يستقبل القبر عند الدعاي(!),

هذا ما جاء فى فتياه رضى الله عنه: وتراه فيها كشأنه يتجه إلى السلف الصالح يستقى منهم؛ يأخذ عنهم؛ ويسرد إليك الآراء التى تساعد ها انثهى إليه فى ثقة وإيمان؛ واطلاع واسع يبهث الخصوم. ويتحير له المخالفون فلا يحيرون جواباً.

47- لقد قيلت هذه الفتوى منذ مدة طويلة» ولكن حركت عندما أرادوا الكيد؛ فشنعوا بها عند ولاة الأمور. وحركو) فيهم عوامل النقمة على ذلك الفقيه الجليل محيى السنة النبوية, واتخذوا ذلك سبيلا للتأثير» لما للنبى مله من مكان قدسى فى القلوب. وسرعان ما تتحراه نقس المسلم إن أتيت من ناحية ما يمس شخص النبى صلوات الله وسلامه عليه؛ ولا أحكم )١(‏ سيكون بعون الله تعالى موضوع هذه الفتيا مع غيرها موضع دراستنا عند دراسة علمه وآرائه إن شاء الله تعالى.

ف

التدبير كاتبوا السلطان فى مصر بذلك: فأمر بجمع القضاة عندهء فنظروا فى الفتوى من غير حضور صاحبهاء وقيل أنه حرف فيها الكلم عن مواضعه. فرأى السلطان حيبسه فى محبس يليق بمثله من المكرمين ذوى المكائة عنده.

وجاء الأمن إلى دمشق فى السابع من شعبان سنة 1 /اء وبلغ إلى الشيخ» وأحضروا له مركباً؛ ونقل إلى قلعة دمشقء وأخليت له قاعة, وأجرى إليها الماء. وأقام معه أخوه زين الدين يخدمه بإذن السلطان؛ وأجرى عليه ما يقوم بكفايته.

وما أن اعتقل الشيخ حتى تكشفت القلوب عن خبيئاتها؛ وظهر الأذى فى تلاميذه وأوليائه: فأمر قاضى القضاة يحبس جماعة من أصحابه؛ وعزر جماعة منهم بإركابهم على الدواب والمناداة عليهم, وبعد ذلك أطلقوا من محابسهم ما عدا صفيه؛ وحامل اللواء من بعده شمس الدين محمد بن قيم الجوزية» فإنه حبس بالقلعة.

4- كان اعتقال الشيخ رضى الله عنه موضع ألم عند المخلصين طلاب الحقيقة الصافية: وموضع سرون عند الذين غلبت عليهم أفكار وآراء لم تجعل قلويهم متسعة لسواهاء كما وجدها أهل الأهواء انتصاراً لأهوائهم؛ وغلبة جاءت إليهم بعد جهاد شاق مرير دام نحواً من ثلاثين سنة من وقت أن شنها على البدع فى نظره حرباً شعواء فى رسالته الحموية وغيرها.

ولقد أحس العلماء المخلصون بعلو كفة البدع والهوى باعتقال الشيخ رضى الله عنه, ولذلك كتب علماء بغداد إلى السلطان الناصر بمصر كتاباً يبينون فيه النازلة التى نزلت بالإسلام والمسلمين بغمد ذلك السيف المصلت على البدع والمبدعين وقد جاء فى ذلك الكتاب:

«ما قرع أهل البلاد المشرقية والنواحى العراقية التضييق على شيخ الإسلام تقى الدين أحمد بن تيمية سلمه الله - عظم ذلك على المسلمين» وشق على ذوى الدينء وأرتفعت روس الملحدين» وطابت نقوس أهل الأهواء والمبدعين» وما رأى علماء أهل هذه الناحية عظم هذه النازلة. من شماتة أهل البدع: وأهل الأهواء باكابر الفضلاء. وأئمة العلماءء أنهوا حال هذا الأمر الفظيعء والأمر الشنيع؛ إلى الحضرة الشريفة السلطانية, زادها الله شرفاً, وكتبوا أجويتهم فى تصويب ما أجاب به الشيخ سلمه الله فى فتاواه؛ وذكروا من علمه

وفضائله بعض ما هو فيه» وحملوا ذلك بين يدى مولانا ملك الأمراء أعز الله أنصاره وضاعف اقتداءه غيرة منهم على هذا الدين؛ ونصيحة لإزسلام وأمراء المؤمنين»!!),

6- وهذا الكتاب يدل على أمرين: (أحدهما) وهو عمدتهما أن ذلك العالم الجليل قد عمت دعوته إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة البقاع الإسلامية ولم تعد آراؤه ومناهجه مقصورة على أهل الشام. بل تجاوزتها إلى البقاع الإسلامية كلها وفبوق ذلك لم تعد مقصورة على الحنابلة بل تحمس له مالكية وحنفية وشافعية مما يثبت أنه لم يعد نصيراً لمذهب معين من مذاهب الإسلام؛ بل نصيراً لإإسلام فى لبه وصميمه.

(الأمر الثاتى) أن أهل الأهواء قد أظهروا الشماتة والعداوة وأبدوا صفحتهم؛ بعد أن كانوا قد أخفوهاء وكانوا مستورين غير مكشوفين: وإذا كان أول متهم بجريمة هو المنتفع منهاء فلابد أن أواتك هم الذين والوا دسهم على الشيخء وكانوا يظهرون بالمذاهب السنية ليخدعوا الأمراء والقضاة.ولما تمث الخديعة ظهرت شماتتهم للعيان: وبدت ظاهرة غير مستورة.

1- أظهر الشيخ السرور عند ما انتقل إلى القلعة, ولا ندرى لماذا كان هذا السرور الذى أظهرهء وقال: «أنا كنت منتظراً ذلك وهذا فيه خير كثير ومصلحة كبيرة» لعله وقد دخل فى سن الشيخوخة إذ كان قد بلغ الخامسة والستين أحس بأنه فى حاجة إلى الابتعاد عن ضجة الناس؛ وقد بلغ دعوته؛ أى أنه قد أصيح فى حاجة إلى هدوء ليسجل أراءه ويدونها ليتلقاها الأخلاف. وقد نشرها بين معاصريه وجادل عنها؛ ولم يترك سبيلا لإعلانها فى جموعهم إلا أعلنهاء وبينها قى لسان عربى مبين» وبلاغ واصل إلى حبات القلوب يقبله ال موافق ويخضع له المخالف.

ولذلك لما انتقل الشيخ إلى القلعة غير مضيق عليه إلا بالإقامة فى ذلك المحبس عكف على آمرين- كلذهما أمد الآخر» وسقاه.

(أولهما) العبادة: فقد وجد فى هدأة السجن فرصة لمناجاة ربه فى شبخوخته؛ وقد أحس بالموت يدب فى جسمه دبيباً فانصرف إلى العبادة خاشعاً خاضعاً ملتزما السنة, )١(‏ راجع هذا الكتاب وغيره من الكتب المؤيدة لابن تيمية من علماء المالكية والشافعية والحنفية- فى العقود الدرية ص 0١‏ وما يليهاء والكواكب الدرية ص ١148‏

و7

حتى أصبح كأنه يرى الله لفرط خشيته وخضوعه والتزامه لشرعه عن إخلاص فياض؛ وإيمان متثبت؛ وعقل متفكر, ونفس خاشعة. وزكى ذلك بتلاوة القرآن الكريم؛ وهو الذكر الأكبر.

(وثانيهما) الاتجاه إلى تمحيص آرائه وتدوينها وهى فى هذا الهدوء الشامل؛ الباعث على التأمل» ويين يديه الكتب يراجع فيها وينقب؛ وقد كتب فى ذلك كثيراً من تفسير القرآن الكريم؛ ولعل الذى كان يبعثه إلى ذلك التلاوة المستمرة له, أو سؤال يجئ إليه؛ أو بحث يدعو إليه؛ وكتب فى المسائل التى خالف فيها عدة مجلدات: منها رسالة فى الرد على بعض القضاة المالكية فى مصرء واسمه عبد الله بن الإخنائى؛ وسماها الإخنائية!')؛ وله ردود على ذلك القاضى.

/1- ويظهر أن هذه الردود وتلك المجلدات كانت تخرج بين الناس أو يذيع الخبر عنها بين العلماء. ويتحدثون فى شأنها والاستدلال الذى اشتملت عليه فيذيع بين الناس الردء كما لى كان صاحبه يسير بين الناس: ويغشى المجتمعات لأن الممنوع المخبوء إن عرف ذاع أكثر من المعلن المككشوفء إذ أن النفوس تتطلع إليه فتطلبه وتبحث عنه وتقرؤه يعناية» لأنه يكون كالشئ النفيس يعثر عليه ويكشف عنه؛ فلا يلبث إلا قليلاء حتى تتناوله الأيدى ويتبادله الناس.

عندئذ وجد الذين يريدون محارية آرائه وأفكاره أنهم حبسوا شخصه. ولم يحيسوا فكره ورأيه. فسعوا سعيهم ومكروا مكرهم عند ذوى السلطان ليمنعوا ذلك النور أن يشرق من ردهات السجن؛ فيضيئء بين العلماء. والمبطلون دائما أعداء للضوء المثير.

ولقد كان من نتيجة تلك الدعايات الخفية والظاهرة أنه فى اليوم التاسع من جمادى الآخرة سنة 858 أخرج ما كان لدى الشيخ رضى الله عنه من الكتب والأوراق والمحاير والأقلام, ومنع منعاً بات من المطالعة وحملت كتبه التى كان يكتبها أو يراجعها فى مستهل رجب من هذه السنة إلى المكتبة الكبرى بالعادلية؛ وكانت نحو ستين مجلداً وأريع عشرة ريطة كراريس فنظر القضاة والفقهاء فيها وتفرقوا بينهم» واستمرت محفوظة بهذه المكتبة. )١(‏ قد يكون موضوعها موضوع دراستنا عند بحث آرائه إن شاء الله تعالى إن كان فيه ما ليس فى كتبه, هي مطبوعة فى مصر.

7

ولقد ذكر ابن كثير السبب فى ذلك الضيق الجديد فقال: «كان سيب ذلك أنه أجاب لم كان رد عليه به التقى بن الإخنائى المالكى فى شأن الزيارة: رد عليه الثشيخ تقى الدين» واستجهله. وأعلمه أنه قليل البضاعة فى العلم؛ فطلع الإخنائى إلى السلطان وشكاه فرسم السلطان عند ذلك بإخراج ما عنده من ذلك وكان ما كان»!١),‏

14- منع الشيخ من الكتابة» بل أرادوا أن يمنعوه من التفكيرء حينئذ بلغ الضيق, أقصاه لهذا المفكر المجاهد؛ وحسبك أن تعلم أن ذلك الكاتب المتفكر المتدبر الذى عكف على تقبيد خواطره أكثر من سنتين فى سجنه يمنع من ذلك التنفيث الفكرى؛ ويقيد ذلك التقييد العقلى» ويمنع من كتبه التى هى مهجة قلبه وعقله وخلاصة فكره؛ ولقد كان أحياناً يضطر ذلك المفكر إلى أن يقيد بعض أرائه؛ أى خواطره فيكتيها بفحم على ورق متناش؛ وقد حفظ التاريخ بعض هذه الكتابات التى كتبت بفحم فى هذا الضيق؛ فإذا هى كتابة المجاهد الذى لم يضسعف ولم يهن؛ وإذا هو يعلم أن ذلك من الجهاد الذى كرس حياته له؛ وإن كان هو الجهاد الأكبر ويعلم أن ذلك الابتلاء والصبر هو من نعم الله عليه وعلى الناس؛ فيقول: «نحز وله الحمد قى عظيم الجهاد فى سبيله.. بل جهادنا فى هذا مثل جهادنا يوم قازان» والجيلية» والجهميةء والاتحادية» وأمثال ذلك: وذلك من أعظم نعم الله علينا وعلى الناس؛ ولكن أكشر الئاس لا يعلمون».

ويقول فى مكتوب آخر: كل ما يقضيه الله تعالى فيه الخير والرحمة والحكمة إن ربى لطيف لما يشاء, إنه هو القوى العزيز العليم الحكيم: ولا يدخل على أحد ضرر إلا من ذنوبه؛ ما أصمابك من حسنة فمن الله. وما أصايك من سيئة فمن نفسك؛ فالعبد عليه أن يش> الله ويحمده دائما على كل حالء ويستغفر من ذئويه. فالشكر يوجب المزيد من النعم والاستغفار يدفع النقم؛ ولا يقضى الله للمرء من قضاء إلا كان خيراً له: إن أصابته سراء شكر» وإن أصايته ضراء صبرء فكان خيراً له.

ويذكر سبب الضيق مستعليا على الشدة؛ فيقول: «كانوا قد سعوا فى ألا يظهر من جهة حزب الله ورسوله خطاب ولا كتاب؛ وجزعوا من ظهور الإخنائية, فاستعملهم حتى أظهروا أضعاف ذلك وأعظم... ولم يمكنهم أن يظهروا علينا عيبا فى الشرع والدين. بل غاية

0

عندهم أنه خواف مرسوم بعض ال مخلوقين والمخلوق كائنا من كان إذا خالف أمر الله معالى ورسوله لم يجب. بل لا تجوز طاعته فى مخالقة أمر الله ورسوله باتفاق المسلمين».

5 سجلت هذه الكتابات التى لم يكتبها يقلم ومحبرة: بل كتبها بقحم عزيمته ودشمائه حتى 1 مر لحظة من حياته فهو فى مضاء وصبر وجهاد وحسن بلاءء واستعلاء على الشدة ومحارية للحوادث: حتى إنه ليقول مطمئنا أن ما يؤخذ عليه هى مخالفته مرسوم السلطان ولا تومه المخالفة ما دامت لطاعة الخالق» ومنع البدع والشرء ولقد من الله سبحانه وتعالى عليه بمنته الكبرىء إن أطلقه من هذه القيود البشرية لتسبح روحه فى ملكوته الأعلى راضيةمرضية.

فإنه لم يطل ذلك الضيق على تلك النفس الحرة الكريمة, وذلك الفكر القوى المنطلق فى سماء الدين يحلق فيها؛ فقد قبضه الله سبحانه وتعالى إليه فى العشرين من شوال سنة أى لم يمكث فئ هذا الضيق إلا نحو خمسة أشهرء وكان ذلك عقب مرض لم يمهله أكثر من بضعة وعشرين يوماً.

- وكان عظيما حقاء لا يحمل بقلبه أى درن من حقد أى ضغينة إلا بمقدار ما ينطق فيه بالحق ويعلنه, حتى إنه ليصفح راضياً طيب النفس عن كل مسلم ناله منه أذى, فإنه يروى أن وزير دمشق لما بلغه مرضه استاذن فى الدخول عليه لعيادته, فأذن له. فلما جلس أخذ يعتذر ويلتمس منه أن يحلله مما عساه يكون قد وقع منه فى حقه من تقصير, فأجابه الرجل العظيم: «إنى قد أحللتك. وجميع من عادانى. وهى لا يعلم أنى على الحق, وأحللت السلطان المعظم املك الناصر من حبسه إياى: لكونه فعل ذلك مقلداً معذوراً . ولم يفعله لحظ نفسه. وقد أحللت كل أحد مما بينى وبينه, إلا من كان عدى الله ورسوله مَيله),

فاضت روحه إلى ربهاء وما أن علم أهل دمشق يوفاة عالمهاء بل عالم المسلمين

أجمعين فى جيله:حتى أخذتهم حسرات تلتها عبرات؛ فأحاطوا بنعشه. وخررجت دمشق كلها

تودعه. وتضعه فى مثواه الأخير, ودعت فيه العالم التقى الزاهد الجرئ” وودعت فيه المجاهد

البطل الذى وقف فى ميدان الحرب حاملا سيفه وقوسه مقاتلا؛ وودعت فيه المواسى الذى

كانت ترجع إليه كلما حزبها أمر؛ وأخذتها صيحة:؛ إذ كانت تجد فيه القلب الكبير الذى يلقى

فى القلوب الاطمئنان فتعود إلى جنويهاء بعد أن أخرجها الهلع منها؛ ثم أخيراً ودعت 4

فخرها وشرفها الذى كانت تفاخر به كل بقاع الإسلام.وودعت النفس التى احتملث كل ما يحتمل الحر الكريم فى سبيل الدفاع عن الحق الذى يعتقده.

مات ابن تيمية فى المحبس الذى ألقاه فيه صديقه السلطان الناصرء وكان فى أول أمره محبساً كريماً يليق بمثله. ثم صار محبسا ضيقا قد منع فيه ذلك العقل الكبير الجبار من الانطلاق؛ وكأن الله سبحانه وتعالى كتب على ذلك العالم الجليل ألا يموت إلا فى ميدان الجهاد؛ لقد جاهد بسيفه, وجاهد بلسائه, وجاهد بقلمه؛ فلما حبسوا اللسان انطلق القلم فكان يرسل من سجنه صيحات الحق البين الجلى فى نظره يرد على المغالف» ويناصر ما يعتقده الدين» ويزكى قوله بأقوال السايقين؛ ثم لما حاواوا حبس القلم لم يلبث إلا قليلا حتى قبضه ربه؛ فكان كالأسير أخذه الخصم من ميدان الحرب» فكان جهاده أشق وأعظم.

ولقد ققدر الله لهذا العالم الجليل والمجاهد العظيم أن يموت حرا ليس لابن أنثى عليه فضلء لقد توثقت العلائق بينه وبين السلطان الناصرء وحكمه هذا فى رقاب العلماء الذين آنوه فما قال إلا خيراً» وكأنه كان يقتدى بالرسول عندما قال فيمن راموه بالسوء من عشيرته: اذهبوا فأنتم الطلقاء. ولو مات وهو ممكّن عند السلطان ذلك التمكين لقال يعض الناس إنه كان تابعاً للسلطان: أو ما ظهر إلا بسطوته. وما علا إلا بقوته؛ ولكن يأبى الله العلى القدين إلا أن يظهر ذلك العالم العظيم على حقيقته العالم المستقل القوى, الذى لايتبع أحداً؛ ولا يرجى المكانة من أحدء إنما يرجوها من رضاء الله سبحانه؛ وقول الحق الذى يعتقده فى إبائه. والنطق به فى مكانه, لا يضطرب ولا يتلعثم؛ فكانت عظمته من ذات نفسه. وخرج كالدوحة العظيمة يستظل بظلها الناس؛ ولا تستمد قوتها إلا من فالق الحب والنوى؛ فالناصر عندما يلاقى التثار يرجوه أن يكون بجواره؛ ليستمد منه بعد الله البأس والقوة؛ أما هى فلم يستمد القوة إلا من الله, وقام البرهان, إذ لوكان يستمدها من الناصر ما ألقى به فى غيابات السجن: فكان الدليل القاطع على أنه كان متبوعا ولم يكن تابعاً؛ وحراً سيداًء وليس عبداً رقيقاً.

- ثوى ذلك العالم إلى رحمة ربه ورضوانه بعد أن جاهد أكثر من ثلاثين سنة من يوم أن برغ نجمه عام بين العلماء إلى أن فاضت روحه إلى العليم الحكيم الذى أحاط بكل شئ علماء فمن وقت أن ظهرت رسالته الحموية وهى فى نضال علمى؛ يتخلله نضال الحرب

7/4

والسيف؛ وهو فى الحالين كالجوهر الجيد لا يزيده الاحتكاك إلا لمعانا وصقلاء وهو يعلى من أوج إلى أوج؛ ومن درجة إلى درجة. حتى أقر بفضله المخالف والموافق؛ إلا من لم يذق بشاشة الإسلام؛ ولم يشرب حبه؛ فقد بغض إليه. كما بغض المخلصون للمنافقين: ولقد كان كل الذين ناوءوه وحاربوه كالفقاقيع تظهر ثم تبتلعها الأمواجء أما هو فكان معدنا خالصاء لازال اسمه يرن» وسيستمر بين الخالدين إلى يوم القيامة.

علم ابن تيمية ومصادره

-١١‏ انتهينا من بيان حياة ابن تيمية» وأفضنا القول فيهاء وتتبعتاه يافعا يسترعى الأنظار بقوة ذهنه, وحافظته ووعيه. ثم شابا قد استوى وجلس مجلس العلماء يشرح ويوضح؛ ثم مجاهداً يحمل السيفء ثم مناظراً يقرع الحجة بالحجة ويكون له الفلج حيثما ناقش وأطلقت له حرية القول؛ ثم كهلا انصرف للعلم والحق الذى يعتقده لا يالى جهداً فيه, يغضب الأولياء لصراحتةه؛ ويثير الأعداء بقوة شكيمته: ثم يتخلى ذوى السلطان عن نصرته, ليظهر السيف مصقولاء والعالم غير معتمد إلا على رب العالمين. ولم نتعرض فى هذه الرحلة لبيان مقدار علمه ولا مصادره إلا بمقدار ما يوضح ناحية من حياته.

والآن نشير إلى علمه وبعض مصادره؛ ثم نفصل من بعد ذلك فى قسم قائم بذاته بعض آرائه ونختار منها ما يميز خواص تفكيره من بين العلماء؛ وأبعدها أثراً من بعده؛ ونوازن بينها وبين غيرها من الآراء لنيين وجهة الفريقين.

٠4‏ - لقد أجمع الذين عاصروه على قوة فكرهء وسعة علمه؛ وأنه يعيد المدى؛ عميق الفكرة؛ يستوى فى ذلك الأولياء والأعداءء فإن تلك القوة الفكرية هى التى أثارت الأولياء لنصرته؛ وأثارت الأعداء لعداوته؛ ولى كان هينا فى ذاته أو فكره. ما تحركت مناوأة المناوئين؛ وما استعانوا بالقوة المانعة عن القول: وقد عجزوا عن مجاراته فالجميع إذن مقر بقوة عقله وعلمه. يستوى فى ذلك العدو والولى: وما بين هؤلاء وهؤلاء. واكن موضع الخلاف بين الأعداء والأولياء هى فى الموافقة على الرأى الذى كان ينادى به؛ لا فى قدر المنادى وقوته فى العلم والفكر» وإذا كان الناس قد غضوا من قدره كعالم جليل: فليس ذلك من صميم قلويهم إن كانوا عالمين» بل من الهوى الذى يغلب الفكر والعقلء وليس هذا شأن علماء الدين؛ أما الجاهلون فلا عبرة بقولهم إن أيدوا أو خالفوا؛ فقولهم لم يدخل فى الحساب.

م

وأسنا نريد أن نعد العلماء الذين عاصروه وأثنوا عليه فإنهم لا يحصون إذ قد تجاوزوا المائة. وما يتجاوز المائة لا يحصى على اصطلاح بعض الفقهاء. وهو الرأى المختار, ونستطيع أن نقول أن كل علماء عصره علموا قدر علمه, حتى من ناوأه وحاول إيذاد, لأنه قد ضاق صدره حرجا بمخالفته. وما يأتى به من جديد وإن كان يستمد من القديم قوته فلم يوافق عليه.

6- وإنختر من بين هذا الجم الغفير أربعة من المعاصرين: وبعضهم كان من حيث السن والسبق له بمنزلة الشيخ من التلميذ, وهو ابن دقيق العيد الذى مات فى سنة 7١/ء‏ فقد قال فيه سنة ٠١‏ «هى رجل حفظة» فقيل له. فهلا تكلمت معه فقال «هذا رجل يحب الكلام: وأنا أحب السكوت» وقال أيضاً: «لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا العلوم كلها بين عينيه يأخذ منها ما يريد ويدع ما يريد».

وقال فيه معاصره الحافظ الذهبى: «له باع طويل فى معرفة مذاهب الصحابة والتابعين» قل أن يتكلم فى مسالة إلا يذكر فيها مذاهب الأربعة.وقد خالف الأربعة فى مسائل معروفة, وصنف فيهاء واحتج لها بالكتاب والسنة؛ ولما كان معتقلا بالإسكندرية التمس منه صاحب سبتة أن يجيز له مروياته؛ وينص على أسماء جملة منها: فكتب فى عشر ورقات جملة من ذلك بأسانيدها من حفظه؛ بحيث يعجز أن يعمل بعضه أكثر محدث يكون؛ وله الآن عدة سنين لا يفتى بمذهب معينء بل بما قام الدليل عليه عندهء ولقد نصر السنة, والطريقة السلفية. واحتج لها ببراهين ومقدمات وأمور لم يسبق إليهاء وأطلق عبارات: أحجم عنها الأولون والآخرونء وهابواء وجسر هو عليهاء حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قياماً لا مزيد عليه؛ وبدعوه وناظروه وكاتبوه, وهى لا يداهن؛ ولا يحابىء بل يقول الحق المى الذى أداه إليه اجتهاده وحدة ذهنه وسعة دائرته فى السنن والأقوال مع ما اشتهر به من الورع وكمال الفكر وسرعة الإدراك» ويقول فيه أبى الفتح بن سيد الناس اليعمرى المصرى الذى أدركه فقد قال عند رؤيته: «ألفيته ممن أدرك من العلوم حظاً وكان يستوعب السنن والآثار حفظ ا إن تكلم فى التفسير فهى حامل رايته: أو أفتى فى الفقه فهو مدرك غايته؛ أى ذاكر الحديث فهو صاحب علمه ودرايته؛ أى حاضر بالملل والنحل لم تر أوسع من نحلته فى ذلك ولا أرفع من دلالته؛ برن فى كل علم أبناء جنسه؛ ولم ترعين من رآه مثله؛ ولا رأت عينه مثل نفسه: فيحضر مجلسه الجم الغفير, ويروون من بحره العذب النمير, يرتعون من ربيع فضله فى روضة وغدير».

وقال فيه كمال الدين الزملكانى الشافعى معاصره. والذى كان يقاريه فى السن «كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائى والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن؛ وحكم أن أحداً لا يعرفه مثلهء وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادو! فى مذاهبهم منه ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلكء ولا يعرف أنه ناظر أحداً فانقطع معه- ولا تكلم قى علم من العلوم سواء اكان من علوم الشرع أم غيرهاء إلا فاق فيه أهله والمنسويين إليه, وكانت له اليد الطولى فى حسن التصنيفء وجودة العبارة والترتيب والتقسيم».

-١١1‏ ولى أحصيت أو حاولت أن تحصى أقوال الذين قدروه حق قدره. وعرفوا حقيقة أمرهء واعترفوا بمنزلته لضاق مجلد ضخم عن أن يسعهاء ويحيط بهاء فلتكتف بهذا على أنه تموذج لما وراءه. وصورة كاشفة لأقوال غيرهم, وهذا ليسال الباحث: لم بلغ ابن تيمية تلك المنزلة من العلم, وهذه المكانة من التأثير فى أعدائه وأوليائه. وما الأسباب المكونة لذلك العلم, ولتلك الشخصية الفذة التى جددت الإسلام؛ وأعادت إليه رونقه قشيباً فى عصر الظلام والطغيان» وقد تألبت كل العناصر على الإسلام والمسلمين.

وإنا نعتقد أن العناصر المكونة لتلك الشخصية القوية أريعة: (أولها) مواهبه التى وهبها الله ثه. وها كان عليه من صفات شخصية ذاتية» (ثانيها) من تلقى عليهم العلم؛ سواء أكانوا رجالا موفقينء أى كتباً موجهة درسها بتعمق وتأمل, (ثالثها) حياته وما انصرف إليه, (رايعها) عصره الذى عاش فيه. سواء أكان ما استقاده منه يطريق الإيجاب بأن تغذى من عناصره؛ ووجهته ودفعته؛ أم كانت استفادته منه من مقاومة ما فيه فأرهفت قواه. وشدت عوده قضرب على أوتاره ضرباً عنيفاً. فإن العالم ذا الشخصية القوية يستفيد من عصره سلبا وإيجاياً.

--١‏ صفاته

-٠7‏ اختص الله سبحانه وتعالى ذلك الرجل بصفات كانت هى البذرة التى نمت واستوت على سوقهاء فكانت ذلك العالم الجليل؛ وما نمت إلا بما سقيت من ماءءوما تهيأ من جى صالح: وتربة طيبة تغذت من عناصرهاء فإن الله سبحانه قد وهبه مزايا من شأنها أن يجعل منه ذلك العالم الذى جدد الإسلام» قأعاد إليه شبابه. كما كان عليه فى عهد الرسول

لله والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. 2

وأولى هذه الصفات حافظة قوية واعية كانت موضع حديث عصره. والحافظة الواعية هى أساس العلم؛ فالعالم من يتكون له نى حافظته مادة أساسية يستخدمها ويتميهاء وبمقدارها ومقدار القوة على استخدامها يكون قدره وسط العلماء, ولعل التاريخ لا يذكر كثيرين أوتوا مثل ذاكرة ابن تيمية؛ فقد بدت فيه مخايلها منذ غرارة الصباء حتى إنه ليحفظ بضعة عشر حديثاً بالنظرة والكتابة: ولا استوى رجلا قويا كانت تلك الحافظة هى التى تسعفه فى الجدل والمناظرة وإفحام الخصوم, وهى التى تبرز علمه. وتثير إعجاب الناس به مع قوة البيان؛ وثيات الجنان؛ وعظيم التضحية:؛ وتحمل المحن والبلاء» وقد ذكرنا أن صاحب سبتة طلب منه إجازة بعض أسائيده, فكتب له عشر ورقات فى الأسانيد لم يرجع فيها إلى كتاب.

ولقد جاء فى الكواكب الدرية «من أعجب الأشياء أنه لما سجن صنف كتيا كثيرة: وذكر فيها الأحاديث والآثار, وأقوال العلماء وأسماء المحدثين والمؤلفين ومؤلفاتهمء وعزا كل شئ من ذلك إلى ناقليه وقائليه. وذكر أسماء الكتب التى ذكر ذلك فيهاء وفى أى موضع هو منها؛ كل ذلك يديهة من حفظه؛ لأنه لم يكن عنده حينئذ كتاب يطالعه, ونقبت واختبرت فلم يوجد بحمد الله فيها خلل ولا تغيير»!!/,

ونحسب أن ذلك القول لا يخلو من مبالغة, لأنه كتب كثيراً فى مدة حبسه الأخير؛ وما كان ممنوعا من المطالعة ولا من الكتابة طول هذه المدة» بل كان المنع والتضييق فى آخرهاء ومكث المنع نحى خمسة أشهر من مدة أكثر من سنتين؛ ولذلك نحن نظن أن الخبر مبالغ فيه وربما كان غير صحيح:إذا كان أساسه الاستنباط لا الإخبار.

ومهما تكن قيمة ذلك الخبر ومقدار المبالغة فيه, فمن المؤكد أنه كانت له حافظة واعية هى مضرب الأمثال. وقد كانت تثير إعجاب المحبينء وألم المخاصمين.

- والصفة الثانية من صفات ابن تيمية العمق والتأملء فقد كان رضى الله عنه يدرس المسائل متعمقاً فيهاء بل ريما قضى الليالى متفكراً فى مسالة واحدة حتى يحل مغلقها؛ وينتهى إلى الأمر الجازم فيهاء وكان يتأمل الآيات والأحاديث وقضايا العقل؛ ويوازن ويقايس بفكر مستقيم حتى ينبلج له الحق واضحاً» ولذلك كان من أدق العلماء وأقدرهم على استنباط المعانى من الأحاديث وأيات القرآن الكريم, ولقد جاء فى الكواكب الدرية أيضاً: )١(‏ الكواكب ص ١١6‏ فى ضمعن مجموعة طبع الكردى.

4

«وأما ما وهبه الله تعالى ومنحه من استنباط المعانى من الألفاظ النبوية: والأخبار المروية» وإبراز الدلائل منها على المسائلء وتبين هفهوم اللفظ ومنطوقه, وإيضاح المخصص للعام: والمقيد للمطلق» والناسخ للمنسوخء وتبين ضوايطها ولوازمها وملزوماتها وما يترتب عليها وما يحتاج فيه إليهاء فمما لا يوصفء حتى كان إذا ذكر آية أو حديثا وبين معانيه وما أريد به يعجب العالم الفطن من حسن استنباطه ويدهشه ما سمعه أو وقف عليه منهء(!),

فلم يكن ابن تيمية حافظأً واعياً فقط؛ بل كان متعمقاً لا يكتفى فيما يدرس بالنظرة الأولى» بل يردد البصر؛ ويسبر غور المسائل حتى يصل فيها إلى نتائج محققة. وما يصل إليه يدهش العقولء ويحير الخصوم.

والصفة الثالثة: حضور البديهة» فقد كان مع قوة حافظته وتعمقه فى الدراسة حاضر البديهة تخرج المعانى من مكانها فى الحافظة سريعة كالجندى السريع يجيب أول نداءء وكان يبلى ذلك فى درسه واضحاً جلياًء فأرسال المعانى تجيئه عند الحاجة إليها من غير إجهاد أو تعمل؛ وعند المناظرة يفحم الخصوم, بكثرة ما يحفظ ويحضور ما يحفظ فى ساعة الجدالء مما لا يقوى عليه الخصوم, ولا يستطيعون الرد إلا بعد طول الإمعان والتظر والمراجعة.

وقد قال أحد تلاميذه أبى حفص البزار: «كان ابن تيمية إذا شرع فى الدرس يفتح الله عليه أسرار العلوم وغوامض وإطائف ودقائق وفنون ونقول العلماء... واستشهاداً يتشعار العرب وهى مع ذلك يجرى كما يجرى التيار ويفيض كما يفيض البحر».

وجاء فى وصفه أيضاً عند ما يسأل ويناقش: «قل أن وقعت واقعة وسثل عنها إلا وأجاب فيها بديهة بما بهر واشتهرء وصار ذلك الجواب كالمصنف الذى يحتاج فيه غيره إلى زمان طويل: ومطالعة كتبء وربما لا يقدر مع ذلك على إيراد مثله:(").

والبديهة الحاضرة بالنسبة للخطيب والمناظر كأدوات الحرب السريعة للمقاتل. وتصيب المقائل وتقطع مفاصل القولء وتربك الخصم: فيبده بما لا يتوقع ما يطلب فيه الجواب, وليس عنده ذلك السلاح فيتردىء أى يخرج من الميدان مهزوماً مدحوراً.

)١(‏ ص ١5١50‏ من المجموعة التى طبعها الكردى. (؟) ص ١١4‏ من المجموعة التى طبعها الكردى. عم

ولهذه الصفة كان خصوم ابن تيمية يتهيبون لقاءه, ومن لا يعرفها فيه» ويغتر بحجته إذا لقيه كان عبرة المعتبرين: فيلقمه العالم الجليل الحجة: وما انتصر عليه أحد فى ميدان القول؛ وما وصلوا إلى ما وصلو) إليه من محنة فى مصرء أو فى الشام فى آخر حياته إلا بالتدبير ليلا والاجتهاد فى ألا يسمع قوله, ولى سمع قوله ما استطاعوا له كيداً.

-٠‏ والصفة الرابعة: الاستقلال الفكرى؛ ولعل هذه الصفة هى أبرن الصفات فى تكوين علمه وشخصيته العلمية التى جعلت له مزايا خاصة ليست فى غيره من العلماء الذين عاصروهء فقد كان فى كثيرين منهم فضل من الذكاء والحافظة الواعية؛ ولكن لم يكن منهم من له ذلك الاستقلال الفكرى: يدرس كتاب الله وسنة رسوله؛ وأثار السلف الصالح فى أى أمر يعرض له. أى يسال عنه. فما يصل إليه يعتنقه ويدعى إليه؛ لا يهمه أخالفه الناس أم وافقواء فهى ليس تابعاً لما يجرى على ألسنة علماء العصرء وما يعتنقه الناس؛ بل هو عبد للدليل وحده يسير وراعه؛ ليس سيقة يسوقه الناس إلى الآراء» بل هو سيقة للدليل وحده؛ أدثه دراساته إلى أن الاستغاثة بالنبى له ليس لها دليل من الشرع فأعلنها من غير مواربة» وقد أغضب فى هذا السبيل من أغضب من كثيرين: كان يرجى أن يكونوا له أنصاراً» وهى فى كل ما يصل إليه مستقل لا هادى له إلا كتاب الله وسنة رسوله وأثار السلف الصالح من الصحابة وكيار التابعين,

وقد قال فى بيان استقلاله الفكرى أبو حفص المذكور آنفا أحد تلاميذه: «كان إذا وضح له الحق يعض عليه بالنواجذء والله ما رأيت أحداً أشد تعظيماً لرسول الله عله ولا أحرص على اتباعه ونصر ما جاء به- منه. كان إذا أورد شيئاً من حديثه فى مسألة ويرى أنه لم ينسخه شئ غيره من حديث يعمل ويقضى ويقتى بمقتضاه. ولا يلتفت إلى قول غيره من المخلوقين كائناً من كان وإذا نظر المنصف إليه بعين العدل يراه واقفاً مع الكتاب والسنة لا يميله عنهما قول أحد كائناً من كان, ولا يرقب فى الأخذ بمعلومهما أحداً» ولا يخاف فى ذلك أميراً» ولا سلطاناً ولا سيفاً ولا يرجع عنهما لقول أحدء وهى متمسك بالعروة الوثقى»('),

إن هذه الصفة هى التى جعلته يجدد أمر هذا الدين: ذلك لأن غيره كان يفهم الأمور بعقل غيرهء أو مأخوذا بذلك العقلء أما ذلك المجدد العظيمء فقد كان ينظر إلى الدين غير متاثر بتفكير أحد إلا بالكتاب والسنة وآثار الصحابة وبعض التابعين. وبذلك جدد أمر الإسلام: بأن أزال ما علق به من غبار القرون؛ ورده إلى أصله جديداً قشيباً.

)١(‏ ص76 من المجموعة التى طبعها الكردى. وم

-١‏ الصفة الخامسة: الإخلاص فى طلب الحق؛ والطهارة من أدران الهوى والغرض فى طلب الدين وكشفه للناس, والإخلاص يقذف فى قلب المخلص بثور الحقيقة ويجعله يدرك الأمور إدراكا مستقيما لا عوج فيه ولا شئ يضلل العقل؛ ويجعله يعوج عن طريق الهداية أكثر من الفرض والهوىء والتواء المقصد فإن ذلك يجعل العقل يلتوى فلا يدرك؛ ويجعل الفكر مدرنا فلا ينفذ إلى الحقيقة, وفى الحكمة المشرقية أن الاتجاه المستقيم المخلص يجعل الفكر مستقيماء والعمل مستقيماء والقول مستقيما.

وقد آتى الله ابن تيمية أكبر حظ من الإخلاص: فقد أخلص لله فى طلب الحقيقة فأدركهاء وأخلص فى نصرة الحق فى هذا الدين فلم يقبضه إليه حتى ترك دوياً فى عصره. وتناقلته الأجيال من بعده, وكل من يقرؤه يلمس نور الحقيقة ساطعاً مما يقرأء وأشرق الإخلاص منيراً للقارئ: يتأثر القارئ بما يقرأ لأنه يجد حرارة الإيمان بينة قوية لا تحتاج إلى كشف» ,

وقد تجلى إخلاصه فى أمور أربعة أظلت حياته كلهاء فما كان يخلى منها دور من أدوار حياثه, مما جعلنا نؤمن بأن هذا العالم الجليل عاش دهره كله مخلصاً لله العلى العليم, ولدينه الكريم.

(أولها) أنه كان يجابه العلماء بما يوحيه فكره» يعلنه بين الناس بعد طول الفحص والدراسة؛ وخصوصاً ما يكون مخالفا لما جرى عليه مألوف الناس؛ وما عرف بينهم, فإذا أدركه وعلم وجه الحق فيه جهر به؛ لا يهمه رضى الناس أو سخطوا لأنه لا يرجى إلا ما عند الله. وإذا دعى إلى المناظرة لم يجمجم ولم يتلكاء لا يدهن فى القول لأحد؛ ولا يحاول إرضاء

أحد.

(الأمر الثانى) الذى كان يظهر فيه إخلاصه وتفانيه فى الحق؛ جهاده فى سبيله ولى

بالسيف إن كان خصمه يحمل سيفاً. كما حمل السيف مع التتار, أو لا يمكن قمعه إلا

بالسيف كما فعل مع النصيرية وغيرهم من سكان الجبال بالشام؛ وإقد كان يتحمل البلاء

والتضييق على حريته فى سبيل إعلان رأيه» وإن سكت مرة لا يسكت أخرى؛ طلب إليه أن

يسكت فلا يفتى فى مسائل الطلاق؛ وقد وصل إلى نتائج تخالف ما كان عليه الأئمة أصحاب

المذاهب الأربعة؛ فوعد بالسكوت؛ ولكن سرعان ما ألقى إلى السلطان عهده. لأنه رأى أن 241

السكوت سكوت عن أمر يخالف الدينء فثرك عهد السلطان ليوفى بعهد الله وميثاقه الذى أخذه على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه, وقد مات رضى الله عنه سجيئاً لإخلاصه الذى دفعه إلى المجاهرة بالحق» وسجل بهذا ابتعاده عن الغرض والهوى فى آرائه.

(الأمر الثالث) الذى بدا فيه إخلاص» وتبرؤه من الأغراض والهوى والمصاسدة

والمباغضة هو عفوه عمن يسيئون إليه وما داموا مخلصين طلاب حقء وإن أخطئوا؛ فهو يعفى عن.العلماء الذين سجنوه فى جب القلعة, ويعفى عن العلماء الذين ألقوا به فى سجن الإسكندرية؛ وقد مكنه السلطان الناصر من رقايهم فما قال إلا خيراً؛ وأخيراً يعقو عمن بالغوا فى التضييق عليه. حتى حرموه من خواطره يسجلها؛ ومن كتبه يقرؤهاء ويقول مقالة المخلص العظيم «أحطللت كل مسلم من إيذائه لى» بل إنه يلتمس ا معذرة للسلطان النامدر فى إيذائه. إنه الإخلاص الذى علا على كل غرض: والنفس النزهة العفيقة التى علت على كل إيذاءء فرضى الله عنه.

(الأمرالرابع) الذى بدا فيه إخلاصه؛ وزهده عن المناصب وكل زخرف الدنيا وزينتها؛ فلم يطلب منصباً؛ ولم يتول منصباً» ولم ينازع أحداً فى رياسة؛ بل كان المدرس الواعظ الباحث فقط من غير أن يكون له أمر من أمور الدولة التى يتنافس فيها المتنافسونء وإذلك عاش فقيراً؛ وكان يكتفى من الطعام بالقليل» ومن الثياب بما يستر العورة مع التجمل من غير طلب للثمين: وكان يتصدق بأكثر رزقه الذى يجرى عليه, كشان الملماء المنصرفين للدرس والفحصء كما يظهرء ولا يبقى لنفسه إلا القليل الذى يحفظ قوام الحياة.

ولقد كان إخلاصه واتصاله بالله واعتماده عليه هى السبب فى نجاته من كثير مما كان يدبر له؛ ولقد قال فى ذلك الذهبى «وكم من نوبة قد رموه فيها عن قوس وأحدة, فينجيه الله تعالى؛ فإنه دائم الابتهال كثير الاستفاثة قوى التوكل» ثابت الجأشء له أوراد وأذكار يديمها».

هذا إخلاص ابن تيمية لاشك فيه. ولا امتراء لأن حياته كلها كانت بلاء وفداء للحق ودعوة إليه؛ ولكن وجدنا كثاباً فى القرن التاسع الهجرى بتكلمون فى إخلاصه ويرنقوثه بأنه كان يميل إلى العجب والخيلاء, فقد نسب إلى السيوطى أنه قال فيه «واحذر الكبر والعجب بعلمك: فياسعادتك إن نجوت منه كفافاً لا عليك ولا لك» قوالله ما رمقت عينى أوسع علماً» ولا

ال

أقوى ذكاءء من رجل يقال له ابن تيمية مع الزهدة فى المأكل والملبس والنساءء ومع القيام فى الحق والجهاد بكل ممكنء وقد تعبت فى رزيته وفتنته, حتى مللت فى سنين متطاولة» فما وجدت قد آخره فى أهل مصر الشام ومقته فى نفوسهم, وازدروا به وكششروه إلا بالكير والعجبء وفرط الغرام فى رياسة المشيخة والازدراء بالكيار, فانظر كيف كان ويال الدعاوى ومحبة الظهور. ونسآل الله المسامحة فقد قام عليه ناس ليسوا بأروع منه ولا أعلم عنه ولا أزهد منه. بل يتجاوزون عن ذنوب أصحابهم وآثام أصدقائهم: وها سلطهم الله عليه بقواهم أ جلالتهم؛ بل بذنوبه, وما دفع الله عنه وعن أتباعه آكثر وما جرى عليهم إلا بعض ما يستحقون فلا تكن فى ريب من ذلك».

هذا كلام منسوب إلى السيوطى وسواء أصحت النسبة إليه أم لم تصح كما هو الظاهرأ') فإن الناس تكلموا فى إخلاصه فى طلب الحق والعلم ورموه بالعجب ومحبة الرياسة على كبار المشايخ بالغلب عليهم فى ميدان الجدل والمناظرة: وهى رياسة أدبية يبغيها من يريدون علوا فى الأرضء ولا يبغون منصبا يتصل بالحكام.

وإن هذا اتهام ليس له أساس من وقائع التاريخ, ولا من حياة ذلك الرجل العالم؛ فما ظهر عليه عجب ولا كبرء بل كان المتواضع القريب من الناس الدائى إليهم؛ الموطا الكتف لمعاشريه؛ حتى إنه ليقول فيه بعض معاشريه إنه لم يشعر بالعزة إلا فى ضيافته؛ إنما منشأ ذلك الاتهام الكاذب قدرته وبيانه. وقهره للمجادلين؛ وشنه الغارات البيائية عليهم؛ ومجزهم المطلق عن أن يردو! بمثل بيانه أو قريب منه؛ فرموه بالعجبء وكذلك يرمى كل بليغ فصيح متكلم يقهر مجادليه, وينقض عليهم حججهم من أطرافها. فلا يجدون رمية يغضون بها من قدره ويسترون بها عجزهم إلا عجبه وتواضعهم كأنهم ما أسكنهم إلا التواضع؛ وما أنطقه إلا العجب, فهم ممدوحون فى صمتهم؛ وهو مذموم فى حججه. وتلك تعلة العاجزين؛ يغضون )١(‏ هذا الكلام وجدناه منسوياً للسيوطي فى هامش الكواكب الدرية ونحن نشك فى هذه النسبة. لأنه يقول إنه ما رمقت عينه وأنه تعب معه وذلك يدل على المعاصرة: وذلك غير صحيع: لأن ابن تيمية مات فى أول الربع الثاتى من القرن الثامن, والسيوطى مات فى أول القرن العاشر 1١١‏ فبينهما نحو قرنين من الزمن, فإما أن يكون هذا الكلام باطل النسبة برمته وإما أن يكون قد نقله السيوطى عمن عاصر ابن تيمية؛ ولم يذكر صاحبه؛ والكلام فى الحالين من حيث المعنى غير صحيم: فما كان فى ابن تيمية عجبعلا شبه عجب.. والله أعلم.

م2

بها من قدر القائلين؛ فقد كان فى الحق مخلصاً بريئا وقد وصل إلى أعلى التقدير وكان يمكنه الاحتفاظ به لو سكت, وانال رضا الجميع: ولكنه أثر رضا الخالق: وام يهتم برضا المخلوق: ولاقى الأذىء والرهى بالإلحاد والزندقة, وهو المؤمن الصايرء والقادر الشاكرء وهذا أقصى هراتب الإخلاص ودرجاته.

- الصفة السادسة: فصاحته وقدرته البيانية: فقد كان رحمه الله خطييا مصقعا تهتز له أعواد المنابرء وجمع له الله سبحانه وتعالى بين فصاحة اللسان وفصاحة القلم؛ فكان مع قدرته الخطابية كاتبا تجرى الحقائق على شباة بنائه, كما تجرى الألفاظ الجلية البينة على لسانه؛ بما يعجن غيره عن كتابة مثله بالتروية والإمعان أياما.

ويظهر أن هذه الفصاحة وراثية فى أسرته فقد كان أبوه متكلما مجيداً» وكان من أجداده الخطباء وتولى أحدهم الخطبة فى جامع بغداد, وقد قوى نلك القدرة الييانية فى تقى الدين كثرة ترديده وقراعته وحفظه للسنة النبوية بعد حفظ كتاب الله سبحانه؛ فإن ذلك أمده بطائفة كبيرة من الألفاظ الجيدة المنتقاة, فوق أن كثرة المعارك البيانية. أرهفت قواه وعودته القول الارتجالى به والانتصار بالحجة من غير تحضير وتهيئة: فإنه حفظ كل شئّ قبل أن يتكلم أي يجادل أو يناظر,

-١١‏ الصفة السابعة: الشجاعة:؛ ومعها صفتان أخريان من جنسهاء وهما الصبر وقوة الاحتمال» والشجاعة بعد استقلال الفكر أوضح ما تميز به ابن تيمية عن علماء عصرهء فقد عهد الناس فى عصره العلماء عاكفين على القراءة قد أندلتهم المقاعدء تراخث عليها عضلاتهم ومفاصلهمء يرون قوة العالم كلها فى فكره ورأسه فهو من الأمة رأسها لا عضلاتها ولا قوتها البدنية» إنما قوتها البدنية للجند فهم الذين يغضيون لهاء ولعل ذلك أتى إليهم من الفلسفة الهندية وديانة الهنودء إذ كانوا يرون قوة الأمة من الجند وأنهم خلقوا من سواعد براهما فى زعمهمء والبراهمة أى العلماء كانوا من رأسه فى زعمهم.

هذا ها كان عليه علماء المسلمين فى عصر ابن تيمية, وأذلك لما بلغهم أن التتار قد

أغارت عليهم بركبها ورجلهاء وقضها وقضيضهاء فروا هاريين إلى مصر مع من فروا أما

ابن تيمية فقد كان فى هذا طرازا وحده؛ رأى أن العلم والجندية ليسا متباينين,

ولامتضاريين: فالعالم جندى عندما تشتد الشديدة, وسياسى عندما تدبر المكيدة, والجندى

عالم عندما تقرر الأمور, ولعل ذلك كان من اقتدائه بالسلف الصالح وفتاء فكره فى المأثور عنهم؛ فقد وجد على ابن أبى طالب الذى كان باب مدينة العلم؛ وأقضى المسلمين هو أيضاً فارسهم وهو الذى ما بارزه أحد إلا قتله. فهى العالم العابد الزاهد الناسكء وهى الذى كان يخرج من ميدان القتال وسيفه بقطر دما.

لهذه القدوة الحسنة عندما أغار الثتار لبث ابن تيمية فى المدينة يرتب أمورها ويسوسها؛ بعد أن فر ساستها ومديروهاء وذهب إلى قازان ققائد التتار يناقشه ويجادله؛ ثم مكث يشبت روح الأهلين» حتى انجلى التتار عنهم؛ ثم لما عادوا ذهب واستحث جند مصر الذى هم بالتراجع وما زال بقادته حتى أتوا الشام ليلقوا الثثار وما كانوا يفعلون؛ ولا وقعت الواقعة كان فى موقف اموت الفارس المعلم الذى يتقدم شجاعاً» فلا يدرى أيقع على اموت أم يقع الموت عليه. حتى إذا تحطمت صخرة التتار فعادوا مدحورين؛ قاد هو وحده كتيبة وذهب إلى الشيعة فى الجبل حتى أخضعهاء وحملهم على دفع الزكاة والعشور صاغرين؛ بعد أن تاب من تاب منهم,

هذه شجاعة ابن تيمية فى الميدان» وقد علت على شجاعة القواد الذين قضو) حياتهم فى الفروسية والسيفء لأن شجاعتهم كانت من القثال والنصرء وشجاعته كانت من قلبه وديتنه.

أما شجاعته الأدبية فقد كانت سبب بلائه وقد أحسن البلاء؛ قال مقالة الحق الذى يعتقده وما وهن ولا استضعف وخاصمه العلماء والكبراء فما ترد ولا أحجم وحرضوا العامة عليه فما امتنع عن قول الحق فى نظره؛ وإن حياته كلها جهاد فى هذا السبيلء ولا انضم الأمراء والسلطان إلى المخالفين له تحمل البلاء من الجميع: ولا نفيض فى القول فى شجاعته الأدبية فإن كل صفحة من حياته تنطق بهاء وتكشف عن قوة نفس ذلك العالم: وعلوه على معاصريه فى إرادته وهمته: كما علا عذهم فى فكره وحجته.

وكان مع هذه الشجاعة صبوراً» ويصير عند الصدمة الأولى فلا يضطربء وقد قال عليه الصلاة والسلام: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى». وكان قوى الاحتمال جلداً فى جسمه وقلبه وعقله, فكان متين البتيان فى جسمه: وكان كبير القلب يتسع قلبه للمكروه من غير أن يجزع عنده؛ وكان كبير العقل يرد الدليل بالدليل؛ فإن لم يصغ المعاند أفحمه. كل دور. من أدوار حياته يعلن صبره وقوة احتماله فقد كان دءويا على العمل لا يكل ولا يعل,

5

يسجن قيكتب ويؤلف» كأنه لا يحب أن يترك ساعة من حياته من غير عملء لأنه محاسب على هذه الساعة فيم قضاهاء وترهق نفسه بمنعه من كتبه؛ وتبعد المصبرة والقلم والقرطاس فيستعين بالكتابة بالفحم؛ ولا ينى عن التفكير والتدوين» حتى فى هذا الضيق: فإن أعوزه الورق والفحم أخذ يتلو كتاب الله فاهما متفهماء متخشعاً متقرباً» ولم يقعد عن العمل بل حتى مع المرض فكان يتلو القرآن حتى وصل إلى قوله تعالى: «إن المتقين فى جنات ونهر* فى مقعد صدق عند مليك مقتدر» فكانت آخر ما نطق به رضى الله عنه وأرضاه.

6 والصفة الثامنة: قوة الفراسة, فقد كان لقوة عقله ونفان بصيرته وحدة مداركه مع قوة الإحساس ينفذ نظره إلى قرارت النفوس فيدركهاء وإلى بواطن الأمور فيكشفهاء فكان الالمعى يظن الظن كأنه قد رأى وسمعء وبدت فراسته واضحة فى كل أمر تولاه؛ رأى التتار وحالهم ففهم بذكاء نفسه أنهم تضعضعواء ولم يكونوا عند غزوهم الشام كما بدءوا بل أترقت نفوسهمء فذهب بأسهم؛ ولكن ماضيهم يرعب من يغزونهم فيهزمون بالرعب, لا بفرط القوة, رأى العبقرى ذلك فكان يقسم الأيمان المغلظة بأن جند مصصر والشام لا محالة منتصرونء فإذا قال له الأمير» قل إن شاء الله قال أقولها متحققاً لا معلقاً, وهذا يدل على قوة فراسته ونفاذ يصيرته.

ورأى رجلا فى زى طلاب العلم يسير فى طرق دمشق كالحائر, لأنه لم يكن معه ما ينفق. فناداه ابن تيمية ووضع فى يده دراهمء وقال: أنفق منها وأخل خاطرك. وما تحدث الشاب بحاجته. ولكنها فراسة المؤمن؛ وكرمه.

وإن الذين يتولون إصلاح الجماهير يجب أن يكون لهم من قوة الفراسة ونفاذ البصيرة ما يمكنهم من أن يدركوا خلجات القلوب من العيون وحركات النفوس من غضون الوجوه؛ ليستطيعوا أن يخاطبوا الوجدان؛ ويصيبوا المشاعر بما يريدونء كذلك آتاه الله هذا الحظ من الإدراك الروحىء والإحساس النفسى: ولذلك ما خاطب جماعة إلا استرعى انتباههاء وأصاب مشاعرها بما يقول إلا من ركب العناد رأسه, وجمع به شماس نفسه: فإنه منافذ الإدراك عنده تسدء فإن لم يصل القول الحق إليه فإن ذلك يكون من نقص فيه لا من نقص فى القائل.

6- وإن الحق يوجب علينا وتحن نذكر صفاته ألا نقتصر على محاسنها بل نذكر

1

مع الحسن غيرهء وذحن إن تلمسنا له صفة غير محمودة لم ييرز لنا من بين سجاياه شئ إلا صفة واحدة وهى الحدة فى القول, والشدة فيه, حتى إنه ليوجع أحياناً, فيكره الناس الشفاء لألم الدواء بل إن تلك الحدة كانت تخرج به من نطاق الحجة القوية والنقد اللاذع إلى الطعن أحياناً, انظر إلى قوله فى ابن الإخنائى قاضى المالكية فإنه لما بلغه أنه رد عليه فى مسالة زيارة القبور» استجهله. وقال إنه قليل البضاعة فى العلم. ويصح أن يكون الواقع كذلك. واكن الداعى المرشد أعلى من أن يذكر ذلك فى خصمه. كثيراً ما كان يصف مخالفيه بأنهم مبتدعونء نعم إن الدليل الذى يسوقه قد ينتج ذلك: ولكن ما كنا نحب أن يصرح يالنتيجة إذا كانت هن ألفاظ السب, بل يترك المقدمات تنتجهاء وهى هطوية فيها وبينة منها.

وقد يكون الجدل هو الذى يؤدى إلى هذه الحدة: فإن كل مجادلة منازلة: وفى النزال يحتدم القولء فتكون الحدة فى التعبيرء وقد يغض ذلك من قيمة الحق فى ذاته؛ ولذلك كان الإمام مالك ينهى عن الجدلمحتى مع أهل الجدلء ويقول لمبين السنة لهم: قل السنة واسكت, وكان يقول «كلما جاء رجل أجدل من رجل نقص مما جاء به محمد».

ولكن ما كان فى استطاعة ابن تيمية أن يتخلى عن المناظرة: لأنه الختلف مع علماء عصره فى أى الطريقين السنة, فهم يقولون أن ما هم عليه هى السنة وهى اتباع: وما يقول أبن تيمية ابتداع؛ وهى يرميهم بما يرمونه به؛ فلابد إذن من المناظرة لتمحص الحقائق وليحكم النظارة أى الفريقين أهدى سبيلاء وأقرب رحماً بالسنة؛ ومع المناظرة الجدال وحدة القرل,

ولقد أجمع الذين عاصروا ابن تيمية على أنه حاد فى قوله, وقد نقلنا لك من قبل قول الذهبى فيه: «تعتريه حدة فى البحث وغضب وصدمة للخصوم تزرع له عداوة فى النقوس: ولولا ذلك لكان كلمة أجماع؛ فإن كبارهم خاضعون لعلومه معترفون بأنه بحر لا ساحل له وكنز ليس له نظيرء ولكن ينقمون عليه أخلاقا وأفعالا. وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك»,

هذه هى كلمة الذهبى. وهى تسجل أنه كانت تعتثريه حدة وصدمة للخصوم: أما الحدة فقد أشرنا إليهاء وأما الصدمة الخصوم فهى لأنه كان رضى الله عنه إذا علم السنة أعلنها فى قوة وعنفء غير ملتفت إلى المخالفين. وما هم عليه وكأنه كان الأولى به أن يتدرج معهم فيما يأتى به, قلا يصدمهمء وإن التدرج سنة فطرية تجعل ما يتلقى بالرفض أولا قد يتلقى بالقبول آخراً. إن سلك به سنة التدرج وقد يكون لذلك القول موضعه من الحق. 3

ولكن الذهبى ينسب الخلاف عليه إلى حدته وصدمته لهم؛ والحق أنه ما أتى أحد بمثل ما أتى به ابن تيمية فى عصره إلا اشتد عليه الخلافء فما كانت الحدة سبب الخلاف: بل الآراء نفسها فى مثل هذا العصر مبعث الخلاف لأن الناس قد ألفوا مذاهب وأفكارا على أنها السنة واشتدوا فى التمسك بهاء فجاء ابن تيمية يذكر لهم أن السنة غيرهاء فلايد أن تصطدم الفكرتان لأن الناس لا يغيرون العقائد الدينية باليسر الذى يغيرون به الآراء العلمية المجردة؛ وما كان الذى قاله آراء علمية مجردة بل هى لها صلة بالعقيدة الإسلامية؛ فلابد أن يكون اختلاف؛ واكن الحدة فى القول تزيد الخلاف أواراً وتسهل الرمى بالكفر والفسوق والعصيان, والتنابز بالأثقاب؛ وذلك ما أدت إليه الحدة من الفريقين؛ وإذا كان خصوم ابن تيمية دونه قدرا وعلما وتبعة, فإنه يكون الملام على الحدة بقدره؛ وعلى حسب منزلته؛ والمهمة التى وقف نفسه عليها.

-١‏ هيبته: ولقد أتى الله تقى الدين بن تيمية هيبة شخصية تروع من يلقاه؛ وتجعله يحس بأنه فى حضرة رجل عظيم. ولعل هذه الهيبة هى التى جنبته أذى العامة مع شدة المحرضين: وقد يحس فى ذات نفسه بخطر شأنه؛ ولذلك لما جرق مأفون أحمق وناله بيده لم يمتئع عن درسه ونا أراد بعض أنصاره أن يحوطوه ليكف الأذى بمثله ردهم؛ وذهب متقرداً فما ثال أحد هنه شيئاً؛ ولقد كان يحس بهيبته مخالفوه من العلماء؛ فكانوا إذا أرادوا أمراً دبروه بليلء وبيتوه, ثم لم يلقوه بل يشكونه؛ ليتقوا لقاءه؛ وإن أصر السلطان أو من له الأمر على أن يلتقى بهم ويجادلوه فإن النتيجة ألا ينالوا منه شيئاً لقوة حجته؛ ولهيبته أيضاً.

ولقد كان إذا لقى السلطان لقيه ثابت الجئش قوى الجنان» وإذا خاطبه فى أمر كان قويا فى خطابه. شديداً فى جوابه. والسلطان لا يتردد فى إجابته؛ ومدم مخالفتهة ما يدعوه إليه؛ وما وافق السلطان على ما نزل به إلا وهى فى غير حضرته؛ فقد كان في .صر وابن تيمية فى الشام؛ والغائب فى عذر فيما يبلغه من الأخبار» ما أصدره؛ وهى لم يلاق وقت الإصدار ذلك العالم الجليل الذى كان لسانه ينطق بالحكمة: وقلبه يفيض بالإخلاص؛ وشخصه الرائع يلقى الهيبة فى النفوس. وإن الشيخ رضى الله عنه ليلتقى بقازان ملك التتار وقائدها؛ فيقول كل ما يريد؛ ومع أن المشافهة المباشرة بينهما عسيرة بل هى متعذرة لأن لغة ابن تيمية غير لغته- وتوسط الترجمان بينهما- نجد أن قازان يحس بهيبته وقوة تفسه, فيقول لحاشيته إنى لم أر مثله ولا أثبت قلبا منه ولا أوقع من حديثه فى قلبىء ولا رأيتنى أعظم انقياداً لأحد مثه.

١

والهيبة الشخصية منحة من الله سيحانه يمنحها لبعض خلقه فيكون فى الشخص قوة روح وقوة شخص. وتنبعث منه قدرة على التأثير فى نفوس سامعيه. ويكون لكلامه روعة ولنظراته نفاذ إ'ى النفسء وقد يفقد الشخص حريته بين يديه من غير سلطان قاهرء ولا قوة مادية مجبرة ملزمة: بل الإلزام ينيعث من النفس؛ وقد آتى الله ابن تيمية تلك القوة الروحية؛ وتد يكون من أسبابها صفاته التى ذكرناها؛ ومقدرته التى بيناها؛ ولكن ليست هذه الصفات وحدها مكونة لها؛ بل لابد من العطاء الإلهى؛ والمنحة الريانية» وإن قادة الأفكار الذين يوجهون الناس توجيها فكرياً يكونون ممن آتاهم الله تلك الموهبة؛ قيسيرون بها التاس طائعين مأخوذين بروعة القائ, مشدوهين بعظمة نفسهء فيلقون معه الحتوف راضصين؛ ولله فى

؟- من تلقى عليهم العلم

- لم يكن التلقى فى عصر ابن تيمية من أفواه الرجال فقط كما كان الشأن فى عصر أبى حنيفة ومالك؛ بل كان تلقى العلم, كما هى فى عصر تدوين العلم من تاحيتين: من الرجال يوجهون ويلقنون: ويتخرج العالم عليهم؛ ومن الكتب يدرسها ويقحصها وينقب فيها؛ ومن مجموع ما يتغذى مما يتناوله من شيوخه؛ وما يستخرجه من بطون الكتب تتكون المادة العلمية التى يبنى عليهاء ويستنبط منهاء ويزيد عليها؛ وقد يأتى بلون آخر من ألوان الفكرء مادته الأولى فيما درس.

وقد تهيأ لابن تيمية مدرسة علمية فى صدر حياته على أكمل مثالء وكان أول موجه له أبوه, فقد كان عالماً جليلا له كرسى فى المسجد الجامع بدمشق؛ وله مشيخة الحديث فى بعض مدارسه. فنشا فى معدن العلم؛ ووجد الموجه الذى يلازمه, وهى أشفق الذاس به وأحناهم, استمر ملازماً لأبيه إلى أن بلغ الحادية والعشرين حيث توفى ذلك الموجه الكريم؛ وفى أثناء تلك الملازمة الثتى جمعت أقوى قراية» وصلة الروح والفكر كان يتصل بالعلماء» ويتلقى عن شيخ من شيوخ دمشق أخص ما امتاز به. وأقد جاء فى كتاب العقود الدرية ما نصه: «شيوخه الذين سمع منهم أكثر من مائتين» وسمع مسئد الإمام أحمد عدة مرات» وسمع الكتب الستة الكبار والأجزاء. ومن مسموعاته معجم الطبرانى» وهكذا سمع كتب الستة التى كانت معروفة فى عصره من شيوخ الحديث: وجاء فى كتاب الكواكب الدرية «لقد سمع

4

غير كتاب على غير شيخ من ذوى الروايات الصحيحة العالية أما دواوين الإسلام الكبار كمستد الإمام أحمد: وصصيح البخارى ومسلم وجامع الثرمذىء وستن أبى داوود السجستانى: والنسائى؛ وابن ماجه. والدارقطنى فإنه سمع كلا منها مرات عدة» وأول كتاب حفظه فى الحديث الجمع بين الصحيحين للإمام الحميدى.

وطلب بنفسه قراءة وسماعا من خلق كثيرء وشيوخه الذين سمع منهم أكثر من مائتى

6- تلقى على الرجال مالا يؤخذ بالسماع؛ وهى الحديث؛ ليسند روايته إلى من قرأ عليه؛ وتلقى قبل ذلك أوائل العلوم على شيوخ تخصصوا فيهاء ودربوا عليهاء فعلم العربية على شيوخهاء والمنطق على شيوخه؛ والتفسير على شيوخه. والفقه الحنبلى على شيوخه. وهكذا.

وكان مع ذلك يحضر المحافل والمجامع قيستمع إلى مساجلات العلماء, ومجاويات الأدباءومحاضرات ذوى الفكر الثاقب التى كانوا يلقونها فى المساجد الجامعة:؛ أو فى المدارس.

هذا فى المجالسء والمحافل الجامعة؛ أما فى المجتمعات الخاصة فكان بيته لمنزلة أبيه فى العلم» ومكانته بين الققهاء ورياسته لمشيخة الحديث. مجتمعا علميا خاصاً؛ يستمع فيه إلى أدق المسائل النظرية» والحقائق العلمية مدققاً موازنا بين غثها وسمينها ضعيفها وقويها بعقل ذكى أريب» وقلب فتى مجيب, يردد ما يسمعه ويمحصه.

ولذلك كان يستفيد من كل العلماء الذين كانوا بمدينة دمشق؛ أو يفدون إليها؛ أو يمرون عليهاء ويغشى مجالسهم مستمعاً مستفيداً مميزاً. غير هاضم إلا ما يستسيغه العقل ويوافق الأثر,

- حتى إذا شدا فى العلوم؛ وتكون له محصولء اتجه إلى الطلب بنفسه فتلقى عن شيوخ لم يلقهم: وعلماء تباينت أقاليمهم؛ واختلفت مناحى تفكيرهم؛ فأخذ يدرس بنفسه فى الكتب» ويتلقى علم الأولينء متعمقا فى كل علم, ابتدأ بعد السنة بالتفسيرء أخذ يجمع أشتاته؛ ويدرس القرآن على ضوء ما أثر من تفسير له؛ ولا يقبل إلا ما يستقيم عليه إدراكه المستقيم؛ وكان معنياً بجمع أقوال المنسرين الذين يتمسكون بما يقرر السلفء وقد جاء فى

86

الكواكب الدرية «ومن ذلك ما جمعه فى التفسير وما جمعه من أقوال مفسرى السلف الذين يذكرون الأسانيد فى كتبهم؛ وذلك أكثر من ثلاثين مجلداً؛ وقد بيض أصحابه بعض ذلك وكثير منه لم يكتبوه؛ ولى كتب كله لبلغ خمسين مجلدا؛ وكان رحمه الله يقول: ريما طالعث على الآية الواحدة نحو مائة تفسيرء ثم أسال الله تعالى الفهم, وأقول يا معلم إيراهيم علمنى, وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوهاء وأمرغ وجهى فى التراب» وأقول يا معلم ايراهيم

وهذا الكلام يدل على أمرين (أولهما) أنه يعد أن تلقى السنة عن شيوخها سماعاء وكان قد حفظ القرأآن فى صغره. كما هو الشأن فى تريية أطفال المسلمين منذ أقدم العصورء اتجه إلى دراسة القرآن وفهمه؛ وتعرف أسراره ومراميه ومعانيه.

(الأمر الثانى) أنه قى سبيل فهم القرآن قرأ كل تفسير عثر عليه؛ حتى يهتدى إلى معانى القرآن» وبذلك تلقى علم التفسير على شيوخ المقسرين وأئمته. وتخرج عليهم فيما دونوه وكتبوهء وأورثوه الأخلاف.

ويظهر أنه بسبب دراسته للسنة كلها سماعا ما كان يعجب إلا بالتفسير السلفى؛ واذلك جمع مفسرى السلف فى مجلدات ضخام؛ بيض أصحابه بعضهاء ولم يبيضوا كثيراً منها؛ ومجموعها يعطيك صورة عما تلقاه من التفسير الأثرى بالقراءة.

-١‏ وإنه لم يقف عند التفسير والسنة؛ بل تجاوزهما إلى الفقه, فلم يقتصر على ما تلقاه عن أبيه من الفقه الحنبلىء بل أخذ يدرس المذاهب الإسلامية كلها فى كتبها التى دونت فيها؛ وإن بعض الكتب الحنبلية التى كانت قريبة منه توعز بهذه الدراسة:؛ وتبعث عليهاء فكتاب المغنى الذى ألفه موفق الدين بن قدامة المتوفى سنة "1٠١‏ شرحاً لمختصر الخرقىي, فيه موازنة قيمة جامعة بين المذاهب الأربعة: بل يتجاوزها أحياناً إلى غيرهم من فقهاء المسلمين؛ ولابد أن يكون ذلك الكتاب كان معروفا مقروءا فى دمشق فى عهد ابن تيمية لقرب العهد من المؤلف من جهة: ولنزلة آل قدامة فى دمشق من جهة ثانية» فقد أنشئوا مدرسة بهاء وكان يلقى فيها الفقه الحنبلى والحديث.

وإنه وقد تلقاه؛ لابد أن يؤثر فيه من ناحيتين:

(إحداهما) دراسة فقه السلف دراسة عميقة؛ فإن ذلك الكتاب الجليل تجلى فيه آراء

1

فقهاء الصحابة» وآراء فقهاء التابعين, وما أخذه كل إمام من الآئمة منهاء فلابد أن يكون طالب فقه السلف المشغوف به تقى الدين قد تأثر بتلك الطريقة, ثم نماها وزاد عليها وبنى منها بناء فقهيا قائما بذاته؛ وذلك إلى أن المذهب الحثيلى فى ذاته هذهب يعتمد على أقوال الصحابة وأقوال التابعين فضل اعتماد.

(الأمر الثانى) أن ذلك الكتاب القيم أومز إليه أن يدرس فقه الإسلام كله من ينابيعه الأولى» وقد اتجه ذلك الاتجاه, فدرس الفقه الإسلامى غير متقيد بمذهب من المذاهب, وقد دونت المذاهب بادلتهاء وشرحت شرحاً مستفيضاء ونقدت نقداً صحيحاء ولابد أنه قرأ كتب الطحاوى المقارنة وكتب الخصاف. وكتب الحصيرى: وكتب السرخسي: فى المذهب الحنفى, والام وسختصر اللمانى؛ والمذهب للشيرازى والمجموع للنووى, والوجيز للغزالى. وغيرها من الكتب قى المذهب الشافعىء ولابد أنه قرأ ما كتبه ابن رشد الكبير وابن رشد الحفيد فى الفقه المالكى وغيرها من الكتب فى هذا الفقه.وهذه الكتب وغيرها فيها الفقه مبسوط موضح بآدلته, وقيها الاستناد إلى هذاهب الصحابة» وفيها آراء التابعين فاضاف ذلك إلى ما علم من علوم الحديث والآثار,

ثم إنه قرأ ما كتب فى الأصولء وهى موسوعات مبسوطة فى أصول الاستدلال ومنهاج الاستنباط؛ ثم إن احتكاكه بالشيعة غاليهم ومعتدلهم جعله لا محال ينهل من مواردهم؛ وإنك ترى أن إفتاءه فى الطلاق المقترن بالعدد لفظا وإشارة: وجعله باطلا أو جعله واحدة هو من أرائهم: فلابد أنه قرأ كتبهم؛ ولم يمنعه رأيه فى غلاتهم من أن يقبل خير ما عندهم: ويدرسه دراسة الفاحص الباحث.

ثم إنه قد قرا حتما لبحر العلم ابن حزم - المحلى؛ والإحكام فى أصول الأحكام, وفى كتابه العقود ذكر لرأى مخالف في أن الأصل فى كون العقود الإباحة والإلزام بها أم الأصل عدم الإلزام بما يتعاقد عليه العاقدان حتى يقوم الدليل من الشارع على الاعتبار والإلزام وإن الذى حمل لواء الرأى الثاني ابن حزم وقد ذكره ابن تيمية بأدلته, ورد عليه.

وفى الكتابين المحلىء والاصولء آراء الصحابة والتابعين جلية واضحة؛ ولعل جذوة من الحدة التى امتاز بها ابن حزم قد آلت لابن تيمية من قراءته لكتبه, وتأثره إلى حد كبير بأسلويها. 9

7 - تخرج ابن تيمية على تلك الثروة المثرية من أقوال الفقهاء واعتمادهم: وأدلتهم التى يستشهدون بها من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة» ودرسها وناقشها بعقله القوى, وفكره المستقلء وإن كتب المقارنات نفسها فيها مناقشة الأدلة والموازنة بينهاء فدرس ذلك بعقله الفاحص الكاشف الناقد فوافق ما وافق, وخالف ما خالفء وقد يخالقها جميعاً, وينتهى إلى دليله مما درسء وإن لم يذكره سواهء ولقد قال فى ذلك صاحب الكواكب الدرية: (كان له باع طويل فى معرفة مذاهب الصحابة والتابعين» وقل أن يتكلم فى مسألة إلا يذكر فيها أقوال المذاهب الأريعة» وقد خالف الأربعة فى مسائل معروفة, وصنف فيها واحتج لها بالكتابوالسنة».

1 - وقد درس كما قلنا العربية على شيوخهاء وأكنه لم يكتف بما تلقاه شفاها من الشيوثء بل أخذ يبحث وينقب ويوازن: وكأنه متخصص فيها لايعلم سواهاء وكأنه يفحصها ليكون من أثمتهاء يل إنه لم يكتف بأن يدرس فيها ما تضافر عليه النحاة من قواعدء بل أخذ يدرس أصول هذه القواعدء ليعرف عماد استنباطهاء والأساس الذى قامت عليه دعائمهاء حتى ليتأمل كتاب سيبويه. ويفهمه وأصوله ثم يكر عليها بالنقدء يجابه بذلك شيخاً من شيوخ النحاة: وهو أبو حيان النحوى؛ فيغضب أبى حيان من هجومه. واكن يزيل ذلك الغضب الإعجاب بابن تيمية, فيقول: ما رأت عيناى مثله.

4؟١‏ - ولايكتفى بذلك؛ يل إنه ليدرس أصول الدين» فيدرس علم العقائد على شيوخه؛ ثم ينفرد بالقراءة ويدرسء فيقرأ مقالات الإسلاميين والإبانة لأبى الحسن الأشعرى؛ ويقرأ كتب الغزالى التى جمعت بين الفلسقة وعلم الكلام. أو هى علم الكلام المتغذى من الفلسفة والآثار الصحاء. والقرآن الكريم وطرائق السالفين, فياخذ ذلك على الغزالى, ويدرس آراء الفرق المختلفة فى كتب علم الكلام وغيرها؛ فيدرس آراء الجهمية فى إرادة العبد» ومشيئة الرب» ويدرس كلام الأشعرى فى ذلكء وينتهى إلى أنه لافرق بينهماء أى كلاهما قريب من الآخرء ثم يدرس أيضاً آراء العلماء قى صصفة الكلام؛ وفى مشتبه الأوصاف المذكورة فى القرآن: وهى إذا يقرأ يدرس ويمحص ويفحص؛ ولايترك يابا مما له صلة إلا فشحصة ودرسه,

م١‏ - وإنه ليجد كل مثقف إسلامى فى عصره أن عليه أن يدرس بعض الفلسفة: 1 ئ

فيدرس المنطق» وكلام الفلاسفة فى الإآههيات والكوتيات؛ وهى فى ذلك قد اطلع على ثمرات ما وصل إليه فلاسفة المسلمين كابن سينا والقارابى وابن رشد, وقد ظهر ذلك واضدحاً فى جدله ومناقشاته؛ وحكى عنه فى أخباره وسيرته» فقد قال السيوطى ما نصه:

«فإن برعت فى الأصول وتوايعها من المنطق والحكمة والفلسفة وآراء الأوائل ومجاراة العقول واعتصمت مع ذلك بالكتاب والسنة وأصول السلفء وافقت بين العقل والنقلء فما أظنك فى ذلك تبلغ رتبة ابن تيمية: ولا والله تقاريهاء وقد رأيت ما آل إليه أمره من الحط عليه والهجرء والتضليل والتفكير بدق وبباطل».

فهذا الخبر التاريخى الذى جاء فى ضمن نصيحة تبي كيف كان ابن تيمية قارئاً لأقوال الفلاسقة والحكماء؛ وإن كان قد اعتبر هذه القراءة حجة عليه إلا أنه رمى بالكفر, وهجر العلماء.

وأسنا نجد صعوبة فى تعرف أثر ما تلقاه من الفلسفة من كتبه نقسهاء فتراه فى كتاب عرش الرحمن يتكلم فى الأفلاك التى يقولها الفلاسفة مما يدل على معرفته معرفة تامة لعلمهم. فيقول : لفائل أن يقول: لم يثبت بدليل يعتمد عليه أن العرش فلك من الأفلاك المستديرة الكلية الشكل لا بدليل شرعى: ولا دليل عقلى: وإنما ذكره طائفة من المتأخرين الذين نظرو) فى علم الهيئة وغيره من أجزاء الفلسفة: فرأوا أن الأقلاك تسعة وإن التاسع وهو الأطلس محيط بها مستدير كاستدارتهاء وهو الذى يحركها الحركة المشرقية؛ وإن كان لكل فلك حركة تخصه غير هذه الحركة العامة؛ ثم سمعوا فى أخبار الأنبياء ذكر عرش الله: وذكر كرسيه وذكر السموات السبع, فقالوا بطريق الظن إن العرش هو الفلك التاسع»!"",

إن هذا دليل قاطع على أنه قرأ كتب الفلسفة وأحاط بها؛ ولقد ثبت قطعاً أنه قرأ رسائل إخوان الصقا؛ ونقدها فهو يقول فى الرد على النصيرية ما نصه:

«وحقيقة أمرهم (أى النصيرية) أنهم لا يؤمنون بنبى من الأنبياء والمرسلين: ولا بشئ من كتب الله المنزلة, وهم تارة يبنون قولهم على مذاهب المتفلسفة الطبائعيين لا الإلبيينء كما فعل أصحاب رسائل إخوان الصفاء فإنهم تارة يبنونه على قول المتفلسفة وغرض المجوس الذين يعبدون النورء ويضمون إلى ذلك الكفر والرفضء ويحتجون لذلك من كلام النبوات إما (1) رسمالة عرش الرحمن ص ٠١‏ من مجموع رسائل ابن تيمية.

19

بلفظ يكذبون يه... فيحرفون نقطه... ليوافق قول المتفلسفة أتباع أرسطى... وإما بلفظ ثابت عن النبى عله فيحرفونه عن مواضعه, كما يصنع أصحاب رسائل إخوان الصفاء ونحوهم من أثمتهم().

هذا يدل على أنه قرأها وفحصها؛ بل لا شك أنه قرا الكتب التى تعرضت للصلة بين الشريعة والفلسفة, ككتاب فصل المقال لابن رشد.

71- وهكذا نستطيع أن نقرر غير مبالغين أنه قرأ كتب العلوم الإسلامية, وكثب الفلاسفة التى كانت معروفة فى عصره. ويظهر أنه لم يكتف بذلك. بل قرأ كتب النصارى, والأدوار التى مرت عليها عقائد النصارى: دراسة فاحصة؛ وليس شئ أدل على ذلك من كتايه (الجواب الصحيح فيمن بدل دين المسيح) فهى قد رد أقوالهم رد العارف أذهيهم, والمدرك لأدوار عقيدتهم؛ وما كان لمثله أن يحكم على شئ قبل معرفته وتصوره.

وقى الجملة كان يعد نفسه للدفاع بالإسلام فى كل ميادين الهجومء فكان يعد الأسلحة التى يشن يها الغارات على من يتصور منهم الهجوم: وتلك الأسلحة هى علمه بما عليه أولئك المهاجمون.

17- من هذا السياق يتبين أن ابن تيمية تلقى العلم من شيوخه أولاء ثم من الكتب ثانياً» وقد تلقى علم الكتب آكثر مما تلقى من علم الشيوخ؛ فإن الأولين وجهوه فى صدر حياته, ووقفوه؛ واكتفى منهم بعد أن شدا بأن سمع كتب الحديث متهم ليتلقى الإسناد كاملا؛ وليكون أخذه الحديث بالسماع. لا بمجرد القراءة فى الكتب الثى قد يكون فيها تصحيف أو تحريفء فياخذ الحديث محرفاً.

أما العلوم الأخرى فقد اتجه فيها بنفسه؛ شأنه فى ذلك كشأن كل عالم مستقل الفكر والرأى والنظر؛ يقرأ على الرجال القليل: ثم يعتمد على نفسه ودراسته الخاصة وبحثه فى الكثيرء فيكون نقسه؛ ويوجه قلبه وفكره, ولهذا نقول إن من تلقى عليهم من الماضين الذين لم يشافههم أكثر كثرة كبيرة من الشيوخ الحاضرين الذين لقيهم: وشافههم.

ولى أن الوقائع تسعفنا لحاولنا أن نبين فى كل دور من أدوار حياته ما قرأ؛ فنعرف )١(‏ مقدمة رسائل إخوان الصفا لأحمد زكى ياشا رحمه الله.

١

الدور الذى درس فيه العلوم الدينية ما بين تفسير وحديث وفقه وعلم كلام: ثم نعرف الدور الذى درس فيه العلوم العربية دراسة فاحصة ناقدة: ثم الدور الذى درس فيه الفلسفة والحكمة والكونيات» ولكن لا يسعفنا التاريخ بذلك. فلنكتف بأن نقول أنه درس كل ذلك. ولا ينقصنا العلم بالزمان.

؟- انصرافه إلى العلم

- قد يتهياً لطالب العلم مدرسة علمية توجهه؛ واطلاع حسن يغذيه؛ وتواتيه مذاهب وهمدارك تتقبل ها يتلقاه وتنميه, وأكنه يعد هذه الاستعدادات: وتلك الوسائل الموصلة تشغله الحياة المادية؛ أى المناصب؛ أو الرياسة عن استغلال هذه الأدوات؛ فلا يكون عالماً بين العلماء؛ لآأن مشاغل الحياة؛ أو المنصبء أو الرياسة أخذت جزءاً من نشاطه وصيزاً من مواهبه؛ أو جعلت العلم فى المرتبة الثانية من نفسه.

وأذلك نقول أن العالم لا يعد فى صفوف العلماء لمواهبه واستعداده وتلقيه واطلاعه فقط؛ بل لابد مع ذلك من انصرافه للعلم بكليته. وكذلك كان ابن تيمية. انصرف للبحث والإفتاء انصرافاً تاهاً. وكان العلم والدفاع عن الحقائق الإسلامية التى انتهى إليها بغيته التى يبتغيهاء وغايته التى يغياها رضى الله عنه.

«ولذلك ما خالط الناس فى بيع ولا شراءولا معاملة ولا تجارة ولا مشاركة؛ ولا مزارعة ولا عمارة: ولا كان ناظراً لوقف أو مباشراً لمال. ولا كان مدخراً ديناراً ولا درهماً ولا متاعاً ولا طعاماً؛ وإنما كانت بضاعته مدة حياته وميراثه بعد وفاته رضى الله عنه- العلم اقتداء يسيد المرسلين الذى قال: «العلماءورثة الأنبياء؛ لأن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولادرهماً, ولكن ورثوا العلم؛ فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر»(".

- وإم يعرف أن أبن تيمية ترك صومعة العلم إلا لحمل السيف مجاهداً؛ ومحرضاً للمؤمنين على القتال؛ وذلك لأنه إذا سئنغ للعالم أن ينصرف عن كل شئ إلا العلم ها دام قد يسر الله ما يكفيه وأهله بالمعروف برزق يجرى عليه أو مال ادخره لديه فإنه لا يسوغ له أن ينصرف عن الجهاد فى سبيل الحق والإسلام بسيفه وقلمه ولسانه. (1) الكواكب الدرية فى ضمن المجموعة التى طبعها الكردى ص١١‏ ل

وإن الذى حدث فى دمشق عندما امتشق الحسام أن كبراءها تركوها! ولم يكن جند منتظم يحميهاء فكانت الحال تجعل الحرب من أمثاله فرض عين لا فرض كفاية يترك المختصين؛ فكان حقاً عليه أن يحارب. وأن يتولى الدفة كما يحدث عند اندلاع نار؛ فإن كل القريبين منها يتحركون لإطفائهاء ولا يتركونها إذا لم يكن مختصون بالإطفاء؛ يل يسارعون حتى لا تمتد النيران..

وإن تقدمه فى هذه الحال قد جعله يخبر نفوس الحماة. فوجدهم متقاعسين عن النصرة إلا بالتوجيه والإرشاد فتولاه, وطلبوه ليكون بجوارهم فيقبسوا من نوره وإيمانه؛ , ويأخذوا جذوة من حرارة نفسه؛ فيندفعوا إلى اللقاء.

' فما كان حمله السيف مجاهداً انصرافاً عن العلم ليحترف القتال؛ بل كان تطبيقاً للعلم؛ وتقوية له بالعمل به إذ قد رأى علماء الصحابة فرسانا مجاهدين؛ وهى يتأثر طريقهم؛ ويقتفى آثارهم: فتقدم للميدان مقتديا بهم ليتلاقى علمه وعمله؛ ويكون المقتدى به فى الراحة والبأس.

١١‏ وإنه مع انصرافه للعلم قد وجد الزمان يفقرض عليه أمرين (أحدهما) أن يقف بالمرصاد للمهاجمين للحقائق الإسلامية من النصارى الذين كانوا يرابطون فى قبرص وغيرها بعد غارات الصليبيين. (وثانيهما) أن يقف بالمرصساد للنحل المختلفة التى تسربلت بسريال الإسلام؛ ولبست لبوسه وهى تكيد له فى الباطن.

دان الأمران جعلاه يجرد سيف البيان على الفريقين» وهذا يستدعى قراءة وأطلاعاً: وانصرافه وقتا طويلا إلى الدراسة العميقة؛ فدرس النصرانية وطوائفها وفرقهاء وتحريقاتها للأناجيل عن موضعها؛ ورد عليها ذلك الرد المفحم.

ولقد درس الأصول الفلسفية التى بنت عليها الفرق الإسلامية المتنحرقة مذاهيها ومناهجهاء أو حاوات أن تستعين بها لتأييد انحرافها. درس ذلك كله ثم تقدم للميدان مناظراً بالقول» فأرهفت المناظرة قواهء وزادته إيماناً بقضباياه, فإن المناظرة تنير السبيل فى فكر المناظرء وقد تهديه إلى حقائق» ما كان ليهتدى إليها وهى فى هدأة التفكير والتجرد النقفسى, فإن احتكاك الأفكار المتضارية يؤلق بينها برقاً منيراً,

-١‏ ولاذا تصدى هو للجهاد الفكرى عن الإسلام فى الداخل والخارج فى عصره؟ وتحمل العبءوحده؛ وجعل حياته سلسلة من المجاهدةوالمصايرة؟.

٠

الجواب عن ذلك أن هذا فرض كفاية: وفروض الكفاية تستمد قوة الفرضية فيها من المواهب والقوى؛ فكلما كان الشخص موهوباً فى أمر يتصل بفرض كفائى كان الوجوب عليه أشدء والطلب منه ألزم؛ فمعالجة المرهسى ومحاربة الأوباء لازمة وفرض كفاية. ولكنها على الأطباء ألزمء ويتعينون لأدائها؛ وعلى غيرهم أن يوفر لهم ما يحتاجون إليه فى سبيل القيام بواجبهم وهكذا ... وقد كان ابن تيمية له مواهب؛ ومدارك علمية ليست فى غيره من علماء عصره؛ فكلهم أو جلهم إلا تلاميذه ومن قبسوا منه قد انصرفوا إلى التقليدء والاتباع لبعض الأئمة» يدرسون الفقه. واكن على مذهب لا يتجاوزونه ويتعصبون له؛ ويدرسون علم الكلام: واكن على طريقة الأشعرى والماتريدى» وإن درسوا بعض العلوم الفلسفية فبالقدر الذى يعين على دراسة العقائد كما يقررها الأشعرى؛ وهكذا فى كل العلوم يحصتلون ولا يتصرفون, ويأخذونها من نافذة واحدة, ولا يفتحون غيرها من النوافذ لتغيير الهراء النكرى الذى يتنفسونه. وما كان لمن نهج على هذا أن يغلب فى جدال؛ أى ينتصر فى نزال فكرى,

أها ابن تيمية فقد اتسع أفق ما درسء وفتح النوافذ كلهاء وأتى له المتنفس الفكرى من كل جائب؛ فكان بطلها المرجى فى هذا الجهاد الفكرى؛ وكأن الله سبحانه وتعالى قد بعثه فى ذلك العصسر ليكون درقة الإسلام: يتقى بها غارات الملحدين نى دين الله. وغارات المهاجمين له, الذين لا يريدون به إلا خبالا. ويبغون الفتنة» وفى الربوع الإسلامية سماعون لهم,

فكان ذلك باعثاً آخر على أن يتصرف ذلك الرجل العظيم إلى العلم وحده؛ ويجد حسبته الدينية التى عليه أداؤها أن يقف للمهاجمين للإسلام فى كل مرصد.

؟١-‏ وإنه فى دراساته الحرة التى لم يبلغ بها سوى الشرع فى صميمه. وكما نزل على النبى؛ وعمله على إزالة الأغشية التى غشيته بفعل العصور, وتوالى الجمود على أفكار لم تستق من ينابيعه- فى هذه الدراسة تعرض 'خالفة علماء المسلمين وفرق معتدلة لم تكن مغالية: أو لم تكن مبتدعة, ثم تعرض لمخالفة الصوفية؛ فانبثق عليه البثق الكبير من ثلاث نواح: من ناحية أنصار الأشعرى والماتريدى: ثم من ناحية الصوفية الذين كانوا يشعوذون, وإن لم يكن فى قلويهم ونياتهم الكيد للإسلام, ثم من ناحية الففهاء .الذي خرج علبهم بان فقهية لم يكن لهم بها عهد . فكان كل أوائك مخالفين منازعين على مودة فى أحيان قليلة وعلى عداوة فى أكثر الأحيان. '

لكل

ناظر كل طائفة من هذه الطوائف؛ وجادلها بالقول فى المجالس الحافلة وبالرسائل يرسلها قوية بالحجة الدامغة. وقد كانت لهذه المناظرات أدوار ثلاثة:

فالدور الأول كان خصومه من الأشاعرة عندما جهر بعقيدته فى الحموية: فقد أثاروها عليه حرباً حكومية يحاولون حسابه بالحبس والتقييد, وقد تألوا منه فحبسوه نحو ثمانية عشر شهراً, ثم أثارها هى عليهم حرياً كلامية. حتى أثبت للملأ أن عقيدته هى عقيدة السلف الصالح, وبين نظره فى ذلك بياناً وافياًء سنعرض له بالإيضاح والفحص عند الكلام فى تقصيل آرائه.

حتى إذا سكنت هذه الحال جاء الدور الثانى عندما أعلن رأيه فى مذهب الاتحاد الصوفى الذى كان عليه ابن العربى وابن الفارض واين سبعين وغيرهم, وهاجمه هجوماً عنيفاًء كشأنه فى محارية الآراء التى يجدها دخيلة على الإسلام» ليس بينه وبينها وشائج قريبة أى بعيدة, وإدخالها عليه يفسده ويخلطه على أهله؛ ولم يمتنع من المجاهرة برأيه مع أنه يعلم أن الشيخ نصر المنبجى زعيم الصوفية من هذا الرأى: وله دالة عند السلطان والأمراء؛ ولم يكتف بالمجاهرة القولية» بل كتب فى ذلك رسالة. فاستعان هذا الشيخ بالأمراء» ونفى ابن تيمية بسبب ذلك إلى الإسكندرية: وقد ناصره فى هذه المرة الفقهاء والقضاة. وفى معتقله بالإسكندرية كان يبث فكرته وينشر دعوته؛ حتى أفرج عنه الناصرء فاندفع الشيخ كالسيل فى إبطال قول الاتحاديين» حتى خضد شوكته. ولم يعد له قوة على الوقوف فى وجهه.

ثم جاء الدور الثالث حيث عاد إلى دمشق» وجلس للإفتاء وقد انتصر فى المعارك الفكرية التى خاضهاء كما اتتصر من قبل فى ميدان الحربء وما أن أفتى حتى خالف ما عليه جمهور الفقهاء فى مسائل فى الطلاق وفيرهاء فثار عليه الفقهاء والمقلدون وشكوه للسلطان؛ وأخذ عليه العهد بالا يفتى: ثم نبذ ذلك العهد وأفتى وألقى كعادته بحججه من الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم.

ثم نزع الخصوم جميعاً عن قوس واحد ورموه؛ عندما أفتى بعدم القربة فى التمسح بالقبور؛ والطواف حواهاء ومنها قبر الرسول عَللّه. وبذلك كان الحبسء فانتقل إلى الجدل من المشافهة إلى الرسائلء وهو يلقى فيها بحججه. وكأنها شواظ من نارء تلتهم أقوال الخصوم, ومن عنف هذه الرسائل المنبعثة من حجرات السجن.؛ كان التضييق الشديد ومنع الكتابة حتى الوفاة.

١٠.

ومن هذا يتبين أن حياة ذلك الرجل القوي فى هواهبه ونفسه وإرادثه كانت كلها للعلم الخالصء وبذلك أنتج ما أنتج» واهتدى إلى ها اهتدىء ولم يخلف لأقاريه الأدنين مالاء ولكنه خلف للمسلمين تركة من الفكر والعلم والكلام البليغ لاتزال حجة لكل من يريد إزالة غشاوة الجهالة والتقليد من غير روية- عن الإسلام؛ وسندرس بعضها دراسة فاحصة: والله ولى التوفيق. ؛- عغصرابن تيمية

-١7"'‏ إن البذرة الصالحة لا تنم إلا بسقى ورعىء وجو نتغذى منه وتعيش فيه. فكل حى فى الوجود يتأثر بالجى الذى يستنشق هنه والبيئة التى تظله؛ فإن البيئات تفعل فى نفس الإنسان مالا يفعله المريونء وأذلك كان للعصر الذى يعيش فيه العالم الأثر الذى يوجهه, وقد يكون الأثر من جنس حال العصرء فإن كان العصر فاسداً فسد الرجلء وإن كان صالحاً صلح؛ وقد يكون التأثير عكسياً. فكثرة الفساد تحمل على التفكير الجدى فى الإصلاح. وكثرة الشر تحمل على استحصاد العزائم للخير؛ وقد تكون دافعة المصلح لأن يفكر فى أسباب الشر فيقتلعهاء وفى نواة الخير الكامنة فيغذيها. وكذلك كانت المجاوبة بين ابن تيمية وهصره. تغذت روحه غذاء صالحاً مما درس فى صدر حياته, وها عكف عليه فى كهواته وشيخوخته من رجوع إلى ينابيع الشرع الأولى: والكنز المغتفى من الهدى النبوى؛ وها كان عليه سلف المؤمنين: فكانت المعركة الشديدة تعتلج فى نفس ذلك الرجل العظيم؛ يرى فيما درس من الإسلام نوراً ساطعاً لامعاً؛ ويرى فى عصره ظلمة شديدة: وفسادا فى كل نواحيه؛ يرى فى ماضى الإسلام عزة واتحادا ووئاماء ويرى فى عصره ذلة وانقساماً. يرى فى ماضيه حكما صالحاء وأمور المسلمين شورى بينهم؛ ويرى فى حاضره استبداداً وطغياناًء وقد أكل القوى الضعيف واستمرأ الحاكم لحم المحكوم وماله.

فتقدم الرجل ليصلاح وليداوى» وقد وجد الدواء بأيسر كلفة» ومن أسهل طريق؛ وجده فى كتاب الله وسنة رسوله وأعمال الصحابة وكبار التابعين» فتقدم بالدواء ونادى به» وها كانت آرائه العلمية كلها إلا دواء عصره. ولى فتشت عن البواعث التى بعثته للمجافرة بكل رأى قاله. لوجدت أن الذى بعث على المجاهرة عيب فى الزمان؛ وقساد عند أهل العصر فى العمل أو قى الفكر أو فيهما معاً

٠١

وأقد حق علينا لهذا أن توجز حال عصره فى السياسة والصرب؛ وحاله فى العلم والفكرء وحاله فى الاجتماع والأخلاق, ثم نتكلم عن الفرق الإسلامية فى هذا العصر إذ كان يجادل المنثمين لها. ا الحالة السياسية

-١4‏ روى أيو داوود والبيهقى أن رسول الله عله قال: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتهاء فقال قائل: أى من قلة نحن يومئذ؛ قال بل أنتم يومئذ كثير ولكن غثاء كفثاء السيلء ولينزعن الله من صدر عدوكم المهابة منكم؛ وليقذفن فى قلوبكم الوفن. قال قائل: يارسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت»,

هذه الحالة تنطبق على المسلمين فى القرن السابع والثامن بعد الهجرة, كما تنطبق على قرون من قبل ومن يعد, فالمسلمون فى كل بقاع الأرض قد انقسموا) إلى دويلات؛ . وحوزات ملوك ينظر بعضهم إلى بعض نظر العدو المفترس لا نظر المؤمن الوالى؛ ونظر الملوك إلى رعاياهم نظرة المتسلطين المسيطرين يسومونهم الخسف والهوان» وإن خير وصف لحالهم ها ذكره ابن الأثير فى الكامل فى أول غارأت التتار عليهم فى أول القرن السابع فقد نال: «لقد بلى الإسلام والمسلمون فى هذه المدة بمصائب لم يبتل بها أحد من الأمم منها دؤلاء التثر؛ فمنهم هن أقيلوا من الشرق ففعلوا الأقعال التى يستعظمها كل من سمع بهاء ومنها خروج الفرنج لعنهم الله من المغرب إلى الشام وقصدهم ديار مصر وامتلاكهم ثفرها أى دهياط وأشرفت ديار مصر وغيرها على أن يملكوها لولا لطف الله تعالى ونصره عليهم» ومنها أن السيف بينهم مسلولء والفتنة قائمة».

هذا كلام ابن الأثير المؤرخ الذى عاصر الكثير من وقائع التتارء وكلامه كلام من عاين وشاهد؛ فالإسلام هوجم من ثلاث جهات من شرقه بالتتار» ومن غريه بالصليبيين» ومن داخله بالعداوة المستحكمة بين الأمراء والفرق» وموالاة أهل الذمة للأعداء أيا كان لونهم؛ بل كان من الفرق الإسلامية التى نتجه إلى القبلة فى صلاتها من تمهد السبيل للتتار الوثنيين: وتدل على عورات المسلمين,

6- وأنشر بكلمة إلى كل واحد من هؤلاء الأعداء الثلاثةء أما أولهم وهم الصليبيون فقد ابتدأت العلاقات بين الشرق والغرب تخذ ذلك الوصف فى أخر القرن الخامس الهجرى.

0

والقرن الحادى عشرء وإنها حلقة من ساسلة الوقائع القديمة بين الشرق والغرب الثى أطلق عليها المؤرخون اسم المسالة الشرقية.

لقد كانت الحروب القديمة قائمة على قدم وساق بين الفرس واليونان ولا خلف من بعدهم الرومان كانت الحرب سجالا بين الرومان والفرسء يغلب هؤلاء مرة؛ وأوائك أخرى: «الم* غلبت الروم فى أدنى الأرض وهم من بعد لبهم سيغلبون» فى بضع سنين. لله الأمر من قبل ومن بعد»(١).‏

ومن وقت أن بزغ الإسلام؛ وظهرت الحرب بين المسلمين وغيرهمء وتولوا زعامة الشرق ناصبتهم الدولة البيزتطية العداء. ولم تكن الحرب فى هذه المرة سجالاء بل كانت انتصارا للمسلمين: انقضوا على الشام فأخذوه, وعلى مصر فأخذوها؛ وصارت هذه الأقاليم إسلامية يسرى عليها حكم الإسلام العادل: ويضدئ فيها نوره المشرقء وقد أقضت الجيوش الإسلامية فى العصر الأموى والعصر العباسى مضاجع حكام الرومان وانتقصوا عليهم الأرض من أطرافها.

وما انحلت الدولة الإسلامية الكبرى إلى دويلات صغيرة وشغل المسلمون فيما بينهم وبين أنفسهم, وصصار باسهم بينهم شديداً» اطمان الرومان» وسكنواء وترقبوها فرصة سانحة ليقتنصوهاء واحدة بعد الأخرىء وأكن خيب الله ظنهم, فقد ظهرت دولة إسلامية قوية هى الدولة السلجوقية؛ رجالها قوم أشداء خرجوا من سهوب التركستانء اعتنقوا الإسلام, واستولوا على خراسان وظل تيارها القوى مندفعاً نحى الفتح يقويه تأييد خلفاء بنى العباسء حتى انتزعوا سوريا وفلسطين من يد الفاطميين بمصرء ثم وجهوا شطرهم نحو البقية الباقية من ملك الرومان بآسيا الصغرى فانقضو) عليه وكانت جيوشهم تحصد جيوش الدولة البيزنطية؛ وخشيت تلك الدولة أن تقع القسطنطينية فى أيديهم لقمة سائفة: ولو راموهاء ما تعصى عليهم فتحها؛ بل لوجدوها كمثرى ناضجة.

لم يجد الرومان حيلة إلا أن يمثد نظرهم إلى طلب المعاونة من إخوانهم اللاتين في روما وفرنسا ومسائر ريوع أوربا: وإنهم وإن فرقت بينهم النحل الدينية؛ واختلافهم حول انبعاث روح القدس الأقنوم الثالث هن الآب أو الابن» يرضون أن يكونوا مأكولين لهم عن أن يكونوا ماكولين للمسلمين؛ فلجئوا إليهم طالبين المعونة, )١(‏ أول سورة الروم

ووجد أوائك اللاتين فرصة سانحة لاحت لهم؛ إذ أنهم يريدون أن يطووا تلك الكنيسة التى تمردث عليهم: وهى كنيسة القسطنطينية فى كنيستهم؛ ويضعوها فى قبضتهمء وفوق ذلك يريدون أن يكون بيت المقدس تحت سلطانهمء لأنه مهد المسيحية الأولى وفيه ولد ناسوت المسيح: وقبر ثم قام على حسب اعتقادهم: فمن استولى عليه فقد استولى على عرش الممسيحية قى كل البقاع.؛ ولا ينفذون إليه إلا من القسطنطينية؛ وعلى جسر من تلك الدولة التى كانت تنغطرس لهم. لذلك عند ما جات الدعوة إلى النصرة؛ وجدوها فرصة لاحت: والتقى الغرض السياسى مع المقصد الدينى: فأجايوا النداء. وتحمس القساوسة ورجال الدين لإدجابة: إما لهذا الفرض المزدوج: أن الثانى منه فقط؛ واندفع بعض الرهبان يدعو العامة والخاصة,

ولقد نسبت الحرب الصليبية الأولى إلى بطرس الراهب: لأنه هى الذى طاف داعيا إلى فتح البلد المقدسة يقول إنها تفيض لبنا وعسلا؛ وقد تكون دعوته الدينية والمادية لها فعلها فى نفوس العامة؛ فكانت أوضح الأسباب الظاهرة؛ ولكن التاريخ يثبت أن الوقائع الكبيرة تكون أسبابها الظاهرة هى أضعف الأسباب دائماً؛ وأقواها ما فرخ ونما وعاش فى رءوس الساسة ورجال الملك والحكم. وما يدفعهم إلا المطامع وحب الاستيلاء والغلب.

- وقد كانت تلك الدولة اللاتينية لها نكايات مع المسلمين فى الأندلس والبحر الأبيض المتوسطء ويقول فى ذلك ابن الأثير: (كان ابتداء ظهور الفرنج» وخروجهم إلى بلاد الإسلام واستيلائهم على بعضها سنة ثمان وسبعين وأريعمائة. فملكوا مدينة طليطلة وغيرها من بلاد الأندلس؛ ثم قصدوا سنة أريع وثمانين وأريعمائة جزيرة صقلية» وملكوها؛ وتطرقوا) إلى أطراف أفريقية فملكوا منه شيئاً وأخذ منهم: ثم ملكوا غيره فلما كانت سنة تسعين وأريعمائة خرجوا إلى بلاد الشام»(').

اتجه الصليبيون إلى الشرق الإسلامى بمزيج من العاطفة الدينية الحادة» وحب الغلب (1) الكامل لابن الأثير ج١٠‏ ص؛؟. ولقد ذكر من أسباب الحروب الصليبية آن الفاطميين بعصر لما رأوا ملك الساجوقيين يتسع حتى استواوا على الشام؛ ولم يكن لهم قي بدفعهم كاتيوا ملوك الأفرنج؛ وهذا نص كلامه: موقيل أن أصحاب مصر من العلويين لما رأوا قوة الدولة السلجوقية وتمكنها واستيلاءها على بلاد الشام إلى غزة؛ ولم يبق بينهم وبين مصر ولاية أخرى تمتعهم, خافوا وأرسلوا إلى الفرنج يدعونهم إلى

الخروج إلى الشام ليملكوهء ويكون بينهم وبين المسلمينء والله أعلم. أه. ٠.4‏

والاستيلاء. والطمع المادى. وقد لاقوا أول لقاء أشداء من السلاجقة وقفوهمء وأعملو) فيهم السيفء ثم توالت الحرب واشتدت وأخذوا بيت المقدس وساموا المسلمين الخسفه. بل لم يسلم منهم بعض المسيحيين وإخوانهم فى الدين.

لما طاب النصر للاتين ردحا من الزمان؛ وتحكموا فى البيزنطيين» وكثيرين من أتباع كنيسة القسطنطينية؛ تحركت الإحن الدينية القديمة, وما جمعته الشدة فرقه الرخاء؛ ومن وحدهم المقصد فى البأساء فرقتهم الأغراض فى النعماء؛ وعتدئذ صار بأسهم بينهم شديداً؛ وكانت أسباب انهزامهم من ذات أنفسهم, وقد كانوا يحملونها عند غاراتهم؛ واكنها كانت فى خفاء حتى أظاهرتها النعمة.

وفى هذا الوقت تصدى لهم من المسلمين قواد أقوياء. وإذا كان هؤلاء قد أستناموا إلى النعماء فتفرقواء فالمسلمون أصابهم قرح الحرب فتجمعوا وبقوة دينية عاطفة» وسيوف إسلامية ماحقة. وقلوب محمدية هادية أخرجوهم من الديار,

وقد شغلت تلك الحروب المسلمين نحو قرن ونصف من الزمان أبلى فيهما السلاجقة: ثم الأيوبيون بلاء حسناء وكانت آخر ضرية وجهتها الجيوش المصرية: فالقوا جيوش القرنجة فى البحرء وألقوا ملوكهم فى غيابات السجن.

7 - فى هذه الحرب الضروس التى التقى فيها المسلمون با مسيحيين كان تحت سلطان المسلمين من الذميين ا مسيحيين عدد كبير» وخصوصاً فى فلسطين ممن يجاورون الأراضى المقدسة تيمنا بهاء وكانت قلوب هؤلاء بلا شك مع إخوانهم؛ إن لم يكونوا عيوناً على المسلمين وكلما اشتدت بالمسلمين شديدة كانت لهم بها فرحة, وخاصة قبل أن يب" ) باللاتين ويعرفوا أن عمامة المسلمين أرحم بهم من التاج الصليبى المثلث الرحموت كما جاءت بذاك عباراتهم؛ بل حتى أن بعضهم بعد أن ابتلى بحكمهم تشتد به النزعة الدينية, فيتغلب على ألم الظلم والاستبداد.

وإذا كان ذلك شعورهم وهو طبيعى؛ فلايد أن يكون منهم فى هذه الحرب ما يثير الظنة بهم وإن لم يكن ما يثير الظنون؛ فالاحتياط يوجب السبق بالشك؛ والعمل على منع أذاهم قبل أن يقع؛ ولذا كانوا يبعدونهم حتى لايكونوا إليا عليهم: أو يكشفوا عن عوراتهم, ولقد جاء عن أول لقاء فى أنطاكية فى الكامل ما نصه:

١4

لا سمع صاحب أنظاكية بتوجههم إليها خاف من التصارى الذين بهاء فأخرج المسلمين من أهلهاء ليس معهم غيرهم: وأمرهم بحفر الخندق, ثم أخرج فى الغد النصارى لعمل الخندق أيضاً؛ ليس سعهم مسلم فعملوا فيه إلى العصرء فلما أرادوا دخول البلد منعهم, وقنال لهم: أنطاكية لكم تهبونها لى حتى يكون منا ومن القرئجء فقالوا من يحفظ أبناءنا ونساءنا. فقال أتا أخلفكم فيهم: فأمسكوا وأقاموا قى عسكر الفرنجء قفحصروها تسعة أشهرء وظهر من شجاعته (أى أمير المدينة) وجودة رأيه وحزمه واحتياطه مالم يشاهد من غيره؛ وحفظ أهل نصارئ أنطاكية الذين أخرجهم, وكف الأيدى المتطرفة(').

هذه القصة تبرز لك حال النفوس نحو النصارى الذين كانوا يقيمون مع المسلمين, وكيف كان يتظان المسلمون فيهم بحقء وأنها كانت حرباً دينية, ولم تكن حرباً سياسية بالنسبة للمسلمين معهم؛ فكانت المعركة فى ظاهر الأمر واقعة بالنسبة للمسلمين والمسيحيين: فكل مسيحى خصم وكل مسلم خصم. فكان لابد من الاحتياط»: واستطاع المسلمون أن يوفوا بعقد الذمة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

عاش ابن تيمية فى العصر الذى ولى ذلك العصسر هباشرةءقلا نعجب إذا كان رضى الله عنه يشير إلى أنه لابد أن يكون لأهل الذمة شارة يعرفون بهاء لا تحقيراً لشأنهم؛ ولكن تعريفاً لهم؛ ليعرقهم الناس.

4 - وإذا كان منطق الأمور أن تكون قلوب النصارى الشرقيين مع إخوانهم, فالعجب أن يكون من المسلمين من يكون عوناً على المسلمين ويكاتب النصارى لينقضوا على المسلمين. كما كان يقعل بعض الفرق الإسلامية؛ من ذلك ما كان فى سنة 0717 ه من الإسماعيلية الذين استولوا على عدة حصون من الجبالء إذ كان بوادى التيم من أعمال بعليك أصسحاب مذاهب مختفة من النصيرية: والدرزية» ومنهم بعض المجوس وغيرهمء وقد آلت الرياسة فيهم إلى رجل اسمه المزدقانى»علا شأنه وكثر أتباعه. فراسل الفرنج «ليسلم إليهم مدينة دمشق» ويساموا إليه مدينة صورء واستقر الأمر بينهم على ذلك» وتقرر بينهم الميعاد يوم الجمعة ذكروهء وقرر المزدقانى مع الإسماعيلية أن يحتاطوا لذلك اليوم بأبواب الجامع فلا يمكنوا أحداً من الخروج منه ليجئ الفرنج ويملكوا البلادء فبلغ الخير تاج الملوك صاحب دمشقء فاستدعى المزدقانى إليه. وحضر فخلا معه وقتله. وعلق رأسه على باب القلعة, ونادى فى البلد بقتل الباطنية,؟©, ‏ -

)١(‏ الكامل الجزء العاشر ص 56. (1) الكامل الجزء العاشر ص 64؟1, 1

ولما علم القرئجة بما حدث لصديقهم ووليهم المسلم انقضوا على ا مدينة مجتمعين ولكن المسلمين الحقوهم بأولياتهم الباطنية, وألقوهم فى الجحيم؛ بعد أن أذاقوهم جحيم الحرب.

هذا خير سقناه لنعرف كيف كان يوالى أولئك الأعداء. وقد استمر الذين تحصنوا بهذه الجبال يصويون من فوقها الأذى على جماهير المسلمين» ويوالون أعداعهم من التتار بعد النصارى إلى أن انقض عليهم ابن تيعية عقب إجلاء التتار عن دمشقء فازال سلطائهم من تلك الجبال وأخضعهم؛ وجمع منهم العشور والزكوات» وفرض عليهم الأحكام السلطانية فنفذوها طوعاً أى كرهاً.

9 - هذه إشارة إلى الحروب الصليبية التى قارب عصرها عصر ابن تيمية, ووأى آثارهاء وعاين الخرائب التى تركتهاء فلننتقل إلى التتار الذين عاصر هجومهم آخر الحروب الصليبية وأعقبوها فى التخريب فى الديار الإسلامية: بيد أن أولئك ابتدعوا فى الشام ومصر وأسيا الصغرى. وداروا حول هذه الدائرة. ولم يتجاوزوهاء أما أواتك فقد اتسابوا من أقصى الشرق لايلوون على شئ إلا جعلوه ركاماء ولا على قوم إلا جعلوهم رميماء حتى وصلوا إلى الشام؛ واستولوا على أكثره وراموا مصرء ثم ارتدوا على أديارهم خاسئين أمام جيش مصر والشام الذى كان يشرق فيه نور العصر ابن تيمية العالم

الجليل, وأنستعر كلمة ابن الأثير فى وصف التتار؛ وما كان منهم فى القرن السابع, فإنها كلمة يبليغة مصورة: قال رحمه الله:

«لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها كارهًا لذكرها, وهأنذا أقدم إليه رجلا وأؤخر أخرىء فمن الذى يسهل عليه أن يكتب نعى الإسلام والمسلمين: ومن الذى يهون عليه ذكر ذلك: فياليت أمى لم تلدنى: ويا ليتنى مت قيل هذ وكنت نسياً منسياً إلا أنى حثنى جماعة من الاصدقاء على تسطيرهاء وأنا متوقف, ‏ رأيت أن ترك ذلك لا يجدى نفعاً». «فنقول هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظم والمصيبة الكبرى التى عقمت الأيام والليالى عن مثلها؛ وعمت الخلائق؛ وخصت المسلمع فلى قال قائل إن العالم منذ خلق الله سيحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها نكا

ا

صادقاً. فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاريها ولا ما يدانيهاء ولعل الخلق لايرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالمء وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج... هؤلاء لم يبقوا على أحد» بل قتلوا النساء والرجال والأطفال وشقوا بطون الحواملء وقتلوا الأجنة, فإنا لله وإنا إليه راجعون,. ولا حول ولاقوة إلا بالله العلى العظيم لهذه الحادثة التى استطار شررهاء وعم ضررهاء وسارت فى البلاد كالسحاب استديرته الريح..» «إن قوما خرجوا من أطراف الصين فقصدوا بلاد تركستان... ومنها إلى بلاد ها وراء النهرء فملكوها... ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها ملكا وتخريباً وقتلا ونهباً ثم يتجاوزونها إلى الرى وهمذان... إلى حد العراق ثم يقصدون بلاد أذربيجان ويخريونها ويقتلون أكثر أهلهاء ولم ينج منهم إلا الشريد النادر فى أقل من سنة؛ هذا ما لم يسمع بعثله. .. ثم قصدو) يلاد قفجان: وهم من أكثر الترك عدداً فقتلوا كل من وقف لهم؛ فهرب الباقون إلى الفياض ورعوس الجبالء وفارقوا بلادهم؛ واستولى هؤلاء التتر عليها؛ قعلوا هذا فى أسرع زمان. ولم يلبثوا إلا بمقدار مسيرهم لا غيرء ومضت طائقة أخرى غير هذه الطائفة إلى غزنة وأعمالها وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان؛ ففعلوا فيها مثل ما فعل هؤلاء وأشد هذا مما لم يطرق الأسماع مثله فإن الإسكندر الذى اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا لم يملكها فى هذه السرعة, إنما ملكها فى نحى عشر ستين: ولم يقتل أحداً إنما رضى من التاس بالطاعة, وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأحسنه وأكثره عمارة وأهلاء وأعدل أهل الأرض أخلاقاً وسيرة فى نحو سنة؛ ولم يبت أحد من البلاد التى لم يطرقوها إلا وهى خائف, ويتوقعهم ويترقب وصولهم إليه, ثم إنهم لا يحتاجون إلى ميرة ومدد يأتيهم فإنهم معهم الأغنام والبقر والخيل وفير ذلك من الدواب يأكلون لحومها لاغير, وأما دوابهم التى يركبونهاء فإنها تحفر الأرض بحوافرهاء وتأكل عروق النبات ولاتعرف الشعير, فهم إذا نزلوا منزلا لايحتاجون إلى شئ من خارج».

«وأما ديانتهم فإنهم يسجدون للشمس عند طلوهاء ولايحرمون شيئاً؛ ياكلون جميع الدواب» حتى الكلاب والخنازير وغيرهاء ولا يعرفون نكاحاًء بل المرأة يأتيها غير واحد من الرجال» فإذا جاء الوك لايعرف». ,

- هذا وصف لأوائك الذين ابتلى الله بهم العالم فى القرن السابع الهجرى. واختص المسلمين بهذا البلاء, ولقد انساب أواتك المغول فى الديار الإسلامية» حتى قضوا على عاصمة الخلافة الإسلامية,

11

ونحب أن نشير هنا إشارة عابرة إلى الاستيلاء على بغداد قصبة الإسلام؛ أو تخرييها كما هى التعبير الدقيق؛ ففى خبرها العبرة؛ إن بغداد لم تبتل فقط بالتتره وهم بلاء فى الأرض وشر مستطير» وهم وحدهم كافون لإزالة كل حضارة »وتقويض كل قائم» بل ابتليت بغداد بمن فيهاء فقد كان اليهود والنصارى قد مالثوا التتار, وكاتبوهم» وكان فيها من هو أدهى وأمرء وه العلقمى وزير المستعصم آخر خليفة عباسى أقام ببغداد, فإن ذلك الوزير كان شيعياً غالياً ارتضى لنفسه أن يمالئ عبدة الشمس من التتارء على عبدة الواحد القهار؛ وخان دينه. وخان بلاده؛ وخان الفضيلة, فقد عمل على إضعاف جند بغداد, فقد كان فيها عند توليه مائة ألف جندى معهم الشكة والسلاح والعدة والعتادء وكان قيهم الأمراء الأكابر» الذين كان فيهم حمية الأسود والكواسس, فلم يزل فى تقليل العدد حتى أصبح نحى عشرة آلاف, ثم أطمع التتار. وكشف لهم الحالء وضعف الرجال فجاءواء ولم يكتف بذلك الذى قدمه؛ بل إنهم عندما أقبلوا كالوحوش الضارية حسّن للخليفة مصالحتهم على أن يترك لهم نصف خراج العرأق ٠‏ ويكون للخليفة النصفء فرضىء وذهب الخليفة ليفاوضء فأعاده هولاكى قائدهم مذموماً مدحوراً إذ قد أشار الوزير العلقمى فى الوقت نفسه على هولاكى آلا يقبل المصالحة لان الخليفة ينقضها بعد سنة وأشار عليه بقتله. وأيد العلقمى نصير الدين الطوسى الذى كان فى صحبة هولاكى وخدمته.

قتل الخليفة بإشارة الروافض. وانساب التتار يقتلون ويخربون فى بغداد: وام ينج من أهل بغداد إلا اليهود والنصارىء ومن لجا إلى العتلقمى فهؤلاء وحدهم كان لهم الأمان.

-0١‏ أزيلت قصبة الدولة الإسلامية على أيدى عبدة الشمسء وهاونهم: بل أغراهم بعض الشيعة:؛ فلم هذا؟ لم يؤثرون حكم الطاغوت على حكم المسلمين؟ لعل السبب فى ذلك خاص لعله كان أفعل وأقوى تأثيراً؛ وذلك أنه كان فى سنة 5005 وهى السنة السابقة على تخريب بغدادء كان بين أهل السنة والرافضة حرب مذهبية نهبت فيها بلاد الكرخ؛ ومحلة الرافضة: حتى نهبث دور ناس ذوى قرايات للعلقمىء فأثار ذلك حنقه وهياجه «على أن دير على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذى لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغداد»(), )١(‏ تاريخ البداية والنهاية لابن كثير ج ١‏ ص ١١؟.‏

نر

وسواء أكان القتال بين الرافضة وغيرهم له ما يبررهء فإن هذا يعطينا صورة عن هذا العصرء كيف كان المسلمون فى هذا الزمن والبلاء يلاء» وهى إبادة لا تبقى ولاتذرء ولاتفرق بين مذهب ومذهبء كانوا يتناحرون فى نحلهم فكانت حالهم أشد من حال أهل القسطنطينية عتدما كانوا يتجادلون فى نحلهم ومحمد الفاتح على أبوابهاء وهؤلاء يقتتلون والتتار قد أزالوا كل ماوراءهم من بلادء ثم تعطينا صورة أخرى أشد إقتاماً» تبين كيف يعمى التعصب المذهبى القلب والبصيرة, فيتقدم وزير أعطى أمانة الخلافة والملك فيوعن إلى من لادين لهم ولا أخلاق ليتحكموا فى أهل دينه؛ بل يبيدونهم عن آخرهم: ثم تبين لنا أيضاً كيف يخون أهل الذمة العهد ويؤلبون أعداء الأديان وأعداء بتى الإنسان على من عاهدوهم: وحموهم وأووهمء ولكن هى الحفيظة الدينية تدفع إلى الأذى من غير نظر لعهد ولا لأمانة, ولا لمصلحة اجتماعية أو شخصية,

ومن هذا نفهم كيف كان ابن تيمية الذى رأى بعض أعمال التثرء وسمع عما سيق كتخريب بغداد. يشن الحرب على الثثر وعلى الروافضء ويوجب أن يكون للنصارى واليهود شارة خاصة ليعرفوا فيحترس منهم,

- خرجت الخلافة من بغداد حائرة. حتى أوتها مصرء وحفظت اسمهاء وإن زال معناهاء وسنشير إلى ذلك إن شاء الله تعالى: واستمر الثتار ينسايون فى البلاد الإسلامية, وذهبوا إلى دمشق واستولوا عليهاء قاصدين إلى مصر كنانة الله فى أرضه. ولكن قصم الله ظهورهم لأول مرة؛ وانشر إلى ذلك ففيها عبرةء وفيها تصوير لما أدركه ابن تيمية وعلمه.

لقد دخل التتار حلب بعد بغداد» وذهبوا إلى دسشق فاستولوا عليها فى جمادى الأولى سنة 164؛ واستولوا على القلعة بعد مصالحة أحد أمرائهم واسمه إبل سيان فقرب النصارى إليه. وهم تقربوا إلى هولاكو. قذهبت إليه طائفة منهم معها الهدايا والتحفة وجاءوا من عنده ومعهم أمان بفرمان أصدرهء وكان ذلك وصلا لما بدوه من قبل فى يغداد» بل فى كل مدينة دخلها التتارء ولنترك الكلمة لابن كثير يشرح ما كان منهم, فقد قال: «دخلوا هن ياب توماء ومعهم صليب متصوب يحملونه على رعوس الناس» وهم ينادو بشعارهم ويقولون: ظهر الدين الصحيم, دين المسيح. ويذمون دين الإسلام وأهله: ومعهم

11

أوان فيها خمر لايمرون على باب مسجد إلا رشوا عنده خمراً» وقماقم ملآنة خمراً يرشون منها على وجوه الناس وثيابهمء ويأمرون كل من يجتازون به فى الأزقة والأسواق أن يقوم لصليبهم: فتكاثر عليهم المسلمون فردوهم إلى سوق كنيسة مريم؛ فوقف خطيبهم فمدح دين النصارى؛ وذم دين الإسلام وأهله. فإنا لله وإنا إليه راجعون». | 00 ثمنقل ابن كثير عن ذيل المرآة ما نصه: «إنهم دخلوا الجامع بخمرء وكان فى نيتهم إن طالت مدة التتار أن يخريو) كثيراً من المساجد وغيرها؛ ولا وقع هذا فى البلد اجتمع قضاة المسلمين والشهود والفقهاء فدخلوا القلعة يشكون. هذه الحال إلى متسلمها أبل سيانء فأهينوا وطردواء وقدم كلام رؤساء النصارى عليهم, فإنا لله وإنا إليه راجعون:(). ,

-١41‏ هذا بلاء عظيمء ولكنه فى دمشق لم يدم طويلا؛ فقد جاءت الجيوش المصرية فهى آخر رمضان من هذه السنة نفسها بقيادة ملكها المظفر قطن فقد بلفه أنهم قاصدوه» فبادرهم قبل أن يبادروهء وتغداهم قبل أن يتعشوه. فالتقى الجيش المصرى فى عين جالوت بالجيش التترى؛ فانهزم التتار لأول مرة: وتد وتبعتهم الجيوش المصرية تذيقهم بعض ما أذاقوا الآمنين» فقتلوهم وشردوهم وصاروأ يقتلون ويأمسرون؛ حتى ابذعروا فى البلاد ثافرين لاجامعة تجمعهم؛ وكان الأسرى عدداً عظيماً لا يحصى, وكانت لهم معاملة خاصة سنشير إليها فى بحثنا.

ولم يكتف المصريون بإجلائهم عن دمشقء ؛ أجلوهم بقيادة الظاهر بيبرس بعد قط عن المدن السورية. والثغور, وكانت هذه أول مرة تنكسر فيها تلك الصخرة القوية التى جاءت هن الصين هاوية على رءوس الناس وخاصة المسلمينء ولايعلم إلا الله أين كانت تق ل يقفه! الممريون فى مين جاو ا ل أنها كانت قاصدة أوريا التى كانت

تعد فرائتص أهلها عند ذكر هجومهم؛ واذلك يقول المؤرخون إن مصر عندما حطمت نلك الصخرة لم تنقذ الإسلام وحده؛ بل أنقذت المسيحية أيضاًء بل أنقذت الحضارة من أن يقضى عليها أواتك الوحوش.

وفى الحق أن الإسلام قد استطاع أن يصل إلى قلوب هؤلاء المغول: فقد كان الملوك من بعد هولاكى مسلمين وإن لم يذق التتار بشاشة الإسلام إلا بعد فثرة من الزمان,

,77١ ص‎ ١7 البداية والنهاية لابن كثير ج‎ )١( وأا‎

فليعرف همج الأوربيين اليوم ما صنعه الإسلام: فقد حماهم بصنيعه من الفناء» وكان لمصر فى ذلك الفضل الأكبرء فقد كانت وحدها حاملة اللواء الذى حمى الحضارة.

4 - وهنا أمر لابد من الإشارة إليه ذلك أن قطن لما أخذ يعد العدة وجد بيت المال خالياًء فاتجه إلى العز بن عبد السلام كبير فقهاء عصره؛ وشيخ الشافعية يستفتيه في فرائض يفرضها على الناس لحماية الدولة, فافتاه وكانت الفتوى تدل على مقدار اتسباع الأفق الإسلامى, فإنه مما أجمع عليه الفقهاء أنه إذا كانت حرب ولم يكن مال وجبت أموال غير الزكاة وغير الخراجء وهذا من قبيل الضروريات» وقد جمع من أهل مصر عن كل رجل أو امرأة دينارء وأخذت أجور الأوقاف الخيرية قبل ميقاتها بشهرء وعجلت الزكاة سنة, وأخذ من التركات ثلثها(!).

ويذلك تكون مصر قد أثقذت العالم من شر التتار بدمها ومالها فكانت حقاً كتانة الله فى أرضه؛ من أرادها بسوء قصم الله ظهره.

0 - هذه جملة من حوداث التتار وكانت قبل ميلاد ابن تيمية وواقعة عين جالوت قبل ميلاد ابن تيمية بنحى ثلاث سنينء أو بسنتين وبعض السنة على التحقيق؛ لأنها كانت فى آخر رمضان سنة 1648؛: وميلاده رضى الله عنه كان فى العشر الأولى من ربيع الأول سنة ١11؛‏ وما ولد وجد آثارهاء وحديثها عمن شاهدوها وعاينوها؛ وعرف فضل مصر هلى الإسلام؛ واذلك لم يتجه إلا إليها عندما أغاروا مرة أخرى على دمشق؛ وكان هو الداعى إلى المقاومة. والمغامرة فى الحرب بقيادة ملك مصرء وهى صاحب الفتوى بإباحة قتالهم بعد أن صاروا مسلمين.

1 - وأقد صار لمصر صفة شرعية شكلية: لأن الخلافة قد آلت إلى ربوعها بعد أن فقدت بغداد سلطانها وخربها الثتارء ولم تعد قصبة الدولة الإسلامية؛ فاشرابت الأعناق إلى مصر, بعد ذلك النصر المبين.

لقد أعاد الظاهر بيبرس الذى أتم الانتصار على التتار الخلافة الإسلامية لبنى العباس بعد أن استمر ذلك المنصب الجليل شاغراً ثلاث سنوات بعد قتل الخليقة العباسى بيغداد عند غزى التتار لهاء وتخريبهم إياها.

1

لقد وجد اثنين من أولاد أحد الخلفاء العباسيين أحدهما المستنصر بالله أبى القاسم أحمد بن الخليفة الظاهرء والثانى أخوه الحاكم يأمر الله.

فبويع بالخلافة للمستنصر فى رجب سنة 101 على ملأ من كبار العلماء منهم عالم العصر العز بن عبد السلامء وكبار رجال الدولة؛ وأولى الحل والعقد وكان يوماً مشهوداً كما قال أبى القداء. .

ولم يتول المستنصر الخلافة ثيكون رمزاً لمعناها من غير أن تكون له حقيقتها وقوتها,

بل تولاها ليستعيد سلطانها الأول» ومن أجل ذلك اختاره الظاهر وأعانه؛ فقد جهزه بجيش قوى, وعتاد وعدة وأنفق عليه وعلى جيشه نحواً من ألف ألف(') دينار؛ ولا استوى الأمر للمستنصر ذهب على رأس ذلك الجيش ليخرج التثار من بغداد؛ ويعيدها قصبة للدولة كما . كانت؛ ويعيد إليها ماضيها المجيد؛ وقد فتح البلدان فى الموصل والعراق؛ ولكن تفرق عنه جنده من بعدء وخرجت عليه كتيبة من التتار فقتلته وبعض من كان معه, واستطاع أخوم الحاكم أن ينجى بنفسه؛ فعاد إلى مصر وبايعه الظافر.

- استفاد الإسلام بلاشك من إقامة خليفة يكون عنواناً للوحدة الإسلامية؛ ورمزاً لجماعتها الموحدة, وإذا كانت الخلافة قد عادث شكلا لا قوة له: فقد حاول المستنصر أن يعيد لها معناها؛ وإن أخفق فإن بقاء الشكل قد يكون إيذاناً بعودة الحقيقة؛ أو بوجوب. عودتهاوقتاً من الأوقات.

وقد استفاد الظاهر من ذلك؛ فقد ولاه الخليفة الأمرء وجعله سلطان المسلمسين. لا سلطان مصر وحدهاء ويذلك لم يعد لفيره من الأمراء أى صفة شرعية بمقتضى هذا ' المنطق السياسىء؛ فيباح له أن ينقض على غيره ويفرض سلطته الشرعية على من فى حوزته: وعلى من فى سلطانه أن يعاونو) الظاهر إجابة انداء الخليفة الذى ألقاه إبراهيم بن لقمان الذى كتيه وأنشأه.

-1١ 4‏ قتل المستنضر بعد عام من توليه أمر الخلافة, وهى يسعى فى بسط سلطانها. وإعادتها إلى بغدادء قبايع الظاهر الحاه الحاكم من بعده كما نيهنا. وكان ذلك فى يوم الخميس وهو الثانى من المحرم سنة ,11١‏ ولقد شطب الخليفة خطبة الجمعة فى اليم التالى؛ وكانت خطبته دعوة للجهاد: وهذا نصها. ْ )١(‏ تاريخ ابن كثير الجنء الثالث عشر ص 7؟7.

1١11/

«الحمد لله الذى أقام لآل غباس ركناً ظهيراً» وجعل لهم هن لدنه سلطاناً نصيراًء أحمده على السراء والضراءء وأستعينه على شكر ما أسبغ من النعماء. وأستنصره على دفع الأعداء. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله له وعلى آله وصحبه نجوم الاهتداء. وأئمة الاقتداء. لا سيما الأربعة» وعلى العباس كاشف غمة: أبى السادة الخلفاء. وعلى بقية الصحابة أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أيها الناس: اعلموا أن الإمامة فرض من فروض الإسلام.والجهاد محتوم على جميع الأنام: ولا يقوم علم الجهاد إلا باجتماع كلمة العباد, ولاسبيت الحرم إلا بانتهاك المحارم؛ ولا سفكت الدماء إلا بارتكاب الجرائم: فلى شاهدتم أعداء الإسلام لما دخلوا داو السلام. واستباحوا الدماء والأموال. وقتلوا الرجال والأطفال» وسبوا النساء والبنات:' وأيتموهم من الآياء والأمهات, وهتكوا حرم الخلافة والحريم: وعلت الصيحات هن هول ذلك اليوم الطويل» فكم هن شيخ خضبت شيبته بدمائه. وكم من طفل بكى فلم يرحم لبكائه» فشمروا عباد الله عن ساق الاجتهادء فى إحياء فرض الجهاد, «فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم؛ ومن يوق شح نفسه فأوائك هم المفلحون»(١)‏ فلم يبق معذرة فى القعود عن أعداء الدين: والمحاماة عن المسلمين؛ وهذا السلطان الملك الظاهر السيد الأجل العالم العادل المجاهد المؤيد ركن الدنيا والدين قد قام بنصس الإمامة عند قلة الأنصارء وشرد جيوش الكقر بعد أن جاسوا خلال الديارء وأصبحت البيعة بهمته منتظمة العقود. والدولة العباسية به متكاثرة الجنودء فبادرو) عباد الله إلى شكر هذه النعمة, وأخلصوا نياتكم تنصرواء وقاتلوا أولياء الشيطان تظفروا ولا يروعكم ها جرى؛ فالحرب سجالء والعاقبة للمتقين» والدهر يومان والأجر للمؤمتين جمع الله على الهدى أمركم؛ وأعن بالإسلام نصركم. وأستففن الله لى ولسائر المسلمين فاستغفروه, إنه الفقور الرحيم)!().

4 - وقد اتخذ الخليفة القاهرة مستقراً له ومقاماً» ولم يحاول الذهاب إلى بغدادء وقد كان ذلك أمل أمراء مصر من قيل» فقد فكر فى ذلك أحمد بن طولون؛ ولكن لم يتم له ها أراد؛ إلى أن كانت الحوادث نفسها هى الدافعة إليه, ومنطق الواقع هى الباعث عليه.:

ومصر قد حققت ما أمل فيهاء فقد استطاع الظاهر بيبرس أن يسترد من أيدى التتر بلادا كثيرة: وأن يهزمهم فى كل الوقائع التى نشبت بينهمء وأن يبدل المسلمين من )١(‏ سورة التفابن: 15 << ()) تاريخ ابن كثير الجزء الثالك عشر ص 18.

31

خوفهم أمناء وصار ملكه يمتد شرقاً إلى الفراتء وجنوبا إلى أقصى السودان: وجعل القاهرة جديرة بأن تكون قصبة الدولة. فآكثر فيها من إنشاء المدارس: وكان العلماء يحجون إليها من كل فج عميق» وجعل الإسلام شعار دولته؛ وملتقى مظهرهاء وقد قال فيه ابن كثير: «مستيقظاً شهماً شجاعاً؛ لا يفتر عن الأعداء ليلا ولا نهاراً» بل هو مناجز لأعداء الإسلام, لم شعثه وجمع شمله: وفى الجملة أقامه الله فى هذا الوقت المتأخر عونا ونصراً للإسلام وأهله, وشجا فى حلوق المارقين من الفرنج والتتار والمشركين؛ وأبطل الخمور وذفى القساق من البلاد, وكان لايرى شيئاً من الفساد والمفاسد إلا سعى فى إزالته بجهده وطاقته»!(),

٠‏ - بهذا العمل الجليل استاهلت دولة المماليك أن تكون حامية الإسلام, واستحقت القاهرة أن تكون حاضرته ولا غرابة حينئذ أن نخد ابن تيمية الذى تفتحث عينه في الوجود فى عهد ذلك الملك الهمام؛ يرى فى مصر كل آماله لنصرة الإسلام؛ والدقاع عن المسلمين: ويرى سلاطين المماليك حماة الدولة الإسلامية؛ ونجده يفضي عن هناتهم؛ بل يصفح عنهم فى سيئاتهم التى ارتكبوها فى شاه لأنهم مهما يكن شأتهم قد صاروا أقوى قواد فى الدولة الإسلامية» وقد توارث الحنابلة فيما يينهم جواب الإمام أحمد بن حنبل عندما سثل عن قائدين أحدهما صالح ضعيف والآخر فاسق قوى؛ مع أئ القائدين يقاتل المؤمن المقاتل؟ فقد قال رضى الله عنه: مع القوى دون الضعيف؛ لأن القوى قوته للمؤمنين وفسقه على تفسه؛ والصالع ضعفه على المؤمنين وصلاحه لنفسه.

ولهذا كان رضى الله عنه يتابعهم: ويقاتل معهم. ويستحث سلطائهم إن:وثى أى سكت, ويكون تحت رايته فى حومة الوفى؛ عندما تسترخص النفوس فى رضا علام الغيوب؛ ومالك املك ذى الجلال والإكرام.

٠١‏ - كان اللون السياسى للعالم الإسلامى فى عصر ابن تيمية؛ وخصوصاً فى مصر والشام هو اللون الذى اصطبغ به حكم المماليك؛ ذلك بأن ممبر والشام فى حكم الدولة الأولى والثانية من دولتى المماليك كانتا تحت سلطانهم ولا يهمنا إلا الدولة الأولى وعصرها؛ لأنه هى العصر الذى عاش فيه ابن تيمية.

وإن الحكم فى الدولة كان بلاريب حكما مطلقاً. الحاكم فيه مستيد لايصل إلى )١(‏ الجزء الثالثك عشر ص 9/1.

115

الحكم إلا بقوته» وقد يحوله يعد أن يستمكن فى عرشه إلى وراثة لذريقته من بعدهء وقد يستقر الأمر من آل إليه الملك وراثة. وأكن سرعان ما ينقض عليه قريب» أو قائد هن قواده, ايئخذ هنه الحكم بالطريقة التى أخذها أبوه أى جده واذلك كان بينهم تنازع مستمر على الملك؛ يختفى أحياناً ويظهر أحياناً فإذا كان عدى غالب من التتار أى غيرهاء اختفى النزاع فى بعض الأحوال. أو سكتء وإن كان أمن من الخارج ظهر النزاع قوياً خلاباً؛ وقد يستعين بعضهم بعدى للفريقين فى سبيل الاستمكان من خصمه لينال منه مارياً.

- وقد كان السلاطين فى صدى تلك الدولة يجتهدون فى أن يكون حكمهم تحت سلطان الدين يستمد منه قوته؛ ويعلن حكمه بين الناس»: ومن أجل هذا عنى الظاهر بيبرس بالإبقاء على الخلافة الإسلاميةء واستمداد السلطان من الخليفة» وكان كل سلطان من بعده يعلى بالوراثة, أو بالقوة» ولكنه يجتهد فى أن ينال التقليد من الخليقة الذى لم يعد له سلطان قطء حتى فى هذا التقليد, فلم يكن فيه مختاراً» بل كان فيه مضطراً .

ولم يكن للخليفة من مكانة إلا ذلك المظهر الشكلى؛ ومنهم من لم يعامله بما يستحق هن إجلال وتقدير احتراماً لذلك الاسم الذى يحمله؛ بل إن بعضهم نفاه هرة إلى قوص.

وكأنهم ينظرون إلى الخليفة كأنه صاحب سلطة دينية لا تتجاوز التولية: أو التقليد الشكلى: فإن آل إليهم الأمر فالحكم بمقتضى السلطان والدين لهم يحكمون بحكمهم فى الناس جميعاً. ومتهم الخليفة نقسه. قهى محكوم بهم رضى أو سخطل"".

7 - وكان نظام الحكم عسكرياً عرفياً: لايعتمدون فيه على قانون مسطور, ونظام قائم؛ ولا توجد شورى منظمة يقوم عليها أساس الحكم ؛ ومع ذلك كانت الوظائف الشرعية قائمة, فالحسبة كانت قائمة؛ والقضاء له سلطانه. وقد أدخل السلطان الظاهر تقليداً حسناً اتبع من بعده. فقد جعل القضاء بتربعة المذاهب؛ لكل مذهب قاض يقضى بين معتنقى المذهب.

واكن مع بقاء الوظائف الشرعية. واتساع الدراسات الإسلامية فى المدارس؛ ما كان يعتبر فى نظام الحكم إلا المصلحة التى يراها السلطان وأعوانه؛ والذين معه من قواد ووزراء» وعلى حسب حالهم من صلاح أو فساد يكون الحكمء وتكون سمته التى يتسم بها. )١(‏ راجع أخبار معاملة السلاطين للخلفاء فى مصر فى حسن المحاضرة للسيوطى ج ؟ ص 5١‏ وها والاها.

١

وكثير من السلاطين كان يحاول أن يكون حكمه برضا العلماء؛ وكان يكثر ذلك بين الملوك ذوى الهمة؛ وخصوصاً فى أوقات الشدة: وعندما يحتاجون إلى نفوذ العلماء. وفرض أمور على العامة لا يقبلونها إلا باسم الدين؛ وقد كان الظاهر بيبرس الذى سن تقاليد الحكم لدولة المماليك يعنى بسماع كلام العلماء واستشارتهم؛ وتنفيذ آرائهم إن لم يجد فى تنفيذها حرجاً وقد يصب جام غضبه على بعضهم؛ وإكن لم يعلم أنه ذهب به فرط الغضب إلى إنزال الأذى.

وقد عاصره عالمان جليلان كان كلاهما يستمتع بنفوذه عند العامة, أما أحدهما فقد كان الظاهر له مطيعاً؛ وأما الثانى فقد صار له مفاضباً.

فالأول العز بن عبد السلام؛ وقد قال السيوطى فى علاقته بالظاهر: «كان بمصر منقمعا تحت كلمة الشيخ عز الدين بن عبد السلام لا يستطيع أن يخرج من أمره, حتى أنه قال لما مات الشيخ: ها استقر ملكى إلا الآن»(2,

والثانى الشيخ محيى الدين النووى؛ وكان بدمشقء وكان كثير الوعظ للظاهر, يكتب إليه بما يراه.إن كان بمصرء ويصدع بكلمة الحق أمامه إن كان الظاهر بدسشق. خاص بطلب ترك بعض الضرائب ال مفروضة لضيق الحال؛ وخشية المال» فيقول فى إحداها الغلات والثبات, وهلاك المواشىء وأنثم تعلمون أنه تجب الشذقة على الرعية» ونصيحته (أى

وقد رد السلطان هذه النصيحة رداً عنيفاًء واستنكر على العلماء موقفهم منه. وسكوتهم يوم كانت البلاد تحت سنابك الخيل فى عهد التتار عندما استواوا على الشام؛ فيرد الشيخ أيضاً ردأ قوياً مؤكداً قوله ونسيحته ومبياً أنها الميثاق الذى أخذه الله على العلماء ليبينته, ويقول رضى الله عنه رداً عليه وعلى تهديده: «وأما ما ذحر فى الجواب من كوننا لم نذكر على الكفار كيف كانوا فى البلادء فكيف يقاس ملوك الإسلام وأهل الإيمان وأهل القرآن بطفاة الكفار؛ ويأى شئ؛ كنا نذكر طغاة الكفار, وهم لا يعتقدون شيئاً من )١(‏ حسئن المحاضرة للسيوطي جِ ؟ ص .١١‏

لفل

ديننا... وآما أنا فى نفسى قلا يضرنى التهديد ولا يمنعنى ذلك من نصيحة السلطان» فإنى أعتقد أن هذا واجب على وعلى غيرىء وما ترتب على الواجب فهى خير وزيادة عند الله... وأفوض أمرى إلى الله إن الله بصير بالعباد. وقد أمرنا رسول الله عله أن تقول الحق حيثما كناء ولا نخاف فى الله لومة لاثم ونحن نحب السلطان فى كل الأحوال» وما ينقعه فى آخرته ودنياه».

وقد توالت كتب الشيخ بهذه القوة الرفيقة الحقء واكن لم ينتصح الظاهر بنصيحته؛ واستمر فى جباياته لأنها الحرب التى تحتاج إلى المال والعتاد؛ وقد جمع السلطان فتاوى العلماء فى تأييد عمله؛ فكتبوا يما أراد ما عدا الشسيخ محيى الدين فإن ذلك زاده استمساكاً برأيه وشدة قيه؛ فأحضره الظاهر ليوقع على ما وقعو)؛ فعندئذ أجابه جواباً عنيقاً» بعد تلك الرفيقة: قال له: «أنا أعرف أنك كنت فى الرق للأمير بتدقدار» وليس لك مالء ثم من الله عليك وجعلك ملكاًء وسمعت أن عتدك ألف مملوكء كل مملوك له حياصة(١)‏ من ذهبء وعندك مائة جارية. لكل جارية حق من الحلى» فإن أنفقت ذلك كله. وبقيت مماليكك بالبنود الصوف بدلا من الحوائصء وبقيث الجوارى بثيابهن دون الحلى أفتيتك بأخذ المال من الرعية».

فغضب الظاهرء وقال: أخرج من بلدى (أى دمشق) فقال: السمع والطاعة» وخرج إلى نوى بالشامء فقال الفقهاء: إن هذا من كبار علمائتا وصلحائناء وممن يقتدى به» فأعده إلى دمشقء فرسم يرجوعه. فامتتع الشيخ؛ وقال: لا أدخلها والظاهر بهاء فمات الظافر بعد شهرا؟.

٠4‏ - هذه القصة تدل على أن الظاهر هذا الذى سن التقاليد لدولة المماليك: كان يجتهد فى إرضاء العلماء. وأن يكون عمله متفقاً مع الدين» غير خارج عن نطاقه؛ وإن عارضه العلماء فى أمر ورأى فيه المصلحة؛ أو كان إجابة لرغبته يجتهد فى أن يحملهم على الرضا به. رضا كاملا أى غير كامل.

وأشد ما يكون الحمل على الرضا فى جمع الضرائب اللازمة للقتال. وقد رأينا أن أكثر خلافه مع الشيخ محيى الدين النووى رضى الله عنه فى .جمع الضرائب وطلب الإعفاء منها.

, الحياصة الثياب الموشاة بالذهب فى مضايقها‎ )١( ./١ إلى‎ ١ (؟) راجع هذه المكاتبات والمناقشات بكتاب حسن المحاضرة ج ”" ص‎ ف‎

ويظهر أن بعض تقديره للعز بن عبد السلام؛ لأنه وافق على الضرائب التى فرضها قطز من قبله, والتى فرضها هو من بعد بل إن حاجته إلى ا مال والمزيد منه حملته على التفكير فى انتزاع الأرض فى مصر والشام من أيدى المستولين عليها بحكم الملك لهاء بدعوى أن هذه الأرض ملك لبيت ا مال؛ لأنها فى ملكه من يوم الفتع تبعاً لما قعل عمر رضى الله عنه فى سواد العراق؛ ولكن وقف فى وجهه فى هذا الأمر الإمام النووى أيضاًء ومازال به.حتى حمله على العدول عن ذلك؛ وانتهى الأمر ببقاء الوضع فى ملكية الأراضى المصرية والشامية على ما كانت عليه من غير تغييرء ولقد قال النووى فى ذلك: «إن ذلك غاية العنادء وإنه عمل لايحله أحد من علماء المسلمين, ومن فى يده فهو ملكه لايحل الاعتراض عليه ولايكلف إثياته».

6 - أفضنا بعض الإفاضة فى ذكر أحوال الملك الظاهر لأنه كان أبرن سلاطين المعاليك, وأوسعهم نفوذاً» وهى وقطن اللذان ردا التتار على أعقابهم خاسرين؛ ولأن ابن تيمية رأى وعوده أخضر حكم ذلك السلطان الذى امتد نقوذه إلى ها وراء القرات» وجمع شمل بعض بلاد المسلمين, إن أنه قد توفى فى سنة 01. وابن تيمية فى نحو الخامسة عشرة يدرك الأمور ويفهمها ويتبعهاء ولاشك أنه علم, وشاهد ما كان بين الشيخ محى الدين النووى وبين السلطان الظاهر من خلاف أغلظ كل منهما القول فيه لصاحبه؛ فالسلطان يهدد ويرعد ويبرقء والشيخ يدفعه وينتهى إلى الانتقال من النصيحة إلى غليظ القول» ليشفى قلبه من مرارة التهديدء وكان النزاع فى واقع الأمر بين سطوة السلطان وقوة العلم, ثم إن النووى فى كتبه التى كان يرسلها هادياً ناصحاً مدافعاً عن الرعية كان يتكلم باسم العلماء باعتباره كبيرهم؛ ومتقدمهم فى الشام.

وإن المماليك لم يجئ فيهم من بعد الظاهر سلطان قوى يقاربه إلا السلطان الناصر الذى عاصس ابن تيمية: ودامت الصلة بينهماء بل ربطت بينهما المودة والصداقة والمحبة, على نحو ما رآيث فى سيرة ذلك الإماح الجليل: وقد ابتلى الناصر بمثل ما ابتلى الظاهر, فإن التتار قد جاوا إلى دمشق فى عهده. وراموا مصر فتصدى لهم الناصر بتحريض ابن تيمية, ومعاونته, كما تصدى من قبل الظاهر وقطز. 0

ففى الحقيقة كان عصر الناصر امتداداً لعصر الظاهر؛ والعصران لون واحد. وإذا كان عصر الظاهر قد توج بالعز بن عبد السلام؛ والنووى» وابن دقيق العيدء فقد توج عضر الناصر بابن تيمية: وإذا كان أولتك العلماء قد تصدوا للدفاع عن العامة وييان الحق قى حكم الدين؛ فقد حمل من بعدهم ابن تيمية العبء وحده: أى يكادء ويزيد عليهم أنه حمل السيفء وقاد الجيشء, وخرج من محراب الدرس إلى هيدان الجهاد كما بينا من قبل.

1 - وقبل أن نترك الكلام فى الحال السياسية فى عصر ابن تيمية ونظام الحكم نقرر أمريئ:

(أحدهما) أن العامة لم يكن لهم من الأمر شئ» فليس ثمة من يمثلهم فى شورى, وليس لهم أثر إيجابى فى نظام الدولة وأحكامها النافذة, ولكن كان السلطان مع ذلك يراعى جانبهم ولا يهمل أمرهم. وقد لاحظنا ذلك فيما سقناه فى حياة ابن تيمية والأدوار التى مر بهاء والشدائ التى نزلت به. فقد رأينا العلماء عندما كانوا يخالفونه, ولايجدون مساغاً ينفذون به عند السلطانء أو عندما كان يعرض عن سماع قولهم يحرضون العامة, ويثيرونهم. فيضطر السلطان للخضوع؛ فبصوت العامة الذين أجابوا دعاء الصوفية وغيرهم نفى إلى الإسكندرية ثم عاد إلى الشام من بعد ذلك.

فالعامة لم يكونوا مهملين فى الدور الأول من حكم المماليك, بل إنه لى لم يكن: اضطراب الأحوال بين المماليك أنقسهم وطغيان بعضهم على بعض لساروا بالأمانة فى طريق الحكم الشورىء إذا استمر سلطان الرعايا فى طريقه؛ حتى وصل إلى أقصى مداه من النظام الشورى المقيد لحكم السلطان.

(ثانيهما) أن قطن والظاهر والناصر من حكام المماليك؛ وكبار سلاطينهم قد اضطروا فى سبيل مقاومة غارات التثارء وفتن الباطنية وغيرها لأن يقرضوا فرائض دفعت إليها المصلحة الظاهرة للمسلمين» ولم يوجد ما يبنى عليه من أصل شرعى قائم صريح يطبق لفرض ضرائب غير الزكاة والخراج لأجل الحروب؛ وما يتخذ هن أحكام توجيها المصلحة, لذلك كثر كلام الفقهاء فى المصلحة ومقاهها من الدين: ومقامها من النصوص,. فنجد فريقا من الفقهاء غالوا فى تقديرهاء كالطوفى تلميذ ابن تيمية الذى فرض أن المصلحة تقف معارضة أحيانا للنص المقطوع به, وأنها تخصصه ووجدنا فريقاً آخر قد

1)

قبلها فى اعتدال فعارض بها الأدلة الظنية وفريقا أثبت أن المصلحة فيها جاءت بها النصوص الثابتة. والأقيسة الصحيحة؛ كما نرى قيما كتبه العز بن عبد السلام فى كتابه

العلماء. ولقد رأينا ابن تيمية وتلميذه ابن القيم يردون كل المصالح الاجتماعية؛ والآراء الفقهية المبنية على المصلحة والحاجة إلى الأصول الشرعية العامة.

ابا الحالة اللإجتماعية

/61 - شهد ابن تيمية مجتمعاً يموج ويمرج, كما هو الشأن فى الأزمان التى تكثر فيها الحروبء ويختلط فيها أمشاج من الناس وعناصر مختلفة, وأجناس متباينة, فقد وجدنا فى الحروب الصليبية الشرق يمتزج بالغرب وتتلاقى حضارات وديانات وعادات وأفكار؛ ومهما تكن العلاقة من عدارة ومحارية: فإن العدوى النفسية. والعدوى الفكرية, والعدوى فى العاداث: تسرى مع اشتجار السيوفء واختلاط الدماء.

وفى حروب التتار التقى قوم: اندفعوا من أقصى الشرق فى الصين حاملين عاداتهم وأخلاقهم وأهواءهم ومنازعهم بأهل الإسلام الذين اعندلت أمزجتهم وأفكارهم؛ واستقامت عقائدهم: وهم خاض عون لنظم مقررة ثابتة استنبطها العلماء من كتاب الله الهادى إلى سواء السبيلء وسنة النبى لله المبينة لأقوم منهاج مستقيمء التقى هؤلاء وهؤلاء. فكان من ذلك اللقاء اضطراب فى العادات والمنازع.

وفوق ذلك أن الحرب الضروس خلطت بين الأمصار الإسلامية نفسهاء فوجدنا أهل العراق يفرون إلى الشام عندما يفير التتار عليه, رأهل الموصل وما حولها يفرون إلى دمشقء وأهل دمشق وما حولها يتتقلون إلى مصرء بل إلى بلاد المغرب؛ وقد رأيت فى حياة ابن تيمية. كيف خرج علماء دمشق وولاتها والقادرون فيها عندما ساورها التتارء وكيف بقى ابن تيمية مع الضعفاء من العامة؛ ومن لا حول لهم,

وإن تلك الخلطة الإجبارية يكون منها خلط فكرى ونفسى واجتماعى فى العاداد ويتكون منها مجتفع مضطربء ليس فيه قرار ولا سكون. 1

الاضطراب الاجتماعىء ولعل ذلك من أسباب الاضطراب السياسى؛ وطمع كل أمير من المماليك فيما فى يد غيره من الملك والسلطان.

- وأقد كان الأسرى من الفرنجة والترك والتثر لهم شأن فى بعض النظم الاجتماعية, فقد كان المماليك أتفسهم من الأسرى أو المجلويين بالبيع فى عصر الأيوبيين ثم آل الملك إليهم. فكان فيهم الوزراء والأمراء والقواد وأهل السلطانء وما أسر قطز والظاهر بيبرس ثم الناصر قلاوون من بعدهما طوائف كثيرة جداً من التتار كان لهم شأن خاصء ولم ينغمروا فى عامة الناس: وما دخلوا فى الإسلام لم تكن كل تقاليدهم إسلامية, ولقد قال المقريزى فى هذا المقالما نصه: «ولما كثرت وقائع التتار فى بلاد المئشرق والشمالء وبلاد القفجاق وأسروا كثيراً منهم وباعوهم, وتنقلوا فى الأقطار واشترى الصالح نجم الدين أيوب جماعة منهم سماهم البحرية: ومنهم من ملك مصر.... ثم كانت لقطز معهم الموقعة المشهورة على عين جالوت. وهزم التتارء وأسر منهم خلقا كثيراًء ساروا ' بعصس والشامء ثم كثرت الوافدية فى أيام الملك الظاهر بيبرس. وملئوا مصر والشام, فانتشرت عاداتهم وطرائقهم... وكانوا إنما ربوا بدار الإسلام وأتقنوا القرآن» وعرفوا أحكام الملة المحمدية. فجمعوا بين الحق والباطلء ووضعوا الجيد إلى الردئ» وفوضوا لقاضى القضاة كل ما يتعلق بالأمور الدينية من الصلاة والصوم والزكاة والحج وناطوا به أمر الأوقاف والديون واحتاجوا فى ذات أنفسهم إلى الرجوع لعادة جنكيزخان, والاقتداء بحكم السياسنامة. فلذلك نصبوا الحاجب ليقضوا بينهم فيما اختلفوا فيه من عاداتهم, والأخذ على يد قويهم؛ وإنصاف الضعيف على وفق ما فى السياسناهة؛ وكذلك كان يحاكم التجار الممتازون من الأهالى على مقتضى قواعد السياسنامة: وجعلوا للحاجب النظر فى قضايا الديون السلطانية عند الاختلاف فى أمور الإقطاعات لينفذ ما استقرت عليه أوضاع الديوان». ش

- من هذا يتبين أن أوائك الأسرى من التتار نظر الملوك إليهم نظرة تقدير

وسهلوا عليهم الإقامة بينهم وسموهم الوافدية» وجعلوا لهم نظام حكم يخصهم ولايعم ك١‏

غيرهم من سكان مصر والشام: فكاتوا فى المسائل الشرعية الخالصة يخضعون لسلطان القاضى المسلم الذى يعينه ولى الأمر ليقضى بين الناسء وبالنسبة للمعاملات الجارية كانوا يتحاكمون إلى الحجابء ويسيرون على مقتضى قواعد السياسنامة, وهو كتاب الحكم الذى وضعه لهم جنكيز خان. ويقول علاء الدين الجوينى أن أكثره مخالف لما جاءت به الكتب السماوية» وأحكامه فيها قسوة وشدة, وفيها يهدر الدم لجرائم دون القتلء وقد تقل ابن كثير عن الجوينى نتفاً من السياسنامة, وهذا نص ما جاء فيه: «إن من زنى قتل, محصناً أى غير محصنء وكذلك من لاط قتل, ومن تعمد الكذب قتلء ومن سحر قتلء ومن دخل بين اثنين يختصمان فأعان أحدهما قتل؛ ومن بال فى الماء الواقف قتل. ومن انغفمس فيه قتل» ومن أطعم أسيراً أى سقاهء أى كساه بغير إذن أهله قثلء ومن وجد هارياً ولم يرده قتل.... ومن أطعم أحداً شيئاً فلياكل منه أولاء ولى كان المطعوم أميراً أو أسيراً» ومن أكل ولم يطعم من عنده قتلء ومن ذبح حيواناً ذبح مثله؛ بل يشق جوفه ويتناول قلبه بيده. يستخرجه من جوفه أولا»("),

وهكذا نرى العقوبات مغموسة بالدم.

٠‏ - وترى من هذا أن المماليك خصوا التتار الذين أخذوا أسرى أولا بمعاملة خاصة؛ ولعل السبب فى ذلك أنهم جميعاً من جنس واحدء فهم متلاقيان» وهم إن لم يكونوا إخوانهم فهم أبناء عمومتهم؛ فخصوهم بتلك المعاملة الخاصة.

وكانت لغتهم التركية؛ لا يلوون ألستتهم بالعربية إلا فى العبادات؛ وعندسا يخاطبون العلماء؛ أى يتحدثون إلى العامة إن تنزلوا وحادثوهم؛ لعل بعضهم الذى لم يكن فى منصب يضطره إلى هذا الخطاب كان لا يعرف العربية إلا بمقدار ما يؤدى فى الفرائض.

وكانت الإقطاعات والثروات التى تخرجها فى أيدى هؤلاء, أو تعود إليهم ثمراتها. وفيرهم من سكان الشام ومصر تجار أى صناعء أو عاملون فى الأرض كادحون: والحصاد لذوى السلطان.

١‏ - هؤلاء الوافدية ومعهم أفراد المماليك وذوى السلطان طبقة خاصة: ويليهم فى الاعتبار طبقة علماء الدين» فقد كان أوائك لمكانة الدين - لهم منازل خاصة: ولهم الطاعة

يفن

فى شئون الدين: ولا تتعرض سلطتهم للمخالفة إلا عندما يقفون أمام السلطان أو ضرائبه, كما فعل الظاهر مع النووى. ما كان لايهم السلاطين إلا الماله فكانوا يحتالون إليه بكل الحيل؛ فالظاهر بيبرس يفرض الضرائب الكثيرة ويحاول إخراج الأرض من أيدى أهلها؛ ويقف أمامه النووى رضى الله عنه معارضاً فى الأمرين. ومهما يكن من السلطان للعلماء فى ذلك العصر؛ فإنه بلا شك كان يضعف منه أن معيشتهم كانت من الأرزاق التى يفيض بها الوالى عليهم من بيت المال؛ ومنهم من كانت تنزله الحاجة: أو حب ال مال والطمع؛ إلى مالا يليق بالعلماء» وقد ذكر السيوطى فى حسن المحاضرة عن عالم عاصر ابن تيمية قصة تدلى فيها؛ فقد قال: «من غريب ما رأيت على كراريس من تسهيل الفوائد بخط الشيخ جمال الدين بن مالك صورة قصة رقعها الققير إلى رحمة ربه محمد بن مالك يقبل الأرضء وينهى إلى السلطان أيد الله جنودهء وأيد سعوده. أنه أعرف أهل زمانه بعلوم القراءات؛ والنحو, واللغة. وفنون الأدب وأمله أن يعينه سيد السلاطين ومبيد الشياطين: خلد الله ملكه. وجعل المشارق والمغارب ملكه - على ها هى بصدده من إفادة المستفيدين والمسترشدين - بصدقة تكفيه هم عياله؛ وتغتيه عن التسبب فى صلاح حاله؛ فقد كان فى الدولة الناصرية عناية يتيسر بها الكفاية. مع أن الدولة') من الدول الظاهرية, كجدول من البحر المصيطء والخلاصة من الوسيط البسيطء وقد نفع الله بهذه الدولة الظاهرية الناصرية خصوصاً وعموماً وكشف بها عن الناس أجمعين غموماً؛ وم بها من شعث الدين مالم يكن ملموماً: قمن العجائب كون المملوك من مرتد خيراتها وعن يمين عنايتها غائباً محروماًء مع أنه من ألزم المخلصين للدعاء بدوامهاء وأقوم الموالين بمراعاة مامهاء لابرحت أنوارها زاهرة, وسيوف أنصارها قاهرة ظاهرة: وأياديها مبذولة موقورة: وأعاديها مخذولة مقهورة بمحمد وله( وإن هذه القصة تدل على أن بعض العلماء أنزلته الحاجة أى الطمع من عزة العلم

.517 الدولة: القليل من المال الذى يكفيه. (؟) حسن المحاضرة ج 7 ص‎ )١( ١114

إلى الذل؛ ولكن إذا كان من العلماء مثل هذا؛ فقد كان فيهم مثل النووى من قبل ومثل ابن دقيق العيد. وحسب العلم عزة أنه كان فى عصر ابن تيمية وتلاميذه الذدن أعزوا العلم ورفعوا قدرهء فلم يكونوا. ممن يمدون آيديهم بطلب العطاء؛ بل كانوا يمدون السنتهم ببيان الحقائق» والهداية إلى الحق» وأوم من يستحق اللوم؛ ولم يكن للأمراء على ابن تيمية أى فضلء فقد حمل السيف كأششجع قائدء وزاد عليهم فضل ال معرفة «وهل يستوى الذين يعلمون والذين لايعلمون».

- وتحت سلطان الأمراء والعلساء عامة الناس, فالأمراء لهم سلطان ا مادة والقوة. والحكومة, والعلماء لهم سلطان الدين. والقوة الروحية المهدية؛ وكان الأمراء حماة الدولة, والعلماء عزاء النفوس وطب القلوب.

ولقد كان أولتك العامة زراعاً وصناعاً, وتجاراً فى القليل من المالء أما التجار فى الكثير فقد ارتفعوا إلى مرتية الخاصة من الأمراء والوافدية» وكانوا يحاكمون أمام الحجاب لا أمام القضاة كسائر الناس.

وقد كانت هذه الطبقة مكدودة عاملة وخصوصاً الزراع منهم؛ فقد كانت الأرض مجهودهم,

وقد كان ابن تيمية يرى ذلك فيعطف على العامة ويرشد الخاصة ويزود العلماء بالهمة والعزة» وقد رأى تقسيم الأراضى مرتين: رأى تقسيم الأراضى سنة 1417 وكان فيها نوع من الرحمة بالزارعين لتنمى الموادء ويكثر الثمر؛ ويكون الزرع والضرع؛ واكن غضب الأمراء من هذا الصنيع: وثاروا على من قام به» وهى حسام الدين لاجين.

أما التقسيم الثانى فقد كان فى عهد الناصر محمد بن قلاوون سنة :/١١‏ وقد أعاد إلى الأمراء فيه بعض ما أخذ منهم قهدوا واستقروا. ويظهر أن ابن تيمية كان يتجه فى الإصلاح إلى الخاصة: فإن صلحوا استقام العامة؛ وارتفع الظلم عنهم؛ ويبدى ذلك فى كتابه السياسة الشرعية. 58

بجا الحياة الفكربة

7 - تشعيت الحياة الفكرية فى عصر ابن تيمية وما سبقه وما تلاه؛ بل تضاريت مناهجهاء فقد كان القرنان السادس والسابع (ويعدهما الثامن تابعاً تهما) متناحر الأفكار, ومضطرب الآراء؛ والمناهج المختلفة؛ فالعلماء قد اختلفت مناهجهم: فعلماء قد استيحروا فى الحديث والتفسيروالنحى والفقه والعقائد, ولكن كانوا مقلدين تابعين. وليسوا مجتهدين مستنبطين؛ حتى فى العقائد ارتضوا التقليد والاتباع؛ ولم يسيروا وراء البرهان» وكان بجوار هؤلاء فلاسفة مسلمون ينطلقون فى الدراسات منتهين إلى ما تتادى بهم النتائج: غير ملتفتين إلى ما وراء ذلك» وبين هؤلاء وأوائك علماء وفلاسفة قد حاولوا أن يربطوا بين الفلسفة والدين كما فعل أصحاب رسائل إخوان الصفاء وكما فعل اين رشد فى كتابه (فصل المقال فيما يين الشريعة والفلسفة من الاتصال).

وفى وسط ذلك الجمود الفكرى: والشطط الفلسفىء تجد علماء أفذاذاً قد جمعوا بين المعقول والمنقول» وقوة الفكر مع قوة الدين» كالعز بن عبد السلام؛ ومحيى الدين النووى, وابن دقيق العيدء والغزالى: وفخر الدين الرازى قبل هؤلاء. ثم بجوار هؤلاء العلماء والفلاسفة نجد المتصوفة الذى جمعوا بين المناهج الفلسفية العقلية, والمنازع الروحية الخالصة؛ وخلصوا من ذلك بفلسفة روحية قد تقرب أو تبعد من المناهج الدينية التى سلكها علماء الدين بالمصباح المثير من كتاب الله المبين» وسنة رسوله النبى الكريم.

ومن وراء أولئك المتصوفة المتفلسفة, كان أصحاب الطريق يقودون العامة, ويرشدونهم إلى مناهج السلوك الذى سنه علماء الصوفية. وقد يشتطون فيبتعدون عن الدين» ومسالكهم فى الإرشاد والتعليم تقوم على التهذيب الشخصى من الشيخ لمريديه بما يشبه الاستهواء؛ وجاء من وراء ذلك تقديس الأشياخ؛ والاعتقاد فيهم واتباعهم فى الحياة وتكريمهم بالزيارة بعد الوفاة حتى كان هن وراء ذلك الاعتقاد بمنازلهم من الله وكرامتهم؛ وشاعت حولهم الأقوال التى تتجاوز بهم المراتب الإنسانية.

وكان بجوار هؤلاء وأوائك الفرق الإسلامية فى العقاكد والسياسة تتنازع الفكر, بالحجة والبرهان: وإن كان الأساس انتحال فكرة يتعصب لها المناظرء وما كانت الأدلة للإقناع والإرشاد والهداية: بل كانت الأدلة تساق للغلب والسيطرة الفكرية: ولذلك فقدت

١

الباعث الحسنء فكان التتاحر الفكرى الذى لاجدوى فيه إلا تأريث عداوة القلوب والتفريق بين أهل الملة حتى صاروا شيعاً وأحزاباًء وكل حزب بما لديهم فرحون,

ثم انتقل الأمر من الالتحام الفكرى؛ والجدل والمناظرة, إلى المكايدة وتدبير المؤامرات؛ وموالاة أعداء الإسلام؛ ووضع الكمين لأذى الأمة؛ وإفساء الأمر عند أولياء الأمرء كما كان الأمر بين الجماعة والشيعة.

4 - ولكى يتبين الكلام فى حال العصر الفكرية. وهى التى نما وترعرع فى ظلها ابن تيمية لابد من الإشارة بكلمة موضحة لأريع نواح وهى الاتجاهات التى كانت فى ذلك العصر؛ والتى تكشف عن المناهج الفكرية فيه؛ وهذه النواحى - أولها - أحوال الدراسة العلمية الدينية والتاليف, والثانى الفرق الإسلامية الخالصة التى امثد تاريخها فعاصر أتباعها ابن تيمية, والثالث الصوفية والمتصوفة, ويتبعها الطرق» والدراسات الشعبية: وإن دراسة هذه النواحى تكشف لنا العناصر التى تغذى منها ذلك العالم الجليل ابن ثيمية, وتكشف عن البواعث التى كانت سبب نشاطه فى هذه النواحى المختلفة, ثم تكشف عن البواعث التى جعلته يستنكر ما استنكر, ويقر ما أقر,

الدراسات العلمية

6 - اتسمت الدراسات العلمية فى عهد ابن تيمية بالتحيز الفكرى والتعصب المذهبى: فكل رأى فى العقيدة له إمام من المتقدمين يتبع من بعض المتأخرين وينظر إلى آرائه كلها على أنها الحق الذى لاشك فيه. وعلى أن آراء غيره الباطل الذى لاشك فيه؛ وكل مذهب فقهى له أتباع يتبعونه على أنه صوابء وغيره خطأ؛ وإن تساهلواء إذ يقولون رأى إمامنا صواب يحتمل الخطأء ورأى غيرنا خطأ يحتمل الصوابء وهكذا فى كل مناحى الفكر.

وقد توارثت الأجيال ذلك التحيز الفكرى من القرن الرابع الهجرى؛ حيث اشتد الخلاف والجدل بين المعتزلة المهزومة» وبين الاشعرية والماتريدية فى عنف وإجب فانتقل ذلك إلى الأجيال مدوناً فى بطون الكتبء وكثيراً ما تجد كتاباً تعد صفحاته بالمجلدات الضخام, وكله قائم على شرح الخلاف. وتسجيل الجدلء وبيان أوجه المتناظرين والتعصب لواحد منهاء وقد سرى ذلك إلى المعاصرين لابن تيمية؛ فكان ذلك محل الخلاف الشديد بينه

فيل

وبينهم؛ يتبعون الرجال على أسمائهم, وابن تيمية يتبع الدليل فى نظره. ولا يهمه القائل, إنما يهمه القولء إن استقام مع منهاجه فى الاستدلال اتبعه, وإن لم يستقم رده.

وإذا كانت القرون الثلاثة السادس والسابع والثامن قد امتازت بكثرة العلم: لا بكثرة الفكرء فقد كانت ا معلومات كثيرة جداً» وتحصيلها كان يقدر عظيم؛ وعكوف الناس عليها كان كبيراً, واكن التفكير المطلق فى مصادرها ومواردهاء والمقايسة بين صحيح الآراء رسقيمها مقايسة حرة من التعصب الفكرىء والتحيز المذهبى؛ لم يكن بقدر يتناسب مع تلك الثروة المثرية التى توارثتها الأجيالء فقد كانوا يتلقونهاء ويستحفظون عليهاء ولكن لا يقدرونها حق قدرها بالنظر الفاحص ا مجرد أ النظر الذى يعم كل الجوائبء لا ينحاز إلى جانب من الجوانب» ويتظر من زاويته دون سواهء فجاء ابن تيمية, وفكر فى هذه الثروة ونظر إليها من كل جوانبها.

1 - ومهما يكن من شئ فقد كانث السبل لطلب العلم وتحصيله معبدة سهلة, فقد سهلتها المدارسء والموسوعات العلمية الكبيرة. وخزائن الكتب المتفرقة فى الأمصار الإسلامية» وخصوصاً فى مصر والشامء ثم الرجال الذين وقفوا أنفسهم على شرح الكتب المتوارثة» وتوضيحهاء وردها إلى مصادرها الأولى.

فالمدارس وجنت فى القرن الرابع ثم انتشرت فى القرن الخامس فى الأقطار الإسلامية شرقيها وغربيها ووسطها؛ لقد كان طالب العلم فيها يبذل المجهود قى طلب الشيخ؛ ويركب متن السفرء ويبذل من ماله وحاله فى طلب المتان من الشيوخ الشئ الكثير, حتى إذا عثر عليه ازمه؛ وكانت المساجد أماكن الدرس لأكابر العلماء. حتى إذا جاء القرن الخامس أخذ الملوك والأمراء ينشئون المدارس إذاعة لنقوذهم, أى خدمة لدينهم. أى نشرا للنور والمعرفة بين شعويهم؛ وفى هذه المدارس كانوا يجمعون العلماءء فصار طالب العلم لا ينتقل إلى العلمء فقد انتقل العلم إليه. وصار لا يبحث عن شيخه فقد جاء الشيخ إليه.

وقد توجس المخلصون من العلماء خيفة من ذلك. وظنوا أن العلم سيبتذل» ويطليه الخخص وغير المخلصء ويطلبه ذوو الأرب؛ وذوى الدين؛ ويطلبه العلية ويطلبه السفلة؛ حتي ليروى أن علماء ما وراء النهر عندها علموا بإنشاء المدارس»؛ وجلب العلماء لها أقاموا مأتماً للعلم؛ لأنهم حسبوا ذلك يؤدى إلى ضياعه؛ وقساد الأمر, فل

وأسنا نجارى أوائك العلماء فى خيفتهم؛ وإكننا نقول أن إنشاء المدارس مع أنه أدى إلى نشر العلم وكثرة تحصيله. قد أدى إلى التعصب الفكرىء وكثرة الأتياع» وقلة التذكير الحر المستقل الذى ينظر إلى الدليل. وما يوصل إليه البرهان من غير تقليد أى اتباع؛ وإن تساهلنا وقلنا أن ذلك التحيز الفكرى قد اقترن بإنشاء المدارس: قإنه لابد أن ذلك كان بعض أسيابه» وإن لم يكن كلها.

ومهما يكن فقد كان إنشاء المدارس سببا فى كثرة التأليف وكثرة التحصيل واطلاع طالب العلم والشادى فيه على عدة فروع من العلم؛ فقد صسار طالب العلم يجد فى المدرسة علوم النقل؛ وعلوم الفقه والحديث والتفسير واللغة, فينهل منها جميعاً, ويتثقف بها ثقافة عامة: ثم يخصصه اتجاهه ونزعته فى أحدهما فينظر فيه.

وقد كان لكل علم أحياناً مدرسة, فمدرسة للحديث؛ وأخرى للفقه., وهكذا !..

7 - قد ابتدآ إنشاء المدارس فى آخر القرن الرابع الهجرى كما ذكرناء وكان يقوم بإنشائها بعض الأمراء.. وبعض ال ملوك, بل بعض العلماء الذين أوتوا بعض اليسارء كمدرسة بنى قدامة بالشام؛ وقد أشرنا إليها فى ماضى قوأنا.

ومن أوائل المدارس وجوداً مدرسة أبى على الحسينى المتوفى سنة 47 يخراسان, وكانت لتعليم الحديثء وكان بها نحى من ألف طالب ومن الأوائل مدرسة ابن فورك المتوفى سنة 401 بخراسان أيضاً؛ ومنها مدرسة أبى حاتم البستى المتوفى سنة 4٠١‏ وترى من هذا أن فارس وخراسان سبقا البلاد الاسلامية بإنشاء المدارس؛ ومن ورائهما كثرت المدارس فى القرن الخامس والسادس والسابع والثامنء وما إلى ذلك.

وقد ابتدأت المدارس بأموال ذوى اليسار كما نوهناء ثم تولاها الملوك والأمراء. فأنشا نظام املك السلجوقى مدارس فى يغداد واليصرة والموصل ونيسابور ومرو وهراة, ثم جاء من بعده محمود نور الدين زنكى: فانشاً مدرسة دمشق للحديث؛ وحبس عليها أحباساً كثيرة, ثم أنشاً نور الدين غير مدرسة دمشق مدارس فى حلب وحمص وغيرهاء ثم جاء صلاح الدين: فآكثر من إنشاء المدارس بمصر والشام.ووضع لها نظما ثابتة مقررة» وكان يحضر بعض الدروسء بل إنه كان يتجه إلى الاستماع إلى الحديث ها اتسع له الوقت فى ذلك.

ازخرق

وجاء بعد ذلك المماليك. فساروا على سنة الأيوبيين وحبسوا الأحباس عليها؛ وأظلوها برعايتهم.

4- فى هذا العصر المدرسى عاش ابن تيمية؛ وفى مهد هذه المدارس نشاً وترعرع؛ فقد كان أبوه على رأس إحدى المدارس بدمشق؛ وكان على مشيخة الحديث بها كما علمت.

وقد تغذى أبن تيمية النافذ البصيرة من هذه المدارس غذاء كاملاء فقد تهيا له فيها أن يتلقى الحديث على أكبر شيوخه؛ وأن يتلقى علوم العقل على ذوى المهارة فيهاء فدرس المنطق دراسة فاحص ناقد, لا دراسة محصل فقطء يقبل الكلام على علاته: ولا يدرك هناته, ودرس علوم اللغة كلها على شيوخهاء حتى ساغ له أن ينقد إمام النحاة فى القديم سيبويه أمام كبير النحاة فى عصره وهى أبى حيان, ثم استبحر فى الفقه ردأ له إلى أصوله من الكتاب والسنة وآراء السلف الصالح: والأقيسة المستقيمة... وهكذاء وما كان ليتستى له ذلك الاطلاع الواسع: والاستبحار والتعمق, والتخرج على أكبر الشيوخ بيسر وسهولة إلا بوجود المدارس التى سهلت للعلماء السبيل لنشر علومهمء وللطلاب السبيل لنيله.

- ولم تكن المدارس فقط هى التى سهلت لابن تيمية الاطلاع والبحث والدراسة والفحصء بل إن الذى فتق ذهنه إلى الحقائق العلمية والآثار السلفية تلك الموهسوعات التى جمعت أشتات العلوم التى تصدت لجمع مسائله, فالحديث كله تقريباً دون فى مجموعات

بيرة؛ ولقد جمعت الصحاح كلهاء والسنن كلها؛ وحسبك بمسند أحمد موسوعة فى الحديث جامعة؛ وفى هذه الستن الجامعة فقه الرسول؛ وفقه الصحابة أجمعين.

والفقه قد جمعت مسائله وخصوصاً ما اعتمد على الأثر: وقد وجدنا كتاب المحلى لابن حزم الأندلسى يكاد يكون فى مجموعه هى فافه الأثر قد دون فيه فقه الصحابة وفقه التابعين ذوى المكانة فى الفقه والاجتهاد» وفيه طائفة كبيرة من هدى النبى عله فى أحكام الوقائع والأحداث.

ونجد فقهاء المذاهب قد دونوا فقه أئمتهم فى موسوعات فقهية كبيرة: بل إن بعض الآئمة قد دون فقهه بقلمه. كما صنع الشافعى فى الأم الذى نشره بيغداد؛ ثم أعاد تنقيحه فى مصرء وسمى ما كتب فى مصر الكتاب الجديد» ثم تتابعت بعد ذلك موسوعات فى فقهه

ل

رضى الله عنه؛ ومن أعظمها شرح المجموع للنووى,؛ وقد كان ذلك الإمام الجليل قريباً من عصر ابن تيمية ولابد أنه أدركه ورآهء وربما تلقى عليه؛ فقد توفى وابن تيمية فى نحو الخامسة عشرة من عمره أو أكثر.

ونجد فى الفقه الحنفى موسوعات كبيرة كشرح كتب ظاهر الرواية للسرخسى فى مبسوطه. وكتب الطحاوى وغيره كالحصيرىء وأبى بكر الرازى وغيرهم من أئمة الفقه الحنفى الذين بسطوا مسائله.

ومثل ذلك تجد فى فقه الحنابلة كالكتب التى جمعت روايات حديثة: وككتاب المغنى لابن قدامة, وغير هذا كثير فى ذلك المذهب الجليل.

وقد كانت تلك الموسوعات ممتازة باشتمالها على الدراسات الفقهية المقارنة, بل إن بعضها كان جزء المقارنة فيه أكبر من غيره: كما ترى فى المغنى وفى مبسوط السرخسى, وفى مجموع النووى, وفى بداية المجتهد لابن رشد, ثم ترى هذا أجلى فى المحلى لابن حزم؛ وهى فى ذاته مجموعة فنية تسجل فقه الصحابة والتابعين مع تحرير دقيق كما بيناء وإن كان القلم عنيفاً.

- وكما كانت الموسوعات فى الحديث والفقه كانت فى الأصول الفقهية مجلدات ضخام: فقد كان هناك أصول الأحكام لابن حزم: وأصول الأحكام للآمدى؛ والمستصفى للغزالي؛ والمحصول للفخر الرازى» وأصول فخر الإسلام البزدوى: وأصول الجصاصء وغير ذلك كثير مما يفتح العقل للدراسات الكلية, ويجعل القارئ يشرف على التخريج الفقهى يأوسع أفق, وخصوصاً إذا كان القارئ على طراز ابن تيمية النافذ البصيرة العميق الفكرة البعيد المدى, ْ

وكما كانت الموسوعات الفقهية وما يتصل بها من أصول كانت التفسيرات الضخمة للقرآن الكريم؛ فكان تفسير الطبرى الذى يعد موسوعة جامعة لأفكار الصحابة والتابعين فى تفسير القرآن» وتوضيح مبهمه مع نقد فاحص وعقل مرجح: هو عقل الطبرى المستقيم.

وكما كان تفسير الرواية واضحاً فى الطبرى وأشباهه. فكذلك كان هناك تفسير الدراية كتفسير الزمخشرى:؛ ومن نهج منهاجه من علماء اللغة؛ والمستبحرين فى علوم البلاغة ومناحى البيان.

و

ثم كانت التفسيرات الجامعة لشتى العلوم الإسلامية كتفسير الفخر الرازى الذى يعد موسوعة إسلامية حوت الكثير من علوم الفلسفة واللغة والفقه وأمدوله, كتب كل ذلك تحت ظل القرآن الكريم.

وكانت الموسوعات فى التاريخ كبيرة جداً كتاريخ ابن جرير الطيرىء وتاريخ ابن عبد الحكم؛ وغير ذلك من المراجع التى ترتفع بأبناء القرن السابع لتختلج نفوسهم بخلجات أهل القرن الأولء ولقد اختصت بعض ال موضوعات بأخبار الرجال ومناقب الأتقياء. كحلية الأرلياء, وكتاريخ بغداد للخطيب. واختصت الصحابة والتابعين بالشطر الأكبر من الكتابة والتبيين» فكان فى هذه الموضوهات مستراد وهذهب لعقل ابن تيمية الجبار القوى؛ ولحافظته الواعية التى لا تغادر صغيرة ولا كبيرة مما يقرأ ويطلع كما نوهنا فى حياته؛ وتضافرت الأخبار به.

1 هذه المدرسة الكبرى من الموسوعات الفقهية التى درس فيها اين تيمية, وسبلت عليه الدراسة. بوجود خزائن الكتب فى كل الحواضر الإسلامية؛ وتسهيل القراءة والاطلاع فيهاء والنسخ والنقل منهاء فقد كان خلقاء الفاطميين وملوك بتى أيوب والمماليك من بعدهم يتنافسون فى إنشاء المكاتب. وإمدادها بنفائس الكتب.

لقد عنى الفاطميون بإنشاء المكاتب العلمية لينشروا الثقافة, ولتكون بجوار المجامع الطمية التى أقاموهاء وبجوار المعاهد الكبرى التى أتشئوها؛ ولينشروا علومهم وفقههم عن طريق الكتب؛ كما نشروها بطريق التلقين والتعليم: وإقامة دور التعليم لها وكان بعضسها يعوى نحو مائتى ألف مجاد كمكتبة القصرء وقد كان فى هذه الكتب كتب الفقه؛ والنحو واللغة. والعلوم القلسقية والروحانية والكيماوية, والتواريخ وسير الملوك والتنجيه!".

ومن المكاتب التى أنشأها الفاطميون مكتبة دار العلم؛ وكانت خاصة بنشر الدعوة الفاطمية,

وقد جاء الأيوبيون ثم المماليك من بعدهم فأنشئوا المكاتب الكثيرة قريية من طلاب العلم فى المدارس التى أنشثوهاء فقد كانوا ينشئون مع المدارس المكاتب أحيانا كما ترى )١(‏ راجع الخطط المقريزية وكتاب الحركة الفكرية فى مصر فى عصر الأيوبيين والمماليك لصديقنا الأستاذ الدكتور عبد اللطيف حمزة. كلا

فى المدرسة الكاملية التى أنشأها الكامل محمد الأيوبى سنة 57١‏ فقد أنشأ بجوارها مكتبة حوت نحو مائة ألف مجلد قيل أنه أخذها من مكتبة القصر التى أنشأها الفاطميون,

فى هذه المكاتب وجد ابن تيمية المعين الذى يمده من غير جهد ومشقة؛ ومن مير اجتهاد شديدء فإن المكتبة بجوار المدرسة: والمدارس كانت كثيرة بمصر والشام. وقد أقام بمصر والشام؛ فقرأ الكثير قراءة فاحصة بعقله المميز الناقد الذى توافرت له كل أسباب النقد السليم.

- وقد وجد اين تيمية الكتب التى تنقل ثمرات الفكر الإسلامى» سواء أكان ذلك متصلا بالنقل: أم كان من نتائج العقل الخاضع لسلطان الفكر الإسلامى؛ بل من نتائج العقل الإنسانى المجردء ككتب الفلسقة فقد اطلع على أكثرهاء كما يبدى فى ردوده عليهاء وإنحائه باللائمة على من نهج قريبا من مناهجهاء كما فعل مع الغزالي وفيره؛ بل قد اطلع على كتب النصارى وأهل الديانات الأخرى: كما يبدو فى كتابه (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) وقد اطلع على هذه الكتب فى خزائنها التى خصصها الملوك للقراءة والاطلاع.

ولم يكن ذلك الأمر فقط هو الذى سهل على ابن تيمية أن يغترف من مناهل العلم بل وجد فيمن يكبرونه سنا أو سبقوه قليلاء أو عاصروه: علماء أجلاء استبحروا فى العا وكانت لهم هواقف فى خدمة الإسلام, والوقوف فى وجه ا ملوك إن رأوا منهم شططاء فه العز بن عبد السلام المتوفى سنة كان مستوليا على الظاهر يطيع. ذلك الملك الذى شرق اسمه وغرب؛ وكان منقمعا فيه كما قال السيوطى: ولم يحس بالملك إلا بعد وفاته كما صرح لأنه كان يهاب مخالفته. ويتحرى موافقته, فلم يكن مطلق السلطان إبان وجوده.

وهذا التووى المتوفى سنة 111ه والذى رآه ابن تيمية فى مطلع حياته, وزهرة الصباء قد وقف بالمرصاد لمقاومة الظاهر فيما يفرضه من ضرائبء رأى الشيخ أنها ظالمة؛ وليس من شئون الدولة ما يضطر إليهاء فوعظه بالموعظة الحسنة, حتى إذا رآه يحمل العلماء على الرضا بسيف الترغيب والترهيب أغلظ له فى القول. ورماه بأته يسلم الضعفاء أموالهم باسم الجهاد فى حين أنه يؤثر خاصته بالثياب الموشاة بالذهبء والزينة تتحلى بها جواري'.

ورأى ابن دقيق العيد شيخ المحدثين الذى لم يمث إلا بعد أن استوى أبن تيمية على شرخ الشبابء وألقى الدروس واستمع إليه الشيخ الكبيرء وقد كان رضى الا« عنه محيطاً فد

بعلم الحديث رواية ودراية. عاكفاً على العلم زاهداً فى سواه؛ وله تلك الموسوعة الضخمة فى شرح البخارىء وخير هؤلاء الثلاثة كثيرون يستوون فى كثرة العلم وغزارته» ويختلفون فى قوة الاستتباط والإقدام عليه ونصيحة الملوك أى السكوت عنهم.

-١‏ وهكذا نرى عصر ابن تيمية كان زاخراً بالعلم والعلماء. كثر فيه العلم المدون كثرة سهلت الطلب والتحصيل والإحاطة: وكثر العلماء المستبحرون وكان فيهم ذوى جرأة وذو إقدامء فتحوا عين الطريق لمن كان دونهم سناً.

فجاء اين تيمية واستبحر فى العلوم كلها وحصلهاء ثم فحصها فحص العارف الخبير المحيط بالدقائق» وعميق الأفكار, وانطلق فى آرائه حرا جريئاً؛ ما دام بيده سلاح يفل كل سلاح؛ وحجة تدحض كل حجة: وهو كتاب الله وسنة رسوله؛ وفهم ثاقب؛ وعرض الحقائق المجردة غير متأثر يآراء غيره من أشياخ العلم إلا ما كان منها صواباً قد ارتضاه نظره المستقيم. ١‏

وفى علاقته بالملوك سار على منهاي قوى» يطيع فى غير معصية, وينصح ويرشد فى غير غلظة أى عنف إلا إذا تقاضاه الحق أن يقول فى صرامة وقوة وحث على العمل الصالح ومعاونة عليه, يل اشتراك فعلى فى شدائد الأمور,

ولم تكن المناضلة بينه وبين الأمراءء إنما كانت بينه وبين الذين يدافعون عن الأوهام: أوما اعتبره هو أوهاما فى الدين لا تستند إلى كتاب ولا سنة: ولا أثر من آثار الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.

الفرق الإسلامية

-١‏ كانت أشطر من حياة ابن تيمية مناضلة بينه وبين الشيعة. وبينه وبين الأشاعرة أقاموها عليه حرياً شعواء. وزج فى غياية السجن بسبب مهاجمته لبعض آراء أبى الحسن الأشعرى. واتهم الحذابلة بأنهم حشوية مجسمة يقولون إن لله سبحانه وتعالى أعضاء كأعضاء الإنسانء فنفى ابن تيمية ذلك؛ وهكذا سنجد كثيراً من آرائه كانت للرد على أهل هذه الفرق, وكانت الخصومة بينهم ويينه على أشدها.

فمن حق العلم أن نذكر كلمة موجزة عن الفرق التى عاصرته: أو بالأحرى التى امتدت فى فروعها إلى عصره: وإن كانت جذورها تمتد فى أعماق التاريخ الإسلامى إلى أزمان موغلة فى القدمء إن كانت الفرق فى العصر الأموى أى فئ آخر عصرالخلفاء الراشدين.

ا

ومن الحق علينا أن نتتبع الأصول لنعرف الفرىعء وإذلك كان علينا أن نشير إلى تلك الفرق فى أول تشأتها. وأدوارها فى التاريخ.

0- لقد قويت الوحدة الإسلامية فى عهد الشيخين أبى بكر وعمرء حتى أنه ما كان يحدث خلاف إلا انتهى إلى وفاقء واستمرت الحال كذلك إلى أن ظهرت الفتن فى القسم الثانى من خلافة الخليفة الثالث ذى النورين عثمان بن عفان؛ فاتيع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم, وانشقت الوحدة من غير تلاق إذ ركبت الأهواء الرءوس» وقامت الفتن التى تتباً بها النبى عله فقد جاء فى صحيع البخارى: عن أبى هريرة أن رسول الله مله قال: «ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم؛ والقائم خير من الماشى وا ماشى خير من الساعي, من تشرف لها تستشرفه, فمن وجد فيها ملجاء أ معاذاً فليعذ به».

وقد ابتدأت الفتن بالشكوى من ولاة عثمان: وأن بعضهم يظلم؛ ثم ينقد عثمان لأنه يولى العمال من ذوى رحمه؛ وأنهم يقطعون الأمر دونه, وأكثرهم ليس له سابقة فى الإسلام: تجعل مقالة الخير تسبق مقالة السوء. ثم تحول النقد إلى الطعن فى دين عثمان والنيل منه. ثم وقعت الواقعة الكبرى: فقتل الخليفة الشهيد عثمان, ففتح باب القتل والقتال بين المسلمين, ولم يقطع الفتنة تولى على بن أبى طالب الخلافة, فقد أخذت الفتن لوناً آخر؛ اتهمه الأمويون بأنه مالا فى قتل عثمانء أو على الأقل لم يقتص من القتلة: بل كانوا بطانته, ومنهم قادة جيوشه: وعلىّ من ذلك براء. فما مالا ولا آوى؛ ولكنه تريث حتى يجئ ولى الدم؛ ويطالب بدم عثمانء وتكون الفتن قد هدأت فيضع يده على القائلين.

ولم ينته أمر الخلاف إلا بالقتال يقع بينه وبين الزبير بن العوامء وطلحة بن عبيد الله, ومعهما على رأس الجيش أم المؤمنين عائشة, حتى إذا قاتل مضطراً» وانتصر- حاربه ثانياً معاوية باغياًء فقاتله على حتى كشف الصفوف عنه ولم يبق إلا أن يقضى على جيشه. وتموت الفتنة, إذ قطع رأسهاء ثم احتال معاوية فعرض التحكيم, فكان الحكم الماكر, لا الحكم العادلء وعندئذ خرج الخوارج, وانقسم المسلمون ثلاث طوائف (إحداها) مع على, ومنهم من قال إنه كان أولى بالخلافة من أبى بكر وعمرء وهذا الفريق ممن كانوا معه سموا الشيعة؛ (والطائفة الثانية) طائفة خرجت على الاثنتين» وهم الخوارج» (وطائفة) بقيت مع معاوية. 1

لل

وهذا الاختلاف كله كما ترى موضوعه: من أحق بالخلافة؟: ومن أحق بالطاعة؟ وقد صحب ذلك مجادلات نظريةءحتى وصل الأسر بالبحث فى أصل الخلافة أهى أمر ديثى أم أمر دنيوى خالص ليس للدين فيه حكم: ويقول فى ذلك ابن حزم؛ «اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة. وجميع الخوارج على وجوب الإمامة: وأن الأمة واجب عليها الاثقياد لإهام عادل: يقيم فيهم أحكام الله ويسوسهم بأحكام الشريعة التى أتى بها رسول الله حاشا النجدات- من الخوارج- فإنهم قالوا: لا يلزم فرض الإمامة. وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم» وهذه فرقة ما نرى بقى منهم أحد, وهم المنسوبون إلى نجدة بن عويمر الحنفى (من بنى حنيفة). - وإقد كان بجوار الخلاف السياسى الذى ظهر فى آخر عصر الخليفة الثالث, , وطول الرابع؛ ثم بعد ذلك فى الأجيال الإسلامية- كان اختلاف حول العقيدة؛ إذ قد صحب الفتن السياسية أن آثيرت آراء دينية. فأثيرت مسالة القدر وهى المسالة التى شغلت أذهان أصحاب الديانات القديمة, وسرت إلى المشركينء حتى كانوا يقولون: «لوشاء الله ما عبدنا من دونه من شئ» وكانوا يقولون: «لى شاء الله ها أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شى». ولقد كش الكلام فى آخر عهد على ين أبى طالب؛ واشتد من بعدهء فكانوا يقولون: لى كان كل شئ بقضاء وقدر فأنى تكون تبعات الأعمال؟ فقال قائل: لا إرادة للإنسان بجوار إرادة الله. ومن أول من قال ذلك الجهم ابن صفوان: وقال آخرون: لإننسان الإرادة ا مطلقة لأن الله سبحانه وتعالى خلق فيه قوة مودعة نفسه تريد إرادة حرة: وبذلك تكون التبعات» وأواتك المعتزلة ومن قاريهم.. وهكذا. ثم تناقشوا فى مسألة مرتكب الكبيرة: أهى مؤمن فاسق؛ أم كافر خارج عن الإسلام, أى بين هؤلاء وهؤلاء؟ قال الأول جماعة المسلمين؛ وقال الثانى الخوارجء وقال الثالث المعتزلة, وقالت طائفةأخرى: لا يضر مع الإيمان معصية وأولئك هم المرجئة,

عصر المأمون؛ وأبلى فى الأمر أحمد بن'حثيل بلاء حستاً . 1

كل هذه المسائل كانت موضع دراسة تقى الدين أحمد بن تيمية خالف فيها من خالف؛ ووافق من وافق» وجر عليه الخلاف متاعب كشيرة, فكان من الحق علينا أن ندرس الفرق التى خاضت فى ذلك ولكن لا نتكلم عن الخوارج, لأنه لم يكن فى عصره من جادله منهم؛ وإن كانت بعض أرائهم قد تعرض لها بالذكر. وأكنا نتكلم عن الشيعة من الفرق السياسية. لأنها شغلته فى عصره. وعن الجهمية, والمعتزلة, والأشاعرة, والماتريدية من الفرق الاعتقادية. الشيعة -١7/‏ الشيعة أقدم الفرق الإسلامية, ظهروا بمذهيهم فى عهد عثمان رضى الله عنه؛ بل يقول االمؤرخون أنه أقدم فى التاريخ من عهد عثمان؛ أى من وقت وفاة النبى #, من الفريق الذى كان يرى أن علي بن أبى طالب أولى بالخلاقة من أبى بكر الصديق؛ وأساس

مذهبهم ما يأتى: (1) أن الإمامة قاعدة الإسلام, ولا يجوز لنبى إغفالها وتفويضها إلى الأمة؛ بل يجب عليه اختيار الإمام لهم.

(ب) وأن على بن أبى طالب كان هو الخليفة الممتار من النبى مله وأنه أفضل الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.

وأقد اتفقت فرق الشيعة على ذلك القدرء واختلفوا من بعد ذلك اختلافابيناء فمثهم من غالى فى تقدير على رضى الله عنه. ومنهم أمة مقتصدة. فالمقتصدون يرون أنه أفضل الصحابة: واكن يقرون بصحة بيعة أبى بكر وعمر ولا يسبونهما لأن علياً رضى الله عنه يايعهماء ولأنه رضى الله عنه لم يطعن فيهما.

وأما الغالون المتطرفون فهم يطعنون فى الشيخين: ويرفعون عليا إلى مرتبة النبوة, بل مثهم من اشتدت به المبالغة والكذب فارتفع به عن مرتبة النبوة» بل من هؤلاء الكافرين من قال إن الله حل فيه, بل منهم من قال إنه الله. وأولتك أتباع عبد الله بن سبأً؛ وقد انقرضوا فيما أحسبء بل لم يذكر لهم التاريخ خبراً إلاما كان راجعا إلى عصر على والعصر الأموى؛ وأولتك لم يكونوا فى الأصل مسلمينء بل أملهروا الدخول فى الإسلام لإفساده عار أهله,

1

6- وقد اختلف المسلمون من الشيعة فى اختيار الخليفة من بعد على أكان اختيارهم بالوصف أم كان اختيارهم بالشخص, وأن كل خليفة يختار الخليفة بعده بالشخصء هكذا يتسلسل الاختيار الشخصى. وكله منسوب إلى أصل الشرع؛ لأن النبى له اختار الأول؛ وياختياره يكون قد اختار من بعده.

الزيدية: والذين قالوا إن الاختيار كان بالوصفء هم الزيدية أتباع زيد بن على زين العابدين: فقد قالوا كل من تتحقق فيه الأوصاف التى ذكروها وصقاً للإمام يكون إماما إذا بايعه الناس؛ وأوضناف الإمام التى ذكروها فى الخليفة من يعد على رضى الله عنه, كونه فاطميا ورعا عالما سخيا؛ يخرج داعياً الناس لتفسه. ولقد خالف زيد بن على إمام الزيدية فى ذلك أخوه محمد بن على الباقر, وقال: لا يشترط الخروج والدعوة لنفسه؛ بل يكفى أن يعرفه الناس؛ ولقد قال لأخيه: على قضية مذهبك والدك ليس بإمام؛ فإنه لم يخرج قط ولا تعرض للخروج.

ولقد قال زيد رضى الله عنه وأتباعه إن إهامة المفضول جائزة: فالأوصاف السابقة هى للإمام الأمثل الكامل. وهو بها أولى من غيره. فإن اختار أولو الحل والعقد فى الأمة إهاما لم يستوف بعض هذه الصفات وبايعوه صحت إمامته, وعلى ذلك الأصل بنوا صحة امامة الشيخين أبى بكر وعمر رضى الله عنهماء وعدم تكفير الصحابة ببيعتهماء فقد كان زيد برى أن على بن أبى طالب أفضل الصحابة إلا أن الخلافة فوضت إلى أبى بكر لمصلحة رأوهاء وقاعدة دينية راعوها من تسكين ثائرة الفتنة. وتطييب قلوب العامة؛ فإن عهد الحروب التى جرت فى أيام النبوة كان قريباً؛ وسيف أمير المؤمنين على من دماء المشركين لم يجف, والضغائن فى صدور القوم من طلب الثار كما هىء فما كانت القلوب تميل إليه كل الميل, ولا تنقاد له الرقاب كل الانقيادء وكانت المصلحة أن يكون القيام بهذا الشأن لمن عرفوه باللين والتقدم بالسن والسبق فى الإسلام والقرب من رسول الله عيها,

ومن مذهب هؤلاء الزيدية أنه يجوز خروج إمامين فى وقت واحد؛ فى قطرين مختلفين: بحيث يكون كل واحد منهما إماما فى قطره الذى خرج فيه مادام مثحلياً بالأوصاف التى ذكرتاها. )١(‏ المل والنحل للشهر ستاتى,

14

-١‏ هذا هو الفريق الأول من الشيعة: وهم الذين زأوا أن التعيين كان بالوصف لا بالشسخصء وهم المعتدلون المقتصدون. أما الفريق الآخرء وهو الذى يرى أن التعيين بالشخص! فقد اتفقوا على على والحسن والحسينء ثم اختلقوا فيمن بعد هؤلاء,

- الكيسانية: فالكيسانية, يعتقدون أن الإمامة من بعد الحسين لمحمد بن الحنقية أخيه من أبيه؛ ويعتقدون أن الآئمة معصومون عن الخطأ؛ وأن محمد بن الحذفية لم يمت بل هى بجبل رضوى. ومن عقائد الكيسانية أنهم يعتقدون بتناسخ الأرواح وهى خرووج الروح بالموت من جسد لتحل فى جسد آخرء وهو مذهب هندى قديم: ومن عقائدهم أيضاً أنهم يعتقدون جواز البداء على الله سبحانه وتعالىء وهو أن الله سبحانه وتعالى يغير ما يريده تبعا لتغير علمه, تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

الإمامية الاثنا عشرية: وهؤلاء يرون أن الامامة بعد الحسين رضى الله عنه لابنه على رضى الله عنه؛ ومن بعده لمحمد الباقرء ثم لجعفر الصادق بن الباقر؛ ثم لابنه موسى الكاظم. ثم لعلى الرضاء ثم لمحمد الجوادء ثم لعلى الهادى, ثم للحسن العسكرى؛ ثم محمد ابنه وهى الإمام الثانى عشرء ويزعمون أنه دخل سرردابا فى دار أبيه ب(سر من رأى) ولم يعد بعد» ثم اختلفوا فى سنه عند غيابه فقيل كانت سنه إذ ذاك أربع سنوات. وقيل ثمانى سنواتء وكذلك الختلفوا فى حكمه؛ فقال بعضهم: إنه قى هذه السن كان عاماً بما يجب أن يعلمه الإهامء وأن طاعته كانت واجبة, وقال آخرون: كان الحكم لعلماء مذهبه.

والاثنا عشرية باقون إلى اليوم؛ ومنهم سكان إيران الشقيقة» ولهم مذهب فقهى قائم قد أصلت أصوله؛ وله فروع قائمة على هذه الأصولء وقد اقتبس فى القوانين الجديدة بمصر بعض الآراء منه؛ ومنها جواز الوصية لوارث فهو رأى فيه؛ وإن لم يكن الراجح.

- الإهامية الإسماعيلية: وهذه الفرقة هى التى كان لابن تيمية مواقف ضد بعض المنتمين إليهاء فقد حاريهم بعلمه ولسانه وسيفه؛ ولذلك تفصل القول بعض التفصيل فيهاء لنبين الملاحدة الذين تسمو) ياسمهاء وحملوا شعارهاء وقد تكون هذه الفرقة الإسلامية بريثة منهم.

والإسماعيلية طائفة من الشيعة الإمامية تنتسب إلى إسماعيل بن جعفر: تقول هذه الطائفة إن الإمام بعد جعفر الصادق ابنه إسماعيل؛ فهم يتفقون مع الاثنا عشرية إلى

١

مجعقر الصادق ثم يختلفون فيمن تولى بعد جعفر الصادقء أولئك يقولون إنه موسى الكاظم؛ وهؤلاء يقولون أنه ابنه إسماعيل؛ ولكن إسماعيل قد مات قبل أبيه فكيف يكون إماماً بعده؟ قالوا إن إباه قد نص عليهء وفائدة النصء وإن كان قد مات قبله هى بقاء الإمامة فى عقبه.

المستورى ين') ويعد محمد المكتوم ابنه جعفر المصدق ويعده ابته محمد الحبيب ٠‏ ويعده ابنه عبد الله المهدى الذى ملك ا مغرب ثم ملك من بعده مصرء وكانوا الدولة الفاطمية,

وقد نشأت تلك الطائقة فى العراق» وفد. اخسطهدت فى أول أمره' فيمن اضطهد من الشيعة؛ ولقد فر تحت تأثير ذلك الاضطهاد معتنقى مذهبها إلى فارس. وهناك خالط مذهبهم بعض آراء من عقائد الفرس القديمة. فاعتنقها بعضهم وانحرف تحت تأثيرها بعضهم: فقام منهم رجال ذوى أهواء.

وأذاك حمل اسم الإسماعيلية طوائف كثيرة بعضهم لم يخرجوا عن دائرة الإسلام, وبعضهم خرجوا بما انتحلوا من نحل بعيدة عن الإسلام:

-١1‏ ولأن أولتك الذين انحرفوا هم الذين قاومهم ابن تيمية نبين حالهم وهم الذين كانوا شوكة فى جنب الدولة الإسلامية ومالثوا خصومهم من الفرنج والتتار. وكشفوا عورات المسلمين: حتى لقد كان تدبيرهم السيئ هو الذى أوقع الخلافة الإسلامية فى بغداد فريسة بين أيدى التتارء فبتدبير الوزير ابن العلقمى؛ وقمعت بغداد فى أيديهم؛ وتمكنوا من رقبة الخليفة ومن كان على ولاثه, وقامت المذابح فيها.

عتدما هاجرت الإسماعيلية تحت سيف الاضطهاد إلى خراسان وفارسء وقزوين اختلطت بارائها آراء وصلت إليها عن طريق البراهمة الهنود؛ والفرس والفلاسفة الإشراقيين والأفلاطونيين» فسرث إليهم أثارة من ذلك كله. وبعضها كان يأخذ بقدر قليل. وبعضها كان بقدر كبير طغى على التعاليم الإسلامية» حتى أصبح عدهم فى صقوف الإسلام بالعنوان» لا بالحقيقة,

وقد سموا بالباطنيين: أى الباطنية» ولهذه التسمية تعليلات هى فيهمء فقد قالوا إن

)١(‏ هم يقولون بأن الإمام يصمح أن يكون مستوراً خفية. ولا يمنع ذلك إمامته. ١.‏

الإمام يصح أن يكون مستوراً» وقالوا: إن للشريعة ظاهراً وياطنا؛ وأن الناس يعلمون علم الظاهر» وعند الإمام علم الباطن: بل إن عنده باطن الباطن؛ وأولوا على هذا الأساس ألفاظ القرآن تأويلات غريبة بل أولوا بعض الألفاظ العربية تأويلات غريبة؛ وجعلوا هذه التأويلات هى الباطنء وما عند الإمام من أسرار هو ياطن الباطن؛ وكانوا فى كل أعمالهم يأخذون بالتقيةء فكانوا يسترون آراءهم, ولا يعلنون إلا ما تسمح الأحوال بإعلانه؛ ولا يكشفون كل ما يرتئون.

من أجل هذا كله سموا) الباطنية.

5- وقد بنيت تعاليم المعتدلة من الإسماعيلية على شعب ثلاث:

أولها- الفيض الإلهى من المعرفة الذى يفيض الله به على الأثئمة» فيجعلهم بمقتضى إهامتهم فوق الناس قدراً؛ وفوق الناس علماً فهم قد اختصوا يعلم ليس عند غيرهم؛ وأن عندهم علماً بالشريعة قد أوتوه قوق هدارك الناس؛ وهم بهذا يدركون من الشريعة مالا يدرك غيرهم.

وثانيها- أن الإمام لا يلزم أن يكون ظاهراً معروفاء بل يصح أن يكون خفياً عن الناس مستوراً؛ ومع ذلك تجب طاعتة؛ وأنه هو المهدى الذى يهدى الناس؛ وأنه إن لم يظهر فى جيل أو أجيال؛ فإنه لايد ظاهرء وأنه أن تقوم القيامة حتى يظهر ويملأ الأرض عدلاء كما ملئت جوراً وظلماً.

وثالثها- أن للشريعة ظاهراً وباطناً؛ كما بيناء وأن الباطن الحقيقى الذى هو لبها ومعتناها لا يعرفه على وجهه إلا الإمام الذى أفاض الله عليه بنور المعرفة؛ وأشرق عليه نورها؛ فاتكشفت له حأنيقتهاء وأنه لهذا ليس مسئولا أمام أحد من الناسء وليس لأحد من الناس أن يخطئه مهما يأت من أفعالء بل يجب عليهم أن يصدقوا أن كل ما يفعله خير لاشر فيه؛ لأنه عنده من العلم مالا قبل لأحد بمعرفته, ومن هذا قرروا أن الأئمة معصومون, لا بمعنى أنهم لايرتكبون الخطايا التى نعلمهاء بل على معنى أن ما نسميه خطايا بالنسبة لنا قد يكون عندهم من العلم ما يثير السبيل لهم فيه. ويكون يه سائفا لهم؛ وليس بسائغ لسائر الناس.

١م‎

6- قد يكون التفكير على ذلك النحو ليس كفراً قاطعاً؛ بل أقصى ما فيه أن نقول: إنه لم يرد فى كتاب ولا سنة صسحيحة؛ وأكن فى ظل ذلك التفكير الذى لم يخرج عن نطاقه الممتدلون منهم؛ وجد فيهم غلاة خلعوا الريقة» وقد كانت السرية التى تعد طريقة هذه الفرقة, وفى ظلها تفرخ أراؤهم؛ وتدير سبل السيطرة- سبباً فى أن وجد الحاكمية وهم أواتك الغلاة المتطرفون الذين تجاوزوا حدود الإسلام؛ ولقد غمالى بعضهم فى معنى الإشراق الإلهى» حتى أخذ بنظرية حلول الإله فى نفس الإمام؛ وأنه كان على رأس أوائك الغلاة الحاكم بأمر الله الفاطمي الذى ادعى أن الله قد حل فيه. ودعا إلى عبادته.

وقد اختفى ثم مات أى قثل على حسب اختلاف الرواة: وأن الراجح أنه قتل بيد بعض أقاربه؛ وقد أنكر مريدوه وأتبا ع مذهبه الذى ظهر به- موته,

وزعموا أنه يعيش مستخفياء وأنه سيرجع؛ وهذه الطائفة هي التى سماها ابن تيمية الحاكمية.

وقد كانت له جولات فى شأئهاء بل محاريات معها؛ ويقول يعض العلماء: إن هذه الطائفة لايزال بعض منها باقيا فى الدروز إلى اليوم» وعندى أنه إن كان ثمة شئ من هذا فإنه عدد محدود فيهم وليسوا جميعاً؛ وإن كان بعضهم ما زال إلى الأن يخفى آراءه وتفكيره.

ومهما يكن من الأمر فإنه فى القديم كانت ثمة صلة وثيقة بين الدرزية» والحاكمية؛ حتى قال بعض المؤرخين أن الذى وسوس إلى الحاكم أن يخرج على الناس بهذه الآراء المغالية رجل فارسى أسمه حمزة الارزي؛ ولعلهم ينسبون إليه؛ وإن كنا نقرر أنهم جميعا لا يأخلون بمذهبه؛ بل إن أكثرهم لا يأخذون به. والله سبحانه وتعالى أعلم,

1- النصيرية: واقد كان بجوار الحاكمية فى الشام طائقة خلعت الريقة كالماكمية؛ وإن كانت لا تنسب نقسها للإسماعيلية ولكنها تتلاقى دعها فى المخالفة والانخلاع التام عن الإسلام؛ وهذه الطائفة هى النصيرية التى عاصرت ابن تيمية؛ وهى إن لم تنسب نفسها إلى الإسماعيلية يظهر أنها قد تربت فى أحضانها وأخذت من غلاتها.

وإن هؤلاء النمسيرية الذين سكنوا لبنان فى الماضى كالحاكمية كانوا من الاثنا عشرية» أى يدعون الانتساب إليها؛ وقد كانوا يعتقدون بالمعرفة المطلقة لأئمة آل البيت,

١4

ويعتقدون أن علياً لم يمت وأنه إله أو قريب من الآلهء وهم يشتركون مع الباطنية فى الزعم بأن للشريعة ظاهراً وباطناً وأن باطنها عند الأئمة إذ أن إمام العصر هى الذى أشرق عليه النور فجعله يفهم حقيقة الشريعة وياطنها لا ظاهرها فقط,

وفى الجملة كانت أراء هذه الطائفة مزيجا من الآراء المغالية فى فرق الشيعة كلهاء فأخذت عن السبثية المنقرضة ألوهية على وخلوده ورجعته؛ ومن الإسماعيلية كون الشريعة لها ظاهر وباطن.

وإن هذه النصيرية هى التى كان يحاريها ابن تيمية» وحملها على الخضوع؛ وام يعتبرها من المسلمينء وهى حقا ليست منهم فى شئ.

-١417‏ كان أولئك الفلاة الذين خلعوا القيود الإسلامية؛ وأطرحوا معانى الإسلام؛ ولم يبقوا لأنفسهم منه إلا الاسم؛ حريا على الإسلام. فكثيراً ما كانت الباطنية المغالية تثير الحرب الشديدة على الدولة الإسملامية؛ وتغرى بين المسيلمين العداوة والبغضاء؛ فكثرت ثوراتهم فى يغدادء وكثرت فتنتهم فى بلاد فارس وخراسان وقزوين.

ونا اتسع عملهم وقامت الدولة الفاطمية بمصرء واستوأت على الشام؛ وجدوا أنهم فى ظلها يستطيعون أن ينشروا آراءهم: وإن كان أكثر خلفائهم ليسوا مثلهم؛ ولكنهم على أى حال وجدوا فى الحاكم بأمر الله من يتلاقى معهم فى أهوائهم؛ وأذلك كان ظهور زعيمهم فى فارس قرب قزوين فى عهد الحاكم بأمر الله. واسمه الحسن ين صباح. وقد أخذ يثير الفتن فى داخل الدولة العباسية فى الوقت الذى كان الحاكم يدعى فيه الألرهية,

وقد كثر من بعد ذلك أوائك الغلاة فى الشام واتخذوا لهم مقراً جبل السمان الذى يسمى الآن جبل النصيرية؛ وقد كان بعض كبرائهم يستهوون مريديهم بالتخدير بالحشيش,. ولذلك سموا فى التاريخ المشاشين. وعند الهجوم الصليبى على البلاد الشامية مالثوا الصليبيين ضد المسلمين؛ ولذلك .ما استولى هؤلاء على كثير من البلاد الشامية قربوهم, وأدنوهم وجعلوا لهم مكانا مرموقاً.

ولا جاء محمود زنكى, وصلاح الدين من بعده. ثم الأيوبيون» اختفوا عن الأعين واعتصمواء واقتصر عملهم على تدبير المكايدء والفتك يكبراء المسلمين» وقوادهم العظام إن أمكنتهم القرصة وواتاهم الزمان.

١ ْ

ونا أغار التثار من بعد ذلك على الشام؛ وقد كانوا ضالعين مع الشيعة مالئوهم أكثر مما مالثوا الصليبيينء فمكنوا للتثار من الرقاب؛ حتى إذا انحسرت غارات التتار فى عهد أبن تيمية قبعوا فى جبالهم قبوع القواقع فى أصدافها؛ لينتهزوا فرصة أخرى. ولكن ابن تيمية الفارس عاجلهم بالضرية. وأنزلهم من صياصيهم؛ وحملهم على الدخول فى الجماعة طوعاً أو كرها.

الغرق الإعتقادية

44 كانت أول ملاحاة شديدة فى القول بين ابن تيمية ويعض هعاصريه من العلماء خاصة بالعقيدة. فرسالته إلى أهل حماة سنة 544 هي التى أثارت بعض العلماء؛ ودعاه قاضى الحنفية قامتنع؛ ثم دعاه قاضى الشافعية, فاجاب إلى المناظرة على ملأ من العلماء وساق الحجج المبينة لصحة رأيه فى نظره. وسلامة اعتقاده, وكلها من الكتاب والسنة فى رأيه» وعقيدة الصحابة والتأبعين الأولين فى نظره. وهى مأخوذة من نبع الدين الصاقى قبل أن يرئق باختلاف كما يعتقد» والشد والجذب بين المتنازعين؛ وقد كان هى فى مجادلته متجها إلى نبع الكتاب والسنة يستقى منه فى ظاهره. ومخالفوه متجهون إلى أقوال الأشحرى ومناهجه فى الاستدلال يسلكونها.

ويهذا يكون من الحق علينا أن نبين فرق الاعتقاد التى تنازعت العقل الإسلاميء وكان لكل منها أتباع؛ وإنكتف بذكر ثلاثة منها جاء ذكرها فى رسائل ابن تيمية وكتبه الخاصة بالاعتقاد, وتلك الفرق الثلاث هى: الجهمية والمعتزلة: والأشاعرة.

الجبرية

8- خاض المسلمون فى آخر عهد الصحابة فى حديث القدرء وقدرة الإنسان وإرادته. بجوار قدرة الله سبحانه وإرادته وقضائه وقدرهء وأكنهم كانوا لا يتعمقون فى بحث هذه المسائل وليس ثمة مذهب فكرى يسيطر عليهم إلا كتاب الله وسنة رسوله؛ أما بعد عهدهم وانقراض أكثرهم واختلاط المسلمين بغيرهم من أصحاب الديانات القديمة؛ فقد كثر القول فى هذه النواحىء وتعمقوا فى دراستها تعمقاً عقلياً غير معتمد على نقلء و/ذلك اختلفوا.

١4

ففريق من المسلمين ق.الوا أن الإنسان لا يخاق أفعاله وليس له مما ينسب إليه من الأفعال شئ» ذنفوا بهذا الفعل عن العبد وأضافوه إلى الربء وقرروا أن العبد لا يستطيع شيئاًء وهو مجبر فى أفعاله, لا إرادة له ولا اختيارء وإنما يخلق الله تعالى الأفعال. كما تخلق فى النبات والجه.اد» وتفسب إليه. كما تنسب إلى النبات والجماد أيضا كما يقال أثدرت الشجرة: أو.جرى الماء وتحرك الحجر, وطلعت الشمس وغريت. وتفيمت السماء وأمطرت وازدهرت الأرهر... إلى غير ذلك والثواب والعقاب جبر, وإذا ثبت الجبر فالتكليف جبر ل"

-- وق مخاضن المؤرخون فى بيان أول من تكلم بهذه النحلة. ومن الثايث قطعا أن الكلام فى الجبر شاع فى أول العصمر الأموى» وكثر حتى صار مذهباً آخر, واقد سجل كتاب [المتية والأمل] رسالتين إحداهما لابن عباس والأخرى للحسن البصرى!'. وما كانت الرسالتان إلا إرشادا للناس بإثبات الاختيارء وقد شاع ذلك القول: وقد كانت الرسالة الأولى لأهل الشام: والثانية لأهل البصرة» وعلى ذلك يصح أن نقول أن القول في ذلك قد شاع في هذين الإقليمين الكبيرين: الشام والعراق, ولقد صار ذلك القول من بعد ذلك نحلة لقوم يدعون إليها: ولقد قيل أن أول من دعا إلى هذه الفكرة بعض اليهود» وقيل إن أول من قام بالدعوة إليه الجعد بن درهم الذى كان أول من خاض في مسألة خلق القرآن» وقد تلقى ذلك عن يهودى بالشام؛ ونشره بين الناس بالبصرة؛ ثم تلقاه عنه الجهم بن صفوان. وقد دأب على نشرهء وأذلك نسبت الفرقة إليه فقيل عنها الجهمية.

ولا نستطيع أن نقول أن تلك الفرقة بذر يهودى خالص؛ لأن جهما وإن وافق الجعد عليها لم ينشرها إلا فى خراسان وفارسء والفرس كان يجرى بينهم الكلام فى الجبر وأفعال الإنسان, وإن جهما لم يجد أرضاً خصبة لدعوته إلا فى خراسان, فإنه ترعرع فيهاء واستمس المذهب يعيش بين ربوعها إلى أن غلبه فى القرن الرابع الهجرى مذهب أبى الحسن )١(‏ الملل والئحل للشهر ستانى عند الكلام فى الجهمية. (؟) الرسالتان فى كتاب [المنية والأمل] وقد نقلهما المؤلف فى كتابه [تاريخ الجدل] - التاشر دار الفكر

العربى. 144

الأشعرى وأبى منصور الماتريدى.ومهما يكن من الأمر فإن جهها') أكبر دعاة هذا المذهب, وأذلك نسب إليه كما نوهذا .

1- ولقد كان جهم مع دعوته إلى الجبر يدعى إلى آراء أخرى منها:

)١(‏ زعمه أن الجنة والنار تفنيان: وأن لا شى: بخالدء وأن الخلود المذكور فى القرآن طول المكث, وبعده الفناءء لا مطلق اليقاء.

(؟) ومنها زعمه أن الإيمان هى المعرفة فقطء وأن الكقر هو الجهل,

(؟) ومنها زعمه أن علم الله وكلامه حادثان.

(4) فمنها أنه لم يصف الله سبحانه وتعالي بأنه شئ وحى» وقال: لا أصقه بوصف يجوز إطلاقه على الحوادث.

(0) وقد نفى رؤية الله سبحانه وتعالى يوم القيامة.

(1) وقال إن القرآن مخلوق» وبنى ذلك على زعمه الذى ذكرناه من أن كلام الله سبحانه وتعالى حادث لا قديم,

وقد تبعه كثيرون فى هذه الآراء غير أن النحلة التى اشتهروا بها وصارت خاصة بهم هى الجبرء وأن الإنسان لا إرادة له. وقد تصدى العلماء من السلف والخلف للرد عليهم, وهنهم من قاربهم فى الرأى؛ وإن اختلف عنهم فى المنحىي, ومنهم من ناقضهم تمام المناقضة: والذين ناقضوهم المعتزلة, والذين قاربوهم مع الاختلاف هم الأشاعرة؛ وإن كان اين تيمية كما سنبين يضع الأشاعرة مع الجهمية فى هذه المسألة. وكان ذلك من أسياب إثارة العلماء عليه. )١(‏ يقر المؤرخون أن ظهور جهم بدعوته كان فى خراسان. وإن كانت نشأئه الأولى بالعراق؛ وقد كان مولى لبنى راسب؛ وعمل كاتبا لشريح القاضى؛ وخرج على نصر ين سيار وقتله مسلم بن أحوز المازنى فى آخر عهد بنى مروان. وبقى أتباعه بنهاوند إلى أن تغلب مذهب أبى منصور الماتريدى وأبى الحسن الأشعرى على

كل المذاهب الاعتقادية يهذه البلاد. ل

* المفتزلة

- هذه هى الفرقة التى شغلت الفكر الإسلامى قرونا طويلة: وهى صاحبة المعركة الكبرى التى دوى ذكرها فى العصور الإسلامية, وهى مسالة خلق القرآن, تلك المسالة التى ابتلى فيها الإمام أحمد الذى كان يعد مذهبه المدرسة الثى تخرج فيها ابن تيمية؛ وقد فسر ابن تيمية مذهب أحمد فى خلق القرآن وصفة الكلام ونافح عنه. واجتهد فى أن يثبت أنه الستة.

وقد نشأت هذه الفرقة فى العراق» فقد كان العراق فى عصر الخلفاء الراشدين والعصر الأموى يسكنه عدة طوائف تنتهى إلى سلائل مختلفة. فبعضهم ينتهى إلى الكلدان» ويعضهم ينتهى إلى الفرسء ويعضهم نصارى:» وبعضهم يهود ويعضهم مجوس:ء وقد دخل هؤلاء فى الإسلام؛ وبعضهم قد فهمه على ضوء المعلومات القديمة فى رأسه؛ واصطبغ فى نفوسهم بصبغتهاء وتكونت عقيدتها متأثرة بعض التأثر بطريقتهاء وبعضهم أخذ الإسلام من ورده الصافى ومنهله العذب؛ وانساغ فى نفسه من غير تغييرء ولكن فيه بعض ال ميل إلى القديم وحنين إليه على غير إرادة.

-١57‏ وقد ظهرت المعتزلة فى أول أمرها بأمرين- أولهما- القول بأن الإنسان يخلق أفعال نفسه؛ وأته مختار فى كل ما يفعل؛ واذلك كان التكليف, وكان من أظهر من قال ذلك القول غيلان الدمشقى؛ وقد أخذ يدعى إلى ذلك فى عهد عمر بن عبد العزين, بل إنه كان يكتب إلى عمر رضى الله عنه واعظاً مرشداً وقد روى له كتاباً فى ذلك المرتضى فى (المنية والأمل فى الملل والنحل) وقد جاء فى آخر هذا الكتاب: «هل وجدت ياعمر حكيما يعيب ما يصنعء أى يصنع ما يعيبء أى يعذب على ما قضىء أو يقضى ما يعذب عليه. أم هل وجدت رحيما يكلف العباد فوق الطاقة أو يعذبهم على الطاعة؛ أم هل وجدت عدلا يحمل الناس على الظلم والمظالم, وهل وجدث صادقا يحمل الناس على الكذب والتكاذب بينهم؟ كفى ببيان هذا بياناً؛ وبالعمى عنه عمى».

وقد استمر غيلان يدعى بهذه الدعاية إلى أن قتله هشام بن عيد الملك.

ويقول بعض العلماء أن له فرقة قائمة بذاتها تسمى القدرية» ولكن المعتزلة يعدونه فى طبقاتهم؛ ولذلك نذكره فى هذا البحث منهمء ولأن ما يقوله فى ضمن أقوالهم.

وا

ثانى الأمرين- اللذين ظهر بهما المعتزلة مسألة مرتكب الكبيرة» فقد قالوا إنه ليس بعؤمن ولا كافرء ولكنه فاسقء فهو فى منزلة بين المنزلتين» أى بين الإيمان والكفرء وهو لا يدخل الجتة, لأنه لم يعمل عمل أهل الجنة, ولا مانع عندهم من أن يسمى مسلماً» باعتياره يظهر الإسلام: وينطق بالشهادتين: ولكنه لا يسمى مؤمناً. وإن سمى مسلماً يجب أن تكون ثمة قرينة حال تمينره عن المؤمنين الصادقى الإيمان.

وقول المعتزلة بالمنزلة بين المنزلتين مجاوبة لروح العصرء فقد جرى خلاف شديد فى هذا الشأن فى آخر عهد أمير المؤمنين على رضى الله عنه وعصر الأمويين فى أمر مرتكب الكبيرة» وجرت للفرق المختثلفة أقوال كثيرة فى هذا :

-١‏ منها قول الأزارقة من الخوارجء وهم أتباع نافع بن الأزرق. أن مرتكب الذنب صغيراً كان أو كبيراً كافر هو وواده ووافقهم الصفرية منهم إلا أنهم خالقوه فى الأطفال,

"- وقال الإباخمية من الخوارج وهم أتباع عبد الله بن إباض: إن مرتكب الكبيرة كاف ر'كفر تعمة لا كفر إيمان» أى أنه كفر بنعمة الله التى أنعمها على عباده فاستعملها فى

المعاصى بدل الطاعة.

'- وقال الحسن البصرى: إن مرتكب الكبيرة منافق, لأنه نطق بالإيمان ودل فعله على عدم الإيمان.

:- وقال المرجئة لا يضر مع الإيمان معصية, كما لا ينقع مع الكفر طاعة» وأهل ال ملة فى رجاء الرحمة دائماً.

*- وقال جمهور المسلمين إنه مؤمن عاص يحاسبه الله على عصيانه. إلا أن يتوب " ويتغمده الله برحمته.

1- وقال المعتزلة فى وسط تلك الآراء المتضاربة إنه فى منزلة بين المنزلتين» وكأنهم بذلك يتوسطون.

4- هذا ما اشتهر به المعتزلة فى أول أمرهمء ولكنها كانت فرقة نشيطة دائبة» ولقد حرروا فى آخر الأمر مذهبهم الاعتقادى فى خمسة أصولء فقد قال أبى الحسن الخياط فى كتاب الانتصار: «ليس يستحق أحد اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالأصول الخمسة: التوحيد والعدل؛ والوعد والوعيد, والمنزلة بين المنزلتين» والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر».

١65

وقد وضح معنى التوحيد عندهم أبو الحسن الأشعرى فى كتابه مقالات الإسلاميين: وخلاصة ما اشتمل عليه أن توحيد الله سبحانه تثزه عن الشبيه والمماثل «فليس كمئله شئ” ولا ينازمه أحد فى سلطانه ولا يجرى عليه شئ مما يجرى على الناس:؛ ولا يجوز عليه اجترار المنافع؛ ولا يلحقه المضار, ولا يناله السرور واللذات ولا يصل إليه الأذى والآلام ليس بذى غاية فيتناهى» ولا يجوز عليه الفناء, ولا يلحقه العجز والنقص» تقدس عن ملامسة النساء.وعن اتخاذ الصاحبة والأبناء»

وقد بثوا على هذا استحالة رؤية الله سبحانه وتعالى لاقتضاء ذلك الجسمية والجهة, وأن الصفات ليست شيئاً غير الذاتء وإلا تعدد القدماء فى نظرهم, وبنوا على ذلك أيضاً أن القرآن مخلوق لله سبحانه لنفيهم عنه سبحانه صفة الكلام.

أها العدل فمعناه أن الله سبحانه لا يحب الفساد,ء ولا يخلق أفعال العباد؛ بل يفعلون ها أمروا به, وينتهون عما نهوا عنه بالقدرة التى جعلها الله لهم: وركبها فيهم؛ وأنه لم يأمر إلا بما أرادء ولم ينه إلا عما كرهء وإنه ولى كل حسنة أمر بهاء برئ من كل سيئة نهى عنهاء لم يكافهم ما لا يطيقون. ولا أراد مالا يقدرون عليه.

وأما الوعد والوميد فهى أن يجازى المحسن إحساناً: ومن أساء السوء» ولا يغفر لمرتكب الكبيرة إلا أن يتوب.

وأما المنثلة بين المنزلتين فقد قررها واصل بن عطاء شيخ الاعتزال بقوله: «إن الإيمان عبارة عن خصال الخير؛ إذا اجتمعث سمى ا مرء مؤمناً: وهى اسم مدح. والفاسق لم يستجمع خصال الخير, ولا استحق اسم المدحء فلا يسمى مؤبناً؛ وليس بكافر أيضاًء لأن الشهادة وسائر أعمال الخير موجودة فيه لا وجه لإنكارهاء لكنه إذا خرج من الدنيا على كبيرة من غير توبة فهى من أهل الثار خائد فيها؛ إذ ليس فى الآخرة إلا الفريقان: فريق فى الجنة وفريق فى السعير؛ واكنه تخفف عنه النار, وتكون دركته فوق دركة ال“فار».

وأها الآمر بالمعروف والنهئ عن المذكر فقد قرروا وجويهما على المؤمنين نشراأ لدعوة الإسلام, وهداية للضالينء وإرشاداً للغاوين» وكل بما يستطيع؛ فنى البيان ببياته. والعالم بعلمه؛ وذى السيف بسيقه. ؟م١1‏

6- والمعتزلة اعتمدوا فى الاستدلال لعقائدهم على القضايا العقلية, وكان من آثار اعتمادهم على العقل فى معرفة حقائق الأشياء؛ وإدراك العقاد- أنهم كانوا يحكمون بحسن الأشياء وقبحها عقلاء وكانوا يقولون كما جاء فى الملل والنحل للشهرستانى: المعارف كلها معقولة بالفعل واجبة بنظر العقل, وشكر المنعم واجب قبل ورود السمع. والحسن والقبح

وقد قال الجبائى وهى من شيوخهم: «كل معصية كان يجوز أن يأمر الله سبحانه بها فهى قبيحة للنهى. وكل معصية ما كان يجوز أن يبيحها الله سبحانه فهى قبيحة لنقسها كالجهل به وكذلك كل ما جاز ألا يآمر الله به قهى حسن للأمر به. وكل ما لم يجز إلا أن يأمر الله يه فهو حسن لنفسه»().

عنه إلا ما'قيه صلاحء فالصلاح واجب له؛ ولا شئ مما يفعله جلت قدرته إلا وهو صالح: ويستحيل عليه سبحانه أن يفعل غير الصالح.

- ويظهر من مجموع تفكيرهم وآرائهم: ومناهجهم أنهم أخذوا من الفلسفة التى راجت سوقها فى العصر العباسى:ء ولهذا كان كل عالم من العلماء ينحى فى تقكيره منحى فلسفياً لا يجد من بين الفرق من يأوى إليه إلا هؤلاء المعتزلة.

ولقد كان أكثر علمائهم مشغوفين بالدراسات الفلسفية» ومع ذلك الشغف اضطروا إلى هذه الدراسة لأنهم تصدوا للذين هاجموا الإسلام؛ ومنهم فلاسفة فجادلوهم؛ واستخدموا بعض طرقهم, وتعلموا كثيراً منهاء ليستطيعوا أن ينالوا الفوز عليهم. فكانوا بحق فلاسفة المسلمين.

57 ا-وكانت صلتهم بالخلفاء فى العصر الأموى سلبية؛ فليسوا موالين لهم ولا معادين؛ حتى إذا جاءت الدولة العياسية قربهم إليه المنصور ثم المهدى؛ واتخذوا منهم سلاحا لمحارية الزندقة والزنادقة بالحجة والبرهان, ثم جاء المأمون فاتخذهم صحابته ويطانته, وأعلن أنه معتزلى يعتنق آراءهم كلها . ويقول عنهم: أصحابنا. ثم وسوس إليه وزيره أحمد بن

)١(‏ مقالات الإسلاميين للأشعرى. ١‏

أبى دؤاد» وكان من شيوخ المعتزلة أن يحمل الناس على القول بخلق القرآن بقوة الحكم: وأن يعتبر غير القائل ذلك القول غير مسلم؛ وقد حمل على ذلك الفقهاء والمحدثين من بعده المعتصم فالواثق ونال فى عهد هؤلاء الخلفاء أحمد بن حنبل أذى كثيرء وقد تعرض لخلافهم مع أحمد فى مسألة خلق القرآن؛ لأن هذا الموضوع كان له شأن فى دراسات ابن تيمية: وله رسالة خاصة فى صفة الكلام.

ولما جاء المتوكل رفع الأذى عن أحمد؛ وأنزله بالمعتزلة؛ ثم تعاقبت العصورء وليس للمعتزلة شأن عند الجماعة:, وإن كان لهم شأن عند الشيعة؛ فالاثنا عشرية كما قرر ابن أبى

- والمعتزلة لاعتمادهم على العقل فى فهم العقائك» وتقصيهم لمسائل جزئية» قد اختلفوا إلى طرائق مع اتفاقهم على الأصول الخمسة التى نقلناها؛ ولكل طائفة اسم خاص اشتق من اسم صاحبها الذى أخذت عنه: )١(‏ ومثهم الواصلية. وهم أتباع واصل بن عطاء رأس المعتزلة (؟) والهذيلية» وهم أتباع الهذيل بن العلاف. (؟) والنظامية, وهم أصحاب النظام. (4) والحائطية. وهم أصحاب أحمد بن حائط. (0) واليشرية. وهم أصحاب بشر بن المعتمر. (1) والمعمرية» وهم أصحاب معمر بن عباد السلمى. )١(‏ والمزوارية» وهم أصحاب عيسى بن صبيح الملقب بالمزوار. (4) والثمامية: وهم أصحاب ثمامة بن أشرس النميرى. (9) والهاشمية؛ وهم أصحاب هشام ين عمر القوطى. )٠١(‏ والجاحظية: وهم أصحاب الجاحظ. )١١(‏ والخياطية» وهم أصحاب أبى الحسين الخياط. (؟١)‏ والجبائية, وهم أصحاب الجبائى شيخ أبى الحسن الأشعرى. )١١(‏ والبهشمية: وهم أصحاب أبى هاشم عبد السلام بن الجبائى.

6- وسبب ذلك الاختلاف الكثير وتعدد الطوائف هى اعتمادهم على العقل كما نوهناء ومجانبتهم التقليد مجانبة تامة؛ ومجافاتهم الاتباع لغيرهم من غير بحث وتنقيب ووزن للأدلة: واذلك لم يقلد بعضهم بعضاً» وقاعدتهم التى يسيرون عليها: «كل مكلف مطالب بما يؤديه إليه اجتهاده فى أصول الدين, فيكتفى أن يخثلف التلميذ مع شيخه فى مسالة يكون هذا التلميذ صاحب فرقة قائمة؛ وهذه الفرق السابقة فيها تلاميذ مختلفون مع شيوخهم, فأبى الهذيل العلاف له فرقة, تلميذه النظام خالفه, فكانت له فرقه. والجاحظ تلميذ النظام خالقه فكانت له فرقة, والجبائى له فرقة, وابنه خالفه فكانت له فرقة أيضاً.

هنا

الإأشاعرة

اشقد طفيان المعتزلة باسم بعض الخلفاء العباسيين: وام يتركوا فقيهاً معروقاً أو محدثاً مشهوراً؛ أوإماماً متبعاً إلا أنزلوا به محنة فى رأيه وفكره» حتى تسى التاس خيرهم بجوار ذلك البلاء العام الذى لم ينج منه سواهم: ومن نهج نهجهم؛ فنسوا دفاعهم عن الإسلامء بجوار إيذائهم لأئمة الإسلام: وما جاء المتوكل وأبعدهم عن حظيرته؛ وأدنى خصوههم منه خضدت شوكتهمء وتحرك لمنازلتهم العلماء من الفقهاءوالمتظمين, وجادلوهم بلسان عضب ومن ورائهم العامة يؤيدونهم والخاصة يناصرونهم.

1 وظهر فى آخر القرن الثالث وأول القرن الرابع رجلان امتازا بصدق اليلاء وكثرة الأتباع, أحدهما أبى منصور الماتريدى؛ وثانيهما أبى الحسن الأشعرىء وكلاهما كان يدعى إلى ما يدعى إليه الفقهاء والمحدثون.

وقد ولد الأول بقرية (ماتريد) من أعمال سمرقند, وتفقه على مذهب أبى حنيفة: ونبغ حتى رجع الناس إليه فيما وراء النهر يأخذون عنه الفقه وأصوله وسائر علوم الدين: وألف فى الأصول كتاب الجدلء وفى الفقه كتاب مآخذ الشريعة: ثم ذاعت شهرته فى علم الكلام» حتى صار له فيه مذهب يسلكه أهل خراسان يقارب مذهب الأشعرى الذى سنبينه, وقد ذكر الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده فى تعليقاتهِ على العقائد العضدية أن بين الماتريدية والأشاعرة خلافاً فى نحو ثلاثين مسالة, ولكن أكثر العلماء على أنها مسائل جزئية, والاختلاف فيها لفظى؛ فهما متفقان فى الغاية» وقد ألف ال ماتريدى فى علم الكلام كتاب الرد على الكعبى المعتزلى» وكتاب أوهام المعتزلة: وكتاب الرد على الرافضة. وكتاب الرد على القرامطة؛ وقد مات سنة 7اه.

د 0 1 آم ' ؟ 0" أما الأشعرى فقد ولد بالبصرة وتوفى سنة تيف وللوين د ئة بعد الهجرة؛

تخرج على المعتزلة فى علم الكلام وتتلمذ لشيخهم فى عصر أبى على الجبائى؛ وكان

لفصاحته واسنه يتولى الجدل والمناظرة نائباً عن شيخه. إذ كان هذا يجيد الكتابة والدفاع

بالقلم. ولا يجيد النقاش باللسان: ولكن الأشعرى وجد من نفسه ما يبعده عن المعتزلة فى

تفكيرهمء مع أنه تغذى من موائدهم؛ ونال كل ثمرات فكرهم, ثم وجد ميلا إلى آراء الفقهاء

والمحدثين مع أنه لم يغش مجالسهم. ولم ينل العقائد على طريقتهم؛ ولذا عكف فى بيته مدة, كوا

وازن فيها بين أدلة الفريقين» وانقدح له رأى ا موازنةء فخرج على الناس وجهر به؛ وناداهم بالاجتماع عليه. فرقى المنبر يوم الجمعة فى المسجد الجامع بالبصرة وقال: أيها الناس من عرفنى فقد عرفنى: ومن لم يعرفتى فأنا أعرفه ينفسى (أنا فلان بن فلان) كنت أقول بخلق القرآن: وآن الله تعالى لايرى بالأيصارء وأن أفعال الشر أنا أفعلها وأنا تائب مقلع» مقصد للرد على المعتزلة مخرج لفضائحهم. معاشر الناس, إنما تغيبت عنكم هذه المدة لأنى نظرت. فتكافات عندى الأدلة ولم يترجح عندى شئ على شئ. فاستهديت الله تعالى: فهدانى إلى اعتقاد ما أودعته كتبى هذه وانخلعت من جميع ما كنت أعتقدء كما انخلعت من ثوبى هذاء واتخلع من ثوب كان عليه؛ ودفع إلى الناس ماكتبه عن طريق الجماعة من الفقهاء والمحدثين» وقيها ما أخذه على المعتزلة وما ناصر فيه الفقهاء والمحدثين. وقد بين مذهبه ومآخذه على ا معتزلة إجمالا فى مقدمة كتابه الإبانة: وقد جاء قيها بعد حمد الله والثناء عليه مما هى أهله والصلاة على النبى: «أما بعدء فإن كثيراً من المعتزلة وأهل القدر مالت يهم أهوائهم إلى التقليد لرؤسائهم. ومن مضى من أسلافهم: فتأولوا القرآن على آرائهم تأويلا لم ينزل الله به سلطاتاًء ولا أوضح به يرهاناء ولا تقلوه عن رسول رب العالمين ولا عن السلف المتقدمينء فخالقوا رواية الصحابة عن نبى الله ته فى رؤية الله بالأبصارء وقد جاءت فى ذلك الروايات من الجهات المختلفات, رتواترت الآثارء وتتابعت به الأخبار. وأنكروا شفاعة الرسول عَلله, وردو) الرواية فى ذلك عن السلف المتقدمين. فجحدوا عذاب القبر, وأن الكفار فى قبورهم يعذبون: وقد أجمع على ذلك الصحابة والتابعون» ودانوا بخلى القرآن نظيراً تقول إخوانهم من المشركين الذين قالوا: إن هذا إلا قول البشرء فزعموا أن القرآن كقول اليشرء وأثبتوا وأيقنوا أن العباد يخلقون الشر نظيراً لقول المجوس الذين يثبتون خالقين أحدهما يخلق الخير: والآخر يخلق الشرء وزعموا أن الله عزوجل يشاءما لايكون: ويكون مالا يشاء. خلافا يما أجمع عليه المسلمون من أن ما شاء الله كان وما لا يشاء لا يكون. ورداً لقول الله «وما تشاعن إلا أن يشاء الله»(١)‏ فأخبرنا أن لا يشاء شيئاً؛ إلا وقد شاء أن نشاءه ولقوله «ولو شاء الله ما اقتتلوا»(") لقوله «ولى شئنا لآتينا كل نفس هداها»(') ولقوله تعالى «فعال لما يريد» واقوله مخبراً عن شعيب أنه قال «وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربناء!؟) ولهذا سماهم رسول الله يله مجوس هذه الأمة, لأنهم دانوا ديانة المجوس, وضاهوا أقوالهم, وزعموا أن للخير والشر خالقين كما زعمت المجوس؛ وأن يكون من الشر مالا يشاء الله. كما قالت المجوس ذلك؛ وزعموا أنهم يملكون من الضر والنقع لأنفسهم ردأ لقول الله (0الإنسان: "١‏ 00000 (9) البقرة: ؟0؟

0( السجدة: ١١‏ ل( الأعراق: 43

١1

تعالى «قل لا أملك لنفسى ضرا ولا نفعاً إلا ها شاء الله»(١)‏ وانحرفوا عن القرآن: وعما أجمع عليه المسلمون» وزعمو) أثهم ينفردون بالقدرة على أعمالهم دون ربهم. وأثبتوا لأنفسهم غنى عن الله عز وجلء ووصفو) أنفسهم بالقدرة على ما لم يصفوا الله بالقدرة عليه. كما أثبت المجوس للشيطان من القدرة على الشر ما لم يثبتوه لله عز وجل: فكانوا مجوس هذه الأمة, إذ دانى بديانة المجوس؛ وتمسكوا يأقوالهم» ومالوا على أضاليلهم؛ وقنطوا الناس من رحمة الله وأينسوهم من روحه؛ وحكموا على العصاة بالنار والخلود خلافاً لقول الله تعالى «ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء»!')ء وزعموا أن من دخل النار لم يخرج منها خلافا لما جاءت به الرواية عن رسول الله مه: إن الله عز وجل يخرج من النار قوم بعدما امتحشوة فيها؛ وصاروا حمماً. ودفعوا أن يكون لله وجه مع قوله «ويبقى وجه ربك ذى الجلال والإكرام»() وأنكروا أن يكون لله يدان مع قوله«لما خلقت بيدى»!') وأنكروا أن يكون لله عين مع قوله «تجرى بأعينناء!') وقوله «واتصنع على عينى» ونفوا ما روى عن رسول الله كله من قوله «إن الله ينزل إلى السماء الدنيا» وأنا ذاكر ذلك إن شاء الله بابا باياء ويه المعونة والتأييد» وهنه التوفيق والتسديدء فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية؛ والحرورية؛ والرافضة, والمرجئة؛ فعرفونا قولكم النى به تقولون» وديانتكم التى بها تدينوت قيل له: قولنا الذى به نقول» وديانتنا التى ندين بها: التمسك بكتاب الله وسنة نبيه عله وما روى عن أصحابه والتابعين وأئمة الحديث. ونحن بذلك معتصمون,ء ويما كان عليه أحمد بن حنبل: تضر الله وجهه. ورفع درجته, وأجزل مثوبته؛ ولمن خالف قوله مجانبون؛ لأنه الإمام الفاضلء والرئيس الكامل, الذى أبان الله به الحق عند ظهور الضلالء وأوضح به المنهاج: وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين, وشك الشاكين, فرحمة الله عليه من إمام مقدم: وكبير مفهم؛ وعلى جميع أثمة المسلمين.

وجملة قوأنا أن نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله؛ وما جاء من عند الله. وما رواه,الثقات عن رسول الله عله لا نرد من ذلك شيئاً» وأن الله إله واحدء فرد صمد لا إله غيره؛ لم يتخذ صاحبة ولا ولداً» وأن محمداً عبده ورسوله. وأن الساعة آتية لا ريب فيها؛ وأن الله يبعث من فى القبور, وأن الله استوى على عرشه كما قال «الرحمن على العرش استوى» وأن له وجهاً كما قال «ويبقى وجه ريك ذو الجلال والإكرام» وأن له يداً كما قال«بل يداه ميسوطتان» وأن له عيناً بلا كيف كما قال «تجرى بأعيننا» وأن لله علماً كما قال «أنزله بعلمه» ونثيت له قدرة

)٠١‏ يونس: 45 02020202 ())النساء: م4 (؟) الرحمن: /ا؟ا [4) ص : لاه (5) القمر: ١4‏ ١4‏

كما قال: «أو لم يروا أن الله الذى خلقهم هى أشد منهم قوة»!١)‏ ونثبت لله السمع والبصرء ولا ننفى ذلك كما نفته المعتزلة والجهمية, ونقول إن كلام الله غير مخلوق وإن لم يخلق شيئًا لا وقد قال له كن فيكون, وأنه لا يكون فى الأرض شئ من خير وشر إلا ما شاء الله؛ وأن الأشياء تكون بمشيئة الله. وأن أحداً لا يستطيع أن يقعل شيئاً قبل أن يفعله الله ولا نستغتى عن الله» ولا نقدر على الخروج من علم الله. وأن لا خالق إلا الله؛ وأن أعمال العباد مخلوقة لله مقدورة له كما قال: والله خلقكم وما تعملون. وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا وهم يخلقون, كما قال: أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون. وهذا فى كتاب الله كثير» وأن الله وفق المؤمنين لطاعته. ولطف بهم ونظر لهم وأصلحهم إن كانوا صالحين ولأنه هداهم فكانوا مهتدين كما قال تبارك وتعالى: من يهد الله فهى المهتد» ومن يضلل فأوائك هم الخاسرون.., وإنا نؤمن بقضاء الله وقدره خيره وشره حلوه ومره. ونعلم أن ما أصابنا لم يكن ليخطتنا؛ وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا... ونقول إن القرآن كلام الله غير مخلوق» وأن من قال بخلق القرآن كان كافراً. وندين أن الله يرى بالأبصار يوم القيامة, كما يرى القمر ليلة البدرء يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله مَك ونقول إن الكافرين عنه محجوبون كما قال الله عز وجل «ككلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون»!') ونرى ألا نكفر أحداً من أهل القيلة بذنب ارتكبهء كالزنى: والسرقة» وشرب الخمرء كما دانت بذلك الخوارج. وزعموا أنهم بذلك كافرون. ونقول أن من عمل كبيرة من الكبائر مستحلا لها كان كافراً إذا كان غير معتقد تحريمها ... وتقول أن الله يخرج من النار قوماً بعد ما امتحشوا بشفاعة محمد عله ونؤمن يعذاب القبر.. وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.. وندين بحب السلف الذين اختارهم الله لصحبة تبيه ونثنى عليهم بما أثنى الله عليهم, ونتولاهم, ونقول إن الإمام بعد رسول الله مله أبويكر رضى الله عنه؛ وأن الله أعز به الدين؛ وأظهره على ال مرتدين؛ ثم عمر بن الخطاب رضى الله عنه, ثم عثمان نضر الله وجهه, ما قتله قاتلوه إلا ظلماً وعدواناً. ثم على بن أبى طالب رضى الله عنه. فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله عله وخلافتهم خلافة النبوة: ونشهد للعشرة بالجنة الذين شهد لهم رسول الله لله ونتولى سائر أصحاب رسول الله مله ونكف عما شجز بينهمء وندين الله أن الأئمة راشدون مهديون فضلاء لا يوازيهم فى الفضل غيرهم. ونصدق بجميع الروايات التى أثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنياء وأن الرب يقول« هل من سائل ؟ هل من مستغفر؟ »وسائر ما نقلوه وأثبتوه, ونرى الدعاء لأئمة المسلمين

١١ المطقفين:‎ 00) ١٠١ فصلت:‎ )١( 160

بالصلاح والإقرار بإمامتهم؛ وتضليل من رأى الخروج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة. وندين بترك الخروج عليهم بالسيف وترك القتال فى الفتنة. ونقر بخروج الدجال. ونؤمن بعذاب القبرء ومنكر ونكير ونصدق بحديث المعراج» ونصحح كثيراً من الرؤيا فى المنام: ونرى الصدقة عن هوتى ال مؤمنين والدعاء لهمء ونؤمن أن الله ينقعهم.. ونقول أن الصالحين يجوز أن يخصهم الله بآياته. وقوانا فى آطفال المشركين إن الله عز وجل يؤجج لهم ناراً فى الآخرة ثم يقول: اقتحموها كما جاءت الرواية بذلك. ونرى مفارقة كل داعية لفتنة ومجاتية أهل الأهواء. وسنحتج لما ذكرنا من قولنا ...».

07- هذه خلاصة قيمة لآراء الأشعرى بعد أن ترك الاعتزال. ودان بما تعتقده جماعة الفقهاء والمحدثين. ونستنبط من هذه الأمور:

-١‏ أنه يرى أن يأخذ بكل ما جاء به الكتاب والسنة من عقائدء ويحتج بكل وسائل الإقناع والإفحام.

؟- أنه يأخذ بظواهر النصوص فى الآيات الموهمة للتشبيه من غير أن يقع فى التشبيه؛ فهى يعتقد أن لله وجها لا كوجه العبيدء وأن لله يداً لا تشبه أيدى المخلوقات.

'- أنه يرى أن أحاديث الآحاد يحتج بها فى العقائد وهى دليل لإثياتهم: وقد أعلن اعتقاد أشياء ثيتت بتحاديثٌ الآحاد.

4- أنه فى آرائه كان يجانئب أهل الأهواء جميعاً والمعتزلة ويجتهد فى ألا يقع فيما وقع فيه كثير من المتحرفين.

4 وفى الحق أن كثيراً من آرائه كانت وسطأ بين المغالين وطريقاً مستقيما بين الآراء المتجاذبة الأطرافء وأن الدارس لحياة ذلك المقكر العظيم لاايجد من الصعب عليه أن يختار الصعب طريقاً وسطأ لعلمه الفزير واطلاعه الواسع. وكتابه (مقالات الإسلاميين) يدل على اطلاع كبير وفهم دقيق للفرق الإسلامية على اختلاف منازعهم, وتباين مذاهبهم» وتباعد مسالكهم؛ ولا يصعب على المتقصى أن يثبت ذلك الاعتدال فى كل فكرة من أفكاره. وعقيدة من عقائده فرأيه فى الصفات وسط بين المعتزلة والجهمية الذين تقوا الحياة والسمع والبصر والحشوية والمجسمة الذين شبهوا الله تنزهت صفاته؛ بالحوادث» تعالى الله عما يقولون غلوا كبيراً» ور أيه فى القدرة وأفعال الإنسان وسط بين الجهمية وا معتزلة: فالمعتزلة قالوا: هو

١

قادر على الإحداث والكسب معاً. والجهمية قالوا: الإنسان لا يقدر على إحداث شئ ولا كسب شى؛ فقال الأشعرى: العبد لا يقدر على الإحداث؛ ويقدر على الكسب('. وقالت المشبهة: إن الله يرى يوم القيامة مكيفا محدودا.. وقالت ا معتزلة والجهمية: إنه سبحاته لا يرى بحال من الأحوال. فسلك الأشعرى طريقاً بينهما. فقال: يرى من غير حول ولا حدود: وقالت المعتزلة: لله يد قدرة ونعمة, وقالت الحشوية: يد جارحة. فسلك الأشعرى طريقاً وسطاء يده صفة كالسمع والبصر. وقالت المعتزلة: القرآن كلام الله مخلوق مبتدع؛ وقالت الحشوية: الحروف المقطعة والأجسام التى يكتب عليهاء والألوان التى يكتب بها وما بين الدفتين كلها قديمة!؟. فسلك الأشعرى طريقاً بينهما وقال؛ القرآن كلام الله قديم غير مغيرء ولا مخلوق ولا حادث ولاميتدع, قأما الحروف المقطعة والأجسام والألوان والأصوات المحدودات فمخلوقات مخترعات. وقالت المعتزلة: إن صاحب الكبيرة مع إيمانه وطاعته لا يخرج من النار قطء وقالت المرجئة: من أخلص لله سبحانه وتعالى وأمن به فلا تضره كبيرة مهما تكن فساك الأشعرى طريقاً بينهما وقال: المؤمن الموحد الفاسق هو فى مشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة: وإن شاء عاقبه بفسقه. ثم أدخله الجنة؛ وقالت الرافضة: أن للرسول صلوات الله وسلامه عليه ولعلى رضى الله عنه شفاعة من غير إذن الله ولا أمرهءوقال المعتزلة: لا شفاعة بحال من الأحوال فسلك الأشعرى طريقاً وسطأً وقال: إن للرسول صلوات الله وسلامه عليه شفاعة مقبولة من المؤمنين ا مستحقين للعقوبة يشفع لهم بأمر الله وإذنه ولا يُشفع إلا لمن ارتضى.

وهكذا ثراه سلك فى مذهيه مسلك الاعتدال والوسطء وقى الوسط الحق والقسطاس المستقيم فى كثير من الأوقات.

"٠‏ وقد سلك الأشعرى فى الاستدلال على العقائد مسلك النقل ومسلك العقلء فهو يشبت ما جاءبه القرآن الكريم والحديث الشريف من أوصاف الله ورسله واليوم الآخرء والملائكة والحساب والعقاب والثواب, ويتجه إلى الأدلة العقلية, والبراهين المنطقية يستدل بها على صفات الله سبحانه وتعالى. وقد استعان فى ذلك بقضايا فلسفية ومسائل عقلية خاض فيها الفلاسقة وسلكها المناطقة. والسبب فى ذلك هو:

سمس 16١‏

-١‏ أنه تخرج على المعتزلة وتربى على موائدهم الفكرية؛ فنال من مشريهم وأخذ من منهلهم: واختار طريقتهم فى إثبات العقائدء وإن خالفهم فى النتائج وياعد بينه وبين ما وصلوا؛ وقد علمت أن المعتزلة سلكوا فى استدلالاتهم مسلك المنطق والفلسقة,

؟- وأنه قد تصدى للرد على المعتزلة ومهاجمتهم: فلابد أن يلحن بمثل حجتهم؛ وأن يتبع طريقتهم فى الاستدلال, ليفلج عليهم؛ ويقطع شبهاتهم ويفحمهم بما بين أيديهم: ويرد

؟- وأنه تصدى للرد على الفلاسفة. والقرامطة:؛ والباطنية: والحشوية والروافضء: وغيرهم من أهل الأهواء الفاسدة والنحل الباطنة. وكثير من هؤلاء لا يقنعه إلا أقيسة البرهان؛ ومنهم فلاسفة علماء لا يقطعهم إلا دليل العقل ولا يرد كيدهم فى نحورهم أثر أى نقل.

واقد نال الأشعرى منزلة عظيمة: وصار له أنصار كثيرونء ولقى من الحكام تأييداً ونصراًء فتعقب خصومه من ال معتزلة والكفار وأهل الأهواء فى كل مكان؛ وبث أنصاره فى الأقاليم والجهات: يحاربون خصوم الجماعة ومخالفيهاء ولقبه أكثر العلماء بإمام أهل السنة أو الجماعة,

-٠1‏ ولكن مع ذلك يقى له من علماء الدين مخالفون متابثون» فابن حزم يعده من الجبرية» لرأيه فى أفعال الإنسان(), ويعده من المرجئة لرأيه فى مرتكب الكبيرة!')» وقد تعقبه فى غير هاتين المسألتين: ولكن مع ذلك ذاب مخالفوه فى لجة التاريخ الإسلامى واشتد ساعد أنصاره؛ جيلا بعد جيل؛ وقويت كلمتهم وقد حذوا حذوه وسلكوا مسلكه؛ وقاموا بما كان يقوم به هو والماتريدى من محارية المعتزلة والملحدينء ومنارلة لهم فى كل ميدان من ميادين القول, وكل باب من أبواب الإيمان. ومذاهب اليقين.

ومن أبرزهم وأقواهم شخصية وأبينهم أثراً أبى بكر الباقلانى(). فقد كان عالما كبيراً هذب بحوث الأشعرىء وتكلم فى مقدمات البراهين العقلية للتوحيدء فتكلم فى الجوهر )١(‏ الجزء الثالث ص؟؟ من الفصل فى الملل والتحل لابن حزم.

(5) الجزء الرابع ص5 ٠١‏ من الفصل فى الملل والنحل لابن حزم, (؟) مات الباقلانى سنة. !4. 1

والعرض؛ وأن العرض لايقوم بالعرضء وأن العرض لا يبقى زمانين إلى آخر ما هنالك؛ ولم يقتصر فى الدعوة لمذهب الأشعرى على ما وصل إليه من نتائج, بل ذكر أنه لايجوز الأخذ بغير ها أشار إليه من مقدمات لإثبات تلك النتائج؛ فكان ذلك مغالاة وشططاً فى التأييد والنصرة؛ فإن المقدمات العقلية لم يجئ بها كتاب أو يسنة» وميادين العقل متسعة: وأبوايه مفتحة» وطرائقه مسلوكة؛ وعسى أن يصل الناس إلى دلائل وبينات من قضايا العقول ونتائج الأقهام لم يصل إليها الأشعرى؛ وليس من شر فى الأخذ بها ما دامت لم تخالف ما وصل إليه من نتائج» وما اهتدى إليه من ثمرات فكرية,

7 - وأذلك جاء الغزالى!') من بعدهء فلم يسلك مسلك الباقلانى؛ ولم يدع لمثل ما دعا إليه. بل اعتقد أنه لا يلزم من مخالفة مسلك الباقلانى والأشعرى فى الاستدلال بطلان المدلول والنتيجة: وآمن بأن الدين خاطب العقول جميعاً: وعلى الناس أن يومنوا بما جاء بالكتاب والسنة, ولهم أن يقووه؛ بما يشاءون من أدلة.

والحق أن الغزالى نظر فى كلام أبى منصور الماتريدى» وأبى الحسن الأشعرى نظرة حرة بصيرة فاحصة لا نظرة تابع مقلد فوافقهما فى أكثر ما وصلا إليه؛ وخالفهما فى بعض ما ارتآه دينا واجب الاتباعء ولذا رماه كثيرون من أنصارهما بالكفر والزندقة, واقرأً ما قاله فى رسالته «فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة» فقد جاء فيها:

«إنى رأيتك أيها الأخ المشفق والصديق موغر الصدر منقسم الفكر لما قرع سمعك من طعن طائفة من الحسدة على بعض كتبنا المصنفة فى أسرار معاملات الدين وزعمهم أن بينها ما يخالف مذهب الأصحاب المتقدمين والمشايخ المتكلمين» وأن العدول عن مذهب الأشعرىء ولى فى قيد شعرة كفرء ومباينته ولى فى شئ نزر ضلال وخسرء فهون أيها الأخ المشفق على نفسكء لا يضق به صدركء ففل من غريك واصبر على ما يقولون: واهجرهم هجراً جميلا. واستحقر من لايحسد ولا يقذف, واستصغر من بالكفر أو الضلال لا يعرف فأى داع أكمل وأعقل من سيد المرسلين ملل وقد قالوا إنه مجنون من المجانين؛ وأى كلام أجل وأصدق من كلام رب العالمين: وقد قالوا إنه أساطير الأولين... خاطب نفسك وصاحبك, وطالبه بحد الكفرء فإن زعم حكم الكفر ما يخالف مذهب الأشعرىء أو مذهب المعتزلى؛ أو

رذ

مذهب الحنبلىء أى غيرهم؛ فاعلم أنه غر بليد قد قيده التقليدء فهى أعمى من العميان» فلا تضيع بإصلاحه الزمان, وناهيك حجة فى إفحامه مقابلة دعواه بدعوى خصومه؛ إذ بين سائر المذاهب خلاف الأشعرى؛ من يزعم أن مخالفته من كل ورد وصدر هن الكفر الجلى» فاسأله من أين ثبت له أن يكون الحق وقفاً عليه. حتى قضى بكفر الباقلانى؛ إذ خالفه فى صسفة البقاء لله تعالى, وزعم أنه ليس هو وصفاً لله زائداً على الذات: ولم صار الباقلانى أولى بالكفر بمخالقة الأشعرى منه بمخالفته الباقلانى: ولم صار الحق وقفاً على أحدهما دون الثانى: أكان لأجل السبق فى الزمان» فقد سيق الأشعرى غيره من ا معتزلة, فليكن الحق للسابق عليه, أم لأجل التفاوت فى الفضل والعلم» فبأى ميزان ومكيال قدرت الفضلء حتى لاح له أنه لا أفضل فى الوجود من متبوعه ومقلدهء فإن رخص للباقلانى فى مخالفته, فلم حجر على غيره... وما مدرك التخصيص بهذه الرخصة: فإن زعم أن خلاف الباقلانى يرجع إلى لفظ لا لتحقيق وراءه. كما تعسف بتكلفة بعض المتعصبين زاعما أنهما جميعاً متوقفان على دوام الوجود والخلاف فى أن ذلك يرجع إلى الذات أو إلى وصف زائد عليه خلاف قريب لايوجب التشديد» فما باله يشدد القول على المعتزلى فى نفيه الصفات؛ وهى معترف بأن الله عالم محيط بجميع المخلوقات: قادر على جميع الممكنات؛ وإنما يخالف الأشعرى فى أنه عالم قادر بالذات أو بصفة زائدة؛ فما الفرق بين الخلافين... إلخ».

4 - وترى من هذا كيف كان ينظر فى العقائد نظرة جريئة لا يقلد فيها إماما؛ ولايتبع مذهبا من المذاهب المقررة فى العقائد وإن انتهى إلى قريب مما انتهى إليه الأشعرى والماتريدى وأنصارهما وأتباعهما.

ولقد جاء بعد الفزالى أئمة كثيرون اعتنقوا مذهب الأشعرى فى نتائجه. وزادوا فى دلائله منهم البيضاوى!') والسيد الشريف الجرجانى!') وغيرهما من الأعلام, والأئمة الأقذاذ الذين أحاطوا خبراً بالمعقول والمنقول. وقد دونت دلائلهم وردودهم على المعتزلة وغيرهم فى علم الكلام الذى لا يزال يدرس إلى الآن» كما كان فى تلك العصور الغايرة وفق الله الجميع للسدادء وهداهم إلى سبيل الرشاد.

)١(‏ توفى البيضاوى سنة ١١‏ وكان مناظراً فجيداً؛ وإماماً متعبداً. وفقيها شافعياً مدققاً.

(1) توفى الجرجانى سنة 417 وكان فقيها حتفياً. ملما بالعلوم العقلية ألف فيها كتبا انتفع الناس بها, ١‏

التصوف فى عصرابن تيمية

5- زخر عصر أبن تيمية بالمنازع الفكرية التى كان أساسها الاتباع والتقليد, دون النظر المجرد والتفكيرء ولقد امتاز ذلك العصر أيضاً بظهور رجال ممتازين نوى خاصة بالتصوف. خرج بعضهم بها على ذوى الفكر برأى جديدء وهى فى أصل تحلته ينتهى إلى منزع فلسفى قديمء أو فكرة دينية تمت إلى الأديان القديمة غير السماوية بنسب وثيق, '

وقد شغل ابن تيمية من هذه المنازع ثلاثة منها كانت موضع مجادلته؛ ومثار خلافه: وسيبا من أسباب التضييق عليه:

(أولها) الاتحادء وهى الشكل الأخير لفكرة وحدة الوجود التى دعا إليها محيى الدين ابن عربى. (وثانيها) دعواهم أنه عند امتلاء القلب بمحبة الله تتساوى الطاعة والعصيان, (وثالثها) الشعبذة التى اقترنت بالطرق الصوفية فى عصره.

٠‏ - ومن أجل أن تتبين هذه الأمور الثلاثة نذكر مذاهب التصوف المشهورة التى سادت عصره؛ ونشير إلى الرجال الذين نطقوا بهاء ومنزلتهم فى العصر الذى أظله؛ وأى قدر من التعب لاقى الرجل فى السبيل الذى سلكه. والمثارات التى ثارت حوله.

نشا التصوف فى الإسلام من ينبوعين مختلفين تلاقياًء فكان النزاع الروحي؛ الذى أثار الأفكارء وكان الشكل الذى دخل فيه بعض الذين حاواوا استغلال السذج. والتحكم فى أهوائهم:

(الينبوع الأول) الذى نشاً هنه التتصوفء هو انصراف يعض العباد المسلمين إلى الزهد فى الدتياء والاتقطاع للعبادة, وقد ابتدأ ذلك فى عصر النبى عله فكان من الصحابة من اعتزم أن يقوم الليل مصلياً متهجداً ولا ينام, ومنهم من يصوم ولايفطرء ومنهم من انقطع عن النساءء فلما بلغ أمرهم النبى عله قال: ما بال أقوام يقولون كذا وكذاء لكنى أصوم وأفطرء وأصلى وأتام؛ وأتزوج النساءء فمن رغب عن سنتى فليس همنى.

واقد نهى عليه الصصلاة والسلام عن الرهبنة؛ وقال: «رهبانية الإسلام الجهاد». واكن بعد أن اتتقل النبى عله إلى الرفيق الأعلى؛ ودخل فى الإسلام ناس كثيرون من أهل الديانات السابقة, وكان فى بعض هذه الديانات أن تعذيب الجسم تطهير للروح؛ كما وكا

كان عند البراهمة والبوذيين وغيرهمء وأن الروح القوى هى الذى لا يعيش إلا فى جسم قد أرهفته الرياضة النفسية. وأن الروح لا يرقى إلى السمى فى ملكوت الله إلا إذا خلصت من مطالب الجسد, فإن أثقال الجسم تمئعها من الارتفااع إلى العلا.

ما دخل هؤلاء فى الإسلام كثر الزهاد الذين غالوا فى الزهادة فى الدنيا ونعيمهاء وظنوا أن نعيم الجنة ونعيم الدنيا ضدان لا يجتمعان» وأن سبيل الجنة ترك متاع الدنيا تماماً.

١‏ - وفى وسط تلك النفوس وجد التصوف مكانه إذ وجد أرضاً خصبة.

(والمنزع الثانى) الذى وجه النفوس إلى التصوف هو ما سرى إلى المسلمين من فكرتين إحداهما فلسفية والأخرى من الديانات القديمة؛ أما الفكرة الأولى فهى فكرة الإشراقيين من القلاسفة. وهم الذين يرون أن المعرفة تقذف فى النفس بالرياضة الروحية والتهذيب النقسى.

والفكرة الثانية فكرة الحلول الإلهى فى النفوس الإنسانية, أو حلول الناسوت فى اللافوت. وتلك الفكرة قد ابتدأت تدخل بين الطوائف التى كانت تنتمى كذيا إلى الإسلام فى الصدر الأول» عندما اختلط المسلمون بالنصارى الباطنية: ثم ظهرت فى لونها الأخير فى بعض الصوفية.

وقد كان بجوار ذلك المنزع منزع آخر هو ما يسمى بوحدة الوجود» وهى فكرة هندية, ولا زال أثرها واضحاً فى الآداب الهندية؛ قوامها أن كل شئ فى الوجود متصل يوحدة ثابتة جامعة: وأنه مهما تتباين الأشكال والأوصاف والمظاهر» فالكل واحدء وما الحيوان والجماد والنبات» إلا مظاهر لشئ واحد يتلاقى فى الحقيقة, ويختلف فى الجوهر؛ وإن اختلف فى الشكل والمظهر,

- اختلطت تلك المنازع كلهاء من مغالاة فى الزهد إلى استعارة لنظرية الإشراق من الفلسفة اليونانية» إلى فتح الباب لأفكار الحلول؛ ثم وحدة الوجود ثم كان من اختلاطها ذلك التصوف الذى ظهر فى الإسلام واشتد فى القرن الرابع والخامسء ثم بلغ أقصى مداه فى القرن السابع والثاهن حيث عاش ابن تيمية.

3

ولقد كان مزيجاً من هذه الأمور مختلفة المقادير. فعنهم من غلبت عليه فكرة الإشراق: ولم يزد عليها؛ ومنهم من كان الحلول أظهر مظاهره؛ ومنهم من نادى بوحدة الوجود ومنهم من اقتصر على الإذعان للأولياء, الذين نحلهم من صفات المعرفة والكشف ما لم يصل إليه النبيون: وإن كانوا فوق سائر الناس.

وهناك معين آخر أخذت منه فيما أحسب النزعات الصوفية؛ وهو كون النصوص والأحكام لها ظاهفر وباطن: فإن التصوف قد استهاره من الباطنية» فإن الباطنية كانوا يقولون إن لكل نص تأويلا. واكل تأويل باطناً ولم يؤت علم التأويل وباطن الشريعة إلا الأئمة.

ويظهر أن المتصوفة قد استعاروا ذلك التفكير من الباطنية كما استعاروا من غيرهاء وإذلك يقولون فى الطهارة: «اعلم أن الطهارة فى طريقناء طهارة غير معقولة المعنى» وهى الطهارة من الحدثء والحدث وصف نفسى للعبد؛ فكيف يمكن أن يتطهر الشئ من حقيقته؛, فإنه لى تطه. من حقيقته انتفت عينه. وإذا انتفت عينه فمن يكون مكلفاً العبادة؛ وما ثم إلا الله. فلهذا قلنا إن الطهارة من الحدث غير معقولة المعنى؛ فصورة الطهارة من الحدث عندنا أن يكون الحق سمعك وبصرك وكلك فى جميع عباداتكء فتكون أنت من حيث ذاتك وتكون هو من حيث تصرفاتك وإدراكاتك( ».

فى الإسلام, وخصوصاً بعد القرن الخامس الهجرىء وكان مذاهب مختلفة على حسب استقرار الأخذ من الينابيع المختلفة,

وأول هذه المذاهب - المذهب الإشراقىء وهى الذى غابت فيه الناحية الفلسفية على ها عداها مع الزهد, وهى قد اشترك فى التفكير الصوفى كله؛ ويظهر أن أساس كل تصوف هو هذا الإشراق الروحى؛ بيد أن بعضهم قد اقتصر عليه ولم يتجاوزه؛ فلم يفكر فى حلول ولا وحدة: وبعضهم زاد فيه أحد هذين الأمرين,

وثائى المذاهب الصوفية مذهب الحلول؛ بأن يحل العنصر الإلهى فى العنصر الإنسانىء وقد نادى بهذا الحلاج؛ فقال شعراً: )١(‏ انظر الفتوحات المكية ج ١‏ ص 4148.

1

قد تحققتك فى سرى 2 فخاطبك لسانى فاجتمعنالمعمان وافترقنا لمعانى إن يكن غيبك التعظيم عن لحظ العيان فلقد صيرك الوجد من الأحشاء دان(١)‏

ويقول فى شعر أصرح: سبحان من أظهر ناسوته سر سنا لاهوته الثاقب ثم بدا فى خلقه ظاهراً ‏ فى صورة الآكل الشارب حتى لقد عاينه خلقه كلحظة الحاجب بالحاجب

وثالث المذاهب الصوفية القول بوحدة الوجودء وهى يقرر أن الموجود واحد؛ وما التعدد الواقع إلا تعدد فى شكل الوجود لا فى ذات الموجود» ولقد حمل لواء تلك القكرة وجلاها ابن عربى. وعلى مقتضى هذا يكون الوجود كله من أرض وسماء ونجومء سابحة فى الكون: هو صور تجلى الله سبحانه وتعالى» وفيه سيحانه كل شئ” وأقد قال ابن عربى فى ذلك. يا خالق الأشياء فى نفسه أنت لمايخلقهجامم تخلق ها ينتهى كونه فيك فأنت الضيق الواسع

ولقد قال بهاء الدين العاملى فى شرح وحدة الوجود مقرباً ما بين تجلى الله لرسوله. وتجليه يوم القيامة.

«فإذا جاز تجليه سبحانه فى صورة شخصية فما المانع هن أن يكون الصور الأرضية والسماوية صور تجلياته. وشئون ظهور ذاته؛ فإن قلت أن الصورة المذكورة التى تجلى الله فيها صورة حسية. فكيف تقاس عليها الصور التى بخلافها فى الحسن والنورانية مثل الأشياء النجسة والمتقذرة؟ يقولون فى الجواب أن نجاسة الأشياء وتقذرها ليست وصفاً ثايتأ لها فى أنفسهاء فإن كانت طبيعة متعينة لها ملائمة بالنسبة إلى البعض الآخرء ومنافرة بالنسبة للبعض الآخرء وذلك من آثار ما به الاشتراكء وما به الاختلاف الواقع به التعيين, فأيهما غلب ظهر حكمه من الملاسة والمنافرة, النجاسة الواقعة فى بعض الأشياء )١(‏ تاريخ بغداد الجزء الثامن ص .1١١‏

كا

إنما هى بالنسبة إلى ما يقابلها من الطبائع التى وقعت بينها' أسباب المخالفة» فهى لاتثبت كشئ - إلا بالنسبة إلى ما يقابلهاء لا بالتسبة إلى الإطلاق والمطلق؛ فهى وما يقابلها مما سمى نظاقة على السوية بالنسبة للمطلق».

6 ومن الصوفية من اتخذ ناحية أخرىء وهى نانية الشوق إلى الله سبحانه وتعالى ومهبته. وأن المحبة وإن كانت قدراً مشتركاً بين الصوفية أجمعين كالإشراق قد راض بعضنهم نفسه على تلك المحبة: واتخذ منها سبيلا للاتصال بالله سيحانه وتعالى؛ ونزعوا بذلك متزعا ليس حلولا ولا وحدة» وأكنه اتصال بالله أى اتحاد المخلوق بخالقه بسبب محبته إياه؛ وخلوصه له سبحانه وتعالى!!).

وقد نحا ذلك المنحى ابن الفارض فهو فى محبته يتجه نح محبة الله سبحانه. وأنه بهذه المحبة يتصل به تعالى ويعلى إليه. وأنه عندسا يصل إلى درجة الاتحاد بالذات العلية يكون فى غيبوية يسميها أوائك المحى أى فناء ذاته الفائية فى ذات الله الباقية, أو يسميها السكر لأنه يغيب فيها عن الحس. ويسمى الصوفنة هذه الحال بؤحدة الشهود» وهى مقابل ما قاله غيرهم من وحدة الوجود؛ ويقول اين القارض فى وصف هذه الحال:

جلت فى تجليها الوجود لناظرى2 ' وفى كلمرتى أراها برؤيتى

وأش هد عينى إذ بدت فوجدتنى هنالك إياها بجلوة جلوتى وطاح وجودى فى شهودى وغبت عن وجود شهودى ماحياً غير مثبت

وعائقت ما شاهدت فى محو شاهدى بمشهده للصحى من بعد سكرتى

ففى المحو يعد الصحو لم أك غيرها ٠‏ «ذاتى بذاتى إذ تجلت تحلت

١٠‏ - وقد قلنا أن الإشراق النفسى الذى يفيض فى القلب بالنورء والذى يكون نتيجة للتربية النفسية والرياضية هو صفة عامة من صفات الصوفية يشتركون فيها بلا تفرقة بينهم؛ وأقد لزم هذه الصفة أمران: منه غذاء روحه بالقدوات والروحات, فإنهم يعتبرون تلك ا ملازمة مع المشاركة الوجدانية

1584

أقوى رائض؛ وأنه يكون بين الشيخ والمريد شبه استهواء روحى يوجه نفساه؛ ويقمع حسه, الحكمة على القلب وقذف الله فيه بنور يضئ بين يديه السبيل فى مدلهم الخطوب,

ثانيهما - أن النفوس متى زكتء وامتلأت بالإشراق كشف عنها الحجاب» وقد تكشف عن المستورء ويتبين بين يديها الخبئ من الأمورء وإن ملازمة التلميذ للمريد قد تكشف قلب التلميذ لشيخه. فيراه كما يرى وجهه.

وقد ذكر ابن عطاء الله السكندرى صاحب الحكم الذى عاصر ابن تيمية(')وكان يدرس فى الأزهرء حكى أمراً بينه وبين شيخه فقال: دخلت على الشيخ رضى الله عنه؛ وفى نفسى العزم على التجريد قائلا فى.نفسى: «إن اليصول إلى الله تعالى على هذه الحالة بعيد مع الاشتغال بالعلوم الظاهرة, ووجود المخالطة للناس. فقال لى من غير أن أساله: صاحبنى إنسان مشتغل بالعلوم الظاهرة؛ ومتصدر فيها فذاق من هذا الطريق شيئاً فجاء إلى: فقال يا سيدى أخرج عما أنا فيه, وأتجرد لصحبتك: فقلت له: ما الشأن ذا وأكن امكث فيما أنت فيه, وما قسم الله لك على أيدينا واصلء ثم قال الشيخ ونظر إلى: وهكذا شأن الصديقين لا يخرجون من شئ حتى يكون الحق سبحانه هو الذى يتولى إخراجهم» فخرجت من عنده وقد غسل الله تلك الخواطر من قلبى: ووجدت الراحة بالتسليم إلى الله تعالى».

1 -- وقد كان الصوفية ممن يعتمدون على التوكل المطلق» ويرون أن التوكل الحقيقى؛ ثقة بالله مطلقة؛ وإن رياضتهم الروحية كانت تنمى فيهم حقيقة التوكل؛ ولعل إيمانهم بالإشراق الروحى. وهى العلم بفيض إلهى جعلهم لا يريطون بين الأسباب العادية ومسبباتها ربطأ وثيقاً؛ وكذلك كانوا يأخذون بحرفية الحديث الشريف: «لى توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطانأ» ولقد قالوا. «من اهتم برزق غده وعنده قوت يومه ارتكب خطيئة تكتب عليه».

وبهذا وغيره كانوا جبريين يعتقدون أنه لا إرادة للإنسان فيما يفعل وأن الإرادة لله الواحد القهار, ليس لتأحد سواة,

)1غ( نوفى ابن عطام الله السكندرى سنة كثلال, نل

وإنهم لاعتقادهم بالجبر يفوضون فى الأمور الغيبية تفويضاً مطلقاً؛ يفوضون بكل ما يكون من الله لهمء لأنهم وما يملكون وما يفعلون من صنع العلام القدير, ولذا يقول أحدهم: «ولى كان رضا الله فى أن يدخلنى النار كنت راضياً».

ولقد جمعوا جمعا غريباً بين الجبر والتوكلء وحملوا أنفسهم على الرياضة الروحية, ليقريوا من ريهمء ويرضى عنهم؛ واذا كانوا يرضون دائمأً بما قسم لهم؛ فهم لا يرضون عن أنفسهمء ويتهمونها دائماً؛ ويجعلون ذلك إحدى مراتب الرياضة والتصوفء وأذا يقول أبن عطاء الله السكندرى فى حكمه: «لأن تصحب جاهلا لا يرضى عن تفسه خير لك من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه !! فأى علم لعالم يرضى عن نفسه. وأى جهل لجاهل لا يرضى عن نقسه !!».

- وإقد كان عدم إيمانهم المطلق بارتباط الأسباب العادية بعسبباتها أحد البواعث التى جعلتهم يؤمنون بكرامات الأولياء» وهى الأمور الخارقة للعادة التى تجرى على يد الشيوخ الذين علت درجاتهمء وصاروا من أولياء الله فإن تلك الكرامات فى حقيقة معناها ليست إلا قطعاً للمسيبات عن أسبابها الظاهرة.

فالولى إن يحب الله تعالى ويفنى فى ذات الله ينكشف عنه الحجاب. ويزول الغطاء. وتنقطع الأفعال عن الأسبابء وتكون الكرامات الخارقة للعادات التى عليها الناس؛ لأن الولى بفنائه قد خرج عن مألوف الناسء بل جريان الكرامات على أيدى الأولياء أقل من سببهاء وهو قمع النفس عن هواها والاتجاه إلى الله العلى القديرء ولذلك جاء فى رسالة القتشيرى «أنه قيل لأبى محمد ين عيد الله بن محمد بن المرتعش أن فلانا يمشى على الهواءء فقال عندى إن مكنه الله تعالى من مخالفة هواه فهى أعظم من المشى فى الهواء».

4 - وإن حال الفناء التى راموها ورغبوا فيها واتجهوا إليهاء رجعلوها غاية الغايات كما جعاتهم ينسون الأسباب عند وقوع الأمورء جعلتهم ينظرون إلى المعصية غير النظر الذى ينظر إليها؛ فبعض المعاصى عندهم إذا منعت الغرور كانت خيراً من الطاعة إذا أوجدت الفرور؛ حتى أن ابن عطاء الله السكندرى يقرر فى حكمه أن «معصية أورثت ذلا وانكساراً خير من طاعة أورثت غرورا واستكباراً». وذلك لأن الغرور ييعد النفس عن الفناء فى ذات الله؛ بينما الانكسار لله بذل المعصية يقريه من ذات الله.

١/1

ويقول ابن عطاء أيضاً: «حظ النفس فى المعصية ظاهر جلى: وحظها فى الطاعات باطن خفى؛ وما يخفى صعب علاجه.» أى أن المعصية بما توجد من ذل لصاحبهاء وباشتهاره بين الناس؛ واستحيائه بها يكون حل اللوم كبيزاً» أما الطاعة فقد يصحبها الرياء هن حيث لا يدرى» وعلاجه صعب وإذا يقول أيضاً: «ربما دخل الرياء عليك من حيث لا ينظر الخلقإليك».

وإنه لتجئ: عبارات فى الأدعية الصوفية تجعل المصبة من الله هى كل شى” وأن السيئات معها تهون؛ والحسنات مع البغض لا تكونء ولذلك روى أن أبا الحسن الشاذلى كان يقول فى دعائه رضى الله عنه:

«اجعل سيئاتنا سيئات من أحيبت. ولا تجعل حسناتنا حسنات من أيغصت, فالإحسان لا ينفع مع البغض منك, والإساءة لاتضر مع الحب فيك. وقد أبهمت عليذا الأمر لنرجى ونخاف فآمن خوفناء ولا تخيب رجإعناء وأعطنا سؤاناء فقد أعطيت الإيمان من قبل أن تسألك».

- وإفكهم للروابط التى تربط الأسباب بالمسببات فى الدنيا؛ وإيمانهم يأن المعرفة الحقيقية إشراق سببه التجرد؛ ولقولهم أن المحبة لله هى كل شئ وأنه إن كانت المحبة سادقة؛ والثقة فيه مطلقة والرجاء فى رحمته ثابتاً فإن كل شئ وراء ذلك يهون: لهذا كله بدت عباراتهم تسوى بين الحسنة والسيئة والطاعة والعصيانء إن كان مع العصيان ندم والمعتدلون منهم يحكمون بالتبعات فى المعصية, وإن رجوا معها العفى من الله برحمته. فيقول ابن عطاء فى أدعيته. «إلهى إن ظهرت المحاسن منى فبفضلك. ولك المنة على: وإن ظهرت المساوئ فبعدلك ولك الحجة على»[١),‏

ويقول المرسى أبى العباس فى دعائه:

«إلهى معصيتك نادتنى بالطاعة» وطاعتك نادتنى بالمعصية: ففى أيهما أخافك: وفى أيهما أرجوك» إن قلت بالمعصية قابلتنى بفضلك فلم تدع لى خوفاًء وإن قلت بالطاعة قابلتنى بعدلك فلم تدع لى رجاء؛ فليت شعرى كيف أرى إحسانى مع إحسانك !! أم كيف أجهل فضلك مع عصيائك»,

١

هذه نظرة المتصوفة الصادقين القاهمين؛ ويتبعها بلاشك أن العصيان والطاعة أمام الله سواء؛ وأن المهتدى والضال لا فارق بينهماء ويغالون فيقواون إنه إن كانت الشريعة قد فرقت بين العاصى والمطيع؛ فالحقيقة قررت أنه لافرق بينهما أمام خالق الوجود, خالق كل شئ؛ اللذاث والشهوات؛ والمأمورات والمنهيات؛ وقد اختصت الحقيقة بمدركيها وعارفيها؛ واختصت الشريعة بمن لا يعرفون الحقيقة,

إنهم ليقررون أن المعصية ثم الاستغفار منها تقرب ولا تبعد» وأن تقريب الاستغفار أكبر من تبعيد العصيان» ويقواون أنه ورد فى بعض الآثار «لى لم تذنبوا فتستغفروا لخلق الله

٠‏ - وإذا كان ذلك منهاج الخاصة: فإن أتباعهم ممن ام ييلغوا فى التصوف مبلفهمء ولم يدركوا من الحقائق ما أدركواء فهموا أن لا معصية ولاطاعة, فمنهم من خلع الريقة» ومنهم من ادعى أنه الشيخ المتبوع» ولم يمنعه ذلك من أن يتناول أى ممنىع؛ ثم اجترح اللذات: ونال من الموبقات, من غير حريجة دينية تمنعه ولا نفس لوامة تدفعه, بل اتخذ التصوف ستاراً يستر به مأشه؛ ومنهم من كان يدعى مع ذلك الولاية.

بل من العامة من الذين لم يعرفوا من التصوف إلا مظاهره, ومن حقائقه إلا أشكالها من كانوا يشيعون بين الناس أنه يكفى اتباع شيخ من الشيون. أو ولى من أولياء الله حتى تكون الخوارق والكرامات» فالنار لا تحرقهم: والأفاعى لاتلدغهم ولا تؤذيهم؛ وقاموا بأعمال شعبذة تضل العقول وتتيه فيها أفهام الناسء فيتبعونهم على غير معرفة؛ ويسلكون طريقهم

رأى ابن تيمية هذه المظاهرء وعلم من الصوفية ما علم؛ فانتهى فى دراسته إلى أن فكرة الحقيقة والشريعة وفكرة الاتحاد ما هى إلا تعطيل لأحكام الشرع؛ ثم رأى تلك الأعمال المضلة, فأتكر الأمرين: وحارب الأولى بأدلته من كتاب اللهوسنة رسوله. وحارب الثانية بالأعمال: كما أشرنا فى بعض ما ذكرنا هن حياته.

١‏ - ولقد كان للصوفية فى عهد ابن تيمية مكانة كبيرة» فقد أقام ولاة مصر خلوات يقيمون فيهاء وأجروا عليهم الأرزاق التى تسهل لهم الحياة بهاء وأنشئوا لهم ما س الخانقاه؛ وهى مؤسسات كان يأوى إليها النزلاء والغرياء الذين لا مأوى لهم ولا مسسا؛ ى

يفن

يستقرون فيه. وصارت فى مصر والشام منازل لمتعبدة الصوفية وأشباههم؛ وقد كانت تجرى عليها إدرارات كثيرة من الأموال حتى أن نور الدين زنكى لما وقف فى وجه الصليبيين قال له أصحابه: إن فى بلادك إدرارات كثيرة وصلات عظيمة للفقهاء. والفقراءء والصوفية والقراء» فلو استعنت الآن بها لكان أمثل. فغضب وقال: «والله إنى لا أرجو النصر إلا بأولتك» فإتما ترزقون وتنصرون بضعفائكم. كيف أقطع صلات قوم يقاتلون عنىء وأنا نائم فى فراشى بسهام لا تخطئ؛ وأصرفها إلى من لا يقاتل عنى إلا بسهام قد تخطئ وقد تصيب؛ ثم هؤلاء القوم لهم نصيب فى بيت امال أصرفه إليهم, كيف أعطيه لغيرهم»(".

وقد أنشأ مبلاح الدين خانقاه فى مصر للفقراء المتصوفة؛ ثم أتى المماليك. فجروا على ذلك النحى. وأجروا عليها الأموال الكثيرة.

وأنشا ا ملك ناصر قلاوون صديق ابن تيمية خانقاه سرياقوس؛ ولنقص عليك سبب إنشائها؛ فقد ذكر المقريزى: «إن الناصر ركب كعادته للصيدء ويينما هى فى الطريق إذ انتابه ألم شديد كاد يقضى عليه فنزل عن قرسه. ولكن الألم تزايد عليه, فنذر إن عافاه الله أن يبنى فى هذا الموضع مكانا يتعبد فيه الناس؛ ولما عاد إلى قلعة.الجبلء وقد شفاه الله هن مرضه سار بتفسه إلى الموضع الذى انتابه فيه المرض» وصحبه جماعة من المهندسين, واختط هذه الخانقاه فى سنة 477 ه وجعل فيها مائة صوفى وبنى بجانبها مسجداً تقام فيه الجمعة؛ وبنى بها حماماً ومطبخاً».

- وإذا كان هذا صنع السلطان الناصر الذى وضع فيه ابن تيمية ثقته كلها. فلابد أن تعرف كيف كان سلطان الصوفية فى مصر والشام.

ولقد اضطر ابن تيمية لمنازلتهم كما نازل غيرهم ممن اعتبرهم على خطأء أى ضلال. واشتدت المنازلة بينهم وبينه عندما ثار على شعبذتهم فى الشام؛ وأخذ يفضحهاء ويكشف حالهم واتصال بعضهم بالتتار. كما ذكرنا لك فى سيرته. ثم بينًا كيف أخذ يحارب فكرة وحدة الوجود التى نادئ بها ابن عربىء وفكرة الاتحاد والقناء فى ذات الله التى كان ينادى بها ابن عطاء الله السكندرى؛ الذى عاصره وكان يلقى دروسه بالأزهر, )١(‏ راجع الحركة الفكرية فى مصر فى العصرين الأيوبى والمملوكى الأول لصديقنا الاستاذ الدكتور ١د‏ اللطيف حمزة.

فل

وأقد ثارت عليه الصوفية بمصرء وهموا بالاعتداء عليه؛ ولكن حاطه أنصاره وكفوا عنه الأذى» وكادت تكون فتنة لم يمنعها إلا ابن تيمية المخلص الأمين,

هذا وإن الحوادث يفسر بعضها بعضا؛ فإذا علمنا أن الصلة استمرت وثيقة بين الناصر وابن تيمية إلى أن فارق ابن تيمية مصر واستقر به المقام نهائياً بالشام وأنه لم يفكر فى التضييق عليه إلا آخر حياته.

وكان ابتداء المحنة سنة ١؟1/ء‏ وآن بناء الخانقاه تم سئة 876 - علمنا أن الصوفية هم الذين سيطروا إبان ذلك على الناصرء حتى غيروه على صديقه ابن تيميةء فأجان اعتقاله بالقلعة؛ وخصوصاً أن آخر ما أخذ عليه رضى الله عنه مسالة زيارة القبور: وشد الرحال إلى المساجد؛ وتلك أمور مما يعنى بها الصوفية.

وإذلك نستطيع أن نرجح أن الذين غيروا الناصر نحو ابن ثيمية ليسوا هم الققهاء وحدهم: بل العامل الحقيقى ا مغير هم الصوفية.

حانمة

777 - هذا عصر ابن تيمية أفضنا بالقول فيه. وام نضن على القرطاس بالمدال» لأن الرجل ثمرة عصره: ونتيجة لزمانه؛ سواء أكان ما وصل إليه مخالفاً لما كان عليه ذلك العصرء أم كان موافقاً؛ فإن العصر يؤثر بالمخالفة كما يؤثر بالموافقة؛ فإذا كان عصره قد امتلأ بالمنكرات: فقد يؤثر ذلك فى المخالطين فيدفعهم إلى الاستنكارء كما يدفع الآخرين إلى اجتراح الشهواتء وكل امرئ يأخذ من عصره ما يوافق نزوعه. وما تكون به المجاوية النفسية المتصلة بينهماء سواء أكانث بالسلب أم كانت بالإيجاب.

وقد تبين أن عصر ابن تيمية كان يموج بالاضطراب السياسيى؛ والمنازعات الحربية» كما كان يسوده التقليد والاتباع فى عامة أبواب العلم» ولقد كان الحنابلة الذين انتمى إليهم ابن تيمية يخالقون الجمهور فى استمساكه بآراء الأشعرى؛ فكان لذلك نزاع؛ وكان التصوف يسيطر على العامة فى مصر والشامء فجرد ابن تيمية عليه سيف الدليل وناقشه الحساب؛ وكان الشيعة يتغلغلون فى الربوع الإسلامية يبثون فيها أقوالا مخالفة لما تقرر لدى السلف, ومنهم من اعتصم بالجبالء وبعض هؤلاء كانوا إلبا على الآمنين؛ فتجرد ابن تيمية لمنازلة هؤلاء بالدليل الملزم وبالسيف القاطع.

اا

4 - وفى الحق أن اين تيمية قد وقع قلبه وعقله تحت تأثير الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وأقضيتهم وفتاويهم» وكل ما أثر عنهم من آراءء فهو يعيش فى جوهم ويحلق فى سمائهم؛ فإذا نظر إلى الوجود وجد, آراء تخالف ما كان عليه أوائك العلية السابقون, وتخالف ما جاء به الرسولء فيصدع فى الناس بأمر ريه ويناديهم بإحياء السنة النبوية. واتباع الآثار السلقية؛ فتكون المعركة بينه وبينهم: أو تكون بين التقليد للمشايخ والاتباع للحق المجرد؛ وفى هذه المعركة يبدو ابن تيمية مستمسكاً بالعروة الوثقى. يشمغ ويشتد. ويقول ما يعنقد؛ لا يخشى فرح الله لومة لاتم؛ ويسجل ما يدع إليه فى كتب ينشرهاء ورسائل يرسلها. وما من رأى ارتآهء أى فكرة دوتها؛ إلا كانت فى وسط تلك المعارك؛ أوصدى لها؛ ومن أجل هذا جاءت رسائله وكتبه حارة شديدة العبار : قوية المنزع: لأنها نشأت فى مغركة؛ فكأتها السلاح يقعقع, والرماح تتشابك والسيوف تشتجر. .

وإذا كانت تلك الحدة قد لازمته, فإنها قد لازمها أمر آخر هو الوضوح والاسترسال. وانترك ذلك إلى القسم الثاني من بحثناء وهو آراؤه وفقهه. فقد آن لنا أن نتجه إليه.

كاج

القسم الثانى آراؤه وفقهه

0 - لم يكن تفكير ابن تيمية فى أفق واحدء بل حلق فى آفاق مختلفة الاتجاه متباينة المنصى؛ فكر فى السياسة تفكير الرجل العملى الذى يهمه أمر المسلمين, ولم يجر وراء خيالات يتشعب فيها العقل والرأىء ولا تثس فى العملء وفكر فى خلافات الناس حول منازل الصحابة والتابعين: فكان العالم السلفى الذى ينزل عند رأى الجماعة؛ ويخضع لحكم الإجماع. وفكر فى القرآن الكريم وتعلم من مائدته, واجتهد فى استخراج فقهه ومعانيه, وتعرف أحكامه ومراميه؛ فكان فى نهجه سلفياً يتبع ولايبتدع؛ وفكر فى تأويل المتشايه من الصفات التى جاء ذكرها فى القرآن: فحمل الراية معلنا ما اعتقده آراء السلف الصالح فيها فى قوة وشدة:؛ لايبالى من يخالفه ممن عاصروه وممن سبقه, فهو يطلب من صاحبه. وهى محمد عله ومن تخرجوا عليه, ونهلوا من ينبوعه وهم الصحابة والتابعون؛ فإذا وصل إليه من هذا الطريق لا يهمه من خالف من بعده؛ ولا فى أى شئ خالف, فهو لم يتبع من الرجال إلا السلف الصالح ومن وراءهم؛ ليس له مقام إلا بالحق يتبعه. وهى لايعرف الحق باسماء الرجال بل يعرفه من الرسول وأصحابه مجرداً» ولا يتبع من سواهم, مهما علت عند الناس أقدارهم: وكبرت فى التاريخ منازلهم؛ وكثر أتباعهم وأشياعهم, فهى قد أخذ بقول على بن أبى طالب رضى الله عنه: «لا تعرف الحق بالرجالء يل اعرف بالحق أهله».

وفكر ابن تيمية أيضاً فى صفات الله عامة.؛ وفى صفة الكلام خاصة؛ ثم تكلم فى خلق القرآن, كما تكلم فى الإرادة الإنسانية مع الإرادة الإلهية؛ ونزع فى ذلك منزع السلف الصالح فى نظرهء ولم يلتفت إلى أقوال من عداهم, بل فندهاء ففند رأى الجهمية وألحق بها الأشاعرة والماتريدية فى الجبر؛ وام يوافق المعتزلة فى هذا موافقة تامة؛ بل سار على منهاج سو لم يعطل الإرادة الإنسانية, فيعطل الشرائع, ولم يجعلها إرادتين مختلفتين فى الوجود. كان ثمة إرادة للخير وأخرى للشر كما هوشان المجوس.

وتصدى للشيعة والصوفية يناضلهم: فناقش شيعة الشام فى عصره الحسابء وكان أكثر من النصيرية والحاكمية: ومن على شاكلتهم ممن لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه الذى

يستتثرون يه.

من

أما الملتصوفة فقد نازلهم بمحارية فكرة وحدة الوجود والاتحادء وأرسلها عليهم شواظاً من نار, ولم يترك باباً من أبواب الرد إلا سلكه ولم يضن عليهم بكلمات الكفر والإلحاد يقذف بها فى وجوههم,ء وقد لاقى العنت فى ذلككء وإكنه لم ينته عن أن يسددها إليهم سهاماً مريشة تصيب ال محز والمفاصل.

ويهذا العقل السلفى فكّر فى الفقه. وابتدأً فيه بطريقة الإمام أحمد وتخرج عليه فى المستد. كما تخرج على صحاحه كلها؛ وتخرج على كتب الأئمة كلهاء فكان من أعلم الناس باتفاقهم واختلافهم؛ وقد آدته دراسته للسنة النبوية وآثار الصحابة والتابعين إلى أن يخرج بآراء لم يقلها أحد من الأئمة الأربعة؛ وقد تكون فى غيرهم: وقد يخرج برأى جديد لم يسبق به. وإن كان أصله من الكتاب والسنة ورأى السلف الصالح الذى كان يتبع هداه؛ ويتولى من, تولاه؛ فإن وجد رأياً للصحابة: أو ماثوراً عن النبى ْلَه لم يعدل به قولا.

156" - وإذا كانت آراوه قد تعددت آفاقها؛ فقد عزت على الحصر لكثرتها واكنها لا تعز على التقسيم والتبويب؛ وعلى ذلك فإنا نقسمها ونيويهاء ونشير إلى المنهج فى كل قسم؛ مختارين فى الدراسة أبرز مسائلهالتى خالف فيها ابن تيمية العلماء. وإن الأبواب هى:

١‏ - منهجه العام.

" - منهجه فى تفسير القرآن وهو العماد الذى قام عليه قوله فى العقائد.

" - منهجه فى دراسة العقائد وكلامه فى العقائد بشكل عامء وكلامه فى المتشابه, وكلامه قى خلق القرآن: وكلامه فى القدرة والإرادة. وكلامه قى التوسل والوسيلة وزيارة القبور.

- كلامه فى التصوف والمتصوفة؛ ويحثه فى وحدة الوجود.

ه - آراؤه فى السياسة ومنازل الصحابة.

. فقهه. ومقامه بين الفقهاء السابقين والمعاصرين له. ومنزلته فى الاجتهاد‎ - ١

١‏ المتهاج الغامر

- وإننا فى الأبواب السابقة نجد منطقاً واحداً يسيرها؛ ومنهاجاً وأحداً تسير

عليه؛ فكتابته فى التفسير على منهاج كتابته فى العقائد وفى الفقه وفى التصوف؛ يدعمها 4

بحجة من السنة, ثم يقرب السنة بالعقلء فهو يستخدم العقل للتزكية لا للإنشاءء والتقريب لا للاهتداء.

واذلك نجد سمة واحدة ومنهاجاً واحدا» ومن الواجب أن نشير إليه؛ قبل أن نعمد إلى دراسة الآراء فى ذاتهاء فإنتا إذا علمنا منهاجه سهل علينا فهم آرائه سواء أكنا تخالفهاء أم كنا نوافقها.

4- ويتلخص ذلك المنهاج الذى سلكه فى أريعة أمور:

أولها - أنه لا يثق بالعقل ثقة مطلقة فى مقدمات الحكم على العقائد والأحكام من حيث سلامتها وعدم سلامتها؛ وخصوصاً فى متشابه الأمورء ولذلك يأخذ على الفلاسفة ومن نهج نهجهم وسلك طريقتهم فى التفكير والمقدمات التى يبنون عليها النتائج التى وصلوا إليهاء ويعزو خلافه معهم فى النتائج إلى اختلاف الطريقة؛ واختلاف المنهاج.

فهو يرى أن القرآن الكريم والسنة الذبوية قد أشارا إلى المقدمات العقلية التى تهدى إلى سواء السبيل» وأن مثاهات العقل هى فيما يخترعه أوائك المتفلسفة ومن نهج نهجهم من علماء الكلام فى استخراج العقائد والحكم عليهاء ويقول فى ذلك:

«بينا أن دلالة الكتاب والسنة على أصول الدين ليست بمجرد الخبره كما تظنه طائفة من الفالطين من أهل الكلام والمديث والفقهاء والصوفية ونميرهم: بل الكتاب والسنة دلا الخلق وهدياهم إلى البراهين والأدلة المبينة لأصول الدين» وهؤلاء الغالطون أعرضوا عما فى القرآن من الدلائل العقلية: واليراهين اليقينية!')».

ويقول فى سيب ضلال الفلاسفة ديقدمون فى كتبهم الكلام فى النظر والدليل والعلم, ويذكرون أن النظر يوجب العلم, وأن النظر واجبء ويتكلمون فى جتس النظرء وجنس الدليلء وجتس العلم: بكلام قد اختلط قيه الحق بالباطل؛ ثم إذا صاروا إلى ما هى الأصل والدليل للدين: استدلوا بحدوث الأعراض على حدوث الأجسامء وهو دليل مبتدع فى الشرع؛ وياطل فى العقل».

وينعى على المتكلمين أنهم وإن اتخذوا القرآن إهاماً فى العقائه قد سلكوا فى إثباتها طريقا غير طريق القرآن: وحسبوا أن ما فى القرآن خبرء وام يبينوا ها فيه من دليل» ولم يبينوا أدلتهم فى العقاك على مقدماته هى, ويشتد فى تقد الفلاسفة, ويرفق رفقاً نسبياً بالمتكلمينء ويقول فى ذلك:

.187 رسالة فعراج الوصول فى مجموعة الرسائل الكبرى ص‎ )١( 141

«والمتفلسفة يقولون: القرآن جاء بالطرق الخطابية والمقدمات الإقناعية التى تقنع الجمهور» ويقولون أن المتكلمين جاءوا بالطرق الجدلية: ويدعون أنهم هم أهل البرهان اليقينى: وهم أبعد عن البرهان فى الإلهيات من المتكلمين. والمتكلمون أعلم بالعمليات البرهانية فى الإلهيات والكليات؛ ولكن للمتفلسفة فى الطبعيات خوض وتفصيل تميزوا به بخلاف الإلهيات» فإنهم من أجهل الناس يهاء وأبعدهم عن معرفة الحق فيهاء وكلام أرسطى معلمهم فيها قليل؛ كثير الخطاء فهى لحم حمل غث على رأس جبل وعرء لاسهل فيرتقى؛ ولا سمين فيقلى».

8 - وترى من هذا أنه لا يرى المعتمد فى الدين كله. عقائده وفروعه إلا على الكتاب والسنة, ولا يرى فى الكتاب علم العقائد بالخبر والنقل فقطء بل بالدليل والبرهان أيضاًء ويرى أن طالب العقاك من العقل وحده كحاطب ليل؛ وأن الفلسفة عندما خاضت فى الإلهياث ضلت؛ وعندما اقتصرت على الأرضيات أنصفت وتميزت.

ويهذا يتبين أنه لايرى العقل مستقيم الإدراك فى الوصول منقرداً إلى حقائق الدين, بل لابد من النقلء فهى لا يهمل العقل؛ يطلبه. ولكن يكون تابعاً لا متبوعاًء ومحكوماً بالقرآن ومقدماته فى الاستدلال لاحاكما على أدلة القرآن ومنهاج القرأنء وبالتالى لايكون متاولا للقرآن إن خالفه, بل عليه أن يتجه إلى القرآن يتفهمه بالفكر؛ وبموازنة القرآن بعضه ببعضه. فتأويل القرآن يكون من القرآن: لا من أقوال المتقلسفين والمتكلمين وأمثالهم.

ومن أجل هذا لم يرتض المسلك الأول للغزالى رضى الله عنه. بل عرض بمنهجه هذا فى رسائله. ويلحقه فى بعض نواحيه أو بعض أحواله بالفلاسفة ويقول فيه وفيهم فى منهاج السنة فى بيان كلام الله سبحائه لعباده. قول من يقول أن كلام الله يفيض على النفوس من ال معانى التى تفيض, إها من العقل القعال عند بعضهم. وإما من غيرهم: وهذا قول الصابئة والمتفلسفة الموافقين كابن سينا وأمثاله, ومن دخل مع هؤلاء من متصوفة الفلاسفة ومتكلميهم كأصحاب وحدة الوجود, وفى كلام صاحب الكتب المضنون بها على غير أهلهاء ورسالة مشكاة الأنوار وأمثاله, ما قد يشار به إلى هذاء وهى قى غير ذلك من كتبه يقول ضد هذاء ولكن كلامه يوافق هؤلاء تارة وتارة يخالفهم: وآخر أمره استقر على مخالقتهم ومطابقة الأحاديث النبوية,

أ

وترى من هذا الكلام أنه يلوم الذين يجعلون العقل حاكماً على النصوصء ويعرض بالغزالى؛ لأنه فى بعض أدواره الفكرية نهج ذلك المنهاج. ولأنه هو صاحب الكتب المضنون بها على أهلها ومشكاة الأثوار, إن له هذه الرسالة؛ والمضنون به على غير أهله الصغير والكبير,

3٠‏ - وفى الجملة هى لا يهمل العقل. كما لا يثق به ثقة مطلقة؛ بل يربد أن يجعله فى إطار الشرع ودائرته؛ لا يخرج عنه. ولا يتجاوز قدره؛ فإنه إن تجاوز قدره ضل ضلالا بعيداً» وجهد جهداً شديداً؛ ولم يصل إلى غاية» ولم ينته إلى نهاي#واذلك تحير الفلاسفة الأقدمون ومن نهجوا نهجهم؛ ولم يصلوا بالعقل المجرد إلى ما وراء المادة؛ فهى يحلل ظواهر الكون» ويكشف عن قوانين المادة ومكامن القوة فيهاء فإن اتجه وحده إلى ها وراء المادة فقد تجاوز الشقة الحرام؛ وتعدى حدوده؛ بل لابد له فيه من مرشد من النص الدينى والنقل عن منزل الشرائع هن السماء؛ ييين المقدمات الهادية؛ أو يشير إليها.

وإنه إذا قام الدليل المعجز على بعثة الرسولء فإن ها يجئئ به هو الهادى المرشد: وسط غياهب المجهول ما وراء الكون ومادته؛ وعلى ذلك يكون علم الدين فى عقائده وفروعة يؤخذ من وحى السماء؛ لأن منزله هو العليم بكل شئ ولا ينفرد ابن الإنسان بإدراكه. لأنه عليم بالأرض وما فيها إذ هى موضع إقامثه؛ ومكان خلافته.

- هذا هى العنصر الأول من منهاج ابن تيمية: أما العنصر الثانى فهو أنه لا يتيع الرجال على أسمائهم, فليس لأحد عنده هن مقام إلا الدليل من الكثاب أى السنة أى آثار السلف رضى الله عنهم؛ فما من قول يتلفى تلفياً. ويس فيه الاتباع من غير دليل مهما تكن درجة الإمامة عند قائله؛ وينعى أشد النعى على الذين يتبعون الأقوال من معرفة أدلتهاء ووجه الحق فيهاء إذا كانوا قادرين على الاستدلال ووزن الأدلة الشرعية: والمقابلة بين النصوص ال مختلفةبوإنه ليوجب على المقلد لمذهب إذا رأى حديثا يخالفه أن يعدل عن مذهبه فى موضوع الحديث إن كان قادراً على فهمه, وأئه يقرر أن من قلد إماماً فى موضع سنة عرفهاء ورأى الإمام خالفهاء هى غير متبع لذلك الإمام فضلا عن عدم اتباعه للنبى علله, وإنه ليحكي عن الأئمة الأريعة أنهم نهوا تلاميذهم عن أن يتبعوا آراءهم إن وجدوا من الدين ما يخالفه؛ فيحكى أن أبا حنيفة يقول «هذا رأيى فمن جاء برأى خير منه قبلته» ويحكى أن

لل

مالكا كان يقول «إنما أنا بشر أصيب وأخطئ فاعرضوا قولى على كتاب الله وسنة رسوله» وأن الشافعى كان يقول «إذا صح الحديث فاضريوا بقولى عرض الحائط» ويحكى أن الإمام أحمد كان يقول «لا تقلدنى ولاتقلد مالكا ولا الشافعى ولا الثورى؛ وتعلم كما تعلمنا» وأته كان يقول «لا تقلد فى ديك الرجال فإنه لا يسلم أن يغلطواء(!.

وهكذا تراه لايتبع إلا الدليل» ولتطبيق ذلك المنهاج خرج على الناس بتراء لم يالفوهاء وأكنه كان يردها إلى أصولهاء ويبين لهم أنه لم يآت ببدع من القول فيها؛ بل كان فيها المتبع جد المتبع لا المبتدع.

ولم يفرق فى ذلك بين الفروع والعقيدة, بل إن المعقول أنه إن ساغ التقليد فى الفروع لا يسوغ بحال من الأحوال التقليد فى العقيدة؛ لأنها لب الدين» وأصله.

؟ - هذا هى العنصر الثاني من منهاج ابن تيمية فى دراسته؛ أما العنصر الثالث: فهو يرى أن الشريعة أصلها القرآن وقد فسره محمد كله وأن الذين تلقوا ذلك التفسير والتوضيح والتبليغ هم الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهمء فهم الذين تلقوا شرع الله من محمد بن عبد الله. وهم الذين حفظوا مقالته. ورعوها ونقلوها كما سمعوها وفهموهاء ثم ألقوها إلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين» ولذا كان يرجع فيما يفكر فيه من شرع إلى كتاب الله وسنة رسوله عله ولا يتبع أحداً بعد الله ورسوله إلا الصحابة» ويستأنس يأقوال التابعين» ويحتج بها أحياناً عند المناظرة» وكثيراً ما يشتد الخلاف بينه وبين علماء عصره فى رأى يعده هى ليس من الدينء ويعدونه من الدين فيدعوهم إلى التحاكم إلى أهل القرون الشلاثة الأولى. كما جاء فى الرسالة الواسطية, فقد قال فى مناظراته فى العقيدة الواسطية!"): «قد أمهلت من خالفنى فى شئ ثلاث سنين؛ فإن جاء يحرف واحد عن القرون الثلاثة يخالف ما ذكرته فأنا أرجع عن ذلك: وعلى أن آتى بنقول جميع الطوائف عن القرون الثلاثة يوافق ما ذكرته»(2,

)١(‏ راجع فى الفتاوى الجزء الثاني ص 41؟ طبعة الكردى.

(1) نسبة لواسطء لآن أهل واسط كانوا قد سالوه فاجاب يهذه الرسالة,

(؟) راجع العقيدة الواسطية ج ؟ ص 05+ من مجموع الرسائل. ١482‏

والقرون الثلاثة التى يذكرها هى الطبقات الثلاث بعد النبى عله طبقة الصحاية ثم التابعين» ثم تابعيهمء ويظهر أن هذه المناظرة للإفهام.: لأنا لانعرف أنه كان يقلد تابعى التابعين بإطلاق» أو أراد أن يقرر أن تلك البدع لم تجئ إلا بعد تلك القرون: وهى الكلام فى المشتبهات وما يتصل بها.

1 - هذا هو العنصر الثالث من منهاج ابن تيمية فى دراساته. أما الرابع فهى أنه لم يكن متعصباً فى تفكيره, فلم يسيطر عليه فكر معين يتعصب له, ويجمد عليه. بل كان حر التفكيرء خلع نفسه من كل ما يقيده إلا الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح: كان فى نشاته حنبلياً؛ ولكنه ما أن شب عن الطوق: حتى درس المذاهب الإسلامية كلهاء ثم حلق فى مصادرها, فتعرف مصدر كل رأى والمنبعث الذى انبعث منه. ثم أدته دراساته إلى أن يخالف ال مذاهب الأريعة فى بعض أرائه. ويقبس من غيرها كبعض آراء الشيعة التى لم يكفرهاء وسنبين عند الكلام فى رأيه فى الطلاق أنه تأثر إلى حد كبير بآراء الإمامية فيها مع شدة ملاحظته للذين جاوروه همن حملوا اسم الشيعة: ولوكان التعصب يغلب منزعه من كل ما جاءوا به.

وأقد وجد أن الفقهاء أجمعوا على أن التحريم بالرضاع يثبت فيه التحريم بالمصاهرة الرضاعية كالمصاهرة القرابية فيثير مناقشة حول هذاء ويحاول أن يجد له أصلا. فلا يجد إلا القياس على القرابة؛ فيناقش ذلك القياس متاقشة العارف الخبير.

فهذا الفقيه السلفى ما كان يجمد فكره؛ تقليد أى اتباع» من غير استدلال وتمحيص؛ وأنه ما كان يفرض فى مخالفه الضلال أ الخطأ عن علم وقصد؛ بل يفرض أنه مجتهد» والمجتهد يخطئ ويصيب؛ بل إنه ليكتب رسالة بعنوان «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» ويعتذر عنهم إذا جاءت أقوالهم مخالفة للسنة الصحيحة بأعذار قوية ترفع الملام عنهم؛ ويدعى إلى تقديرهم وإكبارهم» فيقول: «يجب على المسلمين بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين, كما نطق به القرآن وخصوصاً العلماء الذين هم ورثة الأنبياء الذين جعلهم ' له يمنزلة الذجوم يهتدى بهم فى ظلمات البر والبحرء وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودراياتهم: إذ كل أمة قبل مبعث محمد عله علماؤها شرارها إلا المسلمين» فإن علماءهم خيارهم: فإنهم خلفاء الرسول فى أمته والمحيون لما ماث من سنته؛ بهم قام الكتاب. ويه قاموا؛ وبهم نطق الكتاب,

وما

وبه نطقواء وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الآمة قبوة. عاما يتعمد مخالفة رسول الله لله فى شئ من سنته دقيق ولا جليلء فإنهم متفقون اتفاقاً يقينيا على وجوب اتباع الرسولء وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله مله وإذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح يخلافه فلايد له من عذر فى تركه. وجميع الأعذار ثلاثة أصناف: (أحدها) عدم اعتقاده أن النبى عله قاله, (والثانى) عدم اعتقاده إرادة تلك المسالة بذلك القول (الثالث) اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ».

وهكذا ترى ذلك العالم الجليل يقدر فى غيره العلم, وإن كان مخالفا له قفهى لايلعن المخالفء ولايكذبه. ولا يرميه بالبهتان: وأكنه يعتذر له. ويقدره فى خلافه ووفاقه؛ وذلك شأن العالم المتسع الأفق» ولكنه يضيق ذرعا بالهدامين الذين يكيدون للمسلمين بنحل يبتدعونها : ويظهرون بها غير ما يبطنون ولا يبطنون إلا كفراً؛ والآن نفصل بعض قوله. ونبتدئ بالتفسير:

؟ - منهجه فى فُهم القرآن

4؟3؟ - وقد ابتدأنا بهذا الجزء من القول؛ لأن المنهاج فى تفسير القرآن وفهمه؛ هى الأساس لآراء ابن تيمية فى الصفات والعقاك والفقه وكل ما يتصل بفكره الإسلامى؛ واذلك نعتبره جزءاً من منهاجه فى الدراسة:؛ ولا نعتيره جزءاً من الآراء نفسها,

وسنجده سلفياً فى تفسيره لايعدو منهاج السلفء وكان منهاجه من كل الوجوه هو آراء السلف دائماً؛ لا يتجاوزها إلى غيرها؛ ولايعدوها يد أنملة: وحيثما وجد فكرة سلفى ليس فى الآثار ما يناقضها اعتبرها الإسلام فى موضعها؛ ولايتجاوزها إلى غير سبيلها, لأن سبيلهم سبيل المؤهنين» وشرع رب العالمين.

8 - وأول ما يلاحظ فى منهاج ابن تيمية فى التفسير أنه يعتقد اعتقاداً جازماً أن النبى له بيّن القرآن كله؛ ولم يترك فيه جزماً يحتاج إلى بيان لم يبينه؛ ولا جزءا يحتاج إلى تفصيل لم يفصله. ولا مجملا يحتاج إلى تقبيد لم يقيده, ولا مشتركا يحتاج إلى تعيين لم يعين المراد هنه.

وذلك الاعتقاد جزء من الإيمان بالقرآن أوها جاء به محمد عه لآأن الله سبحانه وتعالى يقول لنبيه لَه «لتبين للناس ما نزل إليهم»(١).‏

6

«وإن الذين تلقوا ذلك البيان هم الصحابة الذين التقوا برسول الله عله وتلقوا كتاب الله من فيه. فإن النبى َيه كان يعلمهم القرآن» ويعلمهم ما فيه من أحكام وعقاك» ويعلمهم معانيه. كما يعلمهم ألفاظه؛ وقد قال عبد الرحمن السلمى: حدثنا الذين كانوا يقرئوتنا القرآن» كعثمان بن عفان: وعبد الله بن مسعودء وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبى ' لله عشر آيات لم يجاوزوهاء حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل, قائوا فتعلمنا القرآن, ' والعلموالعمل»!",

ويقرر ابن تيمية أن الصحابة ما كانوا يطلبون القرآن إلا لمعانيه. فهم إذا كانوا قد حفظوا القرآن؛ فلايد أن يكونوا قد حفظوا أيضاً معانيه, ويقول فى ذلك رضى الله عنه «من المعلوم أن كل كلام المقصود منه فهم معانيه. دون مجرد ألفاظه؛ فالعادة تقر. ألا يقرأ قوم كتايا فى فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه؛ فكيف بالكلام الذى هو عصمتهم ونجاتهم وسعادتهم؛ وقيام دينهم ودنياهم؛ ولهذا كان النزا ع بين الصحابة فى تفسير القرآن قليلا جداً7)».

ويقرر أن من التابعين من تلقى تفسير القرآن كله عن الصحابة؛ فيروى عن مجاهد أنه قال: «عرضت المصحف على ابن عباس أقفه عند كل آية منه, وأسأله عنها» ولهذا قال الثورى إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به ولهذا يعتمد على تفسيره الشافعى والبخارى وغيرهما من أهل العلم: وكذلك الإمام أحمد وغيره ممن صنف فى التفسير «ويقر الطرق عن مجاهد أكثر من غيره»!'),

وينتهى من هذا بأن تفسير القرآن وفهم معانيه انتقل كله من الصحابة إلى تلاميذهم التابعين؛ وأوائك ورثوا ذلك العلم لمن جاء بعدهم: فكان ذلك الفهم هو النور المبين لما فى كتاب الله المبين.

1" - وإن ذلك السياق الفكرى ينتهى لا محالة إلى أن الناس لم يتركو) فى فهم القرآن سدى, لا راشد يرشدهم, ولا دليل يهديهم بل إن تفسير القرأن قد توارثه العلماء

جيلا بعد جيل عن النبى للله. (1) مقدمة فى أصول التفسير لاين تيمية طبع دعشق سنة "151 . (6) الرسالة المذكورة ص * (؟) الرسالة المذكورة

ىا

وعلى ضوء هذا يسن أمثل طريق لفهم القرآن وتفسيره؛ ولذلك يجعل تفسير القرآن مراتب بعضها فوق بعض فى العلم: أولاها وأعلاها - تفسير القرآن بالقرآن» قما أجمل القرآن قى مكان يبينه ويفصله فى مكان آخرء وما اختصر فى موضع قد يوضح فى مكان آخر؛ وإن تلك أعلى طريق؛ لأنه تفسير الله العلى القدير لكلامه؛ ولأن النبى ظلَه سال معاذاً حين بعثه إلى اليمن: بم تحكم؟ قال بكتاب الله, قال فإن لم تجد قال بسنة رسول الله. قال فإن لم تجد؟ قال أجتهد رأيى قال قضرب رسول الله صدرهء وقال: الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله. ولاشك أن فهم القرأن هن نوع الحكم به» فيرجع فيه إليه أولا.

والمرتبة الثانية السنة؛ فإن لم نجد فى القرآن ما يفسر القرآن اتجهنا إلى السنة نتعرف التفسير منهاء فإنها شارحة للقرآن: ققد قال تعالى: «إنا أنزلنا إليك الكثاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله. ولاتكن للخائنين خصيماء(') وقال تعالى «وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ها نزل إليهم؛ ولعلهم يتفكرون»!') وقال سبحانه: «وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذى اختلفوا فيهء!') وقد ذكر الحديث السابق المروى عن معاذ رضى الله عنه أن السنة تلى القرآن فى مرتبة الحكم, فتليه فى فهم معانيه؛ ولقد قال النبى مَينّه ألا إنى أوتيت القرأن»ومثله معه».

70 - المرتبة الثالثة, تقسير القرآن بأاقوال الصحابة, وذلك لأنهم أدرى التاس يعلم القرآن: لأنهم الذين شاهدوا وعاينواء وهم الذين تلقوا الانرح من شارح القرآن محمد عله وقد تبين فى صدر كلامنا أن أبن تيمية يعتقد أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم بين النبى عليه الصلاة والسلام لهم معانى القرآن كله فمعانيه كله عندهم كلهم, وما يغيب عن بعضهم لايغيب عن كلهم؛ ولقد روى عن عبد الله بن مسعود أنه قال: «والله الذى لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت. ولا أعلم مكان أحد أعلم يكتاب الله منى تناولته المطايا إلا أتيته» ولقد قال اين تيمية فى عبد الله بن مسعودء وعبد الله بن عباس7): ولقد أخذ الكثيرون من علماء التفسير الأثرى عن هذين الصاحبين العالمين عبد الله

44 النحل:‎ )9( ٠١6 النساء:‎ )١( التحل: 4+ (6) الرسالة المذكورة ص 5؟.‎ )5(

هذا

4 - المرتبة الرابعة تفسير القرآن بأقوال بعض التابعين؛ لأنهم هم الذين تلقوا علم الصحابة للقرآن الكريم: وإذا كان الصحابة قد تلقوه عن الرسول الكريم: فهؤلاء التابعون قد تلقوا ذلك عنهم. فتفسيرهم متصل بالرسول بسند وثيق؛ وأن أخبارهم وأقوالهم تدل على أنهم تلقوا أقوالهم فى التفسير تلقياً؛ وليست آراؤهم شيتاً قالوه من عند أنفسهم؛ فقد روى عن مجاهد رضى الله عنه أنه كان يقول: عرضمت المصحف على ايبن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية منه, وأسأل عنها. وروى عن قتادة أحد مفسرى التابعين أنه كان يقول: ما فى القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئاً.

ومثل مجاهد وقتادة فى نقل التفسير, والاعتماد لأقوالهم سائر كبار التابعين كسعيد ابن جبير: وعكرمة مولى عبد الله بن عباس؛ وعطاء بن أبى رياح: والحسن البصرى, ومسروق بن الأجدع: وسعيد بن المسيب وأبى العالية والربيع: والضحاك بن مزاحم؛ وغيرهم من كبار التابعين الذين عنوا بعلم الكتاب والسنة.

ولم يكن ابن تيمية فى هذا إلا متبعا لكبار الأئمة» فقد رجع كثيرون من الأئمة فى فهم القرآن إلى أقوال التابعين الممتازين: وأبن تيمية لا يأخذ بقول التابعين حجة ملزمة إلا إذا أجمعواء وقد قال فى ذلك: «إذا أجمعوا على شئ فلا يرتاب فى كونه حجة؛ فإن اختلفوا؛ فلايكون قول بعضهم حجة على بعضء ولا على من بعدهم: ولا يرجع فى ذلك إلى لا القرآن أى السنة أو عموم لغة العرب. أى أقوال الصحابة في ذلك»!!!.

ومعنى ذلك أنه إن رأى ابن تيمية اختلاف التابعين يختار من آرائهم ما يكون أوضح تناسباً مع لغة العرب» أو أقرب إلى أقوال الصحابة, أو أقرب إلى سنة النبى علله.

9 - ويرى ابن تيمية أقوالا منسوبة للتابعين أو الصحابة هى من الإسرائيليات. وأن ذلك قد يدحض الاستناد إليها ويضعف الاعتماد عليها فى فهم القرآن خشية أن تكون قد دست على المسلمين وهو لهذا يقسم الإسرائيليات إلى ثلاثة أقسام:

أولها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما تشهد له بالصدق: ويروى فى ذلك أن عبد الله ابن عمر قد أصاب يوم اليرموك - وهو يوم الموقعة التى كانت بين المسلمين والروم؛ وما

,١؟6 الرسالة الملكورة ص‎ )١(

14

أثرها فتحت الشام- أصاب فى هذا اليوم زاملتين من كتب أهل الكتاب: فكان يحدث منها بما فهمه من هذا الحديث مع الإذن فى ذلك(!),

والثانى: ما علمنا كذبه, لأن عندنا ما يخالفه» وهذا- بلاشك- مردود.

والثالث: ما هو مسكوت عنه؛ لامن هذا القبيلء ولامن ذاك القبيلء فلا نؤمن يه, ولانكذبه. وغالب ذلك هما لا فائدة فيه تعود إلى أمر دينى: ويختلف فيه علماء أهل الكتاب كثيراً وياتى عن المفسرين بسبب ذلك خلاف كثير كما يذكرون فى مثل أسماء أصحاب الكهفء ولون كلبهم: وعدتهم؛ وعصا موسى من أى الشجر كان.

- وابن تيمية لا يأخذ فى التفسير إلا بالتفسير المأثورء فإن وجد الأثر, لم يلتفت إلى سواهوقد رأيت أنه أخذ يتنزل فى الأخذ من الصحابة ثم التابعين ثم تأبعيهم, فهو يقبل فى التفسير إلى القرن الثالث؛: ويرفض الأخذ بالرأى المجرد فى التفسيرء ويقول فى ذلك: «أما تفسير القرآن بمجرد الرأى فحرام» ويسوق لهذا الرأى الأحاديث المثبتة, والآثار المروية عن الصحابة التى تدل على توققهم إذا لم يجدوا حديثاً مفسراً؛ وأخبار التابعين الدالة على تحفظهم.

فأما الأحاديث فقوله مَلهُ: «من قال فى القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» وقوله عليه الصلاة والسلام: «من قال فى القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأء!؟,

وأصحاب رسول الله كه شددوا فى القول فى شأن من يفسر القرآن بغير علم من كتاب أو سبنة؛ ولقد روى عنهم أنهم يرون أن من يتكلم فيه برأيه ققد تكلم بما لا علم له به ولو أنه أصاب المعنى فى نفس الأمر لكان قد أخطا؛ لأنه لم يأت الأمر من بابه كمن يحكم بين الناس على جهل فهى فى النار» وإن وافق حكمه الصواب فى نفس الأمرء وإن كان أخف

وإن الأخبار عن تحرج الصحابة من القول فى القرآن من غير سئة صحيحة مستفيضة مشهورة: فهذا أبى بك الصديق يقول: «أى أرض تقلنى وأى سماء تظلنى إذا << الةالمذكورة. (؟) قال الترهذى في هذا الحديث أنه غريب, وقد تكله جعض أهل الحديث فى بعض رواته.

13,

قلت فى كتاب الله ما لم أعلم»: ولقد روى أنه قال ذلك القول عن معنى (أي)) فى قوله تعالى: «وفاكهة وأبا» وروى عن أنس أنه قال: «كنا عند عمر بن الخطاب وفى ظهر قميصه أريع رقاع؛ فقرأ «وفاكهة وأبًا» فسال ما الأب ثم قال عادلا عن السؤال: «إن هذا له التكئف فما عليك ألا تدريه»,

وأما التابعون فكانوا يتحرجون عن القول فى تفسير القرآن إلا إذا كان عندهم رواية بهذا التفسير عن النبى أوعن الصحابة؛ وأقد قال عن التابعين بعض تلاميذهم: «لقد أدركت فقهاء المدينة؛ وأنهم ليعظمون القول فى التفسير» وأقد كان ابن سيرين يتحرج عن التفسير ويقول: «سألت عبيدة السلمانى عن أية من القرآن فقال: ذهب الذين كانوا يعلمون فيما أنزل من القرآن:» فاتق الله» وعليك بالسداد».

الشعبى. «والله ما من آية إلا وقد سألت عنهاء ولكنها الرواية عن الله تعالى؛ واقد قال مسروق: «اتقوا التفسير؛ فإنما هو الرواية عن الله»(!,

-١‏ وهكذا ترى أقوال الرسولء وأقوال الصحابة. وأقوال التابعين, تدل فى نظر أبن تيمية على وجوب الاعتماد فى التفسير على أقوال النبى مله الشارح للقرآنء والمبين

بل إنه ما انتقل عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى, إلا وقد بين القرآن كله, وفصله تفصيلاء وإلا كان معنى ذلك أنه لم يبلغ رسالته ولم يتم دعوته؛ وإذا كان ذلك هو الواقع الذى لا يصح أن يفرض سواه وجب أن تقر بأن النبى مله فسر القرآن لأصحابهء وقد جاءت الأخبار عنهم رضى الله عنهم بذلك: وعلى ذلك فالنبى قد ترك لنا مع القرآن تفسيره وشرحه؛ ومن يتجانف عن تفسير الرسول إلى التفسير برأيه فقد اشتط وضل سواء السبيل.

5- وليس ابن تيمية أول من نادى بمنع تفسير القرآن بالرأى» بل سبقه بذلك علماء آخرون: وقد دفعهم إلى ذلك تحرج السلف الصالح عن التفسير بالرأى وأنهم وجدوا بعض الذين يفسرون بالرأى قد شطوا شططأً بعيداً حتى أن بعضهم ليفسر قوله تعالى: «اذهب

,؟١ص راجع هذه الآثار فى مقدمة التفسير‎ )١( او١‎

إلى فرعون إنه طغى»(') بأن فرعون قلبه فيشير إليه. ويومئ إلى أنه المرادء ثم اندقع من وراء التفسير بالرأى الباطنية وأشباههم فى طريقتهمء فأخذوا يؤولون بغير ما يقسر به. ويؤولونها بغير تأويلهاء حتى أنهم ليجعلون للقرآن ظاهراً وباطناً؛ وما جرهم إلى ذلك إلا فتح باب التفسير بالرأى» فابتدأ يمحاولة الإدراك بالعقول ثم انتهى بتحكم الأهواء فى معانيه. ثم كانت الطامة فى اعتبار أن له معنى ظاهراً ومعنى باطناء فوق ما كان يفعله دعاة الفتن والقساد والزيغ الذين كانوا يتبعون ما تشابه منهء فيضلون, ويضلون غيرهم.

ولعل ابن تيمية الذى عاصر الباطتيين وجادلهم؛ قد دفعه إلى التمسك بذلك القول حالهم فشدد ليسد ذريعة الفساد.

47"- وأنه حتى لى وقف المفسر بالرأى عند جادة الاعتدالء ولم يتبع ما تشابه منه يبتغى تأويله ويبتغى الفتنة, فإن الاعتماد على الرأى المجرد من غير استعانة يالأثر قد يؤدى إلى البعد عن القرآن» وعن لبه ومعناه كما يقول القرطبى» فهى يقر أن من «يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب القرآن وما فيه من الألفاظ المهمة المبدلة!"» وما فيه من الاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير» فمن لم يجكم ظاهر التفسير وبادر إلى استنباط المعانى بمجرد فهم العربية كثر غلطهء ودخل فى زمرة من فسر القرآن بالرى/)»

14- وحجة الإسلام الغزالى يرى الوقوف فى فهم ظاهر القرأن إن ورد نص صحيح فلا يخالقه؛ ولا يرى الوقوف من غير فهم إن لم يرد نص صحيح.: أو نص غير ثابت» بل يرى أن الأخبار تدل على أن فى القرآن متسعاً لذوى الأفهام: ويروى عن على رضى الله عنه أنه قال: «ما أعطانى رسول الله عَكلّهُ شيئاً كتمه عن الناس إلا أن يؤتى الله عز وجل عبداً فهماً فى كتابه» فالفهم فى كتاب الله باب متسع لمن أعطاه الله ذلك الفهم.

وإن الغزالى يفتح الباب بهذا لكل من عنده المؤهلات للفهم والاستنباط من معانى القرآن أن يفهم ويستنبط ما لم يكن مخالفاً لنص صريح للنبى مَيه. ويعتمد فى ذلك على الآدلة الآتية: (١)طه‏ (1) أى المنقولة من أصل معناها اللغوى إلى معنى إسلامى متعارف كلفظ الصلاة والوضوء يغير ذلك. ' (؟) الجزء الأول من نفسير القرطبى صة؟. 1

(أولها): أن القرآن الكريم فيه كل علوم الدين» بعضها بطريق العبارة» وبعضها بطريق الإشارة: وبعضها بالإجمال وبعضها بشئ من التفصيلء وإن ذلك يحتاج إلى التعمق فى الفهم, والاستبصار فى حقائقه, وذلك لا يكفى فيه الوقوف عند ظواهر التفسير التى تجئ على ألسنة بعض السلف, بل لابد من التعمق, واستخراج المعانى ما دامت لا تخالف صريح المأثورء ولكنها أمور وراءه وتسير على ضوئه وعلى مقتضى هديه؛ ولقد قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: «من أراد علم الأولين والآخرين فليتدير القرأن» وإن ذلك بلاريب لايكون يغير تعمق فى الفهم؛ وتعرف بالإشارة والمرامىء من غير اقتصار على ظاهر الألفاظ والمعانى. (ثانيها) أن فى القرآن بيان صفاته سبحانه وأفعاله. وذكر ذاته القدسية؛ وأسمائه الحسنى؛ وإن فهم ذلك مع التنزيه عن المشابهة للحوادث يحتاج إلى تدبير فهم من غير وقوف عند الظواهر؛ وجمع بين المؤتلف ونفى للقول المختلف. (ثالثها) أنه قد وردت آثار تدعى إلى الفهم والتدبير فى معانى القرآن» فقد قال على رضى الله عنه «من فهم القرآن فسر به جمل العلم» وذلك لا يكون إلا بالتعمق فى الفهم. (رابعها) أن عبارات القرآن الكريم تدعى إلى التعمق فى فهمه؛ فقد قال تعالى: «ومن يت الحكمة فقد أوتى خيراً كثيراً»(') وقد قال مفسرى السلف أن الحكمة هى فهم القرآن؛ وإذا كان الله اعتبر فهم القرآن خيراً كثيراً فإنه سبحانه يدعى القادرين عليه على نيلهء وذلك بالبحثوالتامل. ولقد قال تعالى: «وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا يه؛ ولى ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا»!') وفى هذه اشارة إلى أن الأمة فيها من يستنبطون ويتعرفون معانى القرآن بالفهم الصحيح؛ كما يتعرفونها بالأثر الصحيع, وهما طريقان مستقيمان, فمن منع أحدهما فقد خالف العقل والنقل. (خامسها) أن النبى عله دعا لاين عباس رضى الله عنهما بالفهم فى القرآن» فقال عليه الصلاة والسلام: «اللهم فقهه فى الدينء وعلمه التأويل» وليس التأويل إلا التفسير, وقهم مرامى العبارات وغاياتهاء ول كان التفسير مقصورا على ما ورد لقال عليه الصلاة والسلام «حفظه!"), (0)البترق 816 000000 (1) النساء: 1 (1) استخرجنا هذه الأدلة من الإحياء.جا صس57.0: 171 17؟, ل

ولم يقتصر الغزالى على تأييد القائلين أن القرآن يفسر بالرأى؛ بل إنه ينقد حجة الوقافين الذين لا يتجاوزون التفسير المثثور عن الصحابة والتابعين ويتقدهم من وجوه:

أولها: أنه لأجل أن يكون التفسير كله للرسول يجب أن يكون كل المأثور فى التفسير عن السلف منسوبا إلى الرسول بسند صحيح ومسموعا منه. وذلك لم يثبت إلا فى بعض من القرآن: لا فى كله؛ وإذا كان عليه الصلاة والسلام قد فسر القرآن كله, فلم يصل إلينا إلا بعضه.؛ فمن حقنا أن نتعرف معانى البعض الثانى معتمدين على المنقول عنه عليه الصلاة والسلام فى تفسير بعضه.

ثانيها- أن ها يقوله الصحابة فى التفسير ولم تثبت نسبته إلى الرسول عليه الصلاة والسلام هى تفسير منهم برأيهم؛ وإذا كان أولتك هم الذين سبقونا بإحسان؛ فمن الواجب علينا أن ننهج على مثل طريقتهم: ونسير مثل سيرهم؛ ونسترشد بآرائهم فى التفسير كما نسترشد بآرائهم فى الفقه, وكما نعتبر كلامهم العربى حجة؛ وإن ذلك كله لا يمنع أن نفهم القرآن باجتهادنا متى توافرت لنا أدوات الفهم السليم؛ المبنى على أساس مستقيم.

ثالثها- أن الصحابة: ومثلهم التابعون الذين نقلوا عنهم, قد اختلفوا فى تفسير بعض الآيات» فقالوا فيها أقاويل مختلفة لا يمكن الجمع بينهاء وسماع جميعها من الرسول محالء ولو كان الواحد مسموعاً لرد الباقى: ولا يعلم ما يرد وما يبقيء لأن المسموع منها غير متعين ولا معروف. وإن ذلك ينتهى بنا إلى أمرين لا محالة:

(أحدهما) أن أحد هذه الأقوال بالرأى ولم يكن مسموعاً» وحينئذ يكون الصحابة قد فسروا برأيهم؛ ويكون لمن أوتى أدوات الفهم من علم باللغة والسنة وقواعد الإسلام أن يفهم ويفسر برأيه مقتدياً بهم. ش

(وثانيهما) أن المقتفى للآثار المتقيد بها سيختار من بينها على أساس من الاستنباط والترجيح. وأن ذلك الاختيار ما هى إلا فهم بالرأى والاستنباط؛ بل إنه أعظم من الفهم المجرد؛ لأنه سيحكم على آراء الصحابة فى التفسيرء فيخطئ بعضهم ويصوب بعضهم: وكيف يسوغ ذلك ممن حرم على نقسه القهم برأيه؛ إن ذلك مناقض لأصله؛ وعكس اتجاه("), (1) أخذ هذا وما سبقه مع التوضيح من الإحياء جا صس١77.‏

4

1- والغزالى يبين موضع النهى عن التفسير بالرأى» فيرى أنه فى موضعين:

(أولهما) «أن يكون له قى موضوع الآية رأى؛ وإليه ميل من طبعه وهواه فيتأول القرآن على وفق رأيه؛ ليحتج به على تصحيح غرضه. وو لم يكن له ذلك الرأى والهوى لكان لا يلوح إليه من القرآن ذلك المعنىء وهذا تارة يكون مع العلمء كالذى يحتج ببعض أيات القرآن على تصحيح بدعته؛ وهى يعلم أنه ليس المراد بالآية ذلك: ولكن يلبس على خصمه. وتارة يكون مع الجهلء ولكن إذا كانت الآية محتملة, فيميل فهمه إلى الوجه الذى يوافق غرضه. ويرجح ذلك الجانب برأيه وهواه فيكون قد فسر برأيه, أى رأبه هى الذى حمله على ذلك التفسير؛ واولا رأيه ما كان يترجح عنده ذلك الرأى... وهذا الجنس قد تستععمله الباطنية فى المقاصد الفاسدة لتغرير الناس ودعوتهم إلى مذهبهم الباطلء فينزلون القرآن على وفق رأيهم ومذهيهم وعلى أمور يعلمون قطعاً أنها غير مرادة به فهذه الفنون أحد وجهى المنع من التفسير بالرأى» ويكون على هذا المراد بالرأى الرأى الفاسد الموافق للهوى دون الاجتهاد الصحيح!(!),

(الموضع الثانى) المسارعة إلى تفسير القرآن بظواهر الألفاظ العربية من غير معرفة

للمنقول فى موضوعها؛ ومن غير مقابلة الآيات بعضها ببعضهاء ومن غير معرفة العرف الإسلامى الذى خصص بعض الألفاظ العربية؛ ومن غير علم دقيق بأساليب الاستنباط من القرآن من حمل المطلق على المقيدء والعام على الخاص؛ وإدراك مواضع الإضمار والحذف» والتقدير والتأخيرء وغير ذلك من الأساليب القرآنية المعجزة؛ فإن ذلك يكون تفسيراً بالرأى من غير مؤهلاته: واجتهاداً فى الفهم من غير أدواته, وحينئذ يكون الخطأء ويكون السقط.

وليس ذلك من التفسير بالرأى؛ إنما ذلك من التهجم على مالا يحسنهوالعمل فيما لا يتقن؛ وذلك قبيح فى كل شئ.

41؟- وينتهى الغزالى: وتبعه القرطبى؛ والاكثرون إلى أنه لا يصح الاعتماد على النقل وحدهء والاقتصار عليه فى فهم القرآن, كما لا يصح الاعتماد على الرأى وحدهء والاقتصار عليه فى فهم القرآن الكريم؛ إنما الطريقة المثلى أن يعتمد على السماع والمأثور عن النبى عه فى فهم القرآنء وأن معرفة ظاهر القرآن الذى تدل عليه الألفاط لابد فيه من (1) الكتاب المذكون,

هوا

الاعتماد على النقل إن كان نقل صحيح؛ وفى ظل هذا التقلء وفى ظل الدلالات اللغوية للألفاظ يعمل العقل فى استخراج معانى القرآن الكريم المتسعة الأفق» البعيدة المدى؛ التى توجه العقل والفكر إلى أعمق الحقائق الكونية والنفسية؛ وكلما تفتح العقل فيها عن إدراك ظواهر كونية إدراكا صحيحاً وجد فى القرآن ما يشير إليهاء وأنه كلما اتسع أقق العقل البشرى فى فهم الكون والحقائق والشرائع اتسع فهمه للقرآن الكريم؛ ولعل ذلك هى الحقيقة التى أشار إليها بعض الصحابة إذ قال أبى الدرداء: «لا يققه الرجل حتى يجعل للقرآن وجوهاء وأقد روى ابن حبان عن ابن مسعود أن رسول الله مه قال: «إن للقرآن ظاهراً وباطناً وحداً ومطلعاً» وليس الباطن هى الذى يقوله بعض الشيعة من أنه هى الذى اختص به أوصياء النبى مَل إنما الباطن هى الإشارة القرآنية البيانية إلى الحقائق الكونية والنفسية والتشريعية وغير ذلك من المعانى التى يدركها العالم المتعمق ذو البصيرة النيرة الذى آتاه الله نفاذ عقلء واستقامة فكر؛ كالذى يدركه علماء الأكوان فى قوله تعالى: «أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهماء وجعلنا من الماء كل شئ حى أفلا يؤمنون»(١)‏ فالمعنى الظاهر لكل ملم باللغة العربية هو أن السموات والأرض كانتا متصلتين: وهذا معنى سليم هى الظاهرء والعالم المدرك للأكوان الباحث فيها يعرف كيف كانت السماء والأرض هى الكتلة الشمسية؛ وكيف انفصلت الأرض عن السماء. وهذا تشير إليه الآية» وإن كان لا يفهمه إلا العالم بالكون والدارس لظواهره وأدواره.

4- والغزالى يقرر أن المعنى الذى يؤخذ من ظواهر الألفاظ العربية» ويثبت بعضه من السماع عن النبى عله والصحابة هو الطريق للمعنى العميق الذى يدركه الناس كلما تقدم العلم واطلع الثاس على ظواهر الكون: وكشفوا من خواصه ما كان مجهولا من قبل؛ ولا سبيل لمعرفة تلك المعانى العميقة إلا بالمعانى الظاهرة المكشوفة؛ ويقول الفزالى رضى الله عته فى ذلك ما نصه:

«التقل والسماع لابد منه فى ظاهر التفسير أولا ليتقى به مواضع الغلط؛ ثم بعد ذلك يتسع التفهم والاستنياط. واستخراج الغرائب التى لا تفهم إلا بالسماع كثيرة, ولا مطمع فى الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهرء ومن ادعى فهم أسرار القرآن' ولم يحكم التفسير الظاهر: فهو كمن يدعى البلوغ إلى صدر البيت قبل مجاوزة الياب» أى يدعى فهم مقأصد الأتراك من كلامهم, وهى لا يفهم لغة الترك. فإن ظاهر التفسير يجرى مجرى تعليم اللفة التى لابد متها للفهم».

والمعنى الباطن الذى يقصده ليس هو ما يفهمه الباطنية كما ذكرناه؛ إنما المعنى الباطن هى تحرى الدقائق التى تكون فى مطوى ألفاظ القرآن؛ والأسرار التى لا يدركها إلا العلماء الراسخون فى العلوم المختلفة كل بمقدار طاقة علمه, بعد فهم ظاهر اللفظ وما فيه من مجاز وحذف وإضمار وعموم وخصوص وإطلاق وتقييد» ويقول فى معانى القرأن وما فيه من أسران ما نصه:

«إنما ينكشف للراسخين فى العلم من أسراره بقدر غزارة علمهم: وصفاء قلويهم, وتوفر دواعيهم على التديرء وتجردهم للطلبء ويكون لكل واحد حد فى الترقى إلى درجة أعلى منهاء فأما الاستيفاء'فلا مطمع فيه ولى كان البحر مداداً والأشجار أقلاماً فأسرار كلمات الله عز وجل لا نهاية لها»ء فمن هذا الوجه يتفارت الخلق فى الفهم بعد الاشتراك فى معرفة ظاهر التقسير, وظاهر التفسير لا يغنى('),

- ذلك رأى ابن تيمية ينفر من الرأى فى تفسير القرآن. كما تدل عباراته وما يسوقه من أدلة لهاء أما الغزالى فلا يتقيد كما رأينا بالتفسير الأثرى ولكن لا يبيح معارضته, والإتيان بخلافه إذا كان ثابتاً بسند صحيح وتحقق فيه السماع من النبى عله ؛ وإنما يتقيد المفسر كل التقييد بساليب اللغة العربية: ومنهاج القرآن فى البيان والمأثور عن النبى عله والعموم والخصوص والتقييد والإطلاق: والإضهمار والحذف فى القرآن الكريم؛وإذا تحقق ذلك فإنه يغوص فيما وراء ذلك هن المعانى» ويستخرج من الأسرار المطوية فى ثنايا الألفاظ ما تشير العبارات: ويومئ إليه الأسلوب ويحققه تفكير العلماء. وأتساع أبواب العلوم.

ولكن هل يضيق صدر ابن تيمية عن هذا الاتجأه, أى أنه لا يحاول فهم أسرار القرآن: والاتجاه إلى الفوص عن معانيه وأسراره؟ إنذا نرى ابن تيمية فى استنباط علل الأحكام: وتعرف غاياتها ومراميهاء والمناط الذى تسير وراءه يفوص وراء ا معانى المصلحية يتعرفها؛ ويسير فى ظلال الكتاب والسنة مهتدياً بهديهماء ويفوص غوصاً عميقاً يدل على بعد غوره الفقهى؛ ولا يقف عند حدود ظواهر الألفاظ: بل يتجه إلى تعرف المرامى والغايات المصلحية. وإن الآيات الكونية والنفسية متسعة الأفق: وقد كشف من ظواهر الكون ما يتبين معه أحكام القرآن ودقة معانيه؛ فهل كان ابن تيمية يتجافى عن كل هذا ويرى فيه بدعاً )١(‏ الأحياء جا ص؟1؟, 537, 914,

/1وا

لا يصح السير وراعه, ولا يرى فى الوقوف إحجاما عن تفهم جزء من إعجاز القرآن بمعانيه, ثم تعرف أسرار البلاغة فى أسلوب القرآن وطرائق إعجازه أكان يحجم عنه ابن تيمية ويعد بدعا من النظرء ويغفل فى ذلك بابا من أبواب الإعجازء بل أوضح باب فيه.

إننا نعيذ ابن تيمية من أن يتجه ذلك الاتجاه السلبى؛ إنه يتعرف من القرآن الإشارات والمرامى القريبة والبعيدة, كما ترى فى تفسير قوله تعالى: «الطيبات للطيبين» إذ يقرر أن الاجتماع بين الأنثى والذكر بفير عقد صحيح اجتماع ضعيفه وأن الاجتماع القوى هو اجتماع القلوب» ويقول: «ودل قوله تعالى «الطيبات للطيبين» على ذلك من جهة اللفظ. ودل

أيضاأ على النهى عن مقارنة الفجار؛ وزواجهمء فالمصاحية والمصاهرة والمؤاخاة لا تجوز إلا

مع أهل طاعة الله تعالى على مراد الله» ويدل على ذلك الحديث المذى فى السنن: «لا تصاحب إلا مؤمناً. ولا يتكل طعامك إلا تقى»().

ولاشك أن هذا فهم من الآية بالإشارة البعيدة» والإشارة القريبة,

6 وإذا كان ابن تيمية يرى ذلك ويرتضيه ويفسر به, فكيف نفهم منه التوقف عن التفسير بالرأى المجردء وماذا يكون موضع الخلاف بينه وبين الغزالى رضى الله عنهما؟

يظهر لى أن الخلاف بينهما فى موضعين: أولهما- أن التفسير الظاهر عند ابن تيمية يعتمد على الآثارء سواء أكانت آثار الصحابة أم كانت آثار التابعين ثم المعانى اللازمة التى تفهم من لحن القول تستفاد من بعد ذلك تحت ظل تلك الآثار وما علم من الدين بالضرورة: وها جاعت به الأخبار الصحاح: كما ترى فى الآية السايقة فإنه كان يأخذ منها اللوازم, ويستشهد على صحتها بالأحاديث النبوية: وفى أسرار البلافة يعرف أصل المعنى من الآثارء وفى ظله يتعرف أسرار البلاغة, ودلائل الإعجاز. أما الفزالى فإنه يتعرف السند الصحيح المسموع به النبى فى الآية: ولا يقف إلاعنده فإن لم يكن اجتهد فى الفهم برأيه. وسار على ضوء ذلك الرأى؛ ثم يفوص وراء المعانى ما دامت لا تخالف أي معنى شرعى.

الأمر الثانى- فى أى الصفات, فابن تيمية رضى الله عنه يقف فى أى الصفات عند رأى السلف الصالح؛ لا يتجاوزه ولا يعدوه ولا يحيد عنه؛ بل لا يفهم بغير طريقه؛ ولا يتجه | لا إليه» ولا يسمح لذلك أن يغوص وراء ذلك إلا لتوضيح المعنى الأثرى الوارد عن الصحاية.

(1) تفسير سورة النور لابن تيمية ص4"". هذا

وإذا كان يتحلل أحياناً فى تفسير بعض الآيات إذا لم يجد أثراً؛ أو يختار من بين الآثار الواردة- فإنه عند تفسير آيات الصفات يقف عند أقوال الصحابة ولا يعدوها: ووجهته فى ذلك أن ذلك جزء من بيان عقيدة الوحدانية. ومحال أن يترك ذلك النبى عله من غير بيان, والذين تلقوا عنه ذلك البيان هم الصحابة كما نوهنا من قبلء ومن جهة أخرى يرى أن الصحابة لم يختلفوا فى معانى آيات الصفات. وإن اختلقوا فى غيرهاء ويقول فى ذلك:

«إن جميع ما فى القرآن من أيات الصفات ليس عند الصحابة الختلاف فى تأويلهاء وقد طالعث التفاسير المنقولة عن الصحابة. وما رووه من الحديث» ووقفت من ذلك على ها شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغارء أكثر من تفسير: فلم أجد إلى ساعتى هذه عن أحد من الصحابة أنه تول شيئاً من آيات الصقات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف:!("),

هذا نظر ابن تيمية فى التفسير المروي بالنسبة للصفات, أما الغزالى فإنه يسير في القرآنى, وما يتفق مع معنى التنزيه المطلق: غير متقيد إلا بما يثبت أنه سمع من الرسول لله

وعلى هذا يكون الفرق بين المنهاجين عظيماً وعمميقاً, ولعل ذلك أساس اخثلاف الرجلين فى تأؤيل الصفات خاصة. وتثويل القرآن عامة,

-١‏ هذه إشارة إلى منهاج التفسير عند ابن تيمية الذى كان شيخاً للإسلام فى عصره. وإن لم يجلس على كرسى يعطيه ذلك الوصف مقارناً بمنهاج حجة الإسلام الغزالى,

وسنجد أن ذلك المنهاج فى التفسير كان أساساً لاختلاف الرجلين فى كثير من المسائل ومعانى الألفاظ التى قال الناس عنها أنها من المتشابه الذى خفى تأويله إلا على الراسخين فى العلم, ولنتجه إلى تطبيق منهاج التفسير على الصفات والعقائد.

(1) نفسير سورة التور لابن تيمية ص40١,‏ 4

٠‏ مندهجك فى محرفة الحقيدة الإسلامية وعلاقته بالمناهج الفلسفية دراسته الفلسفة:

7)-- درس اين تيمية الفلسقة وعرفهاء ولكنه درسها ليهدمها؛ وهو قد رآها داء قد أصاب فكر المسلمين. فجعل منهم المتكلمين والمتفلسفين؛ وأنها سرت إلى العقل الإسلامى فسيطرت على مشاريه. ويرى أنه قبل أن يخوض فى بيان العقيدة الإسلامية وموافقتها لصريح المعقول لايد من إبعاد العناصر الفلسفية التى هى أخيلة وأوهام. كما يبعد عن الجسم الإنسانى الأخلاط الضارة لتتم سلامته, فيقول فى ذلك:

«ما كان بيان مراد الرسول فى هذه الأبواب لا يتم إلا بدفع المعارض العقلى, وامتناع تقديم ذلك على نصوص الأنبياءء, يينا فى هذا الكتاب فساد القانون الفاسد الذى صدوا به الناس عن سبيل الله وعن قهم مرأى الرسول وتصديقه فيما أخبر به؛ إذ كان أى دليل أقيم على بيان مراد الرسول لا ينفع إذا قدر أن المعارض العقلى ناقضه: بل يصير ذلك قدحاً فى الرسولء وقدحاً فيمن استدل بكلامه. وصار هذا بمنزلة المريض الذى تكون به أخلاط فاسدة تمئع انتفاعه بالغذاء. فلا ينقعه مع وجود هذه الأخلاط الفاسدة التى تقسد الغذاء, فكذلك القلب الذى اعتقد قيام الدليل العقلى القاطع على تقى الصفات أو بعضهاء أو نفى عموم خلقه لكل شئ وآمره ونهيه؛ أو امتناع المعاد أى غير ذلك لا ينفعه الاستدلال عليه فى ذلك بالكتاب والسنة, إلا مع بيان فساد المعارضء وفساد المعارض قد يعلم جملة وتفصيلا('».

الفرق بينه وبين الفزالى:

بل ليبين بطلان ها يعارض الدين منها؛ فهى آمن يما جاء به الرسول أولا؛ ثم أراد أن ينفى

, موافقة صريع المعقول لصحيح المنقول المطبوع على هامش مثهاج السنة ص؟ جا‎ )١( 000

وهى فى هذا يفترق عن منهاج الغزالى رطس الله عنه, فهى قد درس الفلسفة ليطلب الحقيقة من ورائهاء وخلص نفسه من كل شئ ليعمل إلى الحق المستقيم واعتبر الشك هو الطريق للوصول إلى الحق؛ ولكن تبين له بطلان ما يقوله الفلاسفة: فعاد إلى الدين؛ وأشرق فى نفسه نور الحقائق فى خلوات صوفية عرف فيها نفسه؛ ثم حمل حملته على الفلاسفة ويين تهافتهم.

ومع ذلك هل تجرد منها؟ لقد بقيت فى نفسه أثارة منها؛ بل إنه لم يتركها إلا وقد تكون عقله تكونا فلسفياً؛ وأخذ أحد شعب الفلسفة وجعله جزءاً من دراساته؛ وهو المنطق» فهو فى مقدمة كتاب المستصفى فى علم الأصول؛ والذى يعد أحد دعائم علم أصول الفقه الثلاة'') يقرر أن الحقائق لا يمكن أن تعرف فى أي علم من العلوم على وجهها إلا إذا كان المنطق ميزانهاء ويقول فى مقدمة كتاب المستصفى التى شرح بها علم المنطق إجمالا ما خصه:

«نذكر فى هذه المقدمة مدارك العقول وانحصارها فى الحد والبرهان. ونذكر شرط الحد الحقيقى: وشرط البرهان الحقيقى؛ وأقسامها على منهاج أو جزء مما ذكرناه فى كتاب محك النظرء وكتاب معيار العلم, وليست هذه المقدسة من جملة علم الأصولء ولا من مقدماته الخاصة به. بل هى مقدمة العلوم كلهاء ومن لا يحيط بها فلاثقة بطومه أصاذا'».

وهذا إيمان بشعبة من شعب الفلسفة عميق» فإن علم المنطق فرع من فروعهاء بل لعله أعظم تراث تركه أرسطو من بعده.

4- هذا هو الفرق بين المتصد عند هذين العالمين من دراسة الفلسفة: وقد تأدى بالأول إلى نقضهاء وتأدى بالثائى إلى اعتناق بعضهاء واذا قال بعض تلاميذ الغزالى: إنه دخل فى بطن الفلسفة: ونا أراد الخروج منها لم يستطع؛ فكانت منه تلك المناهج الفلسفية الثى سلكها فى دراسة العقائد؛ ودراسة أصول الفقه؛ بل كان منه تلك الحيرة التى بدت فى آرائه فى الفلسفة والفلاسفة قبينما تراه يحمل على الفلاسفة ويبين 3. أنتهم؛ تراه يقبض قبضة من علومهم ويجعلها وحدها ميزان العلوم. ولذا قال ابن ثيمية فيه:

(1) الكتب الثلاثة هى: المعتمد لآبى الحسين البصرىء والبرهان لإمام الحرمينه وامستصفى للغزالى,

(1) مقدمة المستصفى ص١٠‏ الجزء الأول ١‏

«كان أبو حامد مع ما يوجد فى كلامه من الرد على الفلاسفة؛ وتكفيره لهم؛ وتعظيم النبوة وغير ذلك ومع ما يوجد فيه من أشياء صحيحة حسنة: بل عظيمة القدر نافعة يوجد فى بعض كلامه مادة فلسفية وأمور أضيفت توافق أصول الفلاسفة المخالفة للنبوة» بل المخالفة لصريح العقل, حتى تكلم فيه جماعات من علماء خراسان والعرا اق والمغرب»(),

«وأبى حامد لا يوافق المتفلسفة على كل ما يقولونء بل يكفرهم ويضللهم فى موضع, وإن كان فى الكتب المضافة إليه ما قد يوافق بعض أصولهمء بل فى الكتب التى يقال أنها مضنونة بها على غير أهلهاء ها هى فى الفلسفة محض مخالفة لدين المسلمين واليهود والنصارى, وإن كان قد عبر عنها بعبارات إسلامية؛ لكن هذه الكتب فى الناس من يقول أتها مكذوبة على أبى حامدء ومنهم من يقسول: بل رجع عبنها, ولا ريب أنه صرح فى بعض المواضع ببعض ما قاله فى هذه الكتبء وأخبر فى المنقذ من الضلال, وغيره فى كتبه بما

فى هذه من الضلال!"», ثم بين أن الغزالى كان ينقل كتب الفلسفة, وأقوال الفلاسفة؛ ويتقل عن أبى عبد الله المازرى الفقيه المتكلم فيقول:

قال ابن المازرى: «ووجدت هذا فى الغزالى يعول على ابن سينا فى أكثر ما يشير إليه فى علوم الفلسقة, حتى أنه فى بعض الأحايين ينقل نص كلامه من غير تغيير. وأحياناً يغيره, وينقله إلى الشرعيات أكثر مما نقل ابن سينا لكونه أعلم بأسرار الشرع منهء فعلى ابن سينا ومؤلف رسائل إخوان الصفا عول الغزالى فى علم القلسفة(')», نقده للفلاسقة: 6 من هذا يتبين كيف غمر الغزالى نفسه فى الفلسفة ولم يستطع الخروج متهاء لأنه طلبها ليعرف الحقيقة من ورائها فكانت نيته فى الطلب سبباً فى أن أحاط به غمارها؛ وكان يعيش فى أقطارهاء فالتقى العلم الشرعى بالعقل الفلسفىء ففلسف الشريعة؛ أو ألبس الفلسفة لبوس الشرع من حيث يشعر أو لا يشعر. )١(‏ شرح العقيدة الأصفهائية 22.١.‏ (9(9)الكتاب المذكور ص44 () الكتاب المذكور ص١١‏ "١‏

أما أبن تيمية فقد طلبها ليهدمها؛ فكان يقرؤها ويفهمها. وهو فى غير محيطهاء لم ينغمر فى تممارها؛ وشدد النكير على الغزالى فى منهاجه. وأخذ يتبع هفواته ويتقصى هناته.

واقد كان يرى أن علم الشرع من النبوة وحدهاء سواء فى ذلك أصول العقيدة: وفروع معرفته. ولا طريق سواه» ويرى أن أوائك الذين يضعون صقدمات عقلية تسبق الدراسة الشرعية» ويجعئون ما جاء فى القرآن يسير على منهاجهاء فيؤولون صريحه ليوافقهاء إنما يجعلون علم العقل فوق علم النبوة. ويقول في ذلك:

«يقدمون فى كتبهم الكلام فى النظر والدليل والعلم؛ وأن النظر يوجب العلم وأنه واجبء ويتكلمون فى جنس النظر وجنس الدليل وجنس العلم بكلام قد اختلط فيه الحق بالباطل. ثم إذا صارو! إلى ماهو الأصل والدليل فى الدين استدلوا بحدوث الأعراض على حدوث الأجسامء وهى دليل مبتدع فى الشرء('»,

ينقد ابن تيعية هؤلاء, لأنهم يقدمون عند دراستهم لما جاءت به النبوة تلك الدراسة العقلية عليها؛ ثم يحكسون على الأوصاف التى جاءت فى القرآن بقوانينهاء ويوجهونها بتوجيهها فما يوافقها أقروه كما وردء ومالم يوافقها وجهوه على اتجاههاء وأولوه بتأويلها, ثم هم فى هذا السبيل لم يلتقتوا إلى السنة, ولم يعلموا أنها شارحة للكتاب؛ مبينة لكل ما جاء فيه, وأنها الطريق الوحيد لتفسيره,

ينقد ابن تيمية ذلك المسلكء لأنه يجعل الحاكم محكوماً فيجعل النبوة ألتى هى حاكمة هادية للعقول محكومة بها خاضعة لها,

مثاهج العلماء فى فهم العقائد:

- ولقد قسم ابن تيمية طرائق العلماء في فهم العقائد الإسلامية كما يفهم من رسالته معارج الوصول إلى أريعة أقسام:

القسم الأول: الفلاسفة, وهؤلاء يقواون: «القرأن جاء بالطريقة الخطابية والمقدمات الإقناعية التى تقنع الجمهور ويدعون أنهم هم أهل البرهان اليقينى»,

)١(‏ معارج الوصول صىغ من مجموعة رسائل لابن تيمية طبعة الخانجى. ا

والقسم الثانى: المتكلمون: وهم الذين ذكر ابن تيمية أنهم يقدمون قضايا عقلية على النظر فى الآيات القرآنية: وقد ذكر أنهم يجعلون المحكوم حاكماء فيما نوهنا أنفاء وكلامه فيهم يدل على أنهم المعتزلة.

والقسم الثالث: طائفة من العلماء لا ينظرون إلى القرآن من جهة ما اشتمل من أدلة هادية مرشدة منتجة مثبتة للحقء وليست لمجرد الإقناع؛ بل يعتبرون ما فى القرآن من آيات دالة على التوحيد والصفات من ناحية أنها أخبارء لا أدلة مثبته, وهؤلاء لهذا «قد جعلوا الإيمان بالرسول قد استقرء فلا يحتاج إلى أن يبين الأدلة الدالة عليه» وعيب هؤلاء عند ابن تيمية أنهم أعرضوا عن الأصول التى بينها الله سبحانه وتعالى بكتابه, ولم يلتفتوا إلى وجه الأدلة فيهاء وهى التى تثبت بذاتها الجزم واليقين؛ وقد قال فى هذه الطائفة والتى سبقتها, وهم المتكلمون. والطائفتان يلحقهما ا ملام لكونهما أعرضتا عن الأصول التى بينها الله بكتابه, فإنها أهمول الدين وأدلته وآياته. فلما أعرض عنها الطائفتان وقعت بينهما العداوة, كما قال تعالى: «فنسوا حظأ مما ذكروًا به فتغرينا بينهما العداوة والبغضاء إلى يوم ٠‏ القيامة»(١),‏

فالعيب الذى يعيبه ابن تيمية على هذه الطائقة أنها لم تلتفت إلى أدلة القرآن: وأخذت أخباره والطائفة التى سبقتها وهم المتكلمون مثلهاء لأنهم لم يلتقتوا إلى أدلة القرآن؛ وإن كانوا قد سلكوا الطريق إلى أدلة أخرى عقلية, وحاولوا التعرف من شير طريقه؛ أما هؤلاء فلم يحاولوا شيئاً واكتفوا بأخباره.

والقسم الرابع: قوم آمنوا بما جاء فى القرآنء ولهم تفكير فيه وخالفوا الطوائف السابقة كلها؛ وقالوا: «إن طرائقهم ضارة وإن السلف لم يسلكوها. ونحى ذلك مما يقتضى ذمها» ولكنهم يرون أن أدلة القرآن مجملة:؛ وأنه لابد من التفصيلء ولايد من التسلح بأدلة أخرى لقمع المخالفين, وعلى ذلك يتجهون إلى أدلة المتكلمين, ويذلك ينتهون إلى مثل ما يتتهى إليه أوائك؛ ويقول ابن تيمية فى هذا الفريق «قد يعتقد طريق المتكلمين مع قوله أنه بدعة, ولا يفتح أبواب الأدلة التى ذكرها الله فى القرآن الكريم التى تبين أن ما جاء به الرسول حق, ويخرج الذكى بمعرفتها عن التقليد. وعن الضلال والبدعة والجهل».

وام يذكر فى رسالة معارج الوصول من يعنى من هذا القسم الرابع» ويمراجعة مجموع كتاباته يتبين أنه يقصد الأشاعرة والماتريدية؛ فإن أوائك آمنوا بكل ما جاء عن

ع"

السلفء ولكنهم لم يسلكوا فى الاستدلال طريق استخراج الأدلة هن القرآن, بل سلكوا المسلك العقلى؛ يسبب الخصومة الشديدة التى وقعت بينهم وبين المعتزلة. فاضطروا أن يستخدموا أسلحتهم, والمحارب مأخوذ دائماً بسلاح خصمه فلابد أن يستخدم من الأسلحة ها يستخدم خصمه؛ وقد استخدم أوائك المنطق والأدلة العقلية, فحق على من ينازلهم أن يستخدم ما استخدموا من مسالك وبراهين,

/اه؟- من هذا النقد الذى وجهه ابن تيمية لهذه الفرق يتبين أنه يرى أن القرأن بما فيه من أدلة وحجج فيه غناء لطالب العقيدة الإسلامية, لا لأنه كتاب ثبت أنه من عند الله؛ بل للأدلة التى يسوقها لإثبات الوحدانية والصفات واليوم الآخر والميعادء فهى ليس فيه الإخبار فقطء بل فيه الدليل على صحة الخبر» فهى فى نفسه يحمل دليل صدقه.

وأشد ما يأخذه على الذين خالفهم من المتقدمين والمتأخرين أنهم أهملوا أدلة القرأن» ولعل أشد ما أثر فيه رأى الفلاسفة لم يكتفوا بعدم الالتفات إلى أدلة القرآن؛ بل تهجموا فقالوا: إنها أدلة خطابية إقناعية وإنها ليست براهين قطعية ملزمة, وأن البراهين الحقيقية هي ما اشتمل عليه علم المنطقء بل إنه ليرى أن المتكلمين من ا معتزلة» ومن نهج منهاجهم فى الاحتجاج من الأشاعرة وإخوانهم الماتريدية يقرون مقال الفلاسفة فى هذاء بل إن بعضهم ليصرح بمثل ما صرح به أولتك الفلاسفة. فالرازى يقول: «إن الاستدلال بالسمعيات فى المسائل الأصولية لا يمكن بحال؛ لأن الاستدلال بها موقوف على مقدمات ظنية. وعلى رفع المعارض العقلىء وإن العلم بانتفاء المعارض لا يمكن؛ إذ يجوز أن يكون فى نفس الأمر دليل عقلى يناقض ما دل عليه القرآن» ولم يخطر ببال المستمع. وقد بسطنا القول فى أوجه ذلك, مثل تقل اللغة والنحو وا لتصريفء ونفى المجاز والإضمارء والتخصيص وا لاشتراك. وهكذاء!'".

هال ابن تيمية ذلك القولء لأنه يؤدى إلى أنه لا براهين إلا ما يكون المنطق طريقه, كأن العلم الإسلامى هدين للمنطق اليونانى فى فهمه. وهاله أكثر أن مؤداه أن الصحابة لم تكن لديهم الوسائل القطعية لفهم هذا الدين الحكيم. ولا لفهم عقائده, لأنهم لم يكونوا على علم بمنطق أرسطى الذى لم يدخل فى الفكر الإسلامى إلا فى القرن الثانى الهجرى: كأن الصحابة والتابعين ما كافوا عالمين بأصول هذا الدين إلا عن طريق ظني؛ ولم يتوافر لديهه

٠١ص موافقة صريح المعقول لصحيع المنقول جا‎ )١(

الطريق القطعى. ويقول فى ذلك رضى الله عنه: «يقولون إنه لم يكن الرسول يعرف معنى ها أنزل عليه من هذه الآيات. ولا أصحابه يعلمون معنى ذلك» بل لازم قولهم أنه هى نقسه لم يكن يعرف ما تكلم به من أحاديث الصقات. بل يتكلم بكلام لا يعرف معناء!)».

وذلك لأن النبى مله لم يحاول تثويل الصفات فى القرآن تأويلا يتفق مع القواعد الفلسفية التى قررها علماء الكلام من بعده, ولأن النبى أله كان علمه هو القرآن. والأدلة التى كان يعلمها هى أدلة القرآن. ولم يتجاوز ذلك وكذلك الصحابة والتابعون من يعدهم, والفقهاء المجتهدون, وذلك لأن أوائك لم يكونوا على علم بمنطق اليونان: ولا يتأويل علماء الكلام ما جاء فى القرآن.

نقضبه للمتطق:

4- وجد كل هذا من منطق أرسطى الذى تعلق به علماء المسلمين: وأدخله أبو حامد الغزالى فى مقدمة علم الأصولء فثار على ذلك المنطق الذى اعتبره من علوم الصابئة» وأثار حوله عجاجة: وأخذ يبين أنه دخيل على الفكر الإسلامىء وأن إدراك الحقائق الإسلامية لم يكن فى حاجة إليه؛ وأنه ميزان ليس بصادق: إنما هى أوهام:ء أو قيود من أوهامء وشجدعه على ذلك الهجوم أنه ونجد أن الفقهاء قبل أبى حامد الغزالى كانوا ينظرون إليه نظرة البغض؛ ويتوجسون منه خيفة على العلوم الإسلامية: وأن الغزالى أول من صرح بوجوب اتخاذه ميزاناً للعلوم, وأن من كان قبله أخذوه على استخفاء. ولم يجهروا به كما جهر به حجة الإسلام.

وهذا ابن الصلاح يعد المنطق شرا كله فيقول: المنطق مدخل الفلسفة ومدخل الشر شرء وليس الاشتفال يتعليمه وتعلمه مما أباحه الشارع ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والآئمة المجتهدين: والسلف الصالح وسائر من يقتدى به.

ويقول فى استخدام المصطلحات الفلسفية والمنطقية فى العلوم الإسلامية: إن هذا من المنكرات المستبشعة والرقاعات المستحدثة, وليس بالأحكام الشرعية افتقار إلى المنطق أصلاء وما يزعمه المنطقى بالمنطق من أمر الحد والبرهان ففقاقيع قد أغنى الله عنها كل صحيع الذهن؛ ولا سيما من خدم نظريات العلوم الشرعية: ولقد تمث الشريعة وعلومهاء

"5

وخاض فى بحر الحقائق والدقائق علماؤها؛ حيث لا منطق ولا فلسفة ولا فلاسفة» ومن زعم أنه يشتغل مع نفسه بالمنطق والفلسفة لفائدة يزعمها فقد خدعه الشيطان:(),

6" يقر أبن تيمية بلاريب فتوى ابن الصلاحء وينقل عن العلماء استنكارهم لما جاء فى مقدمة المستصفى للغزالى من اعتباره المنطق ميزان العلوم كلها فيقول: «يحكى عن يوسف الدمشقى مدرس المدرسة النظامية بيغداد» وكان من النظار المعروفين أنه كان ينكر هذا الكلام ويقول: فأبى بكر وعمر وفلان وفلان» يعنى أن أوائك السادة عظمت حظوظهم من البلج واليقين ولم يحيطوا بهذه المقدمة وأسبابهاء قال الشيخ أبى عمرى نوقد ذكرت بهذا ما حكى صاحب كتاب الإمتاع والمؤانسة (يعنى أبا حيان التوحيدى) أن الوزير ابن الفرات احتفل مجلسه ببغداد بأصناف من الفضلاء والمتكلمين وغيرهم وفى المجلس متى الفيلسوف النصرانيء فقال الوزيرء أريد أن ينتدب منكم إنسان لمناظرة متى فى قوله: إنه لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل والحجة من الشبهة والشك من اليقين إلابما حويناه من المنطق: واستقدناه من وضعه على مراتبه؛ فانتدب أبو سعيد السيرافى»؛ وكان فاضلا. وكلمه فى ذلك حتىأفحمه»!؟),

وهكذا نرى ابن تيمية يغير على علم المنطق بأقوال السابقين» وبأن مترجمه من اليونانية إلى العربية قد عجن عن الدفاع عنه. وهى فى هذا يعتقد أن الأساليب المنطقية التى نهجها الفلاسفة, والمتكلمون, ثم عممها الغزالى فى علوم الدين: وهى التى جعلت العلماء يتنقصون يها أدلة القرآن: بل لازم قولهم | تجهيل الصحابة بأدلة ا لتو حيد: ويراهين اليقين, وإن هم يظنون إلا خلناً.

المناظرة التى اعتمد عليها:

ومن المستحسن أن نقبض قبضة هن المناظرة التى قأمت بين أبى سعيد السيرافى» ومتى بن يونس التى أشار إليها ابن تيمية فيما نقلء فقد جاءت كاملة فى كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبى حيان التوحيدى؛ وقد ابتدأ المناقشة بتوضيح متى لغاية المنطق فقال: «إنه آلة من آلات الكلام يعرف بها صحيح الكلام من سقيمه. وفاسد المعنى من صالحه كالميزان» فإنى أعرف به الرجحان من النقصان والشائل() من الجانج؛ فقال )١(‏ قتاوى ابن الصلاح صره؟4. (؟) العقيدة الأصفهانية ص .١١‏ 5( الشائل ا مرتفع, والجائح المنخفض.

/.؟

أبى سعيد: أخطات,؛ لأن صحيع الكلام من سقيمه يعرف بالنظم المألوف. والإعراب المعروف». إذا كنا نتكلم بالعربية, وقاسد المعنى من صحيحه يعرف بالعقل؛ إذا كنا نبحث بالعقل, وهبك عرفت الراجح من الناقص عن طريق الوزن فمن لك يمعرفة الموزون أيما هى حديد أو ذهب أو شبةلا). فاراك بعد معرفة الوزن فقيراً إلى معرفة جوهر الموزون؛ وإلى معرفة قيمته. وسائر صفاته التى يطول عدهاء فعلى هذا لم ينفعك الوزن الذى كان عليه اعتمادك» وفى تحقيقه كان اجتهادك إلا نفعاً يسيراً من وجه واحد».

ويعد مناقشة حول فضل اليونان فى الفلسفة والحكمة, واليدهيات المقررة قال أب سعيد: «ليس واضع المنطق يونان باسرهاء إنما هو رجل منهمء وقد أخذ عمن قبله كما أخذ عنه من بعده, وليس هى حجة على الخلق الكثير والجم الغفير؛ وله مخالفون منهم ومن غيرهم. ومع هذا فالاختلاف فى الرأى والنظرء والبحث والمسالة والجواب سنخ!') وطبيعة, فكيف يجوز أن يأتى رجل بشئ يرفع هذا الخلاف أو يقلله أو يؤثر فيه... هيهات!! هذا محالء وأقد بقى العالم بعد منطقه على ما كان عليه قبل منطقه؛ فامسح وجهك بالسلوة عن شئ لا يستطاع؛ لأنه منعقد بالفطرة والطباع» ويقول فى هذا أيضاً: «حدثنى عن حال قائل قال لك: حالى فى معرفة الحقائق والتصفح لها والبحث عنها حال قوم كانوا قبل وأضع المنطقء أنظر كما 'نظرواء وأتدير كما تدبرواء لأن اللغة قد عرفتها بالمنشا والوراثة, والمعاتى نقرت عنها بالمعانى والرأى, والاعتقاب والاجتهادء ما تقول له؟ أتقول أنه لا يصح له هذا الحكم ولا يستتب له هذا الأمر, لأنه لا يعرف هذه الموجودات من الطريق التى عرفتها أنت» ولعلك تفرح بتقليده لك؛ وإن كان على باطل أكثر مما تفرح باستبداده وإن كان على

حق»

«الحاجة ماسة إلى كتاب البرهان: فإن كان كما قال فلم قطع الزمان بما قبله من الكتب» وإن كانت الحمجة قد مست إلى ما قبل البرهان» فهى أيضاً ماسة إلى ما بعد البرهانء وإلا فلم صنف ما لا يحتاج إليه ويستغنى عنه, وائما يودكم أن تشغلوا جاهلاء وتستذلوا عزيزاً وعنايتكم أن تهواوا بالجنس والنوع: والخاصة والفصل والعرض )١(‏ الشبة: النحاس الأصفر,

(؟) الستح بكسر السين وسكون النون: الاصل والفطرة. 4"

والشخصء وتقواوا الهلية(') والأينية» والكيفية والكمية,الذاتية والعرضية:. والهيولية والصورية والأليسية!') والليسية «ثم تتطاواون فتقولون جئنا بالسحر»... هذه كلها خرافات وترهات ومغالق وشبكات. ومن جاد عقله ولطف نظره وثقب رأيه, وأنارت نفسه استغنى عن هذا كله بعون الله وفضله. وجودة المقل وحسن التميزء ولطف النظر وثقوب الرأى وإنارة النفس من منائح الله الهنية ومواهبه السنية» يختص بها من شاء من عباده وما أعرف لاستطالتكم بالمنطق وجها».

ويقول أيضاً أبو سعيد: «هل فصلتم قط بالمنطق بين مختلفين» أو رفعتم الخلاف بين اثنين؛ أتراك بقوة المنطق ويرهانه اعتقدت أن الله ثالث ثلاثة؟».

وهكذا يسير السيرافى أبو سعيد( فى نقد المنطق» وبيان ضعف جدواه فى عبارات بليغةومعان مستقيمة.

-١‏ هذه هى المناظرة التى أشار إليها ابن تيمية!)» وهى تتجه بلا ريب إلى إثبات أن جدوى المنطق فى تقرير الحقائق ضعيفة. وأنها لا تس أن يكون له هذه المنزلة الفكرية بين العلماء. فلقد كان فى الوجود علماء وفلاسفة محصوا الحقائق ونطقوا بها قبله؛ كما كان شة فلاسفة يعده؛ وإذا كانت ثمرته أنه يحسم الخلاف بين الناس؛ فإن الخلاف بين العلماء ربك؛ وأى كان المنطق يزيل خلافا فلم كانت الفرق المختلفة, وتلك النحل المتباينة؛ بل لماذا كانت تلك الآراء المتنازعة, والمذاهب الفلسفية المتضارية. والمذاهب الاجتماعية التى يهدم

ثم إن المنطق يزن الاستدلال ولا ينشئ الدليل؛ فهى يقيس مادة الدليل» ولكن لا يوجد هذه المادة. ومثله فى ذلك كل العلوم الآلية, فعلم العروض لا يزيد مادة الشعرء ولا يعطى )١(‏ الهلية نسبة إلى هل الاستفهامية والأينية نسبة إلى أين التى يكون بها الاستفهام عن المكان.

(1) الأليسية أراد بها الإثبات, والليسية يراد بها التفي؛ الأولى نسبة إلى أليس, والثانية نسبة إلى ليس, (') وأبى سعيد السيرافى هو الحسن ين عبد الله المرزيان» سكن بغدادء وتولى بها القضاء. وكان من أعلم الناس بنحى البصريين توفى سنة 14" والمناظرة كانت سنة ١1؟,‏ (4) راجع هذه المناظرة فى الإمتاع والمؤائسة ص؟ ٠١‏ الليلة الثالثة. ا"

الشاعر مادة من المعانى والمبائى: وعلم الندر ين الكلمات؟ ولا يسلى المتكام عباراء:؛ وططوم النقد البيانى تزن مراتب الكلام البليم وأسرار بلاغته, ولا تمد المتكلم بس اليب البلاغة والصور البيانية الرائعة وهكذا كل العلوم التى تحد الميزان» وتزن الأقكار والأقوال. وإلى هذا النحى اتجه أبى سعيد فى مناقشته مع متى بن يونس. الاستغناء عن المنطق:

5- وابن تيمية يهاجم المنطق من هذه الناحية أيضاً فيثبت أنه ليس له فائدة علمية ولا نظرية؛ فيقرر أننا لا نجد أحداً من أهل الأرض حقق عاداً دن العارم وحمار إداماً قيه مستعيناً بصناعة المنطقء لا من العلوم الدينية, ولا غيرهاء فالأاباء وامهتدسون والحمساب والكتاب ونحوهم يحققون ما يحققون من علومهم وصذاعاتهم بير صناعة المنطق» وقد صنف فى الإسلام علوم النحو والعروض والفقه وأصوله وغير ذلك؛ وليس فى أئمة هذه الفنون من كان يلتفت إلى المنطقء بل عامتهم كانوا قيل أن يعرف المنطق اليوناني!!؟.

ويقول رضى الله عنه: «وأما العلوم الموروثة عن الأنبياء صرفاً فهى أجل وأعظم من أن يظن أن لأهلها التفاتاً إلى المنطق؛ إذ ليس فى القرون الثلاثة من هذه الأمة التى هى خير أمة أخرجت للناس من كان يلتفت إلى المنطق أى يعرج عليه؛ مع أنهم فى تحقيق العلوم وكمالها بالفاية التى لايدرك أحد شأوهاء كانوا أعمق الناس علماً وأقلهم تكلفاًء وأبرهم قلوباً ولا يوجد لغيرهم كلام فيما تكلموا فيه إلا وجدت بين الكلامين الفرق أعظم مما بين القدم والفرق7'. يل الذى وجدناه بالاستقراء أن الخالصين فى العلوم من أهل هذه الصناعة أك الناس شكا واضطراباً؛ وأقلهم علماً وتحقيقاً» وأبعدهم عن تحقيق علم موزون؛ وإن كان فيهم من قد يحقق شيئًا من العلم, فذلك لصحة المادة والأدئة التى ينظر فيهاء وصحة ذهنه وإدراكه؛ لا لأجل المنطقء بل إدخال المنطق فى العلوم الممسحيحة يطول العبارة ويبعد الإشارة» ويجعل القريب من العلم بعيداً» واليسير منه عسيراً, لهذا تجد من أدخله فى الخلاف والكلام وأصول الفقه وغير ذلك لم يفد إلا كثرة الكلام والتشقيق مع قلة العلم

والتحقيق»!). )١(‏ نقض امنطق ص178. 202022 (9) أى موضع فرق الشعر من الرأس.

(؟) نقض المنطق ص54١,‏ 96

117- وإن اين تيدية لا يكتفى فى هدم الماطق عيدذا أثه لا جدوى فيه رأن اإثأمر, من غيره يصلون إلى الحقائق فى اس:قامة تفكير وسلامة تعيبر» وأن الأرى ب »!.٠‏ رد ميه لا يقصدون إلا تشقيق القول في غير ج.اء, لا بكتفى ابن تيمبة بالقول فى ذاك. بل إذه يتجه إلى الصلبء ويأتى البنيان من قواعده, فيحاول أن يثبت أن الدعائم التى يقوم عليها بناء المنطق دعائم واهية» وأنها فى ذاتها خير. سليمة؛ فيقول «اعلم أنهم ينوا المنطق على اأكلام فى الحد ونوعه؛ قالوا لأن العلم إما ته.ور وإما تصدديقء فالطريق اأذى يذال به التدور هو الحدء والطريق الذى ينال به التصديق هى القياسء فيقول الكلام فى أريدة - قامات, مقامين سالبينء ومقامين ه.وجبين فالأولان في قولهم أن التصور المطلوب لابذال, إلا بااحد؛ والثانى أن التصديق ال «للوب لا ينال إلا بالقياسء والآخرأن أن الحد يفيد العلم بالتصورات» وأن أثبرهان الموصوف يقيد العلم بالتصديقات. فالمقامان السالبان ينفيان الطرق النى يسلكها غير المناطقة فى التوصل إلى التصور والتصديقء والمقامان ا موجبان يثبتان أن طريقى المناطقة هما وحدهما يؤديان إلى التممور والتصديق»(!),

وابن تيمية يقرر أن كل هذه الدعاوى كذب فى النفى والإثبات فلاما نفوه من طرق غيرهم كله باطلء ولا ما أثبتوه من طرقهم كلها حق على الوجه الذى أعده/.

214 يذكر ابن تيمية كل ما ادعاه المناطقة فى نفيهم وإنكارهم, فينكر الحصر الذى ادعوه من أثه لا طريق لتصور الحقائق والأشياء إلا بالحد؛ وأنه لاطريق للوصول إلى التصديق الحق إلا بالقياس المنطقىء ثم يمتد به الإنكار فيمنع أن يكون الحد المنطقى وقياس ال مناطقة موصلين إلى الحق بطريق جازم لاشك فيه.

ويسير فى نقض دعاويهم فى النفى» ؛ ودعاويهم فى الإثبات, ويسترسل فى الوجوة المثبتة فى نظره لبطلان تلك الدعاوى وجهاً وجهاً.

ولا نريد أن نتعرض لهذه الوجوه وجهاً وجهاً» فإننا بذلك ننقل كتاب نقض المنطق, ويتقاضانا الأمر حينئذ أن نعلق عليه لنتبين مقدار الحق من المبالغة, وليرجع من أراد الوفاء إلى كتاب نقض المنطق لابن تيمية وإلى كتاب صون المنطق والكلام: عن فن المنطق والكلام؛

فإنه سيجد البحث فى ذلك وافيا. () صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام: للسيوطى ١1‏ ؟ ومناهج البحث عند مفكرى الإسلام للأستاذ (؟) صون المتطق ص 71/8.

"51١

رأينا فى كلامه: 66- ومهما يكن من أمر الأوجه التى ساقها ابن تيمية والتعليق عليهاء فإننا بلا شك

(أحدهما) أن الدراسة المنطقية وحدها لا تؤدى إلى يقينء فإن اليقين فى مادة الدليل لافى شكله.

(ثانيهما) أن كتاب الله وسنة رسوله نه فيهما كل الغناء ليعرف المسلم عقيدته كلها . وأن ذلك الورد الصافى ليس فيه ما يرئق صقاء العقول؛ وإن السلف الصالح رضوان الله تبارك وتعالى عنهم كان علمهم من القرآنء وهديهم من محمد مأله؛ وكانوا مع ذلك أقوى الناس إيماناً؛ وأشدهم يقيناء وأكثرهم اطمئناناً؛ ولقد سلك المسلمون من بعدهم سبيلهم, واتبعوهم بإحسان.

وليس فى القرآن بيان العقيدة بياناً إخبارياً من كل الوجوه؛ بل فيه الأدلة المنتجة يقيناً؛ ففيه الحث على النظر؛ وتوجيه العقول إلى الكون, ودلالته على الخلق العليم المريدء ولقد وجد السابقون فيه الأدلة التى انتهت إلى التصديق الصحيح: وكذالك كان الشأن فى كثير من علماء الأديان والحكماء الذين ارتضوا الإسلام ديناً وما كانوا يرون فى القرآن نقصاً فى الاستدلال؛ أو أدلته فيها مدخل للاحتمالء فكانوا به مؤمنين.

وما أحسن ها قاله ابن تيمية فى هذا المقام: «إن معرفة الإنسان بكونه يعلم أى لا يعلم مرجعها إلى وجود نقسه عالمة» ولهذا لا نحتج على منكر العلم إلا بوجود نفوسنا عا مة, كما احتجوا على منكرى الأخبار المتواترة بأنا نجد نفوسنا عالمة بذلك: وجازمة به كعلمنا وجزمنا بما أحسسناه.. وإن من نظر فى دليل يفيد العلم وجد نفسه عالمة عند علمه يذلك الدليل. كما يجد نفسه سامعة رائية عند الاستماع للصوت والترائى للشمس أن الهلال أى تمير ذلك. والعلم يحصل فى النفس»؛ كما يحصل سائر الإدراكات والحركات يما يجعله الله من الأسبابء(!),

وقد أمن السلفء لأتهم رأوا فى القرآن البينات المثبتة» وأحسوا فى أنفسهم بالإيمان, ويؤمن الناس فى كل العصورء لأنهم يرون فى القرآن البينات المثبتة.

)١(‏ نقص المنطق ص8؟, حفق

1- وإذا كنا نوافق ابن تيمية فى أن القرآن فيه شرح العقيدة وأدلتهاء وأن فى ذلك الغناء لمن يطلب اليقين» ويريد الحق سائفا غير مرئق بهوى أو انحراف؛ فإنا لا نوافقه الرأى عندما قرر فى كتابه نهاية العقول أن الاستدلال بالسمعيات فى المسائل الأصولية لا يمكن بحال؛ لأن الاستدلال بها موقوف على مقدمات ظنية؛ وعلى رفع المعارض العقلى؛ وأن العلم بانتفاء المعارض لا يمكن؛ إذ يجوز أن يكون فى نفس الأمر دليل عقلى يناقض ما دل عليه القرآن واسنا نوافق قخر الدين الرازى على ذلك القول لثلاثة أسباب:

أولها- أن القرآن لم يجئ بالخبر وحده فى أمور الاعتقاد, بل جاء بالدليل مقترنا بالخبر ردقاً له. فآياته البينات مشتملات على توجيه النظر إلى الكون وما فيه من إبداع وإحكام وإتقان: وما من آية دلت على التوحيد إلا وقد اقترن بها توجيهات إلى الحقائق الكونية, فما فى القرآن ليس خبراً مجرداً؛ بل هى دليل عقلى مستقيم للمتامل المستبصر.

ثانيها- أنه يفرض أن ما نص عليه القرآن وما ساقه من دليل قد يكون فيه دليل عقلى يناقضه:؛ وحيث كان الاحتمال فقد سقط الاستدلالء وهذا تفكير غريب؛ لأن القرأن إذا ساق دليلا وكان متتجاء فإننا لا نفرض هناقضاء حتى يقوم هذا المناقضء وإلا فإن كل دليل مهما يكن مستمداً من بدائه العقول والمقررات يصح أن يرفض لاحتمال أن يوجد ما ينقضه. فإن احتمال المناقض كما يجوز على أدلة يجوز على غيرهاء إذا قيل إن الأدلة التى يسوقها الفلاسفة وأشباههم تكون مشتقة من بدائه العقولء فكل دليل فى ذاته يحمل فى نفسه منع ما يناقضه. إن قيل ذلكء فإننا لا ندرى لماذا لا يفرض فى الأدلة التى يسوقها القرآن ذلك الفرض أيضاً إن هى توجه الأنظار إلى حقائق الأكوانء وذلك فى ذاته ينفى احتمال المناقضء أو على الأقل المناقض الذى له دليل؛ وإن ذلك كاف فى الجزم واليقين.

ثالشها- أنه يؤمن كل الإيمان بالأدلة العقلية فى الإلهيات, ويرى أنها تنتع جزماً ويقيناً. مع أن ذلك موضع نظر بين العلماء والحكماء. فإنه من المقررات العقلية أن البراهين الرياضية وما يتصل بها تنتج جزما وقطعا لاريب فى ذلك, لأنها تبنى على البدهيات التى تقرى المساواة الأصلية» وأن مساوى المساوى يتساوى مع الأول؛ وأنها فى اتساقها الفكرى تنتهى إلى ذلك دائماً؛ وأنها مهما تتعقد على المدارك فإنها تنتهى إلى مبدأ التساوى الفكرى. انذلف

وآما الأدلة اأسلة بالطبيعيات فإذها عند أولئك الفلاء.فة دنج ظناً؛ لأن أساسها الاستقراءء والاستقراء قد يكون: ناقضاً.

والأدلة المتصلة بالآلهيات قد اختلف الباحثون فى شأنها؛ والمحققون على أتها ذاتها لا تنتج قطعاً تاماًء ولكن بترادفها وتكاثرهاء قد يكون منها الجزم واليقين('.

فإذا كان الرازى يترك القرآن وأدلته فى إثيات العقائد معتبراً ذلك دليلا سمعيا لا يعول عليه فيهاء فقد ترك موضع الجزم واليقين إلى متاهات العقولء وضلال الأفهام؛ وذلك ما كان يتحاشاه شيخ الإسلام أبن تيمية.

7؟- تحن إذن نخااف الرازى فى هذا المقام بالنسبة للمسلم, فإن المسلم لا يسح له أن يطلب عقيدته إلا من القرآن الكريم. ففيه عام العقيدة الصافىء والعقول تعمل على إدراكه وقعو ! ي* ثيه علينا نؤوله ونه مره إن كانت الأسياب للتثويا ,والةؤ.ميسر قائمة, وتكون الدواعى إلى التأويل مما باء به التازيل: رليس لهوى العقول.

وأكن هل تقف العقول لا تطلب علماً وراء علم القرآن» وهل يمكن أن يقنع غير المسلم بأحكام القرآن مى غير آدلة وراء أدلته. ولثبين الجواب عن السؤال الثانى فإن فيه تمهيداً للأوله إن غير المسلمين طائفتان: أحداهما طالبة للحق لا تبغى غيره: وفى القرآن هداية لهذه الطائفة فإنها ليس بينها وبين أن تدرك الحق إلا أن تعلمه بالطريق المستقيم؛ وفى القرآن الكريم قصد السبيل والهداية إلى الطريق القويم بآيات بينات مثبتة لطلب الحق؛ هادية؛ وإن السلف الصالح من أصحاب النبى مه آمنوا لما علموا أنه الحق من القرآن نفسه, فلم يكن شة احتجاج فلسفى: ولا قياس برهانىء بل كان هتاك حق سائغ قامت البينات على أنه حق سائغ» ومن كفر من المشركين فلم يكن ذلك لنقص فى الدليل. بل كان لضلال القلب وفساد النفس بالهوى؛ ومنهم من كان يرى الحق واضحاً» واكن تمنعه الكبرياء الظالمة من الإيمان «وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً فانظر كيف كان عاقبة المفسدين»(). الطائفة الثانية من خير المسلمين طائفة كفرت على علم وعاندت وموهت وضلت وأضلت,؛ لا يهتدون بالحق المجرد, ولا بالآيات البينات؛ وهؤلاء ممن يرجون بالإسلام خبالاء ولا يريدون إلا فساداً» لا يكفيهم أن يتلى عليهم القرآن بأدلته. ولا أن يوجهوا إلى الكون, وما فيه من آيات مبصرات توضح للعقول طريق الحقء إنما لابد أن يقام لهم الدليلء وأن تساق لهم البراهين, )١(‏ راجع فى هذا كتاب "التوحيد" للمرحوم الأستاذ الكبير الشيخ والى رضى الله عنه. (؟) النمل: ١6‏

9"

وأنه لأجل إلزامهم وإفحامهم لا دانع من أن يساك مثل طريقهم» وأن يخوض الباحث معهم فى نظرياتهم ليلزمهم بالقرآن إن وجد فى ذلك ما يلزمهم.

وعلى ذلك نقرر أنه يسئغ تعلم تلك الملوم ذوداً عن الإسلام وحماية له ومجادلة بالتى هى أحسنء فعساهم يهتدون وعمساهم يعتنقون العق» ومن استصر منهم على المساراة والمهاترة» كان فى دراسة أساليبهم ها يفحمه ويلجهمه؛ فإن لم تؤد المجادلة بحججهم إلى الاقتناع أدت بلا ريب إلى الإلزام والإفحام.

وإن تلك الطائفة من المخائفين لا تترك الإسلام فى هدوء؛ بل إنها تثير حوله الريب» فلابد من مجادلتهم؛ ومن أجل ذلك تصدى لهم المعتزلة من قديم الزمان» فإنه لما قتجح الفتوح الإلادية؛ وغل الناس. , ثى دين الله أفواجاً وجد من المتعصدية عث اليهود والنصارى وا مبموس من حاولوا أن يفسدوا الإسلام على أه!». قكانوا يدسون بين أهله أفكارا بعيدة عنه, ليتخذوها حجة للطعن فيه. وكانوا يثيرون الغبار حوله من وقت لآخرء وقد تصدى للرد طوائف من ال مسلمين وأخصهم أهل الاعتزال كما ذكرنا؛ فقد مهروا فى ذلك النوع من الاستدلال: وعلى رأسسهم واصل بن عطاء وعمرى بن عبيد وغيرهم؛ ثم جاء من بعدهم أبى الهذيل العلاف, والنظام؛ ثم الجاحظ.

وقد ويجدت فى رسوع الديار الإسلامية طائفة من السوفسطائية كانت تنهج منهاج سوفسطائية اليونان» مثل صسالح بن عبد القدوس وغيره, فقد كان من هؤلاء أصل الشك فى الحقائق؛ اللاأدرية: والعندية» وأوائك ينشرون أفكارهم بين المسلمين فيحلوا وحدة العقيدة الإسلامية, ويجدوا السبيل بذلك لهدم الإسلام.

لذلك كان لابد من التسلح لهؤلاء. وإذ كان فلاسقة اليونان قد حاريوا السوفسطائية اليونانية بالجدل والمناقشة: ثم بالقيود المنطقية فى الاستدلال؛ كسا فعل سقراط فى محاوراته, وكما قعل أرسطى فى منطقه؛ فقد حق على المسلمين أن يحاريوها بنفس السلاح الذى حارب به حكماء اليونان» فقد جرب فأجدى.

لذلك عنى المعتزلة ومن إليهم بالمجادلة معهم, ثم ترجم منطق أرسطي, فأجدى فى ذلك

"16

وإن تلك هى جدوى المنطق. فإن جدوى المنطق أنه ميزان الحق بين المقجادلين» وهو الذى يبين زيف الاستدلال؛ فهى بحدوده وأشكال القياس المنطقىء وضروب التمثيل يوضح الزيف فى القولء ويكفى أن يوضع الكلام الزائف فى شكل قياس منطقى: وتتعرف الحدود فى كل أجزائه؛ ويعرف العموم والخصوص فى مقدماته. ليتبين الخبيث من الطيب.

ولقد شاع المنطق فى الماضى عندما شاع الجدلء والتمويه وإثارة الأوهام نحى أهور ليست من الحق فى شى» ولا زال يؤدى إلى غايته قى هذا المقام» كما أدى إلى غايته عندما شاع الجدل فى المسائل الاعتقادية والمسائل الفقهية بين أهل المذاهب المختلفة.

ولكن المنطق لا يمكن أن يكون وحده طريقاً للإنتاج, فإن ذرائع الإنتاج العقلى لا تتقيد بالمنطق؛ وقد يكون ميزاناً ضابطاً» ومع ذلك ليس هو وحده طريق الضبط العامى؛ فإن سلامة الفطرة واستقامة العقل قد تغنى عنه كل الغناء فى التأليف بين المسائل» والتوفيق بين متنافرها؛ وحسبك أن تعلم أن العلماء الأولين أنتجوا فى أبواب العلم وهم لايعرفونه, وحسبك أن تقراً رسالة للشافعى لترى فيها حسن التنسيقء والتبويب والترتيب» والسلامة العقلية, مع أنه لم يكن بالمنطق على علمء إذ لم يكن قد ترجم أو على الأقل لم يكن قد ذاع وشاع وتداولته الأقلام.

انتهينا من هذه الدراسة إلى أن ابن تيمية قد شدد النكير على الفلاسفة, وشدد النكير على العلماء الذين قبلوا طريقتهم فى بحث العقائد الإسلامية ودراستهاء واشتد فى النكير على حجة الإسلام الغزالى. لما جعل علم البرهان ميزاناً لكل العلوم» ولقد رأى أنه لا سبيل لمعرفة العقيدة والأحكام؛ وكل ما يتصل بها إجمالا وتفصيلاء إلا من القرآن والسنة المبينة له. وسار فى مسارهماء فما يقرره القرآن وما تشرحه السنة يقبله كما ورد ولا يجعل للعقل سلطاناً فى تأويله أى تفسيره أو تخريجه إلا بالقدر الذى تؤديه العبارات» وتضافرت به الأخبار عن التبى عله حتى إذا علم ذلك قريه هو من مألوف العقولء وأثبت أنه لا يناقض العقل فى شئ” فهى لا يقبله حاكماء ولا شاهداً» ولكن يقبله مقرراً مؤيداً» فيقرب المنقول من العقول. من غير أن يجعل للثانى سلطاناً فى الرفض والقبول.

وأنبتدئ بدراسة آرائه السلفية فى العقائد بدراسة الوحدانية» وسنتكلم عن الوحدانية والصفات,ء ثم الوحدانية فى الخلق والإنشاء. ثم الوحدانية فى العبادة.

"1

العقائد الوحدائية والصفات معثى الوحدائية: - الوحدانية شعار الإسلام وخاصت؛ ولا يعد مسلماً من لا يكون موحداً؛ والوحدانية فى الإسلام تتجه إلى ثلاثة معان كل واحد جزء من حقيقتها؛ وهى مجموعها. وهى أركانهاء فلا تتوافر الوحدانية إن لم تتوافر: . أولها- وحدة الخالق فهى الخالق المبدع وحده.

. ثانيها- وحدانية المعبود, فلا يعبد إلا رب العالمين: ولا يشرك العابد بربه أحداً» قليس لبشر ولا حجر: ولا لكائن فى الوجود أن يعبد مع رب العالمين: وذلك المعنى هى الفاصل بين الإسلام والشركء فالشرك أن يعبد مع الله الواحد الأحد غيرهء ومن سوغ لنفسه تقديساً لمخلوق يصل لمرتبة العبادة فقد أشركء ولم يختلف فى هذا المعنى أحد من المسلمسين» ولا يسوغ الاختلاف فيه, لأن التوحيد فى العبادة حقيقة الإسلام؛ ولا يعد معتنقاً للإسلام من لا يذعن لحقيقته؛ ولا يخضع لخاصته.

ولكن قد أفرط بعض الناس فى تكريم أشياء أى أشخاص, أفيعد ذلك من الشرك المنهى عنهء أم يعد ذلك من المحرمء لأنه ذريعة إلى عبادة غير الله؛ وتقديس لغير ما قدسه الشرع الشريف؛ هذا موضع الخلاف بين ابن تيمية وغيره من العلماء بالنسبة لتقديس ويعتبره مؤدياً إلى ما ينافى التوحيد, إن لم يكن منافياً» ذلك إلى أنه لم يعرف فى شرع الله فهىإن لم يكن شركا أو يؤدى إليه؛ هو ابتداع فى الدين» وفرية على دين رب العالمين» وتزيد على الشرع الحكيمء لنؤجل الكلام فى الأول والثانى إلى ها بعد الكلام فى الثالث.

ثالثها- الوحدانية فى الذات فالله سبحانه وتعالى ليس كمثله شى» وله المثل الاعلى فى السموات والأرضء وهى العزيز الحكيم؛ ولم يكن له كفواً أحدء وذاته الكريمة وحدة ليست مركية من أجزاء كسائر الناس. يلف

موضع الاتفاق وهى اللب:

1- والوحدانية فى الذات يقر بها المسلمون أجمعون: ويتفقون على أصل ا معنى فيها من غير نكير من أحد على أحد؛ ولا اختلاف عند أهل القبلة؛ وهى فى مرتبة البدهيات المعلومة من الدين بالضرورة التى لا يمشرى فيها عالم من العلماءء. ولا فرقة من الفرق, ولا هذهب من المذاهب الإسلامية, سواء أكان متصلا بالفلسفة أم كان مجائيا لها .

اختلاف القرق فى معنى توحيد الذات:

ولكن مع اتفاق فرق المسلمين وكل جماعاتهم اختلفوا فى وصف ذاته العلية بالصفات الكمالية التى يظهر بها خلقه, مع ما جاءفى القرآن الكريم من وهدقه سبحانة وتعالى بهذه الصفات: وقد قال فى ذلك ابن تيمية:

«لفظ التوحيد والتنزيه والتشبيهوالتجسيم ألفاظ قد دخلها الاشتراك بسبب اختلاف. اصطلاحات المتكلمين وغيرهم: فكل طائفة تعنى بهذه الأسماء مالا يعنيه غيرهم, فالمعتزلة وغيرهم يريدون بالتوحيد والتنزيه نفى جميع الصفات. وبالتجسيم أو التشبيه إثبات شئ منهاء حتى أن من قال أن الله يرى» أو أن له علما فهى عندهم مجسمء وكثير من الطوائف المتكلمة يصفاته يريدون بالتوحيد والتنزيه نفى الصفات الخبرية!') أوبعضهاء وبالتجسيم والتشبيه إثباتها أى بعضهاء والفلاسفة تعنى بالتوحيد ما تعنيه المعتزلة وزيادة: حتى أنهم يقولون ليس له إلا صفة سلبية أو إضافية أى مركبة منهما!, والاتحادية تعنى بالتوحيد أنه هوالوجود المطلق»!),

وهكذا نرى أن ابن تيمية يحكى أقوال الجميع فى التوحيدء وأصل معناه متفق عند الكل وهى أنه ليس كمثله شئ؛ وأنه خالق كل شئ؛ وأكنه يقول أن اللفظ مشترك. وإذا كان الاشتراك فى اللفظ ثابتاً» فمن حيث التشدد فى التنزيه. لا من حيث أصل المعنى؛ فالفلاسفة والمعتزلة يتشددون فى التنزيه حتى أنهم لينقون عن ذائه الكريمة أنها متصفة بأى (1) أى التى جاء بها الخبر من قرآن أو أثر.

(9) السلبية كالقدم: والإضافية كرب العالمين: أو خالق الكون: والمركبة كمخالفته للحوادث.

0( تقض المتطق, صرلةه ؟, 14

صفة تقرر معنى متميزاً يستقل العقل بإدراكه؛ ويعتبرون ما وصف الله به نفسه أسماء له. ويعدون من التشبيه بالحوادث المجسمة إثبات هذه الصفات والأشاعرة يثبتون بعض الصفات وينفون يعضها ء والصوفية الاتحادية يرون الوحدانية هى أن الله هى ا موجود المطلق ووجوده وحده هى الوجود المطلق غير المقيد. وكما قال ابن عريى فى الفصوص: «إن الوجود منه أزلى» وهى وجود الله نفسه؛ أى من غير إضافة شئ من صور العالم؛ وفير أزلى: وهى وجوده فى صور العالم المختلفة» أى أن الله سبحانه هى الموجود المطلق فى ذاته. والعالم كله صور لوجوده سبحاته("),

لا تكفير بهذا الاختلاف:

-١107‏ هذا كلام ابن تيمية فى معنى التوحيد عند الفرق الإسلامية الممتلقة: وهو يقرر أن هذه المصطلحات ليست هى وحدانية السلفء وأيس واحد منها أقره السلف رضوان الله تبارك وتعالى عليهم: وإن كان كل فريق من المصطلحين يزعم أن رأيه هو الدين.

وقبل أن نقرر ما يراه ابن تيمية للدين نذكر أن أحدا لم يكفر المعتزلة أو الأشاعرة. لرأيهم فى التوحيد ذلك الرأى» ولا ابن تيمية؛ بل حكم عليهم بالزيغ والضلال لأنهم لم ينكروا شيئاً جاء فى القرآنء وأكنهم أولوا وفسروا وخرجواء واقد وضع ابن تيمية نظرهم ونظر غيرهم فى الرسالة التدمرية فقال فى وصف كل نفاة الصقات. وأما من زاغ وحاد عن سبيل السلف من الكفار والمثشسركين: والذين أوتوا الكتاب: ومن دخل فى هؤلاء من الصابئة, والمتفلسفة والجهمية» والقرامطة الباطنية» ونحوهم, فإنهم على ضد ذلك يصفونه بالصفات السلبية على وجه التفصيلء ولا يثبتون إلا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحصيلء وإنما يرجع إلى وجود فى الأذهان يمتنع تحققه فى الأعيان؛ فقولهم يستلزم غاية التعطيل, وغايةالتمثيلء فإنهم يمثلونه بالممتنعات والمعدومات والجمادات» ويعطلون الأسماء. والصفات تعطيلا يستلزم نفى الذات: فغلاتهم يسلبون عنه النقيضين: فيقولون لا موجود ولا معدومء ولا حى ولا ميت» ولا عالم ولا جاهلء لأنهم يزعمون أنهم إذا وصفوء بالإثبات شبهوه بالمحدثات, فسلبوا النقيضين» وهذا ممتنع فى بدائه العقول» وحرفوا ما أنزل الله من الكتاب: وما جاء به الرسول؛ فوقعوا فى شر مما قروا منه؛ فإنهم شبهوه بالممتنعات:؛ إِذْ سلب النقيضين

ف

كجمع النقيضين كلاهما من الممتنعات: وقد علم بالاضطرار أن الوجود لابد له من موجود واجب بذاته غنى عما سواهء قديم أزلى لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم, فوصقوه بما يمتنع وجودهء نضلا عن الوجوب أوالقدم» وقاريهم طائقة من الفلاسفة وأتباعهم. . فوصقوه بصريح العقل أن هذا لا يكون إلافى الذهن, لافيما خرج عنه من الموجودات؛ وجعلوا الصفة هى الموصوفء فجعلوا العلم عين العالم مكابرة للقضايا البدهيات» فلم يميزوا بين العلم والقدرة والمشيئة جحدا! للعلوم الضضرورية؛ وقاريهم طائفة ثالثة من أهل الكلام من المعتزلة ومن اتبعهمء فأثبتوا لله الأسماءء دون ما تتضمنه من الصقات: فمنهم من جعل العليم والقدير والسميع والبصير كالأعلام المحضة المترادفات» ومنهم من قال عليم بلا علم؛ قدير بلاقدرة: سميع بصير بلا سمع ولا بصر؛ فأثبتوا الاسم دون ما تضمنه من الصفات»:(), اهل الزية: ‏ -

4 وهكذا نرى ابن تيمية يحكم بالزيغ على طوائف خمسء كما هو مقتضى ما نقلناه أولا وآخراً» فالطائفة الأولى الباطنية: ويعد. القرامطة منهم» وهم يقولون أن الله موجود يدرك فى الأذهانء ولا يمكن أن يحقق فى العيان ولا يثبتون شيئاً من الصفات, ويرد قولهم بأنه يقدى إلى التعطيل ونفى الذات.

والطائفة الثائية الفلاسفة وهم يثبثون الوجود والصفات السلبية وهى القدم والمخالفة للحوادث؛ وأنه رب العالمين» وخالق الأكوان.

والثالثة الاتحادية أنصار ابن عربى ؛ وهؤلاء يمتبرون الذات العلية الوجود المطلق, ويظهر فى وجود الأشياء المقيدة.

والرابعة المعتزلة» وهؤلاء يقاربون الفلاسفة فى أنهم لا يثبتون إلا الصفات السلبية, وينكرون صفات المعانى وكل ها جاء فى القرآن» ويخرجون ما جاء فى القرآن على أنه أسماء للذات العلية؛ أى على أنها أسماء متميزة تدل على الذات فى أثرها فى المخلوقات.

والطائفة الخامسة: الأشاعرة وهؤلاء أثبتوا الصفات السلبية وأثبتوا صفات الإثيات

.٠١ص الرسالة التدمرية‎ )١( ييف‎

كالعلم والقدرة والإرادة وغير ذلك من صفات المعانىء ولكنهم لم يزيدوا ولم يصفوا الله سبحانه بكل ما جاء فى القرآن من الاستواء على العرش؛ والتجلى؛ وغير ذلك مما تدل عليه ظاهر عبارات القرآن الكريم.

ه3- ويخلص من هذا أن اين تيمية يخالف تلك الطوائف المختلفة: فيخالف الفلاسقة والباطنية مخالفه مطلقة, ولا يلتقى معهم فى شى؛ كما يخالف الاتحادية مخالفة مطلقة.

أما خلافه مع المعتزلة والأشاعرة فهى مخالفة جزئية؛ لأنهم يسلمون بكل ما يقول. بيد أنهم يؤولون» وهى لا يؤول» بل يأخذ بالظاهر؛ فيخالف الأشاعرة والعتزلة فى إثيات الاستواء ونحوه بالقدر الذى يراه هى؛ ويخالف المعتزلة فى إثبات الصفات.

والحقيقة أن المعتزلة معنى التوحيد عندهم هى التنزيه المطلق؛ ولذلك يحسن الإشارة إليه بنقل ما جاء فى مقالات الإسلاميين عنه فقد جاء فيه: 1

«إن الله واحد أحد ليس كمثله شئ وهو السميع البصيرء وليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شسخص ولا جوهر ولا عرضء ولا بذى لون ولا طعم؛ ولا رائحة ولا مجسة. ولا بذى حرارة: ولا برودة» ولا رطوية: ولا رسوية ولا يبوسة ولا طول ولا عرض ولا عمقء ولا اجتماع ولا افتراق: ولا يتحرك ولا يسكن؛ ولا بذى أبعاض ولا أجزاء: ولا جوارح وأعضاء: وليس بذى جهات, ولا بذى يمين وشمال وأمام وخلفء وفوق وتحت. ولا يحيط به مكانء ولا يجرى عليه زمان: ولا تجوز عليه الممامسة ولا العزلة, ولا الحلول فى الأماكنء ولا يوصف يشئ من صفات الخلق الدالة على حدثهم: ولا يوصف بأته متناهء ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب فى الجهات,: وليس بمحدود, ولا والد ولا مولودء ولا تحيط به الأقدار, ولا تحجبه الأستارء ولا تدركه الحواس» ولا يقاس بالناسء ولا يشبه الخلق بوجه من الوجوه: ولا تجرى عليه الآفات, ولا تحل به العاهاث. وكل مسا خطر بالبال وتصور بالوهم فغير شبه له ولم يزل أولا سابقا متقدما للحادثات؛ موجودا قبل المخلوقات, ولم يذل عالما قادرا حياء ولا يزال كذلك لا تراه العيون, ولا تدركه الأبصارء ولا تحيط به الأوهامء ولا يسمع بالأسماع: شئ لا كالأشياءء عالم قادر حىء لا كالعلماء القادرين الأحباء؛ وإنه القديم وحدة ولا قديم غشيره؛ ولا إله سواه. ولا شريك له فى ملكه. ولا وزير له فى سلطانه؛ ولا معين على

لقف

إنشاء ما أنشأ وخلق ما خلق» لم يخاق الخلق على مثال سبق» وليس خلق شئ بأهون عليه من خلق شئ آخرء ولا بأصعب عليه منهء لا يجوز عليه اجترار المنافع: ولا تلحقه المضار؛ ولا يناله السرور واللذات» ولا يصل إليه الأذى والآلام. ليس بذى غاية فيتناهى, ولا يجوز عليه الفناءولا يلحقه العجز والنقصء تقدس عن ملامسة النساءوعن اتخاذ الصاحبة والأبناء»٠‏ ١هى(),‏

هذا نظر المعتزلة إلى التوحيد وهو التنزيه المطلقء وقد بنوا عليه نفى جواز الرؤية؛ لأن ذلك يستلزم الجهة والمكان؛ وذلك ما يتنافى مع معنى التذزيه السابق.

وتفوا الصفات الإثباتية لأنه يلزم تعدد القدماء؛ فالصفات عندهم ليست شيئاً غير الذات. وها ذكر فى القرآن هى أسماء الله الحسنى وليست صفات غير ذاته الكريمة,

مذهب السلف فى الوحدانية عنده:

1- والآن قد بينا خلاقه مع المعتزلة والأشاعرة» ولنتكلم عن رأيه هو وقد وضحه فى عدة موضوعات وفى كثير من الوسائلء ولنؤجل رأيه فى الاتحادية وغيرهم إلى الكلام فى الصوفية.

يرى ابن تيمية أن ما كان عليه السلف بالنسية.للصفات وما جاء فى القرآن من أسماء الله الحسنى هو الحق الذى لا مرية فيه؛ وأن غيره زيغ وضلال؛ وإن لم يكن كفراً وإشراكا.

ويبين مذهب السلف فى نظرهء وهى أنه يصف الله سبحانه بكل ما وصف به تفسه فى كتابه الكريم: فإنه ذكر من أسمائه وصفاته ما أنزله فى محكم أياته كقوله تعالى: «الله لا إله إلا هى الحى القيوم»(') وقوله تعالى: «قل هو الله أحد + الله المصمد »* لم يلدولم يولد * ولم. يكن له كفوأً أحدء(") وقوله سبحانه: «وهى العليم الحكيم: وهى السميع البصير. وهى العليم القدير. وهى العزيز الحكيمء وهى الغفور الرحيم. وهى الغفور الودود؛ ذى العرش المجيد» فعال لما يريد. هو الأول والآخرء والظاهر والباطنء وهو يكل شئ عليم. هو الذى خلق السموات والأرض فى ستة أيام: ثم استوى على العرشء يعلم ما يلج فى الأرضء وما يخرج منهاء وما ينزل من السماءوما يعرج فيهاء وهى معكم أينما كنتم؛ والله بما تعملون بصبر» وقوله تعالى: «ذلك بأتهم اتبعوا ما أسخط الله. وكرهوا رضوانه؛ فأحبط أعمالهم»7), وقوله سبحائه:

)١(‏ مقالات الإسلاميين لأبى الحسن الأشعرى. (1) البقرة: هه؟

هفنا

«فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ريحب ونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين»() وقوله سعيدانه: «رضى الله عذهم ورضوا عنه ذلك من خشى ربه:(') وقوله تعالى: هومن يقتل مؤمناً متععداً ف جزاؤه جهتم خالداً فيهاء وفضب الله عليه ولعنه»() وقوله: «إن الذين كفروا ينادون مقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم؛ إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون»!') وقوله سبحانه: «هل ينظرون إلا أن يأتبيهم الله فى ظلل من الغمام وا ملائكة»!*) وقوله تعالى: «ثم استوى إلى السماء وهى دخانء فقال لها والأرض اثتيا طوها أو كرهاء قالتا أتيذا طائعين»!) وقوله: «وكلّم الله موسى تكليما»!') وقوله سبحانه: «وناديناه من جاتب الطور الأيمن, وقربناه نجياًء(”) وقوله: مويوم يناديهم فيقوا. أين شركائى الذين كنتم تزعمون»!') وقواه: دإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون:(١١)‏ وقوله سبحانه: دهو الله الذى لا إله إلا هو املك القدوس السلام ا مؤمن المهيمن المزيز الجبار المتكبرء سبحان الله عما يشركون + هو الاه الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما فى السموات والأرض وهو العزيز الدكيم(١١)‏ إلى أمثال هذه الآيات والأحاديث الثابتة عن النبى مَيلهُ فى أسماء الرب تعالى وصفاته؛ فإن ذلك كله يبين ذاته وصفاته على وجه التفصيلء وإثباته مع تفى التمثيل هو ما هدى الله به عباده إلى سواء السبيل؛ فهذه طريقة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين!"",

117- وهكذا يرى ابن تيمية أن مذهب السلف إثبات كل ما جاء فى القرآن والحديث النبوى مسنداً إلى رب العامين أو وصفاً لذاته الملية, ويجب الإيمان بأئه يوصف به سبحانه اتباها للهدى النبوى والنص القرآئى» وليس فى ذلك ما يتنافى مع التنزيه أو يخالف التوحيد؛ أو يثبت مشابهة بينه سبحانه وبين الحوادثء فإن اتخاذ الاسم لا يستلزم التشابه فى الوصفء فإذا وصف الله نفسه بالتكبرء فليس معنى ذلك أن التكبر منه سبحانه كالتكبر من الناس ا مخلوقين, وإذا وصف ثقسه بالغضب ففضبه ليس كفضبهم, وإذا وصف نقسه بالمحية, فليست محبته سبحانه من جتس محبتهم, بل كان ذلك بما يليق بالذات العلية: ومما يتفق مع التنزيهء وعدم مشابهة الحوادث؛ وكونه تعالى ليس كمثله شىئ؛ وأنه سبحانه وتعالى له المثل الأعلى وأنه إذا كانت ذاته الكريمة ليست كذوات خيره؛ فإن صفاتها ليست كصفات غيرهاء وإن اتحد الاسم ويقول فى ذلك رضى الله عنه:

٠١ المائدة: (9) النساء: "17 (؟) غافر:‎ )١(

١314 النساء:‎ )0( ١١ فصلت:‎ )( 5٠١١ البقرة:‎ )4(

(/) هريم: (4) القصص: 4 (4) القصص: 5١‏

.5 ١8 الحشر: ”ا - 14 (؟1) التدمرية ص/ا‎ )١١( يس: الم‎ )٠١(

نف

«إذا كان من المعلوم بالضرورة أن فى الوجود ما هى قديم واجب بنفسه وما هو محدث يمكن أن يقبل الوجود والعدمء فمعلوم أن هذا موجود؛ وهذا موجود, ولا يلزم من اتفاقهما فى مسمى الوجود أن يكون وجود هذا مثل وجود هذاء بل وجود هذا يخصه. ووجود هذا يخصه واتفاقهما فى اسم عام لا يقتضى تمائلهما فى مسمى ذلك الاسم عند الإضافة والتخصص والتقيدء فلا يقول عاقل إذا قيل له أن العرش شئ موجود؛ وأن البعوض شئ موجودء أن هذا مثل هذا لاتقاقهما فى مسمى الشئ والوجود(!/»

إذا كان وجود كل شئ متميزا بالإضافة إليه. فوجود الجماد غير وجود الإنسانء ووجود الحيوان غير وجود الإنسان, وكذلك وجود الواجب الوجود غير وجود ممكن الوجودء وأن الاشتراك هو قى المعنى الذهنى المطلق لا فى الواقع المقيدء وكذلك صفات الله سيحانه وتعالى إذا اشتركت فى الاسم مع صفات المخلوقين. فإضافتها إليه سبحانه وتعالى وهى المنزه عن المشابهة للحوادث. تخصص معانيها بما يليق بذاته الكريمة» وما يتفق من الذات العلية وكمالها المطلق» فإذا وصف الله ذاته الكريمة بالعلم. فليس علمه كعلم الناسء إنما هى علم يليق به, ولذا يقول ابن تيمية فى هذا المقام:

وقد سمى الله تفسه حياًء فقال سبحانه: «الله لا إله إلا هو الحى القيوم» وسمى بعض خلقه حيا فقال: «يخرج الحى من الميت» ويخرج الميت من الحى»!') ؤليس هذا الحى مثل هذا الحى؛ لأن قوله الحى اسم الله مختص به وقوله «يخرج الحى من الميت» اسم للحى المخلوق مختص به. وإنما يتفقان إذا أطلقا وجردا عن التخصيصء ولكن ليس للمطلق وجود فى الخارج, والعقل يفهم من المطلق قدراً مشتركا بين المسلمين: وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوقء والمخلوق عن الخالق»(,

ويطيق ذلك فى كل الصفات المذكورة فى القرآن؛ ويسمى بها العباد أحياناً» فيبين أنها بإضافتها إلى الله تكون بمعنى يخالف ما يضاف إلى العباد: فإذا وصف الله ذاته بأته عليم حليم؛ ووصف بعض عباده بهذين الوصفين, فالعلم غير العلمء والحلم غير الحلمء وإذا وصف ذاته بالسمع والبصر والكلام والرأفة والرحمة والملك والعزة وأنه جبار وذى القوة والمتين؛ ثم وصف عباده بأسماء هذه الصفات, فهى لله سبحانه غيرها للعبيد» والحقيقتان )١(‏ التدمرية ص>7١.‏ (؟) يونس: "١‏ (؟) التدمرية ص؟١,‏

لف

متغايرتان » وحيث تفايرت الحقيقة فلا تشبيه بالحوادث بل ما زالت المخالفة للحوادث والتنزيه.

- وينتهى ابن تيمية بأن وصف الله سبحانه بكل ما وصف به نفسه فى كتايه وما وصفه به رسوله الأمين محمد لله وكل ما أضيف إليه من أفعال وأحوال يقررها ابن تيمية؛ ويرى أنها وإن تشابهت فى الاسم مع ما هو معروف عند اليشرء فما يضاف إليه سبحاته هو غير ما عند الناس؛ بل هو ما يليق بالتنزيه الكامل لرب العالمين» ويقول فى ذلك «إذا قال المعتزلى ليس له إرادة ولا كلام قائم به؛ لآن هذه الصفات لا تقوم إلا بالمخلوقات؛ فإنه يبين للمعتزلى أن هذه الصفات يتصف بها القديم ولا تكون كصفات المحدثات: فهكذا يقول له المثبتون لسائر الصفات من المحبة والرضا ونحو ذلك»

وينتهى بلا ريب إلى أن يثبت لله سبحانه وتعالى الاستواء واليد وغير ذلك ولكن يقول أن هذا كله بما يليق بذاته تعالى لا نعرف حقيقته. وعلينا الإيمان به. ويقول فى الرد على قول النافين لهذا وإن أثبتوا كل الصفات الأخرى:

«فإن قال من أثبت هذه الصفات التى هى فينا أعراض كالحياة والعلم والقدرة؛ ولم يثبت ما فيها أبعاض كاليد والقدمء لأن هذه أجزاء وأبعاض تستلزم التجسيم والتركيب العقلى, كما استلزمت هذه عندنا التركيب الحسىء فإن أثبت تلك على وجه لا تكون أعراضاً أى تسميتها أعراضاً لا يمنع ثبوتهاء قيل له وإثبات هذا أيضاً على وجه لا يكون تركيباً وأبعاضاً لا يمنع ثبوتها...»!') وهكذا يسير فى جدل من هذا النحى أساسه من جانبه الإثبات من غير كيف ولا حال يشبه الحوادث.

- والحق أنه فى هذا الباب يعتمد على أصلين: يقكر فيه على أنه مستحيل عقلى فى ظاهرهء ويخضعه لحكم العقل. حتى يكون موائما له متلاقيا معه: بل إنه لا عمل فى هذا إلا التفويض.

(ثانيهما) تقرير أن ظاهر القرآن والسنة لا يقتضى التشبيه أو التجسيم؛ لأن ما يثبت

. الإكليل ص١" فى مجموع الرسائل الكبرى جا‎ )١( كرف‎

لله بتصهما ليس من جنس ما يثبت للحوادث؛ بل إنها تثبت صفات وأحوالا تليق بذاته الكريعة, وبما يجب له سبحانه من تنزيه ووحدانية؛ فالتشابه فى الاسم لا يقتضى التشايه فى الحقيقة والتفى ليس هو التشابه فى الأسماء إنما المنفى هو التشابه فى الحقائق؛ وأن الله سبحانه وتعالى مخالف للحوادث فى ذلك تمام المخالفة.

وأنه ينتهى من ذلك إلى الإيمان بكل ما جاء فى السنة. والآثارء ويقول فى ذلك:

«والصواب ما عليه أثمة الهدى؛ وهى أن يوصف الله بما وصف به نفسه؛ أو وصقه به رسوله لا يتجاوز القرآن والحديث. ويتبع فى ذلك سبيل السلف الماضين وأهل العلم والإيمان والمعانى المفهومة من الكتاب والسنة, لا ترد بالشبهات؛ فيكون من ياب تحريف الكلم عن مواضعه ولا يعرض عنهاء فيكون من باب الذين إذا ذكروا بآيات ريهم لم يخرو! عليها صماً وعمياناً. ولا يترك تدبر القرآن, قيكون من باب الذين «لا يعلمون الكتاب إلا

أمانى»() '

وابن تيمية إن يثبت كل .ما جاء فى القرآن والحديث من غير كيف ولا تشبيه يخالف الذين نفوا هذه الصفات الإخبارية: كما يخالف المجسمة والمشبهة؛ فإن أولتك أثيتوا التجسيم والتشبيه؛ أو على الأقل لم ينفوه؛ فأولتك الحشوية أو المشبهة أوالمجسمة:, قالوا: إن لله علما كالعلوم وقدراً كالقدرء وسمعا كالأسماع؛ ويصراً كالإبصار, وإن الله يرى مكيفا محدوداً يوم القيامة» وأنه سبحانه يجلس على العرشء والعرش مكان له ويد الله المذكورة فى القرآن يد جارحة؛ ووجهه وجه صورة: وأنه سبحانه وتعالى ينزل نزول حركة وانتقال من مكان إلى مكان؛ واستواؤه سبحانه على العرش جلوس عليه وحلول فيه؛ ولقد بالغوا فقالوا فى القرآن: الحروف المقطعة والأجسام التى يكتب عليها والألوان التى يكتب بهاء وما بين الدفتين كله قديم أزلى7».

إن ابن تيمية لهذا يعد نفسه وسطأً بين الذين نفوا الصفات أو بعضها وبين أوائك المجسمة, وهى بهذا يعد مذهبه منزهاء لا مجسما ولا مشبهاء ولذلك قال:

«ومذهب السلف- فى اعتقاده (وهو مذهبه)- بين التعطيل والتمشيلء فلا يمثلون

(١)الإكليل‏ ص8؟. (؟) تبيين كذب المفترى فيما نسب لأبى الحسن الأشعرى ص148: ١85‏ لابن عساكر الدمشقى المتوفى سنة411.

سف

صفات الله يصفات خلقه. كما لا يمثلون ذاته بذوات خلقه: ولا ينفون عنه ما وصف يه نفسه أووصقه به رسوله؛ فيعطلوا أسماءه الحسنى وصفاته العلياء يحرفون الكلم عن مواضيعه, . ويلحدون في أسماء الله وآياتهء وكل واحد من فريقى التعطيل والتمثيل جامع بين التعطيل والد لتمشلء(!).

-١‏ وإكنا ونحن نقرر أن اين تيمية ينفى التشبيه والتجسيم عن مذهبه الذى هو مذهب السلف فى اعتقاده نراه يثبت الفوقية وأن الله فوق؛ ويستدل على ذلك بظاهر النصوص؛ ويقول فى ذلك:

«كتاب الله من أوله إلى آخره؛ وسنة رسوله من أولها إلى آخرهاء ثم عامة كلام الصحابة والتابعين. ثم كلام سائر الأئمة مملوء بما هو إما نصء وإما ظاهر فى أن الله سبحانه وتعالى فوق كل شئ؛ وأنه فوق العرشء وأنه فوق السماءء مثل قوله تعالى: «إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه:!) «إنى متوقيك ورافعك إلى»(') «أأمنتم من فى السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هى تمور + أم أمنتم من فى السماء أن يرسل عليكم حاصياً»(!) «بل رفعه الله إليه»(*) وقال سبحانه: «ثم استوى على العرش»(١)‏ فى سئة مواضع. وقال جل شأنه: «الرحمن على العرش استوى»().

«وفى الأحاديث الصحاح والحسان مالا يحصى مثل قصة معراج الرسول مله إلى ربه» ونزول الملائكة من عند الله وصعودها إليه؛ وفى حديث الخوارج: «ألا تأمنونى وأنا أمين من فى السماء. يأتى إلى خبر السماء صباحاً ومساء».

إلى أن يقول: «ليس فى كتاب الله ولا فى سنة رسول الله مله ولا عن أحد من سلف الأمةء ولا من الصحابة والتابعين: ولا عن الأثمة الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف حرف واحد يخالف ذلك لا نصاً ولا ظاهراً» ولم يقل أحد منهم أن الله ليس فى السماءء ولا أنه ليس على العرشء ولا أنه فى كل مكانء ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء. ولا أنه داخل العالم, ولا خارجه. ولا متصل ولا منفصلء ولا أنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصابع

اع نم«

ونحوها»!). )١(‏ العقيدة الحموية الكبرى ص 44؟ مجموع الرسائل. )١(‏ فاطر: ٠١‏ 5) آل عمران: وه (5) املك: 15 - لاا (0) النساء: ١648‏

ينف

نقدنا لابن تيمية: الحسية بالأصابع والإقرار بأنه فى السماءء وأنه يستوى على العرش؛ وبين التنزيه المطلق عن الجسمية وا مشايهة للحواذنث. وأن التأويل بلا شك فى هذا يقرب العقيدة إلى المدارك البشرية: ولا يصح أن يكلف الناس ها لا يطيقون: وإذا كان اين تيمية قد اتسع عقله للجمع بين الإشارة الحسية وعدم الحلول فى مكان, أو التنزيه المطلق» فعقول الناس لا تصل إلى سعة أفقه إن كان كلامه مستقىما, |

ومن الغريب أن ابن تيمية يغضب تلك ابغضبات الشديدة ضد الذين يؤولون تلك النصوص, أو على خد تعبيره يفسرونها تفسيراً مجازياً باعتبار معنى (قى السماء) هو العلو المعنوى, والتقدير للرزق الذى لا يصل إليه أحد من الخلق؛ الذى عبر عنه بقوله تعالى: ' «يفى السماء رزقكم وما توعدون»(1). وقى الوقث الذى يغضب فيه الغفضب الشديد؛ ويستنكر ذلك الاستئكار الشديد نراه يعتبر كل الأسماء الواردة فى نعيم الجنة مجازية, فيقول فى ذلك: «قال أبن عباس ليس فى الدنيا مما فى الجنة إلا الأسماء» فإن الله قد أخبر أن فى الجئة خمراً وأبناً وماء وحريراً وذهباً وفضة؛ وغير ذلك ونحن نعلم قطعاً أن تلك الحقيقة ليست مماثلة لهذه, بل بينهما تباين عظيم مع التشابه, كما فى قوله تعالى «وأَتُوا به متشابهاً» على أحد القولين أن يشبه ما فى الدنيا وليس مثله. فأشبه اسم تلك الحقائق أسماء هذه الحقائق. كما أشبهت الحقائق الحقائق من بعض الوجوه؛ فنحن نعلمها إذا خوطبنا بتلك الأسماء من جهة القدر المشترك بينهماء ولكن لتلك الحقائق خاصة لا ندركها فى الدنياء ولا سبيل إلى إدراكنا لهاء لعدم إدراك عيتها أونظيرها من كل وجه("), فإن كان يجرى المجان ويقيله فى هذا المقام؛ أقلا يكون من الساتغ إجراء المجازحتى تبعد عن كل نطاق الجسمية؛ ومسارب الشك إلى النفس؛ قد يقول أنه فى هذا كان متبعاً لا )١(‏ الذاريات: ؟؟ )١(‏ البقرة: ١٠‏ (؟) الإكليل فى المتشابه والتأويل ص؟1. 14

يجئ فى النصوصء وليس محكما للعقل المجرد فى الشرع المجكم, فإنه قد ورد عن النبى حكاية عن ريه أنه قال: «أعددت لعيادى الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت» واين عياس قد نقل عنه أنه قال «ليس فى الدنيا مما فى الجنة إلا الأسماء» فكان النص موجبا لأعمال المجاز؛ ولم يرد فى مسألة الصفات عن الصحابة والتابعين نص لصرف اللفظ من الحقيقة إلى المجانء ولى قلنا أن العقل هى الذى يقيد لكان ذلك سيطرة للعقل على نصوص إلشرع» وهذا منطق ابن تيمية. . 1

وأكنا نرى أن الصحابة إذا كانوا قد سكتوا فى هذا الأمر فلم ينقل عنهم نفى للتاويل؛ وإذا كانت العبارات المروية تدل على التفويضء فليس فى العبارات المروية إقرار للجهة.

وفوق ذلك أن ما ساقه ابن تيمية من النصوص ال مجاز فيها واضح حتى كأنه الحقيقة مثل: «إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه». ومثل قوله تعالى «وفى السماء رزقكم وها توعدون».

وبعض هذه التنصوص الدالة على أن الله فى السماءدلالة ضمنية لااصريحة مثل إشارة النبى عَْتّهُ فى خطبة الوداع عندما قال «اللهم فاشهد».

اين تيمية وابن الجوزى:

“717- وهنا يثار نظر: هل ما قرره هو عقيدة السلف الصالح لا ريب فى ذلك؟ لا شك أنه قد جاءت عبارات تؤدى إلى ما يقولء ولكن ألم ترد عبارات أخرى قد تقيد ولو ضممئا قبول التفسير المجازى فى هذا المقام أو على الأقل السكوت التام.

إن ابن تيمية إن يقرر ما يراه فى هذا الموضع لم يكن جديداً فيه. فقد سبقه غيره بتقريرهء ولكن السابق لم يسعف ببيان قوى كبيان ابن تيمية؛ ولم يسعف ببديهة حاضرة, كبديهته رضى الله عنه.

وأقد تجرد العالم الفقيه الأثرى ابن الجوزى للرد عليهمء فقد أخذ عليهم أنهم سموا الإضافات صفات. فاعتبروا الاستواء صفة وغير ذلكء وأنهم جعلوا العبارات على ظاهرها؛

وأنهم أثبتوا العقائد بأدلة غير قطعية: وأخذ عليهم أنهم ا عتبروا ذلك هو علم السلف؟ فيين 9

قال تعالى: «ونفخت فيه من روحى»!!). وليس لله صفة تسمى الروح» فقد ابتدع من سمى المضاف صقة.

(الثانى) أنهم قالوا هذه الأحاديث من المتشابه الذى لا يعلمه إلا الله تعالى ثم قالوا نحملها على ظواهرهاء فواعجبا مالا يعلمه إلا الله تعالى أى ظاهر له؛ وهل ظاهر الاستواء إلا القعود وظاهر النزول إلا الاتتقال.

(والثالث) أنهم أثبتوا لله سبحانه وتعالى صفات.: وصفات الحق جل جلاله لا تبثت إلا بما تثبت به الذات من الأدلة القطعية.

(والرابع) أنهم لم يفرقوا فى الإثبات بين خبر مشهور كقوله عَلّه: «ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا»: ويين حديث لا يصع كقوله: «رأيت ربى فى أحسن صورة».

(والخامس) أنهم لم يفرقوا بين حديث مرفوع إلى النبى مله وبين حديث موقوف على صحابى أى تابعى فأثبتوا بهذا ما أثيتوا بهذا.

(والسادس) أنهم تأولوا بعض الألفاظ فى موضعء ولم يتأولوها فى موضعء كقول» «من أتانى يمشى أتيته هرولة» قألوا: ضرب مثلا للإانعام.

(والسابع) أنهم حملوا الأحاديث على مقتضى الحسء فقالوا ينزل بذاته وينتقل ويتحول بذاته. ثم الوا لا كما نعقلء فغالطوا من يسمعء وكابروا الحس والعقل.!")

هذا تص كلام ابن الجوزى؛ وهى مؤدى كلامهم: ومهما يحاولوا ثقى التشبيه فإنه لاصق بهم؛ وإذا جاء ابن تيمية من بعده بأكثر من قرنء وقال إنه اشتراك فى الاسم لا فى الحقيقة؛ فإنهم إن فسروا الاستواء بظاهر اللفظ؛ فإن الاقتعاد والجلوس والجسمية لازمة لا محالة: وإن فسروه بغير المحسوس فهى تأويلء وقد وقعوا فيما نهوا عنه؛ وفى الحالين قد خالفوا التوقف الذى سلكه السلف. )١(‏ الحجر: 9" وص: ؟/

(1) دفع شبه التشبيه والرد على المجسمة لإإمام جمال الدين بن الجوزى الحنبلى ص8. رف

4- ولا يكتفى ابن الجوزى برد هذا التشبيه, وإن حاول القائلون نفيه. بل يقرر أنه ليس من مذهب ابن حنبلء وابن الجوزى حنبلىء والقائلون هذه الأقوال قبل ابن تيمية حنايلة, ويقول ابن الجوزى فى ذلك:

«رأيت من أمسحابنا من تكلم فى الأصول بما لا يصلع وانتدب للتصنيف ثلاثة, أبى عبد الله بن حامد”')؛ وصاحبه القاضى أبى يعلى7') وابن الزاغوني7)؛ فصنفوا كتباً شانوا بها المذهب. ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام. فحملوا الصفات على مقتضى الحسء فسمعوا أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم عليه السلام على صورته: فأثبتوا له صدورة ووجها زائداً على الذاتء وعينين وفماً ولهوات وأضراساًء وأضواء لوجه.. ويدين وأصايع وكفاً وخنصراً وإبهاماء وصدراً وفخذا وساقين. ورجلي؛ وقالوا: ما سمعنا بذكر الرأس... وقد أخذوا بالظاهر فى الأسماء والصفات, فسموها بالصفات تسمية مبتدعة, ولا دليل لهم فى ذلك هن النقل ولا من العقل. ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى ا معانى الواجبة لله تعالى» ولا إلى إلغاء ما توجبه الظواهر من سمات الحدث. ولم يقنعوا أن يقولوا صقة قعلء حتى قالوا صفة ذات: ثم لما أثبتوا أنها صفات قالوا لا تحملها عن توجيه اللفة, مثل يد على نعمة وقدرة؛ ولا مجئ وإتيان على معنى بر ولطفء ولا ساق على شدة, بل قالوا نحملها على ظواهرها المتعارفة, والظاهر هوا معهود من نعوت الآدميين, والشئ إنما يصمل على حقيقته إذا أمكن, فإن سرف صارف حمل على المجازء ثم يتحرجون من التشبيه. ويأتفون من إضافته إليهم» ويقولون تحن أهل السنة. وكلامهم صريح فى التشبيه؛ وقد تبعهم خلق من العوام. وقد نصحت التايع والمتبوع؛ وقلت لهم: يا أصحابنا أنتم أصحاب نقل واتباع؛ وإمامكم الأكبر أحمد بن حنبل رحمه الله يقول وهى تحت السياط: كيف أقول ها لم (1) شيخ الحنابلة فى عصر أبى عبد الله بن ححامد بن على البغدادى الوراق المتوفى سنة ؟.. كان من أكير مصتفى الحنابلة؛ له كتاب فى أصول الاعتقاد سماه شرح أصول الدين: وفيه أقوال تدل على التشبيه والتجسيم. (1) هى القاضى أبو يعلى محمد بن الحسين بن خلف بن الفراء الحنبلى المتوفي سنة 4054: ولقد تكلم فى أصول الاعتقاد كلاما تبع فيه آستاذه ابن حامد وأكثر من التشبيه والتعثيلء حتي لقد قال فيه بعض العلماء: «لقد شان أبو يعلى الحنابلة شينا لا يفسله ماء البحار», (؟) هو أبى الحسن على بن عبيد الله بن نصر الزاغونى الحنيلى المثوقى سنة 017: وله كتاب فى أصول الاعتقاد اسمه الإيضاح: قال فيه بعض العلماء: «إن فيه هن غرائب التشبيه ما يحار فيه التبية»,

ل

يقل. فإياكم أن تبتدعوا فى مذهبه ما ليس منه, ثم قلتم فى الأحاديث تحمل على ظاهرها. فظاهر القدم الجارحة:. ومن قال استوى بذاته المقدسة. فقد أجراه سبحاته مجرى الحسيات. ويتبغى ألا يهمل ما يثيت به الأصلء وهى العقل فإن به عرفنا الله تعالى: وحكمنا له بالقدمء فلى أنكم قلتم نقر الأحاديث: ونسكت لما أنكر أحد عليكم: وإنما حملكم إياه على الظاهر قبيح» فلا تدخلوا فى مذهب هذا الرجل الصالح السلفى ما ليس فيه»

هذا كلام ابن الجوزى, وهى يقرر أن من يطلق الأحاديث والآيات على ظاهرها يكون التشبيه ملازماً لقوله؛ وإن حاول إبعاده؛ ولقد اطلع ابن تيمية بلاريب على كلام ابن الجوزى» فماذا قال فيه؟. لقد رجعنا إلى كتب ابن تيمية نستنبطهاء لنعلم رأيه فى قول ابن الجوزىء ونقده لشيخه أبى يعلى الذى يتقارب منه فى القول ابن تيمية؛ فوجدتاه يتصدى للرد على العز بن عبد السلام: الذى قال: إن الحشوية؟ا على ضربين: أحدهما: لا يتحاشى من الحشو والتشبيه والتجسيم» والآخر تستر بمذهب السلف, ومذهب السلف إنما شو التوحيد» والتنزيه دون التشبيه والتجسيم».

فيقول: «قيه من الحق الإشارة إلى الرد على من انتحل مذهب السلف مع الجهل بمقالهم: أو المخالفة لهم بزيادة أو نقصان, فتمثيل الله بخلقه والكذب على السلف من الأمور المذكرة» سواء أسمى ذلك حشواً أم لم يسمه وهذا يتناول كثيراً من المثبتين من غالبية المثبتة الذين يروون أحاديث موضوعة فى الصفات مثل حديث عرق الخيل('» ونزوله على الجمل الأورق حتى يصافح الشاة ويعانق الركبان: وتجليه لبنيه فى الأرضء أو رؤيته على الكرسى بين السماء والأرضء أو رؤيته إياه فى الطواف أو فى بعض مساك المدينة إلى غير ذلك من الأحاديث الموضوعة؛ فقد رأيت من ذلك أمورا من أعظم المنكرات وأحضر لى غير واحد من الناس من الأجزاء والكتب ما فيه من ذلك, مما هى الافتراء على الله وعلى رسوله. ووضع لتلك الأحاديثأسانيد»(,

يرد إذن ابن تيمية قول أوائك الحشوية؛ وبذلك يوافق العز بن عبد السلام فى أحد

)١(‏ الحشوية أى الذين يقولون ما قاله العامة فيجسمون ويشبهون. (؟) هذا خبر مكنوب نصه: «إن الله خلق خيلا فاجراها فعرقت ثم خاق نفسه منها», () نة نقض المنطق ص5 1١‏ .

ضرف

شطرى كلامه. أما الشطر الثانى وهو أن فريقا منهم يستشر بأن ما يقولونه هى مذهب السلف, فيقر ابن تيمية أن مذهب السلف إثبات الصفات التى جاءت فى القرآن والأحاديث الصحيحة بظاهرها. ولكن على شكل متفق مع ذات الله الكريمة. ويقول فى ذلك: «القول فى الصفات كالقول فى الذات فإن الله ليس كمه شئئ لا فى ذاته ولا فى صفاته. ولا فى أفعاله, فإذا كانت له ذات لا تماثل الذوات حقيقة؛ فالذات متصلة بصفات حقيقية لا تماثل سائر الضفات. فإذا قال السائل: كيف؟ قيل له: كما قال ربيعة ومالك وغيرهما رضى الله عنهم: «الاستواء معلوم والكيف مجهولء والإيمان به واجبء والسؤال عنه بدعة؛ لأنه سؤال عما لا يعلمه البشس» وكذلك إذا قال: كيف ينزل ربنا إلى السماء الدنياء قيل له: كيف هو, فإذا قال لا أعلم كيفيته. قيل له: ونحن لا نعلم كيفية نزوله؛ إن العلم بكيفية الموصوف هو فرع لهوتابع له('),

ويقول أيضاً: «إذا قال القائل: ظاهر النصوص مراد أو ظاهرها ليس بمراد يقال: لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك. فإذا كان القائل معتقداً أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين أى هى من خصائصهم فلا ريب أن هذا غير مراد, واكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرهاء ولا يرضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفراً وباطلا... وإن كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع فى معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها؛ والظاهر هى المراد فى الجميع فإن الله لما أخبر أنه بكل شئ عليم. وأنه على كل شئ قديرء واتفق أهل السنة وأئمة المسلمين على أن هذا على ظاهره وأن ظاهر ذلك مرادء كان من المعلوم أتهم لم يريدو) بهذا الظاهر أن يكون علمه كعلمنا وقدرته كقدرتنا؛ فكذلك إذا قالوا فى قوله تعالى: «يحبهم ويحبونه»('), «رضى الله عنهم ورضوا عذه»(') وقوله تعالى: «ثم استوى على العرش»9') أنه على ظاهره لم يقتض ذلك أن يكون ظاهره الاستواء كاستواء

المخلوق, ولاحباً كحيه»(*). الحقيقة والمجاز فى أوصاف الله:

1- وننتهى من هذا إلى أن ابن تيمية يرى الألفاظ فى اليد والنزول والقدم والوجه والاستواء على ظاهرهاء ولكن بمعان تليق بذاته الكريمة كما نقلنا من قبل.

)١(‏ التدهرية ص/؟ (9) المائدة: (5) المائدة: 115 (5) الأعراف: (0) التدمرية ص/54:41,

5

وهنا نقف وقفة: إن هذه الألفاظ وضعت قى أصل معناها لهذه المعانى الحسية: ولا تطلق على وجه الحقيقة على سواها؛ وإذا أطلقت على غيرها سواء أكان معلوماً أم مجهولا فإنها قد استعملت فى غير معناها؛ ولا تكون بحال من الأحوال مستعملة فى ظوا هرهاء بل تكون مؤولة: وعلى ذلك يكون ابن تيمية قد فنّ من التأويل ليقع فى تأويل آخر؛ وفر من التفسير المجازى ليقع فى تفسير مجازى آخر.

ثم ما المآل وما الغاية من التفسير الظاهرى؟ أيؤدى إلى معرفة حقيقة, أم لا يؤدى إلا إلى متاهات أخرى: إنه يقول أن الحقيقة غير معروفة؛ فيقول إن الله له وجه معروف الماهية, وله استواء غير معروف الماهية: ويد غير معروفة, ووجه غير معروف, وقدم غير معروفة إلى آخر ما يجرنا إليه رضى الله عنه من إثيات ما ليس بمعروف.

إننا بلا شك إذا فسرنا تلك المعانى بتفسيرات لا تجعلنا نحيلها على مجهولات يكون ذلك التفسير أحرى بالقبول ما دامت اللغة تتسع له؛ وما دام المجاز بيناً فيهاء كتفسير اليد بمعتى القوة أو النعمة؛ والاسستواء بمعنى السلطان الكامل؛ وتفسير النزول بفيوض النعم الإلهية إلخ. ولا يعترض بأن ذلك ليس فيه أخذ بالظاهر لأن الذى اختاره أيضاً ليس فيه أخذ بالظاهر.

ولكن ابن تيمية يقول إن جاز إطلاق لفظ قدرة على قدرة الله تعالى ولفظ علم على علمه سبحانه؛ وكلاهما ليس مشابهاً لقدرة الناس وعلمهم: فكذلك يطلق الاستواء؛ ولا يكون كاستواء الناس؛ ونقول إن إطلاق اسم القدرة على وصف الله تعالى لم يؤد إلى ذلك التشابه وليست القدرة جارحة كاليد. حتى نقول إن هذا ظاهرهاء بل القدرة والعلم والإرادة فى الناس أمور معنويةء فيصح أن تكون ظاهرة فى المعنى الكاملء كما هى ظاهرة فى المعنى الناقص» وقدرة الله هى الكاملة وقدرة الإنسان هى الناقصة؛ وهكذا ,

نظر ابن تيمية إلى كلام السلف:

7"- وأقد كان اعتماد ابن تيمية على السلف فيمايقول؛ بل إن شئت فقل إن الباعث له على اجتياز تلك الشقة الحرام هى اعتقاده أن ذلك رأى السلفء وأنه فى ذلك متيع؛ ومن لم يسلك مسلكه مبتدعء وأن ها يرويه عن السلف صدق لا مرية فيه: وليس لأحد أن يدعى أن له علم ابن تيسية بالكلام المثور عن السلف الصالح من عهد الممئحابة إلى عهد الأئمة

المجتهدين؛ ولكن هل العبارات المروية عن أولئك الأئمة الأعلام صريحة فى إثبات جهة العلى درق

والاستواء بمعنى من جنس معنى الجلوسء إن العبارات المروية عنهم إلى التفويض أقرب منها إلى التفسير أو إبداء الرأى فى معنى معين؛ ولنعتمد على أقريها ذكراً؛ وهى العبارات المأثورة عن مالك رضى الله عنه؛ وهى «الاستواء معلومء والكيف مجهول والإيمان به واجب» والسؤال عنه بدعة» إن العبارات بفحواها ومسعناها لاتدل على أنْ الاستواء من جنس الجلوس الذى نعلمهء إنه بلاشك معلوم بالذكر فى القرآن: والإيمان بما جاء بالقرآن واجب. وأكنه بعد ذلك نهى عن السؤال عنه, واعتيره بدعة؛ أليست الكلمة فى ذاتها دالة على التوقف لا على النصء وإن ابن الجوزى يحكى عن السلف التوقف. ولا يحكى عنهم البت بقول فى الموضوعء ويعتبر الإمام أحمد متوققا,

وإنه قد روى أن الإمام أحصمد رضى الله عذه لما مسئل عن أحاديث النزول والرؤية ووضع القدم قال: نؤمن بها ونصدق يهاء ولا كيف ولا معنى؛ وأقد روى الخلال فى مسنده عن الإهام أحمد أنهم سألوه عن الاستواء؛ فقال: «استوى على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة ييلغها واصف» وهذا تفويض وتنزيه؛ وليس فيه تخريج اللفظ على الظاهر ولا غير الظاهر.

بل إنه قد روى حنيل ابن أخى الإمام أحمد أنه سمعه يقول: «احتجوا على يوم المناظرة, فقالوا تجئ يوم القيامة سورة البقرة وتجئ سورة تبارك؛ قال: قلت لهم إنما هى الثواب. قال الله جل ذكره «وجاء ريك وا ملك صفاً صفاً»() وإنما تأتى قدرته؛ وهذا بلاشك تفسير للمجئ بمجاز الحذف وهو ظاهر؛ ولكن ابن تيمية رضى الله عنه يقول المجئ مجئ الله!!

ولقد ذكر ابن حزم الظاهرى فى الفصل أن أحمد بن حنبل قال فى قوله تعالى «وجاء ربك» إنما معناه دوجاء أمر ريك».

وإنا نميل بلاشك إلى أن بعض السلف قد توقفوا فى العبارات المأثورة عنهم فى معنى الاستواء. ولم يفسروا على الظاهر كما يقول ابن تيمية؛ ونميل إلى أنهم فى المجاز الظاهر مثل «وجاء ربك» فسرو) بالمجاز؛ وخرجوا عليه؛ لأنه واضح.

وقبل أن ننتهى من الكلام فى الصفات نتكلم فى موضوعين لهما بالصفات صلة وثيقة, وهما المتشابه والتأويله والكلام حول القرأن وكونه مخلوقاً أو غير مخلوق.

الف

المتشأبه والثاويل

544- إن الكلام فى تنويل المتشابه له اتصال وثيق بالكلام فى الصفات والوحدانية, ' فالكلام فى أحدهما يلازمه الكلام فى الآخر. والأساس فى هذا الموضوع هو أن كلمة متشابه قد وردت فى القرآن الكريم فى مقابل أيات محكمات,؛ فقد قال تعالى: «هى الذى أنزل عليك الكتاب منه أيات محكمات هن أم الكتاب: وآخر متشابهات. فأما الذين فى قلوبهم زيغء فيتبعون ما تشابه منه ابتفاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأؤيله إلا الله. والراسخون فى العلم يقولون آهنا به كل من عند ربناء وما يذكر إلا أولى الألباب»!!),

وإن جمهور المفسرين على أن الآيات المتشابهات فى كتابه الكريم هى الآيات المتعاقة بالصقات والأفعال المضافة إليه سبحانه؛ من مثل: «يد الله فوق أيديهم»!"), ومن مثل: «الرحمن على العرش استوى»(). ومثل: «وكلمته ألقاها إلى مريم ورووح منه»(؟) وأقد قال عدد كبير من المفسرين أنه لا متشابه فى القرآن إلا أخبار الغيب كصفة الآخرة وأحوالها.

وأقد اتفق المفسرون على أن في الآيتين روايتين مشهورتين بالنسبة للوقوف, فقد روى الوقوف على كلمة الله فى قوله تعالى: «وما يعلم تئويله إلا الله» وهذه الرواية تقتضى التفويض عند الجمهور؛ وألا يخوض الناس فيها ولا يحاولوا إدراكها وأنه لا يحاول التأويل إلا الذين يتبعون الزيغ؛ والرواية الأخرى هى الوقف على كلمة «والراسخون» وهذا يقتضى أن يعلم التثويل الراسخون فى العلم.

- وإذا كان الأمر كذلك: فقد اختلف العلماء فى موقف السلف أكانوا مقوضين لا يخوضون: لكيلا يقعوا فى الفتنة أم كانوا مؤولين ومفسرين: وطلبوا الحق ومعهم أدواته. وقد أمنوا الزيخ لأنهم طلبوا العلم من وجهه؛ ودخلو) إليه من بابه, فلا يقعون فى الضلال ' ثم ها معنى التثويل؟ أهو التفسيرء أم المراد معرفة المآل والتتيجة؟ وقد أدلى اين تيمية يدلوه, وخاض فيه مع الخائضين» بل رأيه هناك من رأيه هتا.

ويخوض ابن تيمية فى الموضوع على أساس وجهة نظره فى رأى السلفء وهى أنهم لم يتوقفواء بل أخذوا العبارات بظواهرها فى الجملة, غير باحثين عن الكيفية» وأن اتباع الكيفية زيغ؛ ولذا هو يقرر أن الاشتباه فى آيات الصفات من ناحية العقولء لا من ذاتهاء لأنها موافقة لكل معقول؛ والضلال يأتى من تيه العقول فى محاولة معرفة الكيف والحقيقة؛ )١(‏ آل عمران: ا )١(‏ الفتم: ٠١‏ (؟) مله: ه (5) التساء: ١٠/١‏

هف

لا من حيث الظاهر الواضح البين» وإذن فالمتشابه نسبى بالنسبة للعقول التى تتحير وتتيه, لا بالنسسبة للقلوب التى تطلب الحق من بنبوعه؛ وليس من السائغ أن يفسر المتشابه بأته غير المفهوم للناس! لأن ذلك يقتضى أن الصحابة لم يفهموه وفوضوه. ولازم ذلك أن يكون النبى له أيضاً لم يفهمه, وذلك غير معقول فى ذاته؛ واذلك يقول رضى الله عنه:

«المقصود هنا أنه يجوز أن يكون الله تعالى قد أنزل كلاماً لا معنى له؛ ولا يجون أن الرسول عه وجميع الأمة لا يعلمون معناه كما يقول ذلك من يقول من المتأخرين: وهذا القول يجب القطع بأنه خطأ... وإذا دار الأمر بين القول بأن الرسول كان يعلم معنى المتشابه من القرآن وبين أن يقال الرأسخون فى العلم لا يعلمون كان هذا الإثبات خيراً من ذلك النفى: فإن معنا الدلائل الكثيرة من الكتاب والسنة وأقوال السلف على أن جميع القرأن محكمه ومتشابهه حق من عند ربناء وأن الراسخين فى العلم لا يعلمون تفسير المتشابه بدليل قولهم: آمتا به كل من عند ربنا. ومن قال أنهم يعلمون تأويله اعتمد على آراء قد وردت على ألسنتهم, فإن السلف قد قال كثير منهم أنهم يعلمون تأويله, ومنهم مجاهد مع جلالة قدرهء' والربيع بن أنس» ومحمد بن جعقر بن الزبير؛ ونقلوا ذلك عن ابن عباسء وأنه قال أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله؛ ويقول أحمد فيما كتبه فى الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيها من متشابه القرآن: وتأويله على غير تأويله, فى قدوله عن الجهمية: «إنها تأولت ثلاث آيات من المتشابه» ثم تكلم على معناها- دليل على أن المتشابه عنده تعرف العلماء معناهء وأن المذموم تأويله على غير تأويله, فأما تفسيره المطابق لمعناه فهذا محمود ليس بمذموم؛ وهذا يقتضى أن الراسخين فى العلم يعلمون التأويل الصحيح للمتشابه عنده وهو التفسير فى لغة السلف؛ ولهذا لم يقل أحمد ولا غيره أن فى القرآن آيات لا يعرف الرسول وغيره معناهاء بل يتلون لفظأً لا يعرفون معناهء() ثم يبين أن ذلك اختيار كثير من أهل السنة ا ملتزمين لأقوال السلف ومذهبهم, ثم يبين أن بعض العلماء نقل عن بعض السلف غير ذلك”» وأنهم مفوضون متوقفون قائلين: «إنه لا يعلم تأويله إلا الله سبحانه وتعالى؛ ويحتجون بأن الله سبحانه وتعالى قرن ابتغاء الفتنة بابتغاء تثويله, وبأن النبى ميته ذم مبتغى المتشابه؛ وأنه قال: «إذا رأيتم الذين يبتغون ما تشابه منه فاحذروهم» ولقد ضرب عمر بن الخطاب من سأله عن المتشأيه.

قف

ولكن ابن تيمية يذكر أن الذين قالوا أن السلق كانوا يقهمون آيات الصفات يقولون إن ذم السؤال عن المتشابه؛ لأن السائل يبتفى الفتنة: فالذم للقصد لا لأصل السؤال؛ والنبى طلب الحذر ممن يتبع المتشابه؛ لأن من يتبعه ولا يطلب سواه يكون نتبعه دليل قصده السيئ” فيجب الحذر منه؛ أما السؤال للاستفهام لا للإشكالء فلم يعرف أنه مذموم ولا منهى عنه؛ وما كان عمر يضرب من يستفهم مجرد استفهامء ولى كان المتشابه لا يعلمء والمقصد حسن لبين له عمر أنه لا يعلم ولم يضويه؛ فالنهى عن السؤال قصد ابتغاء الفتنة لا يدل على أنها ليست معلومة لهمء وليس من شأنها أن تعلم, وقد روى عن معاذ بن جبل أنه قال: «يقرأ القرآن رجلان: فرجل له فيه هوى يفليه فلى الرأس يلتمس أن يجد فيه أمراً يخرج به على الناس أولتك شرار أمتهم؛ أواتك يعمى الله عليهم سبيل الهدى؛ ورجل يقرؤه ليس فيه هوى يفليه فلى الرأس فما تبين له عمل به. وما أشتبه عليه وكله إلى الله ليتفقهن أوائك فقها ما فقهه قوم قطء حتى لى أن أحدهم مكث عشرين سنة:؛ فليبعثن الله له من يبين له الآية التى أشكلت عليه أويقهمه إياها من قبل نفسه,!'!.

- وإن ابن تيمية بلاشك يختار كما ترى أن الصحابة يعلمون معانى الآيات المتشابهات على ظاهرهاء ولايسألون عن كيفها كما لا يسألون عن حقيقة الذات الإلهية؛ واكن قد يرد عليه أمران:

أولهما: قراءة من يقف عند لفظ الجلالة فى قوله تعالى: «وما يعلم تأويله إلا الله»(؟) .ببتدئون فى القراءة بقوله: «والراسخون فى العلم يقولون آمنا به كل من عند ربناء وما يذكر إلا أولى الألباب»1") فإن هذه القراءة تقيد أن تأويل القرآن لا يعرفه إلا الله سبحانه.

الأمر الثانى: ما المراد بالتأويل على هذا المعنى؛ وكيف نوفق بين هذا وبين كون

بعض السلف أو أكثرهم على قولك يرى أن آية الصفات التى يدعى أنها متشابهة مفهومة المعنى مخرجة على ظواهرها.

معتى التأويل:

أما عن الأمر الأول فإن ابن تيمية يقول إنه ظاهر على قول السلف الذين يتوقفون ولا يفسرون؛ أما الأكثرون فى اعتقاده الذين يفسرون؛ فإنه يخرج كلامهم على أن التويل (1) آل عمران: ٠‏

زف

ليس معناه التفسير على إطلاقه: إنما معناه معرفة الحقيقة والمالء وأن استعماله فى القرآن على ذلك النحو؛ وإن استعماله بمعنى التفسير؛ أو بمعنى أدق صرف اللقظ عن المعنى الظاهر إلى غير الظاهر, أو صرف اللفظ من ال معنى الراجح إلى ا معنى المرجوح لدليل يقترن به- أن هذا الاستعمال من أصطلاح علماء الأصول وعلماء الكلام وإن كان له أصلء فإذا قال أحدهم هذا النص مؤول على كذا قال الآخر هذا نوع تأويل» ويقول فى ذلك:

والتأويل يحتاج إلى الدليل والمتأول عليه وظيفتان: بيان احتمال اللفظ للفظ الذى ادعاهء وييان الدليل الموجب للصرف إليه عن المعنى الظاهر!!),

وإن ذلك المعنى الاصطلاحى لا ينطبق على الآية: لا على الذين فسرواء ولا على الذين توقفواء لأن الذين قسروا أخذوا بالظاهر. واعتبروا الظاهر وحده؛ ولم يتركوه لغيره؛ فلا يعتبرون قد أولواء لآن التأويل على حد كلام الفقهاء ليس مطاق تفسير على هذا النظرء بل تخريج اللفظ على غير المعنى الظاهر لدليل آخرء ولا على مذهب المتوقفين من السلف لأنهم لم يفسرواء ولم يخرجوا.

0- ومهما يكن فإن تفسير كلمة التثويل بمعنى معرفة امال والحقيقة يستقيم كل الاستقامة على مذهب الذين لا يفسرون والذين يفسرون من السلف ويقفون عند لفظ الجلالة كما نوهنا؛ وأن إطلاق كلمة تأويل بهذا المعنى يتقق مع استعمال القرآن الكريم فى كثير من آى الكتاب الكريم: ويتفق مع المعنى اللغوى.

أما اتفاقه مع استعمال القرآنء: فإن ابن تيمية يسوق استعمال القرأن الكريم فى سنة مواضع غير سورة آل عمران التى يجرى تحت ظظلها الاختلاف فى الآراء.

وأول هذه المواضع قوله تعالى فى سورة النساء«يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسولء وأولى الأمر منكمء فإن تنازعتم فى شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر, ذلك خير وأحسن تويلاه فقد فسر مفسرى السلف التثويل هنا بالثواب والجزاء والعاقبة؛ ومؤدى ذلك أن يكون بمعنى المال؛ لأن الثواب والجزاء هو مال

الطاعة, وثانيها: قوله تعالى فى سورة الأعراف: «ولقد جئناهم بكثاب فصلناه على علم وهدى )١(‏ الإكليل فى المتشايه والتأويل ص؟؟,

خرف

ورحمة لقوم يؤمنون * هل ينظرون إلا تأويله, يوم يأتى تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل رينا بالحق: فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذى كنا تعمل»(), وواضح أن المعتى هنا هو المال والعاقبة. فإنه لا يكون يوم القيامة إلا المآل والعاقية. وثالثها: قوله تعالى قى سورة يونس" «بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولا يأتهم تأويله. كذلك كذب الذين من قبلهم؛ فانظر كيف كان عاقبة الظالمين» وقد قسر مفسروى السلف التأويل هنا بمعنى الجزاء أى ا معقابء أى بمعتى المآل والعاقبة. الرابعة: ما جاء فى سورة يوسف خاصاً بتأويل يوسف عليه السلام للأحكام مثل قوله تعالى: «وكذلك يجتبيك ريك ويعلمك من تأويل الآحاديث» وقوله تعالى حكاية عن صاحبى السجن: «نبئنا بتأويله» وتأويل الأحلام هو المعنى الوجوذى لهاء أى مآلها. وعندى أن التويل في هذا الموضع بمعنى التفسير أولى وأظهر. | الخامس: قوله تعالى فى سورة الإسراء: «وأوفوا الكيل إذا كلتم وذنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا» أى مالاء وذلك واضح كل الوضوح. السادس: كلمة تويل التى جاعت على لسان صاحب موسى كما حكى الله فى كتايه مثل: «سأئبتك بتأويل مالم تستطع عليه صيراً». ومعنى المتأويل هنا المآل»!"). ونرى هن هذا أن كلمة التأويل كانت فى أكش هذه المواضع واضحة بينة. ولا يكتفى ابن تيمية بسوق الآيات الكريمات الدالة على أن التويل معناه المال. بل يحقق ذلك لغوياء وأننقل كلامه فى هذا ليعرف مقدار علمه بالعربية واشتقاقهاء فقد قال: «التأويل مصدر أولّه يؤوله تأويلاء مثل حول تحويلا ومول تعويلا. وأول يؤول تعديه آل يثول يثول إليه الشى» ويشاركه فى الاشتقاق الأكبر الموئل» فإنه من وألء وهو من أولء والموثل المرجع قال تعالى: «لن يجدوا من دونه موئلا»() وما يوافقه فى اشتقاقه الأصغر الآلء فإن أل الشخص هن يئول إليه؛ ولهذا لا يستعمل إلا فى عظيم بحيث يكون المضاف إليه ' (١)الأعراف:‏ 5ه-ث؟م (؟) راجع فى هذا الإكليل فى المتشابه والتاويل ص "1؛ وتفسير سورة الإخلاص 6/. (5؟) الكيف: مه 9

يصلح أن يثول إليه كال إبراهيم؛ وأل لوط وآل فرعون, بخلاف الأهل. والأول (وزن) أقعل لأنهم ققالوا فى تأنيثه أولى: كما قالوا جمادى الأولى» وفى سورة القصص ووله الحمد فى الأولى والآخرة» ومن الناس من يقول فوعل('' ويقول أوله. إلا أن هذا يحتاج إلى شاهد من كلام العرب؛ بل عدم صرفه يدل على أنه أقعل لا فوعل(') فإن فوعل مثل كوثر وجوهر مصروفء سمى المتقدم أول. لأن ما بعده يئول إليه؛ ويينى عليه؛ فهى أساس لما بعده وقاعدة له.

57- ونرى من هذا أن تفسير كلمة التأؤيل يمعنى المال والعاقبة يؤيده استعمال

وقد ننتهى من هذا إلى أن بعض السلف كان يقف ولا يفسر؛ وقراءة الوقوف عند لقظ الجلالة تتفق مع ذلك تمام الاتفاق؛ سواء أكان المراد مق كلمة التويل التفسير أو المآلء ويعض السلف يفسر ولا يتوقفء وهو يسير مستقيما على قراءة الوقوف على آخر والراسخون؛ وأما على قراءة الوقوف عند لفظ الجلالة, فتفسر كلمة التأؤيل بمعنى الماله وهى الذى يتقق مع استعمال القرآن فى أكثر المواضع.

وقد نسجل هنا أن السلف الصالح كان يتوققء أو ليس السلف مجمعين على التفسير لآيات الصفات وأحاديث الصفات؛ أو أن منهم من أخذ بالظاهر فى نظر ابن تيمية.

رأى المتكلمين فى التأويل: 4- ويجدر بنا فى هذا المقام أن نذكر رأى غير ابن تيمية فى المتشابه من القرآن وتذكر هنا رأى المتكلمين الذين شن عليهم ابن تيمية الغارة؛ ثم رأى الغزالى, لقد علمنا رأى السلف؛ وهى الأخذ بالظاهر كما يقول ابن تيمية» ويجوز أن بعضهم كان يسلك ذلك المسلكء أو التوقف كما يرى غير ابن تيمية كاين الجوزى وغيره من العلماء بالآثارء وكذلك يقول علماء الكلام أن ذلك مسلك السلف؛ وأما الخلف من المتكلمين, فيتأولون, فيرون أن الآيات المتشابهة الخاصة بالصفات تؤول بما يتفق مع التنزيه. فيؤولون

سس و/ اليل 9 . "١‏

اليد بالنعمة أو بالقوة والنزول بنزول النعمة أو الأمر على حسب المقام؛ والاستواء بمعنى الاستيلاء إلى آخره.

وأقد ذهب يعض العلماء إلى رأى بين الخلف والسلفء ففرق بين النص المتشابه الذئ إذا صرف عن ظاهره يتعين فيه معنى واحد على طريق المجازء وبين ما يحتمل أكثر من معنى واحد هن ا معانى المجازية؛ فأوجب تأويل الأول دون الثاني: ولا شك أن التأويل واضح فى القسم الأولء بل يكاد يكون هى المتبادر؛ إن تعين المعنى المجازىء وأما الثانى فإنه إن لم يترجح أحدهاء فإنه لا مس للتأويل,

وأقد قال سعد الدين التفتازانى موجهاً مسلك الخلف فى شرح المقاصد ها نصه:

«ومنها ما ورد به ظاهر الشرعء وامتنع حملها على معانيها الحقيقية مثل الاستواء فى قوله تعالى: «الرحمن على العرش استوى» واليد فى قوله تعالى: «يد الله فوق أيديهم» والعين فى قوله تعالى: «ولتصنع على عينى» و «تجرى بأعيننا» فعن الشيخ أن كلا منها صفة زائدة: وعلى الجمهور وهوأحد قولى الشيخ أنها مجازات, فالاستواء مجاز عن الاستيلاء: وتصوير لعظمة الله تعالى: واليد مجاز عن القدرة. والوجه عن الوجود» والعين عن اليصر.. ومعنى تجرى بأعيننا أنها تجرى بالمكان المحوط بالكلاءة والعناية والحفظ والرعاية, يقال فلان بمرأى هن ا ملك ومسمع إذا كان بحيث تحوطه عنايته؛ وتكتنفه رعايته... وفى كلام المحققين من علماء البيان:أن قولنا الاستواء مجاز عن الاستيلاء؛ واليد واليمين عن القدرة والعين عن البصر ونحو ذلك إنما هى لنفى وهم التشبيه والتجسيم بسرعة» وإلا فهى تمثيلات وتصويرات للمعانى العقلية بإبرازها فى الصورة الحسية:؛ وقديينا ذلك فى شرح التلخيص».

56- وهنا نجد التفتازانى يقرر أن تفسير اليد بالقدرة. وما تدل عليه عيارات بأعينتا تمثيل للمعانى المقولة بنظيرها المحسوسء فيخرجها تخريجاً بيانياً محكماً؛ وبهذا تراه يخرج اللفظ تخريجا ظاهريا بيانيا؛ واكنه يؤدى مؤدى نظر الخلف التأويلى؛ وتكون المسألة فهما لأساليب البيان» ولا اشتباه أي ما يشبه الاشتياه.

ولا شك أن ذلك التخريج اللفظى الحسن إنما يتأتى فى هذه العبارات الدالة على معان غير احتمالية فى مجازهاء أى أن المجاز لا يدتمل إلا معنى واحدا؛ أما المعانى التى تكثر الاحتمالات فيها ولا يترجح واحدء ولا مرجح كأوائل السورء فإن التوقف والتفويض فيها متعين» وليس لأحد أن يدعى أنه وجد فيها تفسيراً واحداً قاطعاً لاحتمال غيره. 2"

رأى الفزالى فى التأويل:

5- وإن هذا المعنى الذى قرره سعد الدين التفتازانى هو الذى قرره الفزالى من قبل. فهى يرى كابن تيمية أن السلف أو أكثرهم فسروا بعض التفسير ولم يتوقفوا توقفاً مطلقاً بالنسبة لآيات الصفات. وأنهم فسروا الآيات على مقتضى الظاهر فيما يتعلق بأيات الاستواء واليد والعين والوجه ونحى ذلك, واكنه لا يرى أن الظاهر هو كون الله تعالى استوى على عرشه استواء من غير كيف معلومء أو استواء يليق به أو نحى ذلكء بل إنه رضى الله عنه رأى أن الظاهر هى المعنى المجازى الذى تصور فيه المعاني؛ وأن المجازى واضح؛ حتى انه لا يعد تأويلا على أى معنى كان التأويل, وأنه أخذ بالظاهرء ولا يعد المجاز الواضح المبين تثويلا بحال من الأحوال؛ لأن التأويل حتى على أصطلاح الفقهاء؛ هو تخريج اللفظ على غير ظاهر معناه بسبب أوجب ذلك وتفسير الألفاظ على ذلك ليس فيه تخريج الألفاظ على ظاهر معناها؛ بل إن ذلك هو الظاهر منها.

وأقد وضح ذلك المعنى الحكيم توضيحاً بين فى كتابه إلجام العوام على علم الكلام؛ فقد قال رضى الله عنه فى حقيقة مذهب السلف: «حقيقة مذهب السلف وهى الحق عندناء أن كل من بلغه حديث من هذه الأحاديث من عوام الخلق يجب عليه سبعه أهور:

التقديس, ثم التصديقء ثم الاعتراف بالعجز, ثم السكوت: ثم الإمساكء ثم الكفء ثم التسليملأهله.

فآما التقديسء فأعنى يه ننزيه الرب تعالى عن الجسمية, وتوابعها.

وأما التصديق: فهو الإيمان بما قاله عله وأن ما ذكره حقء وهى فيما قاله صادق» وأنه حق على الوجه الذى قاله وأراده.

وأها الاعتراف بالعجز: فهى أن يقر بأن معرفة مراده ليست على قدر طاقته, وأن ذلك " ليس من شأنه وحرفته.

وأما السكوت: فالا يسال عن معناه ولا يخوض فيه ويعلم أن سؤاله عنه بدعة؛ وأنه في خوضه فيه مخاطر بدينه؛ وأنه يوشك أن يكفر لى خاض.

وأما الإمساك: فالا يتصرف فى تلك الألفاظ بالتصريف والتبديل بلغة أخرى والزيادة فيه والنقصان منه؛ والجمع والتفريق, بل لا ينطق إلا يذلك اللفظء وعلى ذلك الوجه من الإيراد والإعرابوالتصريفوالصيغة.

5

وأما الكف: فأن يكف ياطنه عن البحث عنه والتفكير فيه.

وأما التسليم لأهله: فالا يعتقد أن ذلك إن خفى عليه لعجزه «فقد خفى على رسول الله مله أو على الأنبياء أى على الصديقين والأولياء. فهذه سبع وظائف اعتقد كاقة السلف وجوبها على كل العوام؛ لا ينبغى أن يظن بالسلف الخلاف فى شئ منهاء!!.

ثم يقصل القول فى التقديس عند السلف الصائح رضى الله عنهم فيقول: التقديس معناه أنه إذا سمع اليد والأصبع: وقوله مَله: «إن الله خمر آدم بيده» وأن قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن» فينبغى أن يعلم أن اليد تطلق لمعنيين.

أحدهما: هى الوضع الأصلى؛ وفى عضو مركب من لحم وعظم وعصبء واللحم والعظم جسم مخصوص وصفات مخصوصة: وأعنى بالجسم عبارة عن مقدار له طول وعرض وعمق يمنع غيره من أن يوجد بحيث هو إلا بأن يتنحي عن ذلك المكان وقد يستعار هذا اللفظ أعنى اليد لمعنى آخر ليس ذلك المعنى بجسم أصلاء كما يقال البلدة فى يد الأمير, فإن ذلك مفهوم, وإن كان الأمير مقطوع اليد مثلا فعلى العامى وير العامى أن يتحقق قطعاً ويقيناً أن الرسول لم يرد بذلك جسما هو عضى مركب من لهم ودم وعظم: وإن ذلك فى حق الله تعالى محالء وهى عنه مقدسء فإن خطر بباله أن الله جسم مركب من أعضاء قفهى عايد صنمء فإن كل جسم مخلوق؛ وعبادة المخلوق كفرء وعبادة الصنم كانت كفراً لأنه مخلوق. فمن عبد جسما فهى كاقر بإجماع الأئمةء السلف منهم والخلف.... ومن نفى الجسمية عنه وعن يده وأصبعه فقد نفى العضوية واللحم والعصبء وقدس الرب جل جلاله عما يوجب الحدوث ليعتقد بعده أن معنى من المعانى ليس بجسم ولا عرض فى جسم. يليق ذلك المعنى بالله تعالى: فإن كان لايدرى ذلك ولا يفهم كنه حقيقته فليس عليه فى ذلك تكليف أصلاء لمعرفته تأويله. ومعناه ليس بواجب عليه بل واجب عليه ألا يخوض كما سياأتى.

«مثال آخر إذا سمع الصورة فى قوله عليه الصلاة والسلام «إن الله خلق آدم على صورتههوقوله «إنى رأيت ربى فى أحسن صورة» فينبغى أن يعلم أن الصورة اسم مشترك قد يطلق ويراد به الهيئة الحاصلة فى أجسام مؤافة» مرتبة ترتيباً مخصوصاً مثل الأنف والعين والفم والخدء وهى أجسام؛ وهى لحوم؛ وعظام؛ وقد يطلق ويراد به ما ليس بجسم ولا

)١(‏ الجام العوام ص؟. ع"

هيتة فى جسم ولا هى ترتيب فى أجسام كقولك عرف صورته وما يجرى مجراه. فليتحقق كل مؤمن أن الصورة فى حق الله لم تطلق لإرادة المعنى الأول الذى هى جسم لحمى وعظمى مركب من أنف وفم وخدء فإن جميع ذلك أجسام, وخالق الأجسام والهيئات كلها منزه عن مشابهتها أو صفاتهاء وإذا علم هذا يقينا فهو مؤمن؛ فإن خطر له أنه إن لم يرد هذا المعنى فما الذى أراده؟ فينبغى أن يعلم أن ذلك لم يؤمر به. بل أمر بألا يخوض فيه فإنه ليس على قدر طاقته, لكن ينبغى أن يعتقد أنه أريد به معنى يليق بجلاله وعظمته مما ليس بجسم ولا عرض فى جسم

إمثال آخر إذا قرع مسمعه النزول فى قوله عَللّهُ: «ينزل الله تعالى فى كل ليلة إلى السماء الدنيا» فالواجب عليه أن يعلم أن النزول اسم مشترك قد يطلق إطلاقا يفتقر إلى ثلاثة أجسام: جسم عال هو مكان لساكئه. وجسم سافل؛ وجسم متنقل من السافل إلى العالى» ومن العالى إلى السافلء فإن كان من أسفل إلى على سمى صعوداً وعروجا ورقياء وإن كان من على إلى أسفل سمى نزولا وهبوطاً» وقد يطلق على معنى آخرء ولا يفتقر إلى تقدير انتقال وحركة فى جسم. كما قال تعالى: «وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج»!') وما رؤى البعير والبقر نازلا من السماء بالانتقال. بل هى مخلوقة فى الأرحام؛ ولإنزالها معنى لا محالة, كما قال الشافعى رضى الله عنه: دخلت مصر فلم يفهموا كلامىء فنزات: ثم نزلت, ثم نزلتء فلم يرد انتقال جسهده إلى أسفلء فتحقق المؤمن قطعاً أن النزول فى حق الله تعالى ليس با معنى الأولء وهى انتقال شخص وجسد من على إلى أسفلء فإن الشخص والجسد أجسامء والرب جل جلاله ليس بجسم. فإن خطر له أنه لم يرد هذا قما الذى أراده؟ فيقال له:فاتت إذا عجزت عن فهم نزول البعير من السماء فأنت عن فهم نزول الله تعالى أعجنء فليس هذا بعشك فادرجى. واشتفل يعيادتك أو حرفتك واسكت,. واعلم أنه أريد به معنى من المعانى التى يجوز أن تراد بالنزول فى لفغة العربء يليق ذلك المعنى بجلال الله تعالى وعظمته؛ وإن كنت لاتعلم حقيقته وكيفيته».

«مثال آخر إذا سمع لفظ الفوق فى قوله تعالى: «وهى القاهر فوق عباده»!') وفى قوله تعالى: «يخافون ربهم من فوقهم»(') فليعلم أن الفوق اسم مشترك ل معنيين:

أحدهما: نسبة جسم إلى جسم بأن يكون أحدهما أعلىء والآخر أسفلء يعنى أن

ه٠ الزمر: 5 (؟) الأتعام: 14 ' (؟) النحل:‎ )١( 3

'الأعلى من جائب رأس الأسفلء وقد يطلق لفوقية الرتبة. ويهذا المعنى يقال الخليقة فوق السلطان, والسلطان فوق الوزيرء وكما يقال العلم فوق العلم, والأول يستدعى جسما ينسب إلى جسم. والثانى: .لايستدعيه؛ فليعتقد المؤمن أن الأول غير مراد؛ وأنه على الله تعالى محال فإنه من لوازم الأجسامء أو لوازم أعراض الأجسام. وإذا عرف نفى هذا المحال قلا عليه أن يعرف اذا أريدء فقس على ما ذكرناه ما لم نذكرم,(", ما بين الفزالى وابن تيمية:

91" - هذا كلام الغزالى رضى الله عنه قد نقلناه مع طوله؛ لأنه يوضح تلك المعانى السلفية توضيحا جليا دقيقاً؛ ويقرب بيانه حتى يكون دانيا من المدارك كلها يستوى فى ذلك العالم والجاهل؛ وترى منها أنه يقرر أن السلف فسروا) الآيات والأحاديث المتشابهة تفسيراً معنوياً وليس جسمياً . ولا عضوياًء وأنهم لم يفسروا الفوقية بالجهة أى ما فى معناهاء بل أشار إلى أن اليد ليست بالنسبة لله يداً أوعضواً؛ بل هى كما يقال وضع الأمير يده على المدينة؛ والصورة شكلا بل معنى؛ والنزول ليس هى إلا كقول الشافعى نزلت ثم نزلت... ويقول فى الفوقية أنها فوقيه الرتبة.

وقد يقال أن ذلك يتقارب مما قال ابن تيمية لأنه نهى العامى عن أن يبحث عن حقيقة النزولء وحقيقة الفوقية إلى آخره؛ وذلك بلا شك قد يتقارب من ابن تيمية فى منحادء ولذلك قال ابن تيمية أن الغزالى فى كتابه إلجام العوام عن علم الكلام قد رجع إلى منهاج السلف الصالح؛ وطرح المناهج الفلسقية. والمسالك الكلامية؛ وارتضى فكر السلف مشرعا ومتهاجا.

واكن الحق أن الغزالى يفترق فى فهم كلام السلف عن ابن تيمية؛ فابن تيمية يثبت يدا تليق بذات الله ونزولا يليق بذاته؛ وعلواً وفوقية من غير أن يكون فى ذلك مماثلة للحوادث: ويقرر أن ذلك تفسير السلف وفهمه. ولا يتصرف اين تيمية أى تصرف وراء ذلك» ويفرض ذلك على العامى وغير العامى؛ والعالم والجاهل» أما الغزالى فإئه يقرب المعانى» فيقرر أن السلف فهموا من اليد ما يفهمه العربى من وضع الأمير يده على المدينة ولو كان

.٠.".0 إلجام العوام عن علم الكلام ص‎ )١( لحن‎

مقطوع اليد؛ وأن النزول كقول الشافعى نزلت ثم نزلت فى تقريب المعانى؛ وأن الفوقية كفوقية الرتية,

ثم فرض أن ذلك الفهم يكفى العامى فقط؛ وأنه لا يطيق إلا ذلك.

وفى الجملة هما يفترقان فى نظرنا فى وجوه ثلاثة:

أولها: أن الفزالى يتعرض للكلام فى الجوهر والعرض وينفى عن الله الجسم والعرضء وكل ما هو من خواص الأجسام فى نظره؛ أما ابن تيمية فلا يرى التعرض للكلام فى الجراهر والأعراضء بل إنه يرى أن خوض المتكلمين فى ذلك لا يخلى من بطلان: ويثبت

ثانيها: أن الغزالى يقرر أن السلف فهموا من هذه الألفاظ أموراً معنوية؛ ولم يفهموها يداً ليست كأيدينا ولم يفهموا العلو صعوداً» ولا النزول هبوطاً؛ وذلك فارق جوهرى. كما هى مقهوم كلامه, قد يسوغ له أن يفكر وأن يتعمقء وهو يسير على منهاجه من أن العامى يطلب من الأدلة أقربها إلى الفهم؛ ويعتمد على أدلة القرأن والسنة فى فهم العقائد ولا يتجاوزهاء ويقول فى ذلك رضى الله عنه: وإلى ما هى جلى سايق إلى الأفهام ببادى الرأى من أول النظر مما يدركه كافة الناس بسهولة, فهذا لاحظ فيه وما يفتقر إلى التدقيق» فليس على حد وسعة:!.

ويعتبر أدلة القرآن كافية للعامى وغير العامى؛ لأنها غذاؤه الروحى؛ ويقول فى ذلك:

«أدلة القرآن مثل الغذاء ينتفع به كل إنسان؛ وأدلة المتكلمين مثل الدواء ينتفع به بعض الناس: ويستضر به الأكثرون؛ بل أدلة القرآن كالماء ينتفع به الصبى الرضيع والرجل

)١(‏ إلجام العوام ص 58؟. 1"

القوى: ووسائر الأدلة كالأطعمة ينتفع يها الأقوياء مرة, ويمرضون بها أخرى: ولا ينتفع بها الصبيان أصلاء ولهذا قلنا آدلة القرآن أيضاً ينبغى أن يصغى إليها إصغاءه إلى كلام جلى, ولا يمارى فيه إلا مراء ظاهراً» ولا يكلف نفسه تدقيق الفكر وتحقيق النظر,

9 - بعد هذا العرض للأنظار المختلفة ننتهى إلى أننا لا نميل إلى طريقة ابن تيمية فى فهم المتشابه لأنها تفضى بنا إلى توهم التشبيه والتجسيم؛ وخصوصاً بالنسبة للعامة. ونرتضى بلا ريب طريقة الغزالى فى تقريب الألفاظ ذلك التقريب الفكرى المستقيم.

ونرى أن تخريج كلام السلف على منهاج الغزالى أسلم؛ ولا نسئغ لأنفسنا أن نقول متهجمين على ابن تيمية أنه أحق وأصدق؛ ولكن تقول بلا ريب أنه أدق وأسلمء والله سيحانه وتعالى أعلم,

١‏ - خلق القراة ..- من المسائل المتصلة بالصفات والوحدانية مسالة خلق القرآن التى أثارها

الجهم ين صفوان والجعد بن درهم فى العصر الأموىء وقد قتل خالد بن عيد الله القسرى الجعد بن درهم لقوله هذا إذ كان والياً على الكرفة,

والأساس الذى بنى عليه الجهم والجعد قولهما أن القرآن مخلوق هى نقى صفة الكلام, وكل صفات ال معانى؛ فقالا أن القرآن مخلوق؛ وجاء المعتزلة فنفوا هذه الصفات؛ وقالوا هذه المقالة نفسهاء ولذلك كان ابن تيمية يقول عن نفاة الصفات جميعاً أنهم جهمية؛ لأنه يعتبر كل من ينقى الصفات مقلداً للجهم بن صفوان فى قوله. ولأن المعتزلة قالوا أن القرآن مخلوق والمأمون كان يعتقد اعتقادهم -قال مثل مقالهم. ودعا إلى هذا القول. واعتبر فى آخر حياته من يقول أن القرآن غير مخلوق ملحدا فى دين الله؛ لأنه يعدد القدماء !

وقد ابتدأ المأمون يإعلان ذلك الرأى فى سنة ؟١>7‏ من الهجرة النبوية الشريفة وعقد لذلك مجالس المناظرة: وأدلى فيها بحجته. وترك الناس أحرارا فى أول أمره؛ لأنه لم يعلن ' إلحاد هن يخالقه فى أول الأمرء ولذلك لم يرهق الناس فى عقائدهم: وأم يحملهم على فكرة لا يرونها؛ ولا يستسيغون الخوض فيها؛ ولكن فى السنة التى توفى فيهاء وهى سنة "١4‏ أخذ يدعى الناس إلى اعتناق هذه الفكرة بقوة السلطان: واعتبر من لم يقل هذا القول فاسد

14

الاعتقاد؛ وأمر بوضع السلاسل فى أعناق الفقهاء والمحدثين الذين لم يقولوا مقالته وأوصى من بعده من الخلقاء يتنفيذ ما بدأ به. وكان ذلك بوسوسسة وزيره أحمد بن أبى دؤاد المعتزلى, وأقد قام المعتصم والوائق من بعده بحق الوصسية؛ حتى جاء المتوكل فكشف الغمة وأزال البلاءء ومنع إرهاق الفقهاء والمحدثين.

؟ وكان أشد من استمسك واستعصم إمام أهل الأثر أحمد بن حنبل» نزل به الأذى فى عهد الخلفاء الثلاثة الممون والمعتصم والواثق: ولم ينقطع امتحانه إلا فى عهد المتوكل؛ فقد أبعد المعتزلة فرفعت المحنة.

ومن الحق علينا أن نعرف رأى الإمام أحمد فى هذه القضية. لأنه رأى ابن ثيمية؛ وهى الذى وجهه ودافع عنه. ولآن ابن تيمية يراه رأى السلف الصالح,

ورأى أحمد فى هذا المقام هو الذي سجله فى رسالته إلى المتوكل!') وهذه الرسالة تدل على أن الإمام أحمد لا يستحسن الخوض فى مثل هذا ولا يتعمق فيه ولا يرضاه؛ وإن خاض فيه يخوض كارهاء ليمنع الناس من أن يقتتوا بما يدعى إليه أهل الجدل فى الدين, وإذا ختم الرسالة يقوله: «لست بصاحب كلام ولا أرى الكلام فى شئ من هذا».

وتدل الرسالة أيضاً على أن الإهام أحمد رضى الله عنه يرى أن القرآن غير مخلوق, وهو ينطق بهذا تابعاً للسلف الصالح الذين قالوه, ولم يبتدعه /بتداعاء ولولا أنه حسب أن بعض التابعين قاله ما نطق به ويزكى هذا الرأى بأن القرآن كلام الله, وكلام الله غير خلق الله, وبأن القرآن أمرء والأمر غير الخلق, وبأن القرآن من علم الله سبحانه وتعالى: وعلم الله غير خلقه؛ وقد أخذ هذا كله من نصوص القرآنء ومن أحاديث النبى عله وأخبار الصحاية.

والأساس أن ما يصدر عن صفات الله تعالى وقدرته أيسمى خلقاً وتطلق عليه كلمة مخلوق أم لا يسمى خلقاً, ولا تطلق عليه كلمة مخلوق؟ فالسلفيون لا يسمونه مخلوقاً والمعتزلة والجهمية من قبلهم سموه مخلوقاً.

"١‏ - هذا رأى أحمد بن هنبل ونظرهء ويتبعه فى ذلك ويناء ره نقى الدين بن ثيمية: فهو يرى أن القرآن غير مخلوق؛ ويرى أن ذلك رأى السلف؛ وأن من يقول غير ذلك مبتدع؛ وهى بعد ذلك يوضح نظر أحمد يالدليل ويوجهه بالنقول. ويقربه إلى العقول.

)١(‏ واجع هذه الرسالة فى كتاب (ابن حتبل) للمؤلف ص 14 وما بعدها الثاشر دار الفكر العربى. 1

وأول ما يتجه ابن تيمية فى تقريب ذلك النظر نقسه أنه يقرر أن القرآن الذى يقرأ هو كلام الله تكلم به وأوحى به إلى نبيه الكريم: والقراءة التى هى صوت القارئ الذى يسمعء هى على ذلك غير القرآن: فهى نطق العبدء أما القرآن فكلام الله. وأذلك قال تعالى «وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله. ثم أبلغه مأمنه»(١)‏ وقال النبى عَلّه: «زينوا القرآن بأصواتكم». وقد سمع النبى مله أبا موسى الأشعرىء وهو يقرأ القرآن فقال له أبو موسرولو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا».

وإذا كانت القراءة صوت العبد فهى مخلوقة كما أن العبد مخلوقء ومثل القراءة المداد الذى تكتب به المصاحف فهو ليس كلام الله سبحانه وتعالى؛ وإن كان المكتوب كلامه سبحانه. واقد قال تعالى: «قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربى لنفد البحر قبل أن.تنقد كلمات ريى» وأوجئنا بمظه مدداً». ففرق سبحانه وتعالى بين المداد الذى تكتب به كلماته: وبين كلماته(١).‏

بعد هذا يتجه ابن تيمية إلى توضيح فكرة الإمام أحمد والسلف رضى الله عنهم القائمة على أن الله سسبحانه قد تكلم بالقرآن»وأنه غير مخلوق فيقول: «السلف قالوا: لم يزل الله متكلما إذا شاء بالعربية كما تكلم بالقرآن العربى: وما تكلم به فهو قائم به ليس مخلوقاً منفصلا عنه؛ فلا تكون الحروف التى هى مبانى أسماء الله الحسنى وكتبه المنزلة مخلوقة؛ لأن الله تكلم بهاء!").

5٠"‏ - وإن أقصى ما هوجم به رأى الإمام أحمد هو أن القرآن غير مخلوق؛ إذ أنه لوقيل هذا لكان مؤدى ذلك أن يكون القرآن قديماً» وجينئذ يتعدد القدماء ولا تتحقق الوحدانية التى توجب ألا يكون قديم غير ذات الله سبحانه وتعالى, ولذلك كانت المساجلة التى ‏ ' قامت بين المعتزلة وغيرهم تقوم على أساس أن ال معتزلة يستمسكون بمذع تعدد القدماءء ولو قيل أن القرآن غير مخلوق لتعدد القدماء.

ولقد رد ابن تيمية الأساس الذى بنى عليه الاعتراض فأتاه من قواعده؛ قبين أن القرآن إن كان غير مخلوق فليس معناه أنه قديم: ويقرر أن الإمام أحمد لم يقل أن القرآن قديم بل لم يتجاوز أنه قال: إنه غير مخلوق» ولاتلازم بين كونه غير مخلوق؛ وكونه قديماء فلا يلزم من أن يكون غير مخلوق أن يكون قديماء لأنه لايعتبر كل ما يقوم بالذات العلية يكون 12100000 (1) الكيف: ٠١5‏ (؟) مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية ج ؟ ص 5١‏ 7" طيع المنار.

(4) الكتاب المذكور ص 140. ' 0

قديما بقدمها؛ إذ كل ها ينسب إلى الذات العلية من أفعال وأحداث يصدر عنهاء ويعتبره ابن تيمية قائماً وقت حدوثه والأحداث حادثة يحدوث موضعهاء فالله خالق والمخلوق حادث؛ وذات الخلق والإيجاد حادث يحدوث موضوعه. والخلق والإيجاد لا يقال إنهما مخلوقان. ولا يقال إنهما قديمانء وإن الفلاسفة هم الذين أوجدوا التلازم بين القدم وكونه غير مخلوق؛ وقد ساقتهم إلى ذلك فروض عقلية لاتلزم السلف, إن هى ظنيات تتضافر فتكون نتائج ظنية.

ويقول ابن تيمية فى هذا المقام: «والسلف اتفقوا على أن كلام الله متزل غير مخلوق... فظن بعض الناس أن مرادهم أنه قديم العين: ثم قالت طائفة هى معنى وأحد؛ وهو الأمر بكل مأمور, والنهى عن كل منهى؛ والخبر بكل مخير, والله سبحانه وتعالى إن عبر عذه بالعربية كان قرأناً وإن عبر عنه بالعيرانية كان توراة» وإن عبر عنه بالسريائية كان إنجيلا وهذا القول مخالف للشرع والعقل»!!),

ولقد قال رضى الله عنه أيضاً: «وحينئذ فكلامه قديم مع أنه يتكلم بمشيئته وقدرته, وإن قيل إنه ينادى ويتكلم بصوت لا يلزم من ذلك قدم صوت معينه وإذا كان قد تكلم بالقرآن» والتوراة والإتجيل لم يمتنع أن يتكلم بالياء قبل السين...»(),

ومعنى هذا أن صفة الكلام قديمة بقدم الذات, لكن التكلم ذاته ليس بقديم: وعلى ذلا؛ فالقرآن ليس بقديم كما أنه ليس بمخلوق.

4 - ويستخلص من هذا أن ابن تيمية يقول: القرآن غير مخلوق ولا يقول إنه قديمء بل هى حادث بحدوث التكلم من الله سبحانه وتعالى بمشيئته وإرادته عندها يتكلم: وأنزل على النبى مللَهُ كلامه بالروح الأمين جبريل.

وإذا كان الأمر كما خرج ابن تيمية قول الإمام أحمد عليه؛ فالحقائق لم تكن موضع خلاف بين السلف والمعتزلة بالنسبة للقرآن» فكلاهما قال إنه ليس بقديم: إنما الخلاف فى أن يقال عنه مخلوق أولا يقال ولذلك قال الأستاذ الشيخ محمد عبده فى هذا المقام:

«قد ورد أن الله كلم بعض أنبيائه. ونطق القرآن بأنه كلام الله؛ فمصدر الكلام )١(‏ الكتاب المذكور ص١١‏ . )١(‏ الكتاب المذكور من"١٠,‏

اه"

المسموع عنه سبحانه لابد أن يكون شأنا من شئونه قديما بقدمه, أما الكلام المسموع نقسه المعبر عن ذلك الوصف القديم فلا خلاف فى حدوثه. ولا أنه خلق من خلق»؛ ومخصص بالإسناد لاختياره له سيحانه فى الدلالة على ما أراد إبلاغه لخلقه, ولأنه صادر عن محض قدرته ظاهرا وباطناء بحيث لامدخل لوجود آخر فيه بوجه من الوجوه. سوى أنه ما جاء على لسانه مظهر لصدوره؛ والقول بخلاف ذلك مصادرة للبداهة: وتجرئ على مقام القدم بنسبة التغير والتبدل إليه فإن الآيات التى يقرؤها القارئ تحدثء وتفنى بالبداهة كلما تليت» والقائل يقدم القرآن المقروء أشنع حالا وأضل اعتقاداً من كل ملة جاء القرآن نقسه بتضليلهاء والدعوة إلى مخالفتهاء وليس القول بأآن الله أوجد القرآن بدون دخل لكسب بشر فى وجوده ها يمس شرف نسبته: بل هو ما دعا الدين إلى اعتقادهء فهو السنة وهو ما كان عليه النبى له وأصحابه وكل ما خالفه فهو بدعة وضلالة».

«وإن نقل إلينا من ذلك الذى فرق الأمة وأحدث فيها الأحداث وخصوصاً فى أوائل القرن الثالث من الهجرة وإباء بعض الأئمة أزرينطق يأن القوآن مخلوق, فقد كان منشؤه التحرج وا مبالغة فى التأذب من بعضهم وإلا فإنه يجل مقام مثل الإمام أبن حنيل عن أنه يعتقد أن القرأن المقروء قديم؛ وهى يتلوه كل ليلة بلسانه ويكيفه بصوته».

وهذا الجزء الأخير من كلام الأستان الإمام صحيع: فإن الإمام أحمد لم يقرر أن القراءة قديمة ولا غير مخلوقة, ولم يقرر قط أن القرآن قديم كما خرج الإمام ابن تيمية؛ إتما قرر أن القرآن غير مخلوق» وقد رج ابن تيمية رأيهِ على أنه لايعد ما كان صادراً عن الله قائما بذاته مخلوقاً له. وإن ادعاء أن أحمد قد ذكر أن القرآن قديم, فإئما أذيعت نسبته إليه فى القرن الرابع برواية مجهولة:» وقد أنكر ابن تيمية نسبة ذلك إلى الإمام: وأيده فى الإنكار

الذهبى المؤرخ فى تاريخه. وبذلك يتحرر رأى اين تيمية وأحمد معاً» فى كون القرآن غير مخلوق وأنه غير قديم. ؟ - وحدانية الخلق والتكوين

6 بينا فيما مضى رأى ابن تيمية فى وحداتية الذات العلية ورأيه فى صفات الله العلى الأعلى: وموازنته بأقوال العلماء. والحق الذى بدأً فى تلك الزويعة الفكرية؛ والعجاجة التى أثيرت فى الماضىء ولا زال غبارها نراه فى الحاضر.

"0

والآن نتكلم عن الوحدانية فى الخلق» أى أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق كلهم لا شريك له فى ملكه؛ ولامنازع له فى سلطانه وهى التى أشار الله سبهانه وتعالى إليها فى قوله «لى كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفونء!) ولا إرادة لمخلوق تنازع إرادة الخالق؛ الكل منه سبحانه وتعالى ويعودون إليه. التوحيد وإرادة الإنسان:

5 - على هذا اتفق المسلمونء وهو من أصل التوحيد؛ وهن الأصول الإسلامية الأولى المعلومة من الدين بالضرورة؛ ولكن أثار الفلاسفة ومن لف لفهم؛ ومن ساروا وراءهم كلاماً طويلا نحو حرية الإرادة الإنسانية فيما يفعل الإنسان وقدرته فيما يقعل من خير وشر؛ حتى تتحقق المسئولية الإنسانية عما يعمل الإنسان من أعمال فى الدنياء ولنستأهل الثواب والعقاب فى الآخرة» وليتحقق العدل الآلهى الذى يجازى فيه العامل بعمله, إن خيراً فخير» وإن شراً فشر,

قد أثارها الذين يثيرون الأمور التى تكون فيها متاهات العقول؛ أثاروها بين المسلمين فى آخر عصر الصحابة؛ عند الكلام فى القضاء والقدرء وكون كل ما يعمله الإنسان فى سجل محفوظ قبل أن يعمله, وقد كتبه الله عليه؛ ولا مناص له مما كتبه الله! فقالوا: إذا كان كل شئ مكتوباً من طاعة ومعصية؛ فلم كان الأمر با مأمورات والنهى عن المنهيات: وكيف يكون الجزاء بالعقاب لمن ينفذ ما كتبه الله؛ إن كان قد كتبه شقياًء وكيف يثاب امرؤ على طاعته وقد كتبه ربه تقياً؛ فهى لايستطيع التخلص مما سجله ربه من خير وشر.

وقد سال على بن أبى طالب رضى الله عنه شيخ فى مرجعه من صفين عن القضاء والقدر وأعمال الإنسان معهماء وكيف يكون العبد طائعاً يستحق الثواب, أويكون عاصياً يستحق العقاب, والقدر قد ساقه إلى ما صنع خيراً كان أو شراً» وقد أجابه الإمام على رضى الله عنه بما يزيل الشبهة, ثم قال فى آخر إجابته: إن الله أمر تخييراً» ونهى تحذيراء وكلف تيسيراً» ولم يعص مغلوياء ولم يرسل الرسل إلى خلقه عبثاء ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلا «ذلك ظلن الذين كنرواء فويل للذين كفروا من النار»(". () المناقشة كلها فى شرح نهج البلاغة لاين أبى الحديد: وفى تاريخ الجدل للمؤلف ص ٠١١‏ - الناشر دا الفكر العريى. الآية صس:

الك

"٠‏ - ولا اتسسع نطاق الدراسات الفلسفية والعقلية بين المسلمين وقامت الفرق الإسلامية: وجد من بينهم قى العصر الأموى من قرر أن الإنسان مجبور فى أفعاله وأقواله, وعلى رأس هذا الفريق الجهم بن صفوان.ء فقد نقى هو ومن اتبعه عن الإنسان الاختيار نقيا مطلقاء وقد بينا ذلك عند الكلام فى الجهمية فارجع إليه

وكان بجوار هؤلاء من قرر أن الإنسان له إرادة مطلقة؛ واختيار مطلق قيما يقعل حتى يتحقق العدل الإلهى فى العقاب والثواب» وتتحقق المسئوليات فى الدنيا والتيعات؛ وتتحقق معانىمالشرائع والتكليقات: وقالوا إن ذلك بقوة مودعة نفس الإنسان خلقها الله سبحانه وتعالى فيه. على رأس هؤلاء غيلان الدمشقى؛ ونهج منهجه المعتزلة؛ وقد عدوه فى طبقاتهم. وعلى أى حال ققد حمل لواء ذلك المذهب المعتزلة, وجعلوه عنصراً لازماً للأصل الرابع من أصولهمء وهو العدل من الله سبحانه وتعالى فى الثواب والعقاب.

وأقد جاء بعد ذلك الأشاعرة؛ فلم يرتضوا منهاج الفريقينء وسلكوا مسلكا وسطا بينهماء فقرروا كما قرر الجهمية أن الله مسبحانه وتعالى يخلق الأشياء. وكل شئ يخلقه سبحانه. ولكن الإنمثان يكتسب خاق الله تعالى ياختياره؛ فالفعل فعل الله. وا لاكتساب باختيار العبدء وبذلك الاكتسساب تكون التبعة, ويكون الثواب والعقاب.

ولكن هذا الاكتساب أهى بإرادة الله سبحاته وتعالى أم يغير إرادته. فإن كان بإرادته ولايمكن إلا أن يكون كذلك, فقد دخل الجبر من هذه الزاوية: ولذلك يعد ابن حزم الأشعرى من الجيرية(!),

تقنيد أين ثيمية لرأى الجبرية:

4- جاء أبن تيمية بعد هؤلاء قدرس هذه الفرق كلهاء ومحص أقوالها» ويظهر بادئ الرأى من أقواله أنه لايراها جميعاً قد أصصابت الحق فى القضية, ويناصر ما عليه السلف كشاأنه؛ وهى الإيمان بالقضاء والقدر, وأن الله لايقع فى ملكه مالا يريده؛ وأن العبد مختار, وأنه مسئول عما يفعل من خير وشرء والآثار عن الصحابة والتابعين قد وردت يذلك, فحق على المؤمن الإيمان. وليس له حكم وراء ء حكم الديان وإن كل امرئ؛ يحس بالمسئولية +الاختيار» وكقى بذلك دليلا ويرهاناً. ولاحجة وراء ذلك.

(1) الفصل فى الملل والتحل ج ”ص ؟1. 0"

ويخوض ابن تيمية فى ا موضوع خوض العارف للأقوال المختلفة فى الموضوع قولا قولا.

ويذكر مذهب الجبريةء قيفنده تفنيد الخبير العارفء ويقول فى ذلك ؛ «هؤلاء قوم من العلماء والعباد وآهل الكلام والتصوف أثبتوا القدر وآمنوا بأن الله رب كل شئ ومليكه؛ وأن ها شاء كانء وما لم يشا لم يكن؛ وأنه خالق كل شى» وهذا حسن وصوابء ولكنهم قصروا فى الأمر والنهى والوعد والوميدء وأفرطوا حتى غلا بهم إلى الإلحاد. فصاروا من جنس المشركين الذين قالوا: «لوشاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولاحرمنا من شئ»()... فإن هؤلاء المشركين كانوا مقرين بأن الله خالق السموات والأرض وخالقهم, وبيده ملكوت كل شى”» وكانوا مقرين بالقدر فإن العرب كانوا يثبتون القدر فى الجاهلية, وهو معروف عندهم فى النظم والتثر»!"),

ويذكر الذين قالوا أن العبد يخلق أفشعال نقسه بما أودعه من قوى هو خالقهاء ويسمون القدرية, ومنهم المعتزلةء فيقول فيهم: «القدرية متفقون على أن العبد هو المحدث للمعصية؛ كما هو المحدث للطاعة؛ والله عندهم ها أحدث هذا ولا هذا يل أمر بهذا ونهى عن هذاء وليس عتدهم لله نعمة أتعمها على عباده المؤمنين فى الدين إلا وقد أثعم بمثلها على الكفارء فعندهم أن على بن أبى طالب وأبا لهب مستويان فى نعمة الله الدينية؛ إذ كل منهما أرسل إليه الرسول وأجبر على الفعل بالأمر. وأزيحت علته. ولكن هذا فعل الإيمان بنفسه من غير أن يخصه بنعمة آمن لأجلهاء وعندهم أن الله حبب الإيمان إلى الكفار كابى لهب وأمثاله, كما حببه إلى المؤمنين كعلى رضى الله عنه وأمثاله. وزينه فى قلوب الطائفتين سواءء ولكن هؤلاء كرهوا ما كرهه الله بغير نعمة خصهم بهاء وهؤلاء لم يكرهوا ما كرهه لهم».

ولقد رماهم مخالفوهم بأنهم قدرية لينطبق عليهم الأثر: «القدرية مجوس هذه الأمة» وذلك لأن المجوس قالوا إن العالم فيه قوتان: قوة للخيرء وأخرى للشرء ويقولون إن قوة الخير هى إله الخيرء وقوة الشر إله الشرء فادعوا أن القدرية قالوا ذلك إذ حكموا بأن المعصية من العبد لا من الله فيرد ابن تيمية ذلك» وينفى عن القدرية ذلك القول ويقول: «ومن نقل عنهم أن الطاعة من الله, والممصية من العبد فهى جاهل بمذهبهم: فلم يقله أحد من علماء القدرية

(1) الأتعام: ١44‏ (1) الرسائل والمسائل ج 6 ص ,١718‏

ولايمكن أن يقولهء فإن أصل قولهم أن فعل العبد للطاعة كفعله للمعصية: كلتاهما فعله بقدرة تحصل له من غير أن يخصه بإرادة خلقها فيه مختص بأحدهما. ولا قدرة جعلها فيه تختص بأحدهمالا').

رأيه فى الأشاعرة:

- ويعتبر الأشاعرة من المائلين إلى الجبر؛ بل يعتبر قولهم من الجيرء ويرى أن قولهم الأفعال مخلوقات لله تعالى والكسب للعبد لا ينفى الجبر؛ ويقول فى ذلك: وقالوا إن قدرة العبعلا تأثير لها فى حدوث مقدورها؛ ولا فى صفة من صفاتهاء وأن الله أجرى العادة بخلق لمقدورها مقارنا لها فيكون الفعل خلقا من الله وإيداعاء وكسيا من العبد لوقوعه مقارنا لقدرته, وقالوا إن العبد ليس محدثاً لأقعاله. ولا موجداومع هذا فقد يقولون إنا لا نقول بالجبر المحضء بل نثبت للعبد قدرة حادثة. والجبرى المحض لا يثبت للعبد قدرة»,

«وأخنذوا يفرقون بين الكسب الذى أثيتوهء وبين الخلقء فنقالوا: الكسب عبارة عن اقتران بالقدرة الحادثة, والخلق هو المقدور بالقدرة القديمة, وقالوا أيضاً: الكسب هى الفعل يمحل القدرة عليه؛ والخلق هو الفمل الخارج عن محل القدرة عليه( ),

هذا مذهب الأشاعرة كما حكاه ابن تيمية:؛ وهى فى هذا يراهم جبرية أو مائلين للجبرية» ومذهبهم يؤدى إليهاء وقد صرح بذلك تلميذه اين القيم.

ويأخذ عليهم ابن تيمية تفريقهم بين الفعل والكسب؛ لأن الكسب إن كان مجرد اقثران لا تأثير له فهى لا يصلح مناطاً لتحمل المسئولية .

واستحقاق العقاب والثواب» وإن كان فعلا له تأثير وتوجيه وإيجاد وإحداث وصنع وعمل فهى مقدورء فإن قلت إنه لله فهو جبر؛ وإن قلت إنه للعبد فهى اعتزال. )١(‏ مجموعة الإرسائل والمسائل جد ه ص ١4١‏ طبع المنار,

لون

رأيه فى المعتزلة:

٠‏ - وإنه إذ يأخذ على الأشاعرة ذلك ويأخذ على الجبرية ما سبق؛ فهو يرى أن القدرية أو المعتزلة أقرب منهم وأحسن حالاء وإن لم يكن مذهبهم هو مذهب السلفء ويقول فى ذلك:

«هذا المقام؛ وأى مقامء زلت فيه أقدام وضلت فيه أفهام» وبدل دين المسلمين» والتبس فيه أهل التوحيد بعباد الأصنام على كثير ممن يدعون نهاية التوحيد والتحقيق والمعرفة والكلام. ومعلوم عند كل من يؤمن بالله ورسوله أن المعتزلة والشيعة والقدرية المثبتين للأمر والتهى والوعد والوعيد خير ممن يسوى بين المؤمن والكافر, والبر والقاجر, والنبى الصادق» والمتنبئ الكاذب وأوئياء الله وأعدائه الذين ذمهم السلف, يل هم أحق بالذم من المعتزلة كما قال الخلال فى كتاب السنة والرد على القدرية»!!),

بل إنه ليزيد فيرى أن كلمة القدرية التى ذكرت فى الأثر «القدرية مجوس هذه الأمة» يدخل فى عمومها الذين يحكمون بالجبرء ويستحسن فى ذلك كلام الخلال عنهم فيقول: «والمقصود هنا أن الخلال وغيره أدخلوا القائلين بالجبر فى مسمى القدرية: وإن كانوا لايحتجون بالقدر على المعاصى فكيف بمن يحتج به على المعاصىء ومعلوم أنه يدخل فى ذم من ذم الله من القدرية من يحتج به على إسقاط الأمر والنهى أعظم مما يدخل فيه المنكر له فإن ضلال هذا أعظم؛ وإذا قرنت القدرية بالمرجئة كلام غير واحد من السلفء!.

-١‏ وترى من هذه التقول أنه يرى أن أبعد الفرق عن الهداية بالنسبة للتوحيد والشريعة - الجبرية: وأن المعتزلة ليست موغلة فى الابتداع فى هذا مثلهم؛ وأن الجبرية أحرى أن يدخلوا فى عموم «القدرية مجوس هذه الأمة» ويعتمد على ما ذكره الخلال فى كتابه السنة والرد على القدرية.

ولعل الذى دفعه إلى ذلك ليس هو اميل لرأى المعتزلة, فإنه لا يرى رأيهم: إنما الذى دفعه ما كان يراه من حال بعض الصوفية الذين اعتنقوا ذلك الرأى؛ إذ أن الشريعة كما قامت على التوحيد فمقصدها إصلاح الجماعة بالأمر والنهى والتفرقة بين المحسن والمطيع؛

ل للل7ششسسسششست )١(‏ مجموعة الرسائل والمسائل ج ه ص ١١‏ (5) الكتاب المذكور ص ١١2‏ , /لأن؟

والعدالة فى الثواب والعقابء وإن مذهب الجبرية ومن مال إليه كالأشاعرة فى نظره يؤدى فى مبناه ومعناه ومغزاه إلى أن التكليف يكون عبثاً. فإذا كانوا قد بالفوا بقولهم هذا فى التوحيد, فقد هدموا به الأحكام الشرعية: وإذا كانوا قد حرصوا على تنزيه الواحد الأحد: فقد هدموا صفة العدلء وليست هذه هى السنة.

"١‏ - ومهما يكن من الأمر فهو يرى أن المذهبين فيهما ابتداع؛ وإن كان ابتداع دون ابتداع: لأن كلا المذهبين يتجه إلى التسوية بين الطائع والعاصى؛ أما الأول فقد سوى بينهما من حيث إن كليهما لا يعد مسئولا عما فعل؛ لأنه لا إرادة له قط؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الفاعل المغتار وحده؛ وأما الثانى وهى الاعتزال؛ فقد سوى بينهما من حيث إن كلا من الطائع والمذنب فعل ما فعل من غير أن يخص الله أحدهما بنعمة التوفيق فى إيمانه, ويحرم الثانى منها فى كفره؛ بل هما فى الأصل سواء. ثم كان التفاوت من بعد فى العمل, مع أن الله سبحانه وتعالى قال: «يضل من يشاء» ويهدى من يشاء»(١),‏

مذهب السلف فى نظرة:

"١7‏ - ولقد قرر أن مذهب السلف هو الإيمان بالقدر خيره وشرهء وشمول قدرة الله تعالى وإرادته؛ وأن الله سبحانه خلق العبدء وكل ما فيه من قوى. وأن العبد يفعل ما يشاء بقدرته ومشيئته, ويقول فى ذلك «ومما ينيغى أن يعلم أن مذهب سلف الأمة مع قولهم: الله خالق كل شئ وأنه خلق العبد هلوما إذا مسه الشر جزوعاء وإذا مسه الخير منوهاء وتنحى ذلك - أن العبد فاعل حقيقة وله مشيئة وقدرة؛ قال تعالى: هلمن شاء منكم أن يستقيمه وما تشاعون إلا أن يشاء الله رب العالمين»!(') وقال تعالى: «إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا + وما تشاءون إلا أن يشاء الل:(') وقال تعالى: «إن هذه تذكرة فمن شاء ذكره * وما يذكرون إلا أن يشاء الله هى أهل التقوى وأهل المغفرة»!!).

وهى بهذا يعمم إرادة الله ويثبت القدرة للإنسان؛ ولكن يقرر أن عموم الإرادة الإلهية والقدرة الكونية وشمولها لكل شئ ثابتة بالنصوص تضافرت عليهاء والقدرة الإنسانية ثابتة بالحس و الشعور؛ ولا سبيل لإنكار ما ثبت بالنص؛ ولا مجابهة الحس؛ وإن الناس بالحس والشعور يتحملون مسئوليات أعمالهم فى الدنيا؛ ولا يحتج بقدره وقضائه. وأن القدر لازم )١(‏ التحل: 8# 222222 ())التكوير:4؟4-5؟ (5) الإنسان: 5؟- (4) الرسائل والمسائل ص ١47‏ المدثر: -

4ه"

الله تعاليء بل عليه ألا يفعلهاء وإذا فعلها فعليه أن يتوب منهاء كما فعل آدم, ولهذا قال بعض الشيوخ اثنان أذنيا ذنباً, إبليس وآدم, فتدم تاب فتاب عليه الله والختاره وهداه, وإبليس أصر واحتج بالقدر؛ فمن تاب من ذنبه أشبه أباه آدم؛ ومن أصر راحتج بالقدر أشيه ابلس»(),

ويقول أيضاً رضى الله عنه: «من المستقر فى نظر الناس أن من فعل العدل قهو عادل. ومن قعل الظلم فهى ظالم: ومن فعل الكذب فهى كاذب. فإذا لم يكن العبد فاعلا لكذبه وظلمه وعدلهء بل الله فاعل ذلك لزم أن يكون الله المتصف بالكذب والظلمء!".

4 - استقر إذن رأى ابن تيمية على ثلاثة أمور:

أولها: أن الله سبحانه وتعالى خالق كل شىئ وأن وحدانية الخلق والتكوين كاملة: وأن لاشئئ: فى الكون بغير إرادته؛ وأنه لا ينازع إرادثه أحدء وهى فى هذا القدر يثتفق مع الجبرية,

ثانيها: أن العبد فاعل حقيقة, وله مشيئة وإرادة كاملة تجعله مسئولا عما يفعل وهو فى هذا القدر يتفق مع المعتزلة أى القدرية كما يعبر الأشاعرة,

ثانيها: أن العبد فاعل حقيقة: وله مشيئة وإرادة كاملة تجعله مسئولا قعل الشر ولا يحبه ولايرضاه. وه فى هذا يفترق عن ا معنتزلة فى نظره؛ وذلك النظر هو مصداق قوله تعالى: «يضل الله من يشاء ويهدى من يشاءء(؟) وقوله تعالى: «إنك لا تهدى من أحببت. ولكن الله يهدى من يشاء»!؛) وقد تكرر هذا المعنى فى أكثر من آية ؛ وهى من الحقائق ا مقررة فى القرآن التى تأكد معناها بتضافر الأخبار.

ولكن كيف يوفق بين تلك الحقائق؟ كيف يوفق بين سلطان الله الكامل على كل شئ وعموم إرادته. وبين كون الإنسان فاعلا مخثاراً؟ ثم كيف يوفق بين إرادة الله للمعاصى مع النهى عنها؟ وكيف يوفق بين عدله الكريم وجزائه للمحسن الذى وفق له السبيل إلى الخيرء -0 0 كسك )١(‏ منهاج السنة ج ١‏ ص 85؟. () الرسائل والمسائل ص 1417 .

(9) التحل: 47 (4) القصص: . ">"

وعقابه للمسئ الذى حرمه ذلك التوفيق؟ تلك هى المعضلة, وقد حاولابن تيمية أن يوفق» فقارب فى بعضها؛ وسدد فى بعضها.

6” - لقد قال ابن تيئية فى عموم قدرة الله سبحانه وخلقه لكل شى” وكون الإنسان قاعلا حقيقة لما وقع منه: «إن الله خائق الأشياء كلها بالأسباب التى خلقهاء والله خلق العيد بإرادة وقدرة يكون بها فعله. فإن العبد فاعل بقعله حقيقة: فقول أهل السنة فى خلق فعل العبد بإرادة وقدرة من الله كقرلهم فى خلق سائر الحوادث بأسبابهاء!"؟.

فأفعال العبد تسئد إلى الله من حيث إنه خالق سبيها وهى قدرة العبد ذاته» ويقرر اين تيمية فوق ذلك أن الله سبحانه وتعالى خلق المخلوقات كلها ومنها ما تعلقت أفعال العبيد يها, فكان من العبد التعلق بإرادته الخاصة التى فطرها الله فيه. فكان الفعل للعبد والمخلوق للرب؛ وعلى ذلك تنسب الأمور إلى الله وإلى العبد باعتبارين منقصلين؛ ويقول فى ذلك تقى الدين: «إن القائل إذا قال هذه التصرفات فعل الله وفعل العبدءإن أراد فعل الله بمعنى المصسدر فهذا باطل باتفاق المسلمين؛ وإن أراد بها أنها مفعولة مظلوقة لله كسائر المخلوقات فحق»(".

أى أن الأشياء التى ثعلقت بها إرادة العبد تكون مخلوقة لله من حيث نسبة كل شئ إليه بالفعل أو بالسيب. ومن ينكر ذلك فقد أتكر الأسباب؛ وإن أراد ذات التعلق فذلك باطل لأنه صفة للعبد.

وينبنى على هذا أن الله لا يوصف بأنه فاعل للمعاصى؛ بل الذى يوصف بها من تعلقت يه مريداً مختاراً يما خلقه الله فيه؛ لآن الله لايوصف بمخلوقاته؛ يل يوصف بها هن تعلقت به «فإذا كان الله قد خلق لون الإنسان لم يكن هو المتلون به. وإذا خلق رائحة منتنة أى طعماً مراً» أو صورة قبيحة, ونحو ذلك؛ لم يكن هو متصفا بهذه المخلوقات القبيحة

المذمومة»(),

1 - ونبين رأى أبن تيمية جلياً فى هذا المقام بما قرره تلميذه ووارث علمه ابن القيم رضى الله عنه, فقد قال: )١(‏ متهاج السنة ج ١‏ ص )١( 02.57١‏ مجموعة الرسائل والمسائلج ه ص ه4١.‏

(؟) مجموعة الرسائل والمسائل ج ه ص .١41‏ ا

الصواب في هذه المسالة أن يقال: «تقع الحركة بقدرة العبد وإرادته التى جعلها الله فيه فالله سبحانه وتعالى إذا أراد قعل امعبد خلق الله القدرة والداعى إلى فعله, ويضاف الفعل إلى قدرة العبد إضافة المسبب إلى سببه. ويضاف إلى قدرة الرب إضافة المخلوق إلى الخالق» فلا يمتنع وقوع مقدور بين قادرين؛ قدرة أحدهما أثر أقدرة الآخرء وهى جزء سبب! وقدرة القادر الآخر مستقلة بالتأثي, والتعبير عن هذا المعنى بمقدور بين قادرين تعبير فاسد وتلبيس» فإنه يوهم أنهما متكافئان فى القدرة كما نقول هذا الثوب بين رجلين» وهذه الدار بين الشريكين إنما المقدور واقع الحادثة وقوع المسبب بسببه؛ والسيب والمسيب والقاعل والآلة كله آثر القدرة القديمة ولا تعطل قدرة الرب سبحانه وتعالى عن شمولها وكمالها وتتاولها لكل شئ؛ وليس فى الوجود شئ مستفل بالتثثير مسوى مشيئة الرب سبحانه وقدرته, وكل ما سواه مخلوق له, وهو أثر قدرته ومشيئته؛ ومن أنكر ذلك لزمه إثبات خالق سوى الله سيحانه وتعالى: أو القول بموجود لا خالق له,لا),

"١١‏ - وإن رأى ابن ثيمية على هذا يكون قريباً من رأى المعتزلة: وبعيداً عن رأى الجهمية, واذا ذكر أن المعتزلة أقرب إلى الحق من الجبرية.

وأكن لا يلبث إلا قليلا حتى نجده يخالفهم, وذلك فى التوفيق بين إرادة الله للمعاصى والنهى عنها؛ ققد قال المعتزلة: إن الله لايريد المعاصى ولايختارها؛ لأن الله لا يريد شيئا وينهى عنه؛ وعلى ذلك تقع المعاصى من العبد ولايريدها الله؛ ولا يأمر بشئ إلا وهو يريده؛ ولذلك كانت الإرادة والأمر عندهم متلازمين.

أما ابن تيمية فيرى أن الله قد يأمر بالشئ ويقع ويكون بإرادته, وعلى ذلك يريد المعصية كما يريد الخير؛ وإنما الذى لا يتلاقى مع المعصية هى ا محبة والرضاء فإنه سبحانه لايحب المعاصىء ولا برشماهاء وعلى ذلك فإن المحبة أو الرضا يلازمان الأمرء أما الإرادة فهى لاثلازم الأمر.

وإن ذلك متناسق مع مذهبه؛ فإن كل ما ذكر فى القرأن يصف الله سبحانه وثعالى نفسه فهو وصف له. والله قد وصف نفسه بأنه يحب ويرضىء ويسخط ويغضب. فالمحبة )١(‏ راجع في هذا كتاب (شفاء الغليل فى مسائل القضناء والقدر والحكمة والتعليل) وكتاب (تاريخ الجدل)

للمؤلف ص ١54‏ . 51

وصف له سيحانه. وهى شئ غير الإرادة الكونية ويسمى المحبة الإرادة الدينية ويقول فى ذلك رضصى الله عنه:

«جمهور أهل السنة فن جميع الطوائف» وكثيرون من أصحاب الأشعرى يفرقون بين الإرادة والمحبة والرضاء فيقولون أنه وإن كان يريد المعاصى سبحانه لايحبها ولا يرضاها بل يبغضها ويسخطهاء وينهى عنهاء وهؤلاء يفرقون بين مشيئة الله وبين محبته, وهذا قول السلف قاطبة؛ وقد ذكر أبو المعالى الجوينى أن هذا قول القدماء من أهل السنة وأن الأشعرى خالفهم: فجعل الإرادة هى المحبة, فيقواون: ها شاء الله كان وما لم يشا لم يكن, فكل ما شاءه فقد خلقه. وأما المحبة فهى منفعلة من أمره, فما أمر به فهو يحبه»(! ,

4" - هذا رأى ابن تيمية فى التوفيق بين إرادة الله المعصية والنهى عنها؛ وعدم تلازم الأمر مع النهى؛ أما توقيقه بين عدل الله سبحانه. وبين هدايته للمهدى إن سار فى طريق الهداية؛ وتركه للجاحد هن غير هداية» فهى أنه لايرى من الظلم فى شئ أن يخص الله أحد عبيده يتوفيقه لطريق الخير وإعانته عليه إذا اخثار سلوكه؛ وتركه الجاحد المعاند فى غيه يعمّه ما دام كل منهما مختاراً مريداً لما يفعل وهو حر شاعر بالحرية التامة التى فطره الله سبحاته وتعالى عليهاء وهى بذلك يفترق عن المعتزلة أيضاً» ويقول فى ذلك:

«الله سبحانه وتعالى غنى عن العبادء إنما أمرهم بما ينقعهم, ونهاهم عما يضرهم: فهو محسن إلى عباده بالأمر لهم. محسن بإعانتهم على الطاعة؛ ولوقدر أن عالما صالحا أمر الناس بما يتفعهم. ثم أعان بعض الناس على فعل ما أمرهم به» ولم يعن آخرين لكان محسناً إلى هؤلاء إحساناً تاماً ولم يكن ظا ماً لمن لم يحسنء وإذا قدر أنه عاقب المذنب بالعقوبة التى يقتضيها عدله وحكمه لكان أيضاً محموداً على هذا وهذاء وأين هذا من حكمة أحكم الحاكمين؛ وأرحم الراحمينء وأمره لهم إرشاد وتعليم؛ فإن أعانهم على فعل المأمور كان قد أتم النعمة على المأمور, وهو مشكور على هذا وهذاء وإن لم يعنه وخذله حتى قعل الذنب» وكان له فى ذلك حكمة أخرىء وإن كانت مستفزمة تالم هذاء فإنما تالم بأفعاله الاختيارية التى من شأنها أن تورثه نعيما أو ألما وإن كان ذلك التوريث بقضاء الله وقدره فلا متافاة بين هذا وهذاء فجعله المختار مختاراً من كمال قدرته وحكمته؛ وترتيب آثار الاختيار عليه من تمام حكمته وقدرته».

,١6؟ ص 17؛ ومجموعة الرسائل والمسائل ج هدص‎ ١ منهاج السئة ج‎ )١( ذف‎

ونرى فى هذا إيمانا بالقضاء والقدر؛ وإقرارا؛ وتفويضا لحكمة الله العليم الحكيم؛ وهنا يثور موضوع جديدء هو تعليل أفعال الله. ونتصدى للموضوع بإيجاز. تعليل أفغال الله - إن الله سبحانه وتعالى خالق الكون: كل ما فيه كان بإرادته سبحانه لاسلطان لأحد معه؛ فهو الواحد الأحدءله الملك فى السماء والأرض؛ ولكن أعماله مقيدة بالمصلحة» أى

لايفعل الله إلا الصالح لآن الله متصف بكل كمال؛ والكامل لايعمل إلا الصالع؛ وهذا إلى أن للأشياء حسنا ذاتياء وقبحا ذاتيا؟

ذلك ما خاض فيه علماء الكلام؛ واختلفوا فيما بينهمء وأدلى ابن تيمية بدلوه فى الدلاءء وخاض العباب: لأنه سثل عن ذلك فأفتى: وهو لايجمجم إذا طلب منه القول» وقد طلب هنه.

لقد خاض ابن تيمية فى هذا الأمر خوض العارف الدارس لأقوال العلماء فيه وهى ينظر فى الأمر على ضوء أقوالهم؛ ثم يقدر فى الأمر ثلاثة تقديرات واكل تقدير منها طائفة من العلماء تعتنقه وتختاره وتراه الحق فى الأمر,

التقدير الأول: أن الله خلق المخلوقات وأمر بالمأمورات لا لعلة ولا لداع ولالباعث» بل فعل ذلك بمحض ال مشيئة وإرادثه سبحانه؛ وهذا قول أبى الحسن الأشعرى ومن تبعه. وقول نفاة القياس الظاهرية؛ وقول طوائف من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعى وأحمد؛ وذلك لآن الأشياء إذا كانت معللة بعلل كانت إرادة الله سبحانه وتعالى مقيدة: ولم يكن مريداً بارادة مطلقة؛ ولم يكن مختاراً اختياراً مطلقأ أء ثم هذه العلة المقيدة لإإرادة يجب أن تكون قديمة بقدمها؛ وإذا كانت العلة قديمة: وجب أن يكون المعلول وهى الفعل قديما أيضاً لأنه حيث وجدت العلة وجد المعلول.

التقدير الثانى: أن يكون الله سبحانه وتعالى فى خلقه وأمره ونهيه يفعل ذلك لعلة وغايةء وأن يفرضى أن هذه العلة وهذه الغاية قديمة, وهذ! قول المتفلسقة الذين تؤدى أقوالهم إلى الحكم بقدم اتعالم,

وإن عبارات ابن تيمية تفيد أنه.لم يقبل التقدير الثانى ويرد قائليه. وإشارات قوله تفيد أنه لا يرتضى القول الأول أيضاً؛ وإن لم يرد قائليه,

م

التقدير الثالث: وهى القول الثالث أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلقء وأمر بالمأمورات ونهى عن المنهيات لحكمة محمودة؛ ويقول فى هذا القول: «هذا قول أكثر الناس من المسلمين وغير المسلمين» وقول طوائف من أصحاب أبى حنيفة والشافعى ومالك وأحمد وغقيرهم؛ وقول طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والكرامية والمرجئة وغيرهم؛ وقول أكشر أهل التصوف والحديث وأهل التقفسيرء وأكثر قدماء الفلاسفة, وكثير من متأخريهم كأبى البركات وأمثاله»().

غير أن هذه الطوائف من أهل العلم قد اختلفت أنظارهم فى معنى الحكمة المحمودة التى كان من أجلها الأمر والنهى؛ فقال المعتزلة أتها الأشياء التى أمر بها أو نهى عنها؛ وقال غيرهم هى فى تقدير الله وإرادته وفعله, فما يقعله قهى الخير وهى الحكمة, وهى الحسنء وما يأمر به فهى الحسن, وما ينهى عنه فهى القبيح.

"٠‏ - ومن هنا يبتدئ الكلام فى الحسن العقلى والقبيح العقلى؛ وما يترتب على ذلك من وجوب الصالح أو عدم وجوبه. فالمعتزلة ومن معهم من الشيعة قالوا إن فى بعض الأشياء حسناً ذاتياً اقتضى الأمر بها؛ وفى بعض الأمور قبحاً ذاتياً اقتضى النهى عنها؛ فالله سبحانه وتعالى لا يأمر بالقبيع؛ ولا ينهى عن الحسن؛ وإن من كمال الله الخالق المدير الحكيم العالم ألا يأمر إلا بما هو حسنء وألا ينهى إلا عما هو قبيح؛ وأن الأمر بالحسن هى الصالح,: والأمر بالقبح غير لاثق بذاته تعالى؛ كما أن النهى عن الحسن غير لائق بذاته تعالى؛ ومن هنا جاء قولهم بوجوب الصالح والأصلح له سبهانةه؛ لأن ذلك هو الكمال الذى يليق به جلت قدرته.

ولقد قال الشهرستانى فى مذهبهم: «المعارف عندهم كلها معقولة بالعقل واجبة بنظر العقل, وشكر المنعم واجب قبل ورود السمع. والحسن والقبع صفتان ذاتيتان للحسن والقبع»7).

ولقد قال الجبائى: «كل معصية كان يجوز أن يأمر الله سبحانه وتعالى بها فهى قبيحة للنهى؛ وكل معصية ما كان يجوز أن يبيحها الله سبحانه فهى قبيحة لنفسها كالجهل

.؟1١؟ الملل والنحل وتاريخ الجدل ص‎ )١( .١١4 مجموعة الرسائل والمسائل ج ه ص‎ )١( نلف‎

به والاعتقاد بخلافه, وكذلك كل ما جاز إلا أن يأمر الله سبحانه به فهى حسن للأمر به, وكل ما لم يجن إلا أن يأمر به فهى حسن لنفسه»().

وقد انتهى جمهور ا معتزلة من ذلك النظر إلى القول بوجوب الصلاح والاصلح بالنسبة له سيحاته.

-0١‏ لم يرتض ابن تيمية ذلك النظر بلاشكء وإذلك قال فيهم: «أخذوا يقيسون ذلك على ما يحسن من العبد ويقبح؛ فجعلوا يوجبون على الله سبحاته ما يوجبون على العبدء ويحرمون عليه سيحانه من جنس ما يحرمون على العبد؛ ويسمون ذلك العدل والحكمة مع قصور عقلهم عن معرفة حكمته؛ فلا يثبتون له مشيئة عام ولا قدرة تامة؛ فلا يجعلونه «على كل شئ قدير» ولا يقولون: ما شاء الله كان. وما لم يشا لم يكن»!").

لايختار ابن تيمية ذلك النظرء ويسوق الآيات والأحاديث المبطلة له, ويختار النظر الثاني؛ وهى أن تكون أفعال الله وأوامره ونواهيه لحكمة يعلمها هو, وأنه ليس للعبد أن يقول يجب له شئ من أفعالء أى يتهجم فيقول ما يكون لازم معناه أنه واجب عليه.

فهو لاينفى الحكمة فى الأفعال الإلهية والأوامر والنواهى الدينية؛ بل يقرر أنها لحكمة يعلمها الذى خلق كل شئ فأتقن خلقه. ولايلزمها أن يعلمها كلها كل الناس أو بعضهم؛ وأنه يعلم كل الناس أو بعضهم من حكمته هأ يطلعهم عليه, وريما لايعلمون ذلك؛ ويجب الإيمان بأن الأمور العامة التى يفعلها تكون لحكمة عامة ورحمة عامة كبإرسال الرسل عامة؛ وإرسال محمد خاصة: كما قال تعالى «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»!؟),

وإذا قال قائل: قد تضرر برسالته طائفة من الناس كالذين كذبوه من المشركين. وقد أجاب عن ذلك ابن تيمية بأن النفع كان من بعض هذا الضررء فإن الله قد أضعف شرهم, وفى ذلك نفع, ثم يقول: «وإن ما حصل من الضرر لهم أمر مغمور فى جنب ما حصل من النقع» كالمطر الذى عم تفعه, إذا خرب به بعض البيوت, أو احتبس به بعض المسافرين والمكتسبين كالقصارين ونحوهم. وما كان نفعه عاما كان خيراً مقصوداً. رحمة محبوية» وإن تضرر به بعض الناس»9). )١(‏ مقالات الإسلاميين. )١('‏ مجموعة الرسائل والمسائلج ه ص .11١‏ (5) الأنبياء: ٠١17‏ (4) مجموعة الرسائل والمسائل ج ه ص "؟١,‏

516

7" - وننتهى من هذا إلى أن ابن تيمية يقرر ثلاثة أمور:

أولها: أن الله سبحانه خلق الخلق لحكمة يعلمهاء وليست هذه الحكمة علة الإنشاء مقيدة للإرادة الإلهية, بل إن الله سبحانه لايقيد إرادته شى”» ولكن لأن الله سبحانه وتعالى هنزه عن العبث كانت أفعاله وأوامره ونواهيه لحكم يعلمها هو يقيناً وقطعاً وقد نعلم بعضها بإعلامه؛ وأكثرها لاتعلمه, سبحاته العليم الحكيم اللطيف الخبير.

ثانيها: أن الأشياء ليس لها حسن ذاتى وقبح ذاتى؛ حتى يجب له سبحانه الصالح من الأمور والأصلح منها؛ فيجب أن يأمر بالحسنء وينهى عن القبيح: إذ الكل بأمر الله سبحانه وبخلقه؛ وهى أمور نسبية إضافية؛ فالخير والشر إنما هى أمور إضافية لا ذاتية» والحسن والقبح يكون بالنسبة لأفعال العباد لا لأفعال الله سبحانه وتعالى.

ثالثها: أن كل ما خلقه الله سبحانه وكلٍ أوامره ونواهيه.ويعثه الرسل. وشرائعه المنزلة. كل هذا لنقع الناس ودفع الضر عنهم؛ وإن حصل ضرر بالبعض: فإنه تجلب النفع للمجموع: أو لدفع ضرر أعظم وأكبرء والله سبحانه وتعالى هو الذى خلق كل شئ وقدره تقديراً.

* - الوحدانية فى العبادة

517 - بينا معنى الوحدانية فى الذات والصفات فى نظر ابن تيمية؛ ثم بينا معنى الوحدانية فى الإنسان والتكوين؛ والآن نبين معنى الوحدانية فى العيادة.

والوحدانية فى العبادة تقتضى أمرين: يتضمن الاستسلام لله وحده, والاستسلام له وحده يقتضى عيبادته وحدهء ومن أشرك مع الله فى العبادة شخصا أو شيئاً فقد أشرك بالله سبحانه وتعالى: ولقد قال سبحانه: «وما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباد) لى من دون الله.(١).‏

ومن سوى بين المخلوق والخالق فى شئ من العبادة فقد جعل مع الله آلهة أخرىء وإن )١(‏ التدمرية 4. الآية: 1/4 سورة آل عمران

الف

كان يعتقد بوحدانية الخالق فى الخلق والذات والصقاتء فإن مشركى العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق السموات والأرضء كما قال تعالى: «وائن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقوان الله»(١)‏ وكانوا مع ذلك مشركين, الأمر الثانى: هما يقتضيه التوحيد فى الألوهية والعبادة أن نعبد الله سبحانه يما شرعه على ألسنة رسله, ولاتعيده إلا بواجب أو مستحب أو مباح قصد به الطاعة وشكر الله تعالى» ويقول اين تيمية؛ والدعاء من جملة العبادات فمن دعا المخلوقين من اموتى والغائبين واستغاث بهمء كان مبتدعا فى الدين مشركاً برب العالمين؛ متبعاً غير سبيل المؤمنين. ومن سال الله بالمخلوقين أو أقسم عليه بالمخلوقين كان مبتدعا بدعة ما أنزل الله بها من سلطان»(),

4 - وقد بنى ابن تيمية على رأيه فى وحدانية الألوهية والعبادة كلامه فى التوسل والوسيلة؛ فمنع على هذا ثلاثة أمور (أولها) التقرب إلى الله بالصالحين والأولياء.(وثانيها) الاستفاثة والتوسل با موتى. (وثالثها) زيارة قبور الصالحين والأنبياء للتيمن ونحوه؛ وزيارة قبر نبينا علل. أفكاره بأفكارهم فيها اصطداماً عنيفاً. وشدد عليه فى معقله يسببها.

إقراى ابن تيمية بكرامة الأولياء:

8" - وائبتدئ بأول هذه الأمور وهو التق رب إلى الله بالأولياء الصالحين: إن ابن تيمية يقر بكرامة يعطيها الله سبحانه وتعالى بعض الناس؛ فتجرى على أيديهم خوارق للعادات: ويخوض فى معناها خوض المستقصى المتعرف الشارح الدارس؛ والذى يدفعه إلى ذلك الخوض أن بعض الصوفية فى عصره وغير الصوفية قد كانوا يزورون مقابر طائفة من الصالحين ذكرو) أن لهم خوارق جرت على أيديهم, وكانوا يستغيثون بهم؛ ويتقربون إلى الله عن طريقهم: فشرح ابن تيمية ذلك الموضوعء ويين أن جريان الخوارق على أيديهم لايسوغ اتخاذهم وسائل لربهم. ولقد ذكر ابن تيمية خوارق الأمور؛ وذكر أن منها ما يكون كشفا (؟) راجع فى هذا قاعدة جليلة فى التوسل والوسيلة لابن تيمية ص .٠١7‏ أذ

«وهى من باب خوارق العلم» وذلك بأن يسمع العبد مثلامالا يسمعه غيرهء أو يرى ما لم يره غيره يقظة أو فى المنام؛ أى يعلم ها لا يعلمه غيره بوحى أى إلهام أى علم ضرورة أو فراسة صادقة(),

وفذه الخوارق نعم الأنبياء وغيرهم؛ ولقد قسدم الخوارق إلى معجزات: وشى ما يكرن على أيدى النبيين من آيات باهرة مقرونة بالتحدى؛ وهذه الخوارق لاتكون إلا للخير ونفع الناس؛ لأنها رسالة الرسول وتكليمه عن الله تعالى.

وأما ها يجرى على أيدى غير الرسل؛ فيقسمه ابن تيمية إلى أقسام ثلاثة, فيقول:

«الخارق إن حصل به قائدة دينية كان من الأعمال الصالحة المأمور بها ديناً وشرعاًء وإن حصل به أمر مباح كان من نعم الله الدنيوية التى تقتضى شكراً وإن كان على وجهه يتضمن منهياً عنه نهى تحريم أو تنزيه كان سبباً للعذاب أو البغض».

وترى أن الخوارق للعادة كما تّجرى على أيدى الصديقين الصالحين تجرى على آيدى غيرهم: ومن الخوارق للعادة المتضمنة لأمر مطلوب دعوة الله لإقامة العدل: وإجابة الدعاء؛ ومن المنهى عنه أن يدعى على قيره بما لا يستحقه. ولامذموم: فإن كان فيه منقعة كان نعمة, ويسمى كرامة,

والكرامة لاتعطى بذاتها فضلاء ويرى أن من أوتى الاستقامة على الجادة أفضل ممن أوتى الكرامة؛ واذا ينقل عن أبى على الجورجانى تلك الكلمة الحكيمة: «كن طالباً للاستقامة لاطالباً للكرامة. فإن نفسك منجبلة على طلب الكرامة: وريك يطلب منك الاستقامة»!"),

لاتلازم بين الكرامة والولاية: 1 - وينتهى ابن تيمية من بحثه فى الكرامات والأولياء إلى أن الولاية لله ليست

." مجموعة الرسائل والمسائل ج ه ص‎ )١( الكتاب المذكور ص وارجع إلى الصفحات التالية لهذا الكتاب المذكور ترى فيها بحذاً طويلا فى‎ )١( التثثيرات الخارقة.‎

4

ملازمة لخوارق العادات بل قد يكون وليا لله وليس له أى خارقء ولايجرى الله على يديه أى أمر من الأمور الخارقة للعادة؛ كما قد يجرى الله على يد شخص أمورا خارقة وليس مطيعاً لله فلايكون ولياً له كما تبين من الأقسام السابقة.

والأساس في ذلك أن ولاية الله تعالى المذكورة فى مثل قوله تعالى: «ألا أن أولياء الله لاخوف عليهم ولا هم يحزنون»!!) هى التقوى والإيمان كما عرفها الله سبحانه إذ قال «الذين أمتوا وكانوا يتقون»1") وقال تعالى «إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنواء(",

وقد روى البخارى فى مسميحه عن أبى هريرة أن رسول الله عه قال: يقول الله تعالى: «من عادى لى وليا فقد بارزنى بالمحارية. وما تقرب إلى عبدى بمثل أداء ما افترضته عليه ولايزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حثى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به ويصره الذى يبصر يه ويده التى يبطش بهاء ورجله التى يمشى بهاء فبى يسمع:؛ وبى يبصر, وبى يبطش, وبى يسعى)!!),

وبهذا كله يتبين أن ولى الله الحق هو المؤمن التقىء لا الذى تجرى على يديه خوارق العادات» وأن من تجرى على يديه خوارق العادات قد يكون غير ولى إذا لم تتحقق عنامسر الثقوى والإيمان.

19" - هذا ومن جرت على يديه خوارق العادات يخطئ ويصيبء فليسوا على صواب دائماًء ويقول فى ذلك تقى الدين «واهل المكاشفات,. والمخاطبات يصيبون تارة ويخطئون أخرى كأهل النظر والاستدلال فى موارد الاجتهاد ولهذا وجب عليهم جميعا أن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله وأن يزنوا مواجيدهم ومشاهداتهم وأراعهم ومعقولاتهم بكتاب الله وسلة رسوله. ولا يكتفوا بمجرد ذلك فإن سيد المحدثين المخاطبين الملهمين من هذه الأمة هى عمر بن الخطاب رضى الله عنه. وقد كانت تقع له وقائع يردها عليه رسول الله مك وصديقه التابع له الآخذ عنه.. ولهذا وجب على جميع الخلق اتباع الرسول مله وطاعته فى جميع أمورهم الظاهرة والباطنة؛ ولو كان أحد يأتيه من الله ما لا يحتاج إلى عرضه على الكتاب والسنة, لكان مستغنياً عن الرسول في بعض دينهء وهذا من أقوال المارقين!”أى 02( المائدة: مه (5) مجموعة الرسائل والمسائل جح ١‏ ص 1١‏ 27,

ا

التقرب بالأولياء:

- وإذا كان الأولياء هم الذين عرفناهم, وهم المتقون: والذين تجرى على أيديهم الخوارق ليسوا معفين من أحكام الشرع بل إنهم مطالبون يهاء فكل امرئ مسئول عن عمله. ولا يتقرب إلى الله بالالتجاء إلى ولى أو الازدلاف إليه؛ أو الدعوة بجاهه. فإنه مسئول عن عمله فى الدنياء كما أنهم مسئولون عن أعمالهم.

بل إن التوسل إلى الله يعياده غير جائز فى الدين؛ وإن الله سبحانه لايقبل من كل امرئ إلا عمله. فلا يحط عنه سيثاته أن يستغيث بنبى أو ولى؛ أى يطلب المففرة بجاه نبى أو ولى: إنما يفقّر الذنوب رب العالمين لكل من تاب أ أتاب؛ وأقلع عن المعصية؛ وسلك سبيل المؤمنين,

ولذلك نهى النبى مله عن أن يستغفر للمشركين؛ كما قال تعالى: «ما كان للنبى والذين أمنوا أن يستقفروا للمشركين ولو كانوا أولى قريى من بعد ما تبين لهم أئهم أصحاب الجحيم»() واقد قال النبى عله لأقاريه الأدنين: «يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من المله. فإنى لا أغنى عنكم من الله شيثاء يا بنى عبد المطلب لا أغنى عنكم من الله شيئاء يا عباس ابن عبد المطلب لا أغنى عنك من الله شيئاء ياصفية عمة رسول الله يه لا أغنى عنك من الله شيئاء يا فاطمة بنت رسول الله سلينى من مالى ما شئت لا أغنى عتك من الله شيئا»!").

ولكن النبى َه مجاب الدعاء للمؤمنين الصادقى الإيمان وهى حى, وكذلك هى مجاب الشفاعة للمؤمنين وه حى فى الدنياء وفى الآخرة يوم القيامة: وعند الجمع.

ولقد كان الصحابة يستشفعون بالنبى مله ويتوسلون فى حياته بحضرته؛ فقد روى فى صحيح البخارى عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب كان إذا قحط الناس استسقى بالعباس بن عبد المطلب ققال: «اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنيينا فتسقيناء وإنا تتوسل إليك بعم نبينا فاسقناء. وإن الناس لما أجدبوا فى عهد النبى عله دخل عليه أعرابى فقال: «يارسول الله هلكت الأموال واتقطعت السبل فادع الله يغثناء فرفع النبى عل يديه وقال: «اللهم أغثنا... اللهم أغثنا... اللهم أغثنا...» فنشات سحابة من جهة البحرء فمطروا سبوعا لايرون فيه الشمسء حتى دخل الأعرابى أو غيرهء فقال: يارسول الله. انقطعت (1) التوية: 02١1‏ (؟) قاعدة جليلة فى التوسل والوسيلة صن ه.

ا

السبل وتهدم البنيان» فادع الله يكشفها عنهاء فرفع يديه. وقال: «اللهم حوالينا ولا علينا.. اللهم على الآكام والظراب, ومنابت الشجرء وبطون الأودية» فانجابت عن المدينة, كما ينجاب الثوب» وروى أبى داود أن رجلا قال لرسول الله يله «إنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك» قسبح رسول الله ميته حتى رؤى ذلك فى وجوه أصحابه وقال: «ويحك.. أتدرى ما الله؟ إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه, شأن الله أعظم من ذلك .)١(‏

ولقد كان الصحابة يشفعون بدعاء خيارهم فى حياتهم: ولا يدعون بأحد بعد مماته. منع الاستغاثة بغير الله:

> وهنا يجئ الأمر الثانى؛ وهى منع الاستفاثة بالأحياء والأموات ومنع التوسل بالأموات مطلقاً باستفاثة أو بغيرها. أما الاستغاثة بغير الله فهى ممنوءة بإطلاق وأقد نهى النبى مله عن الاستفاثة به. ققد روى الطبرانى فى معهمه الكبير أن منافقا كان يؤذى المؤمنين» فقال أبى بكر: قوموا نستغث برسول الله من هذا المنافق» فقال النبى عه: «إنه لا يستغاث بى؛ وإنما يستفاث بالله»!' وهكذا كل ما لا يقدر عليه إلا الله سبهانه وتعالى لا يجوز أن يطلب من نبى ولا ولىء وأذا يقول «ما لا يقدر عليه البشر لا يجوز أن يطلب إلا هر الله سيحانه. لا يطلب ذلك لا من الملائكة, ولا من الأنبياء, ولا من غيرهم, ولا يجوز أن يقا لغير الله اغفرلى: واسقنا الغيث, وانصرنا على القوم الكافرينء أو اهد قلويناء فأما ما يقد عليه البشرء فليس من هذا الباب. وقد قال تعالى «إذ تستغيثون ريكم فاستجاب لكم»(') وفى دعاء موسى عليه السلام: «اللهم لك الحمدء وإليك المشتكى وإليك المستعان. ويك المستفاث, وعليك التكلان, ولا حول ولا قوة إلا بك» وقال أبى زيد البسطامى: استفاثة المخلوق بالمخلوق كاستفاثة الغريق بالفريق. وقال أبو عبد الله القرشى: استفاثة المخلوق بالمخلوق كاستفاثة المسجون بالمسجون»!"),

التقرب بالموتى:

9 ولا يسو ابن تيمية التقرب إلى الله بالموتى من الأنبياء والصالحين؛ لأن

)١(‏ قاعدة جليلة ص؟7١٠١: )١( ٠١5‏ قاعدة جليلة صس/5. (5) الأنفال: 5, (4) قاعده جليلة فى الترسل والوسيلة ص؟؟١,‏

لفق

التقرب إلى الله بالاقتداء بهم والنهج على منهاجهم؛ وليس لأجل أن يستغاث بهم أو يطلب الدعاء منهم؛ لأن ذلك يؤدى إلى الشرك بالله؛ فيقرر رضى الله عنه «أننا ليس لنا أن نطلب من الأنبياء والصالحين شيئاً بعد موتهم؛ وإن كانوا أحياء فى قبورهم, وإن قدر أنهم يدعون للأحياء؛ وإن وردت به آثار فليس لأحد أن يطلب منهم ذلكء ولم يفعل ذلك أحد من السلف» لأن ذلك ذريعة إلى الشركء وعبادتهم من دون الله. بخلاف الطلب من أحدهم فى حياته فإنه لايفضى إلى الشركعا').

وإذا كان الطلب من الموتى وأو كانوا أنبياء ممنوعاً خشية الشركء فالنذر للقبور أو لسكان القبور أو العاكفين على القبور نذر حرام باطل يشبه النذر للأوثان» وسواء أكان نذر زيت أم غيره... ومن الحسن أن يصرف ما نذره- فى نظيره من الشرع مثل أن يمصرف الزيت إلى تنوير المساجدء والنفقة إلى فقراء المسلمين؛ وإن كانوا من أقارب الشيخ.

ويقول رضى الله عته: «ومن اعتقد ند أن فى النذر للقبور نفعاً أو أجراً فهوصضال جاهل» ثم يقرر أن ذلك نذر فى معصية «وأن من يعتقد يعتقد أنها باب الحوائج إلى الله وأنها تكشف الضرء وتفتح الرزق» وتحفظ العمر فهى كافر مشرك يجب قتله»(),

وترى من هذا أن ابن تيمية لا يعتقد أن للموتى أى تأثير فى الأحياء. وأنه لا يصح أن يوجه إليهم أى دعاء. وأن نداعهم أو الاستغاثة بهم خلال وأن اعتقاد نفعهمء وأنهم يفتحون باب الحوائج شرك يسوغ القثل؛ لأنه يعتبر ردة فى نظره؛ ونحسب أنه لى اقتصر على أنه ضلال, ما كان فى ذلك تطرف ولا مغالاة. أما الحكم بأته كفر فأحسبه مغالاة» ودفعته إليها حدة الجدال,

زيارة قبور الصالحين: وننتقل بعد هذا إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحينء وهو الأمر الثالث؛ بل الأمر الذى أثار الضجة الشديدة هو والاستغاثة بالنبى مله ؛ فقد أثار ذلك عجاجة حولها؛ وكان هو يجادل ويلاحى وحدة فى الميدان, وقد فقد فى آخر الأمر النصير من الأمراء. عنس زج به فى غياية السهن.

)١(‏ الكتاب المذكور ص١١‏ (1) مجموعة الرسائل والمسائل ج١‏ مره ه. زوف

فإنه رضى الله عثه يرى أن زيارة القبور مطلقاً للاتعاظ جائز بل مندوب إليه؛ لأنه غبرة واعتبار, وتذكرة واستبصارء أما القصد إلى زيارة قبر رجل صالح بعينه؛ أو نبى بعينه فإن ذلك لا يجون؛ وقد خالفه غيره كابى حامد الغزالى وأبى محمد بن قدامة المقدسى لعموم قوله عل «زوروا القبور».

والأساس الذى بنى عليه المذع هو الأساس الذى بتى عليه عدم دعاء ا ميت؛ لأنه يرى أن ذلك يؤدى إلى الوثنية والشرك؛ ولأن النبى عله نهى عن أن يتخذ قبره مسجداً» حتى لا يزار: فقد جاء فى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها أنه مله قال فى مرض موته: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»» ولآن الصحابة دفنوه نه فى حجرة عائشة رضى الله عنها على غير ها اعتاد الناس, وذلك لكيلا يتخذ قبره الكريم مسجدا أو مزاراء فيؤدى ذلك إلى ما يشبه الشرك. ونقد كانت الروضة التبوية منفصلة عن مسجده عله إلى زمن الوليد بن عبد الملك؛ فلم يكن أحد يدخلها؛ ولا يتمسح بقبر النبى الكريمء ولا يدعي

دعاء هناك. ولقد كان السلف إذأ سلموا على النبى مُه بعد مماته وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلى القبلة, ولا يستقبلون القبر,

واتفق الأئمة على أنه لا يمس قب النبى عن ولا يقبل(')؛ ولقد قال النبى: «اللهم لا تجعل قبرى وثناً يعبد. اشتد غضب الله على قوم اتخنو) قبور أنبيائهم مساجد».

وكل هذا كان محافظة على التوحيد فإن من أسباب الشرك اتخاذ القبور مساجد.

11 هذا نظر ابن تيمية فى منع زيارة قبور الصالحين والأنبياء, والسفر إليهاء ولم يستثن الروضة الشريفة من عموم حكمه, بل أدخلها فى العموم: وتكلم فيها خاصة؛ ولقد زكى ما تقدم بالحديث الشريف: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام؛ ومسجدى هذاء والمسجد الأقصى».

وهذا الحنيث صريح فى أن السفر لهذه المساجد مستحب: وأما السفر إلى بقعة غير هذه فإنه داخل فى عموم النهى؛ بل إن النبى مه تعوذ من أن يتخذ قبره موضع تقديس, فقد قال عليه الصلاة والسلام: «اللهم لا تجعل قبرى وثناً يعبد. اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».

)١(‏ العقود الدرية مىه””7, إن

فإذا كان النهى عن زيارة القبور للتقرب إلى الله بمجرد الزيارة منهياً عنه بشكل عام ققبر الرسول الكريم منهى عن زيارته لهذا الغرض بشكل خاص,.

177 وقد عارض ابن تيمية فى ذلك النظر جمهور الذين عاصروهء بل الجمهور الأعظم من المسلمين إلى يومنا هذا؛ فإنه يروى أن النبى عله قال: «إذا سالتم الله فاسالوه بجاهى؛ فإن جاهى عند الله عظيم». ويروى أنه له قال: «من زارنى بعد مماتى فكانما زارنى فى حياتى».

ولكن ابن تيمية يقول فى الخبر الأول: «هذا الحديث كذب ليس فى شئ من كتب. المسلمين التى يعتمد عليها أفل الحديث» ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث مع أن جاهه عند الله أعظم من جاه جميع الأتبياء والمرسلين»(),

ويقول فى الحديث الشثانى: ضعيف والكذب ظاهر عليه مخالف لدين المسلمين» فإن من زاره فى حياته لو كان مؤمناً كان من أصحابه ولا سيما إن كان هن المهاجرين المجاهدين معككه وقد ذيت عته عه أنه قال: ولا تسبوا أصحابى:» فى الذى تقفسى بيده لى أنفق أحدكم مثل أحد ذهياً ما بلغ مد أحدهم ولانصفه!),

وهكذا يستطرد ابن تيمية فى الرد على مخالفته فى عنقف. وشدة: ويستشهد بأقوال الآئمة الاربعة مثل إجماعهم على عدم مس قبر النبى مله كما ذكرنا.

هذه إحدى القضايا التى أثار غبارها ابن تيمية فى قوة وعنف, وقرع يها مشاعر معاصريه قرعاً شديداً وأزعجهم بها إزعاجاً شديداً.

والأساس الذى بنى عليه ابن تيمية قوله هو إفراد الله وحده بالعبادة واليعد عن الوثنية وكل ذرائعها؛ ثم حمل نصوص النهى عن الوثئية على زيارة القبور» وخصوصاً قبر الرسول.

نحن قد نميل إلى قوله فى زيارة قنبور الصالحين أما زيارة قبر النبى مله فإنا. نخالفه فيه مخالفة تامة» وذلك لأن الأساس الذى بنى عليه قوله هى الوثنية. فإن كان يريد أن.

)١(‏ قاعدة جليلة فى التوسل والوسيلة ص .٠١‏ (1) الكتاب المذكور ص/اه, 0

زيارة القبر الشريف هى فى ذاته نوع من الوثنية فهى غريبء فإنك كما تفسره بأنه وثنية يصح أن تفسره بأنه وحدانية ومبالفة فيها؛ لأن زيارة قبر نبى الوحدانية استشعار لحقيقتهاء ونقديس لمعناها؛ فإن التقديس الذى يتصل بالرسل إنما هو من فكرتهم» وهدايتهم فالتقديس محمد تقديس للمعانى التى دعا إليها وحث عليها؛ وكيف يتصور مؤمن يعرف حقيقة الدعوة المحمدية أنه يكون مستشعرا لأى معنى من معانى الوثنية؛ وهى يستعبر العبرء ويستبصر ببصيرته عند الحضرة الشريفة والروضة ا منيفة.

وإذا كان خوف ابن تيمية من أن يؤدى ذلك إلى الوثنية بمضى الأعصار والدهور, فإنه خوف فى غير مخاف؛ لأن الناس كانوا يزورون قير الرسول إلى أول القرن الثامن؛ ثم بتوالى العصور من بعده إلى يومنا هذا. ومع ذلك لم ينظر أحد إليه نظرة عبادة: أى وثنية؛ نعم تفرط من العامة عبارات كالتوسل يجاهه؛ أو الاستشفاع بشفاعته وهى عبارات لا وثنية فيهاء بل تؤول بأقرب تأويلاته؛ ويفهم الجاهلونء ولا تمنع تلك الذكريات العطرة لأجل عبارات من العوام يحسن إرشادهم لا منعهم من الزيارة: وتفهيمهم لا تكفيرهم, وإن الله سبحانه قد صان التوحيد إلى يوم القيامة؛ وقد ذكر ذلك محمد عه فى آخر حياته. وبشر به المؤمنين؛ وهى أن الشيطان قد يئس أن يعبدفى أرض العربء فليس لابن تيمية أن يخاف على التوحيد مِن يعد.

4 وإن الآثار عن السلف الصالح تثبت أنهم رضى الله عنهم كانوا يتبركون بزبارة قبره الشريف ولم يجدوا فيه وثنية ولا ما يشبهها. ألم يكن الشيخان الجليلان أبو بكر وعمر حريصين على أن يدفنا بجوار جثمانه الكريم عه ولم يريا فى ذلك الحرص وثنية أو ها يشبه الوثنية.

ولقد روى ابن تيمية رضى الله عنه أن السلف الصالح رضوان الله تبارك وتعالى عليهم كانوا يسلمون على النبى عَلَّهُ كلما مروا على الروضة الشريقة. قال نافع: كان ابن عمر يسلم على القبرء رأيته مائة مرة أى أكثر يجئ إلى القبرء فيقول السلام على النبى عَلله, والسلام على أبى بكرء السلام على أبى؛ ورؤى واضعاً يده على مقعد النبى عله من المنبر ثم وضعها على وجهه.

وأقد قال ابن وهب إن الإمام مالكا رضى الله عنه قال: «لا بأس لمن قدم من سفر أو

ا

خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبى مله فيصلى عليه ويدعى لأبى بكر وعمرء قيل: فإن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفرء ولا يريدونه يفعلون ذلك اليوم مرة أو أكشرء وريما وقفوا فى الجمعة أوالأيام المرة والمرتين أى أكثر عند القبرء فيسلمون ويدعون ساعة؛ فقال مالك: لم يبلغنى ذلك عن أهل الفقه ببلدنا وتركه واسع, ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولهاء ولم يبلغنى عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يقعلون ذلك. ويكره إلا من جاء من

سفرأوأراده(),

وأقد حكى ابن تيمية عن أكثر الأئمة أنهم يرون أن يستقبل القبر الشريف عند الدعاء),

م هذه النقول وغيرها مما جرى على قلم ابن تيمية رضى الله عنه, تدل على جواز زيارة قبر رسول الله عله والإحساس بالذكريات الجليلة التى تؤثر عن حياته عه وقد دل على ذلك من هذه الأخبار:

-١‏ كثرة زيارتهم لقبره مله حتى أن ابن عمر زاره أكثر من مائة؛ وأن ناقعا تلميذه رأه يضع يده على مقعد رسول الله عله على متبره ثم يضعها على وجهه.

1- تجويز بعض الأئمة أن يدعى الزائر للقبر الله متجها إلى القبر؛ وعلى ذلك أكثز الأئمة.

؟- وأن همالكا رضى الله عنه يحث على زيارة القبر عند السفرء وعند العزم عليه وهكذا مما نقل تقى الدين.

وإذا لم يكن مسوفاً للزيارة والتذكر بالقرب من الروضة الشريفة فماذا يكون المسوغ. وإن الحديث الصحيح دلا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد»: هو دليل على شرف البقعة التى حل فيها محمد عله حياً؛ ودفن فيها ميتاً؛ فقد كان شرف الكعبة أنها بيت الله وأول بيت وضع للناس» وشرف المسجد الأقصى؛ لأنه مسجد الأنبياء السابقين وموضع الإسراءء ومنه كان المعراج؛ فماذا يكون شرف المسجد المحمدى؟ إنما شرفه من إقامة الرسول به (1) قاعدة جليلة فى التوسل والوسيلة صهه. (؟) العقود الدرية ص4؟؟.

أو

وكونه كان مكان النور المحمدىء والهدى الإسلامى, وأن شد الرحال إليه ئيرى الرائى موطن الوحى: ومتازل النبوة؛ وإن تلك الذكريات كما تتحقق فى المسجد الشريف تتحقق فى الروضة الشريفة: بيد أن هذا يصلى فيه وثلك لا يصلى فيها؛ لموضع النهى من أن يتخذ القبر مسجداً» فيقتصر على مورد النهى.

3 يسأل ابن تيمية: لماذا اختار النبى عله أن يكون مدفنه فى مسكنه وهى حجرة غائشة رضى الله عنها؟ ويختار الجواب وهو ألا يتخذ قبره مسجداً؛ ولا يكون موضيع عبادة, وقد يكون ذلك جواباً سليماً؛ أو هو جزء من جواب صحيع. والجزء الثاني أن يكون قبره قريباً من مسجده؛ وأن يكون قبره معروفاً غير مجهول؛ فإنه لو دفن بالبقيع فى الصحراء فقد يجهل موضعه. ويكون بعيداً عن مسجده. أما إذا دفن فى حجرة عائشة رضى الله عنهاء فإنه يكون قريباً من مهبط الوحى؛ ومبعث الدعوة؛ ومكان التنزيل, 2 ويعد فإنا تخالف ابن تيمية فى منعه التبرك بزيارة قبر الرسول والمناجاة عنده؛ وعدم الندب إليهاء وإن التبرك الذى نريده ليس هى العبادة أو التقرب إلى الله بالمكان, إنما التبرك هى التذكر والاعتبار والاستبصار. أى امرئ مسلم علم حياة النبى مله وسيرته وهدايته. وغزواته. وجهاده. ثم يذهب إلى المدينة؛ ولا يحس بأنه فى هذا المكان كان يسير الرسول, ويدعى ويعملء ويدير ويجاهد؛ أى لا يعتبر ولا يستبصرء أولا يحس بروحانية الإسلام؛ وعبقرية النبى الآمينء أو لا ته أعطافه محبة الله ورسوله: والأخذ بما أمر الله به, والائتهاء عما نهى عنه إلا من أعرض عن ذكر الله.ولم يكن من أولى الأبصارء إن الزيارة إلى قبر الرسول هى الذكرى والاعتبار؛والهدى والاستيصارء والدعاء عند القبر دعاء والقلب خاشع؛ والعقل خاضع: والنفس مخلصة: والوجدان مستيقظء وإن ذلك أيرك الدعاء.

الوحدانية والتصوف الحلول- وحدة الوجود- الإنحاد

7107- شغل الفكر الإسلامى بآفكار أثارها المتصوفة, تتعلق بصلة الله سبحانه وتعالى بخلقه. وإن المعروف بين علماء المسلمين المقرر فى مصادر الدين أنها صلة الخالق بالمخلوق؛ والمبدع بما أبدعه والله واجب الوجود الذى ليس كمثله شى؛ والمخلوق ممكن

الوجودء عرض له الوجود بعد أن لم يكن. 1/1

لكن بعض المتصوفة أثاروا أموراً تجعل الصلة ليست كذلك فقطء فقد قالوا تابعين لرأى قديم بجواز حلول الله فى بعض الآدميين إذا كان مستعداً لذلك بصفاء نفسه وثقل روح؛ وأظهر من قال ذلك الحلاج كما قلنا فى المتصوفة؛ ثم جاء ابن عريى فحكم بوحدة الوجود» وأن الموجود واحدء تعددت صوره وأشكاله ومظاهره ثم جاعت يعد ذلك فكرة الاتحاد بين المخلوق والخالق من حيث المحبة والشوق: فإنه بهذه المحبة يتصل بالله تعالى ويعلو إليه, وأنه عندما يصل إلى درجة الاتحاد بالذات العلية يكون فى غيبوية يسمونها المصى أى فناء ذاته الفانية فى ذات الله الباقية, أى يسمونها السكر لأنه يغيب فيها عن الحسء ويسمى أولئك هذه الحال بوحدة الشهود؛ وهى مقايل ما قاله ابن عريى عن وحدة الوجود(!). وقد جاء ذلك المذهب فى شعر عمر بن الفارض؛ وحكم ابن عطاء الله السكندرى الذى عاصر ابن تيمية وشكاه إلى أولى الأمر سنة /ا١./.‏

4- ناقض ابن تيمية هذه المذاهب التى تربط الخالق بالمخلوق؛ لأثه أولا رآها منافية لمعنى توحيد الله سبحائه وتعالى الذى شرحه وبينه, وثانياً لأنه رأى بعض قائليها يدعون لأنفسهم حالا يعلون فيها على التكليفء وابن تيمية يرى أن من ينزع ذلك المنزع معطل لأحكام الشرع خالع الريقة» وثالثا لأنه رأى الناس يزعمون فى أصحابنا قدرة خارقة للعادة؛ فيتقربون إلى الله بهم؛ وهم من يسمون عندهم أولياء.

رأى ابن تيمية فيهم ذلك فشن عليهم حرباً شعواء أقض بها مضاجعهم. وتالوا منه عند السلطان والناسء ونال هنهم عند الناسء واقد ناقش أقوالهم مناقشة العارف لها الفاحص لدقائقها العارف لأسرارهاء ولكنه سماها كلها مذهب الاتحاد, أو الاتحاديينء وكأته نظر إلى المعنى المشترك فى هذه الأمور الثلاثة» وهى وحدة الوجود والحلولء والفتاء فى الله بالمحبة؛ وذلك لأن هذه المناهج الثلاثة تلتقى فى معنى الاتحاد. اتحاد المخلوق بالخالق؛ بيد أن وحدة الوجود فيها اتحاد لا تعدد فيه؛ فليس هناك اثنان: بل وحدة لاثنينية فيه؛ والآخران فيهما اتحاد بين اثنين: على تفرقة بين الاصطلاحين.

ولقد قال فى مقدار فهمه لمذهب هؤلاء الاتحاديين فى نظره؛ قد افترقوا بينهم على فرقء ولا يهتدون إلى التميين بين فرقهم. مع استشعارهم أنهم مفترقون, ولهذا لما بينت )١(‏ راجع النبذ ١؟, 7١6:14‏ من هذا الكتابء فقد جلينا هذه المعائى بما يناسب المقام ولا داعى

54

لطوائف من أتباعهم ورؤسائهم حقيقة قولهم وسر مذهبهم صاروا يعظمون ذلك ولولا ما أقرنه بذلك من الذم والرد لجعلونى من أتمتهم؛ وبذلوا لى من طاعة نفوسهم وأموالهم ما يجل عن الوصفء كما تبذل النصارى لرؤسائهمء والإسماعيلية لكبرائهم؛ وما بذل آل فرعون. وكل .من يقبل قول هؤلاء فهى إما جاهل بحقيقة أمرهم؛ وإما ظالم يريد علواً فى الأرض وفساداً, أى جامع بين الوصفينسوهذه حال أتباع فرعون. والذين قال الله فيهم: «فاستخف قومه فقأطاعوى!(),

ويرى رضى الله عنه أنه يكفى لرد قذّة المذاهب تصورفاء فإن تصورها كاف قى بيان فقسادهاء ولا يحتاج مع حسن التصور إلى دفيل آخر «وإنما تنيع الشبهة لأن أكثر

به عوج و

ويقول مشنعاً على مذهب وحدة الوجود: «أصلهم الذى بتوا عليه أن وجود المخلوقات والمصئوعات حتى وجود الجن والشياطين والكافرين والفاسقين والكلاب والخنازير والنجاسات والكفر والفسوق والعصيان عين وجود الربء لا أنه مثتميز عنه منفصل فى ذاثه, وإن كان مخلوقاً مربوياً مصنوعاً له قائما به. وهم يشهدون أن فى الكائنات تفرقاً وكثرة ظاهرة بالحس والعقل. فاحتاجو) إلى جمع يزيل الكثرة؛ ووحدة ترف التفرق مع ثبوتها».

وهى مع شدته على المذهب وقائليه يقول فى ابن عربى قولا رقيقاً نسبياً؛ فيقول: «مقالة ابن عربى مع كونها كفراً هو أقربهم إلى الإسلام لما يوجد فى كلامه من الكلام الجيدء ولأنه لا يثبت على الاتحاد ثبات غيرهء بل هو هائم مع خياله الواسيع الذى يتخيل فيه الحق تارة والباطل أخرىء والله أعلم بما مات عليهء!'!,

يقوم مذهسب أبن عريى فى نظر ابن تيمية على دعامئين: أو أصلين كما مير هو:

أحدهما: أن المعدوم شئ ثابت فى حال العدم أى أن كل معدوم يمكن وجوده- حقيقته وماهيته وعينه ثابتة فى العدم؛ لأنه لولا ثبوتها ما صح قصده بإرادة إيجاده؛ لأن القصد

(1) راجع رسالة حقيقة مذهب الوحدة ص؛ . الآية: 04 سورة الزخرف (1) المصدر المذكور صرءة. 4

يستدعى التمييزء والتمييز لا يكون إلا فى شئ ثابت؛ وعلى ذلك لا يكون إيجاد المعدوم خلقاً ماهيته وحقيقته وعينه؛ بل هى جعل للصورة المحدثة من حيوانية أو نباتية أى معدنية أو حجرية أو نحو ذلك من الأغراض المتغيرة» أما الجوهر فثابت!'.

ثانيهما: أن وجود الخالق هو وجود الحق وعينه ويقرر ابن تيمية أن ذلك هى مفتاح كلاء() ابن عربى وفلسفته, ويقول فى ذلك: «فمن فهم هذا قهم كلام ابن عربى نظمه ونثرهوما يدعيه من أن الحق يتغذى بالخلق؛ لأن وجود الأعيان الحادثة معتمد بالأعيان الثابتة فى العدمء ولهذا يقول بالجمع من حيث الوجودء وبالفرق من حيث الماهية والأعيان الحادثة. ويزعم أن هذا هى سر القدس؛ لأن الماهيات لا تقبل إلا ما هو ثابت لها فى العدم فى أنفسهاء فهى التى أحسنت وأساءت وحمدت وذمت. والحق لم يعطها شيئاً إلا ما كانت عليه حال العدم والصورة العارضة»

١‏ ويعد أن يقرر ابن تيمية مذهب أبن عربى كما رآه يعود عليه بالنقض والهدم؛ والمقصد الذى يتجه إليه أولا وبالذات فى هدمه هى بيان أنه لا يتفق مع الحقائق المقررة فى الإسلام وأنه والإسلام على طرفى نقيض لا يجتمعان ولا يتلاقيان؛ ولذا يتجه إلى نقضه بالمنقول مع المعقول: ويعتمد على المتقول أكثر لسببين:

أولهما: أن ذلك المذهب السلفى هى من ضمن مذاهب الفلاسقة الذين حكموا بقدم العالم, وهى إن لم يكن مثلهم فقد قاريهم أو سار على منهاجهم: وقد ناقش ابن تيمية أولئك الفلاسفة فى مذاهبهم, وبين بطلانها فى كتبه وبحوثه المختلفة مثل منهاج السنة وغيره.

ثانيهما: أن ابن عربى قد اعتنق رأيه كثير من المسلمين» وحسبوه إسلاماء بل - حسبوه لب الإسلام ومعناهء وخصوصاً أن ابن عربى زينه لهم بإثبات أن محمداً عله هو العقل الأول. وأنه كان قبل كل شئ؛ فسهل على بعض المسلمين قبوله؛ ورغب كثيرون فى اعتتاقه؛ وكادت الفكرة فيه تعم الصوفية فى عصر ابن تيمية؛ لذلك وجد ابن تيمية أن الحاجة ليست إلى إبظال أصله العقلى فقط بل هى ماسة وضرورية لإبطاله من الوجهة النقلية؛ وأذلك )١(‏ رسالة مذهب الاتحاديين ص/, () نقل المرحوم السيد رشيد رضا عن الاستاذ الإمام الشيخ محمد عبده أنه قال إن لكلام ابن عريى مفتاحاء من عرفه فهم جميع كلامه؛ فأنا أقراً الفتوحات كما أقراً تاريخ اين الأثير.

4

هاجمة يمجرد تمام تصوره بأنه مناف للمقررات الإسلامية المعلومة من الإسلام بالضرورة فقال «فتدبر كلامه. كيف انتظم شيئين: إنكار وجود الحقء وإنكار خلقه لمخلوقاته؛ فهى منكر للرب الذى خلقء فلا يقر برب ولا بخلقء ومنكر لرب العالمين» فلا رب ولا عالمون مريويون؛ إِذ ليس هناك إلا أعيان ثابتة: ووجود قائم بهاء فلا الأعيان مربوبة: ولا الوجود هريوب؛ ولا الأعيان مخلوقة, ولا الوجود مخلوق(!),

؟"- وعندما يتّجه ابن تيمية إلى إبطال ذلك المذهب بالنقل والعقلء يبتدئ فيبطل الدعامة الأولى من دعائمه, وهى أن المعدوم القابل للوجود كان شيئا وكانت ماهيته ثابتة, فيقول فى ذلك:

«والذى عليه أهل السنة والجماعة وعامة عقلاء بنى آدم من جميع الأصناف أن المعدوم ليس فى نفسه شيئاًء وأن ثبوته وؤجوده وحصوله شئ واحدء وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع فى القديم. قال الله تعالى لزكريا «وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً»(") فاخبر أنه لم يك شيئاً» وقال تعالى: «أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً»؟) وقال تعالى «أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون»!!) فأنكر عليهم اعتقادهم أن يكونوا خلقوا من غير شئ خلقهم أو خلقوا هم أنقسهم».

ثم يرد استدلالهم ببعض الآيات مثل قوله تعالى «إنما قوإنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون»!*). فيقول قد استدل بها من قال ا معدوم شئ وهى حجة عليه؛ لأنه أخبر أنه يريد الشئ؛ وأنه يكونه؛ وعندهم أنه ثابت فى العدم؛ وإنما براد صورته لا عينه نفسه. والقرآن قد أخبسر أن نفسه تراد» وتكون» ويعتمدون على أن الوجود صفة عارضة على الذات وهى غير الذات: فيقول اين تيمية فى رد قولهم. دإن الذى عليه أهل السنة والجماعة وعامة العقلاء أن الماهيات مجعولة, وأن ماهية كل شئ وجودهه وأنه ليس وجود الشئ قدراً زائدا على ماهيته. بل ليس فى الخارج إلا الشئ الذى هو الشئ وهو عينه ونقسه وماهيته وحقيقته. وأيس وجوده وثبوته فى الخارج زائدا على ذلك»!".

“7غ 1- ويبطل ابن تيمية الأصل الثانى: وهى الوحدة بين الحق والخلق» أى بين المخلوق

51 مذهب الاتحاديين ص/١. (0) مريم: 5 (؟) مريم:‎ )١( . ٠0ص الرسالة الماكورة‎ 5) الطور: ه؟ (0)النحل:‎ )6( لذن‎

والخالق بوجوه عقلية كثيرة» وجوه شرعية: وانختر واحداً من الأدلة العقلية التى ساقهاء وهو أولها.

لقد قرر ابن تيمية أن هؤلاء يرون إن هذه الحقائق الكونية كانت معدومة فى نفسها. ولكنها أشياء فى عينهاء وفى علم الله سبحانه؛ وفى تجليه المطلق, ووجوده المطلق» وكانت متحدة بنفسه ووحدته الذاتية, ثم كانت بعد ذلك على هذه الأشكال. فينظر ابن تيمية كيف تحولت من حالها الأولى» أخلقها الله وبرأها وجعلها موجودة: أم لم تزل على حالها الأول معدومة ون كانت شيئاً ولها ماهية؛ فإن كانت لم تزل معدومة ترتب على ذلك ألا يكون شئ من الكونيات موجوداً. وهذه مكايرة للحس والعقل والشرع؛ ولا يقوله عاقلء ولم يقله عاقل؛ وإن كانت موجودة بعد أن كانت مغدومة على النحو الذى يقررونه فى معنى العدم يترتب على ذلك ألا تكون وموجدها شيئاً واحداً, لأنه لم يكن معدوماً ووجد» ولأنه هو المؤثر فيها بهذا التغبير, ويجب أن يكون المؤثر والمتأثر شيئين متغايرين!!,

4 ويبين هذا المذهب من الناحية الدينية فيقول: «وجماع أمر صاحب القصوص(") وذويه هدم أصول الإيمان الثلاثة. فإن أصول الإيمان: الإيمان بالله؛ والإيمان برسله. والإيمان باليوم الآخر, فأما الإيمان بالله فّعموا أن وجوده وجود العالم ليس للعالم صانع غير العالم. وأما الرسول فزعموا أنهم أعلم بالله منه ومن جميع الرسلء ومنهم من يأخذ العلم بالله الذى هى التعطيل ووحدة الوجود من مشكاته(", وأنهم يساوونه فى أخذ العلم بالشريعة عن الله. وأما الإيمان باليوم الآخر فقد قال:

فلم ييق إلا صادق الوعد وحده وبالوعيد الحق عين تعاين

وإن دخلوا دار الشقاء فإ: على لذة فيها نعيم يباين

وهذا يذكر عن بعض أهل الضلالة قبله أنه قال: «إن النار تصير لأهلها طيعة نارية يتمتعون بهاء وحينتذ فلا خوف ولا محذور ولا عذاب لأنه أمر مستعذب»!!), )١(‏ هو اين عريى لأن مذهبه دونه فى كتابه الفصوص وكتابه الفتوحات المكية. (؟) يعرض بحجة الإسلام الغزالى صاحب كتاب مشكاة الأتوار. (4) رسالة مذهب الاتحاديين ص؛/.

ويرى ابن تيمية أن ذلك المذهب يسقط التكليف ويبيح المأثم؛ فيقول: ثم إنه فى الأمر والنهى عنده الآمر والناهى وال مأمور والمنهى واحدء ولهذا كان أول ما قاله ابن عربى في,

الفتوحات المكية التى هى أكبر كتبه: الرب حق والعبد حق ياليت شعرى من المكلف إن قلت عبد فذاك رب أى قلت رب أنى يكلف

ولكى يفتح مذهبه فى نظرة العامة الذين غزت هذه الأفكار نفوسهم. وإن لم يفهموا معناها ينقل عن العلماء الذين لهم منازل خاصة عند العامة فى مصر والشام رأيهم فى ابن عربى وتكفيره أى تقبيح مذهبه فينقل عن القسطلانى وابن دقيق العيد رأيهم فيه. وينقل عن عن الدين بن عبد السلام قوله فى ابن عربى: «مشيخ سوء مقبوحء يقول بقدم العالم. ولا يحرم فرجاً».

ولا يكتفى بالنقل عن الفقهاء والمحدثين بل ينقل عن الصوفية أنفسهمء فينقل عن أبى العباس الشاذلى تلميذ أبى الحسن الشاذلي؛ أنه قال فى أصحاب مذهب وحدة الوجود: «هؤلاء كفار يعتقدون أن الصنعة هى الصانع»().

ويسترسل ابن تيمية فى إبطال هذا المذهب بالأدلة العقلية تارة؛ والنقول تارة أخرى؛ ويشتع عليه بأقوال كبار رجال العصر فيه فينفر الناس مثه؛ ويبعدهم عنه؛ إذ كان يخشى على العامة منه. وقد اعتنقه بعضهم من غير أن يفهمه.

م" وإذا نكتفى بهذا القدر من نظر ابن تيمية إلى مذهب وحدة الوجود؛ فلننتقل إلى نظره فى المذهبين الآخرين المشاركين له فى الاتحاد بذات الله تعالى: وإن افترقا فى ا معنىء وأولهما مذهب الحلول الذى نادى به الحلاج كما بينا وغيره. وقد اختلفت فيه الأنظار,

ويحكى ابن تيمية أن القائلين بالحطول فريقان: فريق يقول أن الله سبحانه حال يذاته فى كل مكان ويسميهم حلولية الجهمية: ويقول فيهم: «هم الذين يقولون أنه بذاته فى كل مكان. كما تقول النجارية أتباع جسن النجار»!")» ويرى أن القائلين بالحلول على ذلك النحو )١(‏ راجع هذه التقول فى الرسالة المذكورة صفحة 1/0 1/. (؟) مجموعة الرسائل والمسائل الجزء الأول ص٠‏ لا.

"1

يتقاربون من القائلين بوحدة الوجود ولكن كان ثمة فرق دقيق؛ وهو أن أصحاب وحدة الوجود يرون أن الوجود كله شئْ واحد؛ أما هؤلاء الحلوليون فإنهم يرونهما متغايرين» واكن الموجد حل فى الموجود. والفريق الثانى هم الذين قالوا إن الله يحل فى بعض مخلوقيه؛ كما يدعون أنه حل فى الحلاج؛ ومهما يكن فإن الحلاج من القائلين بذلك وهى القائل: سبحان من أظهر ناسوته ١‏ سر سنالاهوته الشاقب حتى بدا فى خلقه لاهراً 2 فى صورة الآكل والشارب

ويقول ابن تيمية فى هذا المذهب أنه كقول النصارى فى المسيح عليه السلام. بل إنه يقول إنه شر من قول النصارى «لأن النصارى ادعوا ذلك فى المسيح لكونه خلق من غير أب: والشيوخ لم يفضلو) فى نفس التخليقء وإنما فضلوا بالعبادة والمعرفة والتحقيق والاتحاد, وهذا أمر حصل لهم بعد أن لم يكن وإذا كان هذا سبب الحلول؛ وجب أن يكون الحلول فيهم حادثا. لا مقارناء وحينئذ فقولهم أن الرب ما فارق أبدانهم أو قلويهم طرفة عين قط كلام باطليا؟. 2 »؛

وإن الذين يفرقون بين قول هؤلاء وقول النصاري: يقولون أيضاً أن المسيح عليه السلام هى ابن الله فى نظرهم؛ فالعنصر الإلهى فيه هى الأصلء والناسوت عارض له: أما الحلوليون فى الإسلام فإنهم يقولون أن العنصر الإنسانى هو الأصلء والعنصر الإلهى حل فيه؛ وذلك بفضل العبودية والمحبة حتى فنى فى الله سبحانه وتعالى.

ومهما يكن من قرب الفكرة بين الحلاج وقول النصارى فمن المؤكد أن نظره بعيد عن الإسلام بعد النصرانية عنه.

ولا شك فى أن من سلك ذلك المسلك يخالف المعقول والمثقول,

41 هذا نظر ابن تيمية إلى مذهب الحلول وهى رأى سليم لا شبهة فيه, والمذهب الثالث الاتحاد؛ وأصحابه كما ذكرنا عند الكلام على الصوفية فى عصر ابن تيمية يقررون أن الناسكين المتعبدين قد تصفى نفوسهم وتعلى حتى تفنى فى ذات الله سبحانه وتعالى؛

"0

وهذا المذهب لا ينظر إليه ابن تيمية على أنه كفر كا مذهبين السابقين, ولكنه يرى أنه لا يخلى من بعد عن حقيقة الشريعة: وذلك إذا وصل إلى الحال التى يدعون فيها سقوط التكليف» فإنه لا يرتضى ذلك ولا يقيله, فإنه زيغ عند من يعتقده؛ فالفناء فى الله يقبله مالم يؤد إلى

القول الذى يزعمه بعض المتصوفة,

القسم الأول: وهى المحمودء الفناء الدينى الشرعى الذى جات به الرسلء وأنزل به الكتبء وهى أن يفنى عما يأمر به الله بفعل ما أمر الله به. فيفنى عن عبادة غيره بعبادته, وعن طاعة غيره بطاعته, وطاعة رسوله. وعن التوكل على غيره بالتركل عليه ومن محبة سواه بمحبته ومحبة رسوله. وعن خوف غيره بخوفه, بحيث لا يتبع العبد هواه بغير هدى من الله. وبيحيث يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما؛ كما قال تعالى: «قل إن كان أباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترخبونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد قى سبيله فتريصوا حتى يأتى الله بأمره»٠(١)‏ فهذا كله مما أمر الله به.

القسم الثائي: وهو الذى يذكره الصوفية: وهى أن يفنى عن شهود ما سوى الله فيفنى بمعبوده عن عبادته, وبمذكوره عن ذكرهء وبمعروفه عن معرفته؛ بحيث قد يفيب عن شهود نفسه لما سوى الله. فهذه حال ناقصة قد تعرض لبعض السالكين. وليس هذا من لوازم طريق الله. ولهذا لم يعرض مثل هذا للنبى عَلتَّهُ والسابقين الأولين» ومن جعل هذا نهاية السالكين فهو ضال ضلالا هبيناً. وكذلك من قال إنه من لوازم طريق الله فهو مخطئ؛ بل هو من عسوارض طريق الله التى تعرض لبعض الناس دون بعض وليس هو من اللوازم التى تعرض لكلسالك.

القسم الثالث: وهى الفناء عن وجود السوىء بحيث يرى أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق» وأآن الوجود واحد بالعين «فهى قول أهل الإلحاد والاتحاد الذين هم من أضل العنات»؟).

ه524

والقسم الثانى هو الذى ينطبق عليه الفناء الذى يقوله أصحاب مذهب الاتحاد؛ وأما الثالث فهى يتجه إلى قول أصحاب وحدة الوجود, وأنه يدكم على أصحاب القسم الثانى بأتهم ضالون؛ ولم يحكم بأنهم ملاحدة, ولا زنادقة؛ بل قال إنهم جهلة أى ضالون؛ وأكنه يغير الحكم إذا قالوا أنهم يصلون إلى الحال التى يسقط فيها التكليف فى زعمهم.

40 - وبعد.. فقد أفضنا فى القول فى الوحدانية؛ وما يتصل بها من كلام فى صقات الله تعالى مثبتين ونفاة. لأن تلك المسألة كانت المعركة الأولى التى أثارتها العقيدة الحموية؛ ومن أجلها زج بذلك العالم الجليل فى غيابة السجن؛ ولبث فيه نحى ثمانية عشر شهراً وتزيد.

ثم تكلمنا عن الوحدانية من حيث الإنشاء والتكوين؛ لأن مسالة الإرادة الإنسانية والقدرة الإلهية وموضوع التكليف والاختيار كانت مثار بحث بين الأقدمين والمحدثينء وخاض ابن تيمية غمارها؛ وشن على الأشاعرة حرباً فيهاء وكانت المعركة بينه ويينهم بسببها وبيب غيرها مما خالفهم فيه من المسائل.

ثم تكلمنا على الوحدة فى العبادة والتقرب إلى الله بالأولياء والعباد, وا لاستغاثة بيغير الله تعالى وزيارة قبور الصالحين بعد مماتهمءوقبر النبى عله والروضة الشريفة: وتلك كانت مسألة المسائل ألتى اشتدت فيها الخصومة: بين ابن تيمية ومعاصريه؛ بل بينه وبين جماهير المسلمين إلى يومنا هذاء وكان لابد أن ندرس فيها وجهة نظر ابن تيمية» ووجهة نظر مخالفته» وما نراه الحق فى هذه القضية التى استمسك فيها رضى الله عنه برأيه إلى آخر رمق من حياته؛ وأقى مالقى فى سبيل ذلك من الأذى» حتى مات مضيقاً عليه فى محبسه؛ ثم درسنا الوحدانية مع مذهب وحدة الوجود». ومذهب الحلوليين, ومذهب الاتحاديين؛ لأن المعركة بينه وبين الصوفية حول هذه المسائل كانت مستعرة الأوار» لقى بسببها الأذى: اقد نفى من' القاهرة إلى الإسكندرية بسببها فكان لابد من بيان هذه المسالة لكى تعلم المسائل التى ثار حولها الخلافء وأثرت فى مجرى حياة هذا العالم الجليلء فنقى بسببها. أو ضيق عليه من أجلها.

كان لابد إذن من دراسة هذه المسائلء لأن دراستها جزء من دراسة حياته؛ ولأنها جزء من المعركة التى قامت بينه وبين خصومه؛ ولا تعرف المعركة على وجهها إلا إذا فهمت أوجه الخلاف فيها على حقيقتها؛ واذلك أفضنا بعض الإفاضة بالقول فيها؛ ونقلنا فى كثير من الأحوال عباراته ليلمس القارئ من الكلمات خواطر الكاتب. ونبضات قلبه القوى, وخلجات عقله الجبار.

581

وما بقى من المسائل المتعلقة بالاعتقاد إلا الإيعان» ولم تكن أراؤه فيه موضوع معارك؛ ولم ينزل به أذى بسببهاء ورأيه فيه كان قريبا من رأى معاصريه. وام يكن غريباً عليهم؛ وإذلك نشير إلى آرائه فيه بإشارات عابرة ونكتفى بذكر أمرين: (أحدهما) كلامه فى الإيعان من حيث زيادته ونقصه وكون العمل جزءاً منه أوليس بجزء (وثانيهما) رأيه فى الإقامة ومثازل الصحابة, وإنتكلم فى كل واحد منها بكلمة موجزة. ايعان

4" اختلف العلماء فى الإيمان من حيث دخول الأعمال فى حقيقته. فقد اتفقوا على قدر واختلفوا فى قدر, واتفقوا على أن التصديق والإذعان لما جاء به الرسول. وشهادة أن لا إله إلا الله ون محمداً رسول الله ركن الإيمان الأول واختلفوا فى الأعمال أفتعد جزءاً من الإيمان أم لااتعد جَرءاً منه؛ فالخوارج وا معتزلة اعتبروا الأعمال جزءاً من الإيمان, فمرتكب الكبيرة ليس بمؤمن» وهى كافر عند الضوارج» وفى هنزلة بين المنزلتين عند المعتزلة. ويصعح أن يسمى مسلماً عندهم, ولا يسمى مؤمناً؛ وطائفة من أهل السنة قالوا إن الأعمال ليست جزماً من الإيمان» وأول من قال ذلك حماد بن أبى سئيمان شيخ أبى حنيفة رضى الله عنهماء بيد أن هؤلاء يعتبرون المؤمن المرتكب معصية مذموماً؛ وأنه يدخل النارء ويهذا يفترقون عن المرجئة. فإن أوائك المرجئة إن استثنينا هن بينهم من سموهم مرجئة السذ يقولون: لا يضر مع الإبعان معصية؛ كما لا ينفع مع الكفر طاعة,

هذه خلاصة موجزة أشد الإيجاز لأقوال العلماء فى كون العمل جزءاً من الإيمان أو ليس بجزء منه. وقد فصلنا القول عند الكلام فى الفرق الإسلامية, فذكرنا عند الكلام فى كل فرقة رأيها.

ورأى ابن تيمية فى هذا هو رأى السلف الصالعء وهى التصديق بكل ما جاء به النبى َيه والإذعان له ويروى فى ذلك قوله عّ: «الإيمان أن تؤمن بالله وسلائكته وكتبه ورسله واليوم الآخرء وتؤمن بالقدر خير وشره»؛ والعمل عنده جزء من الإيمان» ولذلك يقول النبى ه: «الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إل إلا الله, وأدناها إماطة الأذى عن الطريق»(!,

لا"

وإذا كان العمل جزءاً من الإيمان فإن الإيمان يزيد وينقص فى نظر ابن تيمية, ويسرد فى ذلك الآيات القرآنية الصريحة فى ذلك ولا يتأولهاء بل يأخذ بظاهرها الصريح, ويعتبره نصاً فى الموضوع من غير بحث ولا نظر وراءهء فيذكر قوله تعالى: «إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم, وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ريهم يتوكلون»(١)‏ وقوله تعالى: «وإذا ما أنزات سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً؛ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرونه وأما الذين فى قلويهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم»() وقوله تعالى: «هى الذى أتزل السكينة فى قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم»() وقوله تعالى: «والذين اهتدوا زادهم هدى»(') وقوله تعالى: «إنهم فتية أمنوا بربهم وزدناهمهدى»*).

ويسرد أيضاً الآثار المثبتة أن الصحابة ومن جاء بعدهم كانوا يرون أن الإيمان يزيد وينقص, فيروى عن أبى الدرداء أنه كان يقول: «من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه؛ ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد هو أم ينقصء وإن من فقه الرجل أن يعلم نزفات الشيطان أنى يأتيه» وقد روى أن على بن أبى طالب قال: «إن الإيمان يبدو كلمظة قى القلب كلما ازداد الإيمان ازدادت اللمظة»[!),

6٠‏ ؟- ولكن إذا كان الإيمان يزيد وينقصء والأعمال جزءاً منه؛ فهل يعد من ارتكب كبيرة غير مؤمن؟ هنا يقرر ابن تيمية أن الإيمان باعتباره يزيد وينقص له أصل إذا لم يتوافر يكفر الشخص؛ ولا يعد مؤمناً؛ وما عداه لا يكقر به الشخص, بل يعد مؤمناًء وإن كان ناقص الإيمان؛ والأصل الذى يكفر إذا تركه هو شهادة أن لا إله إلا اللهوأن محمداً رسول الله وأن كل ما جاء به محمد صدقء فهذا الجزء هو الذى إذا لم يتوافر لا يكون به الشخص مؤمناً؛ ويخرج من زمرة المؤمنين.

. وأما مرتكب الكبيرة فلا يعد كافراً: بل يعد عاصيا أو فاسقاً؛ كما لا يقال إنه فى منزلة بين المنزلتين» فهى مؤمنء ولكن ئيس كامل الإيمان؛ ويقول فى ذلك رضى الله عنه: «إن قيل إذا كان الإيمان المطلق يتناول جميع ما آمر الله به ورسوله يلزم تكفير أهل الذنوب كما يقول الخوارج؛ أو تخليدهم فى النار وسلبهم الإيمان بالكلية كما يقول المعتزلة» وكلا هذين القولين شر من قول المرجئة: فإن المرجئة منهم جماعة من العلماء والعباد المذكورين عند

(1) الأنفاله 57 . (؟) البقرة: )١( ١7‏ الفتع: ؛ (؟) محمد: ١١‏ (ه) الكيف: ؟١‏

(1) راجع كتاب الإيمان ص١٠‏ واللمظة كنكتة أثر يظهر على القلب.والتعبير مجازى. فياخ ؟

الأمة بخيرء وأما الخوارج والمعتزلة فأهل السنة والجماعة من جميع الطوائف مطبقون على ذمهم... وقد اتفق الصحابة والتابعون لهم بإحسان: وسائر أئمة المسلمين على أنه لا يخلد فى الثار أحد ممن فى قلبه ذرة من إيمان.

وهكذأ نرى ابن تيمية فى هذه المسالة, كما كان فى غيرها سلفياً متسامحاً؛ ولم يكن خارجياً متشدداً؛ فلم يخرج أحد من أهل القبلة لرأى ارتآه, أو فكر قاله. إلا أن يكون فى كلامه ما يتنافى مع شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن ما جاء به محمد حق وصدق؛ ولذلك كان مع كثرة مجادلاته لا تجد كلمة الكفر فى جدله كثيرة وإن كانت كلمات البدعة والزيغ والضلال فى نظره كثيرة... والله أعلم.

الإمامة العظمن

1" لابب من إمام يقيم الجماعات. وينفذ الحدود ويجمع الزكوات من الأغنياء لترد على الفقراء. ويحمى الثفورء ويفصل بين الناس فى الخصومات بنفسه أن بثوابه» ويلم الشعثء ويجمع المتفرق, ويوحد الكلمة؛ وينفذ أحكام الشرع؛ ويقيم المدينة الفاضلة ألتى حث الإسلام على إقامتها.

على هذا أجمع المسلمون وعلى هذا استقام أمر الدين فى صدر تاريخه؛ وقد اثفق المسلمون على أن الإمام يجب أن يكون له شروط: واختلفوا فى مداها؛ فمنهم من قال إنه يجب أن يكون قرشياًء واكتفى بهذا الشرط مع استقامة فى الدين وأن يكون أفضل المسلمين إن أمكن؛ وأن تتم له البيعة الحرة الخالية من شوائب الإكراه؛ ومنهم من لم يشترط القرشية» وأوائك هم الخوارج فقد اشترطوا أن يكون أفضل معاصريه إن أمكن من غير اشتراط أن يكون قرشياً. واشترط الشيعة أجمعون أن يكون هاشميا علويا؛ بيد أن منهم من أجاز إهامة غير الهاشمى إن ارتضاه الناس: فأجازو! إمامة المفضولء وأولئك هم الزيدية. وإذلك لم يرفضوا إمامة أبى بكر وعمر رضى الله عنهما لصحة بيعتهما؛ ورضا على بها ود.خوله فى طاعتينا ‏

ومن الشيعة من لم يشترط أن يكون فاطميا كالكيسانية؛ وجمهورهم الأكبر تمسكوا بأن يكون علوياً فاطمياً: وأن لا إهامة إلا فى أولاد فاطمة على خلاف طويل بينهما قد أشرنا إليه عند الكلام فى الفرقء وأوائك يسمون الرافضة لأنهم رفضوا إهامة الشيخين أبى بكر وعمر رضمى الله عنهما؛ ولا يسمى الزيدية رافضة؛ لأنهم لم يرفضوا إهامتهما.

امن

05 وابن تيمية مع أهل السنة والجمهور من أن الإمام يشترط أن يكون قرشياً. لاثثار الكثيرة الواردة فى فضل قريشء والمشيرة إلى أن الإمامة فيهمء فقد قال النبى عت: «لا يزال هذا الأمر فى قريش ما بقى من الناس اثنان». وفى الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله عه قال: «الناس تبع لقريش فى هذا الشأن مسلمهم تبع لمسلمهم؛ وكافرهم تبع لكافرهم» وقد قال النبى مللّ: «الناس تبع لقريش فى الخير والشر» وفى البخارى عن معاوية أنه قال:؛ سمعت رسول الله طَنّهُ يقول: «إن هذا الأمر فى قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين»!') بيد أن ابن تيمية لا يكتفى باشتراط القرشية: بل يشترط فى ذلك ثلاثة شروط؛ أولها: أن تكون ولايته بمشورة من المسلمين؛ وثانيها: أن يبايع: وثالثها :العدالة. ْ

أما شرط المبايعة فلا نزاع فيه. وأما شرط المشورة فيآخذه من حديث عمر رضى الله عنه: «من بايع رجلا بغير مشورة المسلمين فلا يبايع هو ولا الذى بايعه» وأما شرط العدالة فقد اتفق المسلمون على اشتراطه عند الاختيار: ولكن اختلفوا فى طاعته؛ إذا ظهر فاسقاً, أو تأمر عليهم فاسقء وكان غير خليقة؛ اختلفوا فى ذلك على ثلاثة أقوال. أولها: أن يرد جميع أمره. ولا يطاع فى طاعة ولا معصية؛ لأن ولايته ظلم: وطاعته وى فى عدل إقرار لهذا الظلم,

وثانيها: وهو أقواها وأعلاها؛ وعليه الاكثرون أن يطاع فى الحق وألا يطاع فى معصية أخذاً من الحديث «لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق».

ثالثها: أنه لو كان الفاسق هو الإمام الأعظم. يطاع فى الطاعة:؛ ولا يطاع فى المعصية. وإن كان الفاسق ليس هو الإمام الأعظم, بل أحد ولاة الأقاليم أى من دون ذلك فإنه ترد طاعته فى عدل وظلم ولايقر؛ لأن الإمام الأعظم لايمكن تغييره إلا بفتنة؛ ومن دونه يمكن

ويختار ابن تيمية الرأى الوسطء وهو الطاعة فى العدل؛ والعصيان فى الظلم. وقد اتفق المسلمون على أنه لا طاعة فى معصية قط؛ وإنما خلافهم فى طاعته فى الحق والعدل, )١(‏ منهاج السنة صفحة ه ج؟.

16.

101 وهنا يثار بحث فى أمرين (أولهما) إذا لم يتيسر تحقق شروط الولاية للإمام الأعظم بأن لم تتوافر القرشية, أو لم تتوافر الشورىء أو لم تتوافر العدالة ؛ فهل يكون الناس من غير خليفة (ثانيهما) أيصح الاشتراك فى الفتن للتغيير أم لا يصح الاشتراك قط, ويكون السعى فى التغيير من غير انتقاض؟

يثير ابن تيمية هذين الأمرين: ويتولى الإجابة عنهما ملتزما منهاج السنة وطريق السلفء معتيراً بالعبر. أما إجابته عن الأول فهو أنه كاهل السنة يقسم الحكام إلى قسمين؛

والأولون هم الذين استوفوا شروط الخلافة من قرشية واختبار يا مشورة الصحيحة والمبايعة وقيام بالعدل والحقء أما إذا فقدوا شرطا من هذه الشروط؛ فإن حكمهم لا يكون خلافة نبوة بل يكون ملكا؛ ويؤديه الاستقراء التاريخى إلى أن الخلافة الإسلامية النبوية المهمدية لم تكن إلا ثلائين سنة بعد النبى مُللّه. وبعدها صارت ملكا عضوضاً يعض عليه بالنواجذء وذلك الاستقراء فيه تصديق للنبى مه إن يقول: «الخلافة بعدى ثلاثون ثم تصير ملكا عضوضأً» ويقول فى ذلك ابن تيمية: «الذى في السنن خلافة بالنبوة ثلاثون ثم تصير ملكا» ثم يحكم بأن بنى أمية وينى العباس, كانوا ملوكا تسموا بسماء الخلفاء؛ فيقول فى ملك يزيد بن معاوية: «يعتقد أهل السنة أنه ملك جمهور المسلمين: وخليفتهم فى زمانهم وصاحب السيفء كما كان أمثاله من خلفاء بنى آمية وينى العباس» ثم يقول: «فيزيد فى ولايته هوواحد من هؤلاء الملوك ملوك المسلمين المستخلفين فى الأرض».

وهى يرى الطاعة لهؤلاء الملوك المستظفين. وإن لم يكونوا خلفاء نبوة لعدم استيقائهم شروط الخلافة النبوية الصحيحة. تجب طاعتهم والخضوع لحكمهم؛ وهم ولاة الأمر؛ وذلك لأنه يرى كرأى أحمد والشافعى ومالك أن كل متغلب تجب طاعته حتى يغير من غير فتنة؛ ولأنه يرى أن أوائك مهما يكن من أمرهم يعدون ملوك المسلمين ما داموا هم الحاكفين, ولا ينازعهم عدل أمين قد استوفى شروط الخلافة النبوية؛ ولأنهم يقيمون الجمع والجماعات» ويقيمون المدود, وينظمون الولايات, ويغزون أعداء المسلمين. ويدافعون عن البلا؛ وكونهم فجاراً لا يمنع تقديم الطاعة لهم, حتى يغيروا ما دامت الطاعة لا معصية فيهاء أى ليست فى ذات ا معصية والفجور: ويقول فى ذلك: «والصواب الجامع فى هذا الباب أن من حكم أو قسم 1"

يعدل نقذ حكمه وقسمته؛ ومن أمر بمعروف أو نهى عن منكر أعين على ذلك إذا لم تكن فى ذلك مفسدة راجحة()؛ وأنه لابد من إقامة الجمعة والجماعة, فإن أمكن توأية إمام بر لم يجن تولية فاجر ولامبتدع يظهر يدعته؛ فإن هؤلاء يجب الإنكار عليهم بحسب الإمكان:؛ ولا تجوز توليتهم: فإن لم يمكن إلا تولية أحد رجلين: أحدهما فيه دين وضعف عن الجهاد, والآخر فيه 'منفعة فى الجهاد مع ذنوب له كانت تولية هذا الذى ولايته أنفع للمسلمين خيراً من تولية من ولايته أضر على المسلمين؛ وإذا لم يمكن صلاة الجمعة والجماعة وفيرهما إلا خلف الفاجر والمبتدع صليت خلفه. ولم تعد..»(",

4 ؟- وترى من هذا أن نظرة ابن تيمية عملية: يهمه تحقق إقامة الدولة الإسلامية, وتنفيذ الأحكام الدينية وسد الثغورء وحماية الدولة من أعدائهاء وتثبيت النظام» وتقوية دعائمه؛ فإن أمكن أن يقوم بذلك العدلء كان ذلك هى الدين في صميمه ولبه. وإن لم يمكن إقامة العدل القوى الذى يحمى الذمار» ويحسن التدبير» ووجد الأمير القوى الحسن الرأى والتدبيرء وإن لم يكن عدلا قى كل أحواله فرضت طاعته؛ وهو فى ذلك ينهج متهاج الإمام أحمدء فقد سثل عن أميرين أحدهما قوى فاسق, والآخر تقى ضعيفق: مع أيهما يعمل المجاهد؟ فقال رضى الله عنه: مع القوى؛ لأن فسقه على نفسه, وقوته للمسلمين؛ ولا يعمل مع الضعيف؛ لأن تقواه لنفسه. وضعفه للمسلمين.

وعلى هذا النظر يرى ابن تيمية طاعة ولى الأمر فى غير معصية؛ ويقول فى تأييد ذلك: قال الله تعالى: «يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسولء وأولى الأمر متكمء(”). وفى الصحيحين عن أبى ذر قال: «إن خليلى أوصانى أن أسمع وأطيع؛ وإن ولى عليكم عبد حبشى مجدع الأتفه وروى البخارى أن رسول الله عله قال: «اسمعوا وأطيعواء وإن استعمل عليكم عبد حبشى كأن رأسه زييبة..» وفى صحيح مسلم عن أم الحصين أنها سمعت رسول الله عله بمنى أو بعرفات فى حجة الوداع يقول: «وإن استعمل عليكم أسود مجدع يقودكم بكتاب الله قاسمعوا وأطيعواء!”).

)١(‏ المفسدة الراجحة فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر تكون حيث يترتب عليها فتنة, وحيث يتخذ الأمر بالمعروف والنهى عن المتكر للتخذيل عن جهاد بإضعاف الثقة فى القائد, أى الحكم أو نحو ذلك؛ والحق أن الاستتكار فى هذه الحال لا يكون من قبيل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر, يل دعوة إلى فتنة, (5) همنهاج السنة جا ص..1؟. (؟) النساءئ قم (6) منهاج الستة ج؟ /41.

551

6 وإن هذه الطاعة واجبة ما دامت فى غير معصية, ولا طاعة فى معصية مطلقاً: ولكن... هل تجوز الثورة على الظالم أى من يكره الناس على الطاعة فى المماصى؟ وهذا هى الأمر الثانى الذى أشرنا إليه فى أول قوإنا. ويقرر ابن تيمية أنه لا يطيع المؤمن مطلقاً فى معصية: وأن ذلك جهاد؛ واذلك لم يطع عندما أمروه بالامتناع عن الفتوى فى الطلاق؛ أى زيارة القبورء أى غيرها مما رأى أن الامتناع فيه معصية؛ وأكنه لم يسوغ الثورة والانتقاض, بل أمر بالاحتمال مع الصبر؛ لأنه يرى الثورة والفتن انتقاضاً وفوضى وهدماً؛ والفوضى يقع فيها مظالم كثيرة: والحكم على صورة من صوره خير من الفوضى على أحسن صورة من صورهاء ولا عدل مع الفوضىء وقد يكون خير فى حكم الفاسقين؛ ولأن الاستقراء التاريخى لم نجد فيه فتتة أقامت عدلا وخفضت ظلماً» بل إنها تفتح الباب لدعاة البغى والعدوان والفساد, وإن التغيير يكون بالإرشاد والموعظة الحسنة, والكلمة الحق تقال للحكام الظالمين» مهما يكن ما يترتب عليها من قتل أو سجن. ويرى أبن تيمية كما قال النبى له «أقضل الجهاد كلمة حق لسلطان جائر» فهو يوجب على العلماء أن يجبهوا الحكام الظالمين بكلمات الحق والعدل والإرشاد؛ ويرى أن ذلك أخص أعمالهم وألزمهاء ولكن لا يسوغ الفتنة أى الدعوة إليهاء لأن التاريخ أثبت أنها لا تقيم حقأ قطء ويقول فى ذلك رضى الله عنه: «المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم كما دلت ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبى طْل, لأن الفساد فى القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة, فيدفع أعظم الفاسدين بالتزام الأدنى, وإعلنا لا نكاد تعرف طائفة خرجت على ذى السلطان إلا وكان فى خروجها من الفساد ما هى أعظم من الفساد الذى أزالته, والله تعالى يأمر بقتال كل ظالم وكل باغ كيفما كانء ولا يأمر بقتال الباغين ابتداء بل قال تعالي: «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بيتهماء فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تقئ إلى أمر الله فإن فاءت فاصلحوا بينهما بالعدل وأقسطواء!') فلم يأمر بقتال الفئة الباغية ابتداءء وفى صحيح مسلم عن أم سلمة رضى الله عنها أن رسول الله مله قال: «سيكون أمراء فتعرفون وتنكرون: فمن عرف برئ. ومن أنكر سلم؛ ولكن من رضى وتابع. قنالوا أفلا نقاتلهم؟ قال: لا ها صلوا» فقد نهى رسول الله عله عن قتالهم مع إخباره أنهم يأتون أموراً ل

منكرة. وفى الصحيحين عن ابن مسعود رضى الله عنه؛ قال: قال لنا رسول الله طلْلهُ: إنكم سترون بعدى أثرة, وأمورًا تنكرونها, قالوا فما تأمرنا يا رسول الله قال تؤدون الحق الذى عليكم. وتسألون الله الذى لكم». وقد قال طلله: «من ولى عليه وال فرآه يأتى شيئاً من معصية الله فليكره مما يأتى من معصية ولا ينزعن يداً عن طاعة,( ,2‏ '

1 هذا نظر ابن تيمية إلى الحكم والحكام؛ يرى أن الحكم الملكى تجب طاعته ما دام قد جمع شمل المسلمين: كالحكم بالخلافة النبوية الذى لم يستمر فى التاريخ إلا ثلاثين سنة ثم صار بعدها ملكاء كما أخبر النبى مله وأنهم ما داموا قائمين بالصلاة وشعائن الإسلام وحماية الدولة الإسلامية تجب طاعتهم فى غير المعاصى؛ أما المعاصى فتستنكر عليهم, ولكن لا يسوغ الخروج عليهم وقتالهمء ومن أجل هذا كان يقدم الطاعة لسلاطين المماليك, كما رأينا فى تاريخ حياته: ويذلك التقى علمه مع رأيه.

, 161- ورأيه فى توتيب منازل الصحابة هو رأى السلف أيضاًء فهويراهم فى القضل بترتيب أزمانهم فى الخلافة: فأبى بكر أولاء وعمر ثانياً وعثمان ثالثاً. وعلى رابعاً: ثم بعد هؤلاء المقريون السابقونء وأولهم بقية العشرة الذين انتقل رسول الله عله وهى عنهم راض. كأبى عبيدة» والزبيرء وطلحة؛ وعبد الرحمن ين عوف, وسعد بن أبى وقاصء ثم يلى هؤلاء سائر الصحابة الذين صحبوا النبى عله قبل صلح الحديبية؛ ثم الذين جاءوا من بعدهم, ووجه التفرقة بين من صحبوا قبل الحديبية؛ ومن صحيوا بعدها قول النبى عله لخاك بن الوليد عندما تكلم فى بعض الصحابة فقد قال له: «لا تسبوا أصحابى؛ فإن أحدكم لى أنفق مثل أحد ذهيا ما بلغ مد أحدهم ولا نصفه» ولأن من أسلموا قبل الفتح هم ائذين بايعوا تحت الشجرة؛ ولهم بذلك الفضلء وأدنى الصحابة مرتية عنده من أسلموا بعد الفتح» ومنهم معاوية وأبوه. ولا ينكر مع ذلك صحبته, وا لله سبحانه وتعالى أعل(؟,

.؟١/,ص منهماج السنة ج؟ ص/41. (؟) منهاج السنة ج؟‎ )١( 55

فقه أبن تبمية

- نكتفى من أراء ابن تيمية بما ذكرناه من رأيه فى العقائد, وقد فصلنا القول فيه لأنه موضوع ال معركة الشديدة التى كانت بينه ويين مخالفيه, واستمرت إلى أن اتتقل إلى رحمة الله راضياً مرضياًء وقد ذكرنا رأيه فى السياسة بإجمال؛ لأنه لم يكن موضع جدال بينه وبين مخالفيه؛ بل كان فيه يتصدى للدفاع عن جماعة المسلمين فى رأيها مخالفاً الشيعة قى منهاجها؛ وقد جادلهم فى كتاب منهاج السنة فى كل ما قالوه وخالفوا به. ولم يترك أمراً خالقوا يه جماعة من المسلمين إلا أودعه ذلك الكتاب. وبين وجه الحق فيه فى نظره.

وإننا نعتذر عن تفصيل القول فى مناقشة ما جاء فى كتابه «الجواب الصميع لمن بدل دين المسيح» فإنه رضى الله عنه قد كان فيه مبيناً الحق فى المسيحية؛ وليس لأحد أن يعلق عليهء وهى لم يخرج عما كان يناقش به الأقدمون النصارى عندما يثبتون التحريف فى كتبهمء ولأن عرض ما جاء به يحتاج إلى كلام طويل؛ ولا يغنى عن مراجعته؛ فهى فى نحو أربعة مجلدات ضخام؛ وهى لا يكشف عن لون جديد لم نبينه من تفكيره؛ وإن كان يعلن بابا مستقلا من أبواب جهاده فى سبيل الحق والدينء وإن الاشتغفال بدراسة ذلك الكتاب كله تشغلنا عن دراسة الأمر الذى بدا فيه استقلاله الفكرى كاملاء وهو فقهه, وأكن سنخص ذلك الكتاب بكلمة عند الكلام فى كتبه.

وإنه إذا كانت آراوه فى العقائد والدفاع عنهاء والمجادلة حولها قد كشفت عن اطلاع واسعء وتفكير عميقء فإنها ليست جديدة فى ذاتهاء إذا استثنينا مسألة زيارة الروضة الشريفة والاستفاثة بالحضرة المحمدية, أما بحثه فى الفقه فقد اشتمل على اختيارات مستقلة لم يكن فيها تابعا لمذهب معين من المذاهب الأربعة, كما اشتملت أحيانا على استقلال فكرى فى بعض الآراء خرج بها عن المذاهب الأربعة. واذلك نتجه إلى دراسة فقهه ملاحظين ذلك الاستقلال الفكرى. وإن لم يخرج نى الجملة عن منهاج أحمد فى الاستنباط.

وضضعه المذهيى:

كلهاء وقد اشترك فى كتاب ايتدأه جدهء وعمل فيه أبوهء وأتمه هى. والكتاب في الفقه الحنبلي؛ واذلك يعده أكثر العلماء فقيهاً حنبلياً خالصاً؛ وقد كان يدافع عن.الحنابلة, لفن

والحنابلة لا يشتركون فى مخاصمته؛ لأنه منهم أولا؛ ولأن آراءه التى كان يخاصم فيها مشتقة فى أصلها من المذهب الحنبلى؛ وإن كان قد انتهى إلى مخالفته فى بعض المسائل؛ واختار من غيره من المذاهب الأريعة, بل انفرد عنها جميعاً فى بعض هذه المسائل إلا أن أولئك الكثرة من الفقهاء لم يخرجوه من صفته الحنبلية» إذ هى فى كل ما وصل لم يخرج عن الأصول الحنيلية,

بيد أن ابن تيمية لم يقيد نفسه من وقت أن شب عن الطوق بدراسة الفقه الحنيلى لا يعدوه؛ بل كان يدرس غيره مع دراسته له. وخصوصاً أن كتباً كثيرة: وموسوعات طويلة قد كتبت فى الفقه المقارن: وأن آراء الصحابة والتابعين وتابعيهم قد دون كثير منهاء بعضها فى كتب السنة, وبعضها فى كتب الفقه المعنية بذلك, كالمغنى لابن قدامة؛ والمحلى لابن حزم.

فخرج أبن يتيمة عن الإطار المذهبى: إلى الدراسة الفقهية الجامعة, وأعتقد أنه درس فقه الشيعة الإمامية دراسة عميقة. وإن كتايه منهاج السنة الذى جادل فيه الشيعة يدل على أنه كان عليما بآرائهم فى الإمامة والعقائك دارساً لها دراسة فاحصة كاشفة: وإذا كان كذلك فى دراساته لعقائدهم فلابد أنه درس مع ذلك فقههم وإِذًا نجد آراءه فى الطلاق الثلاث بلفظ الثلاث وتعليق الطلاق تتلاقى أو تتقارب مع آراء الشيعة؛ إن لم تكن متحدة معها فى الجملة؛ وسنبين الاتفاق والافتراق عندما نتكلم على آرائه فى الطلاق التى نزلت به بعض المحن

-٠‏ مهما يكن مقدار انطلاقه من القيود المذهبية: فإنه كان يعتبر مذهب أحمد أمثل المذاهب الإسلامية وأقريها إلى السنة, وأبعدها عن الغريب فى الفتاوى؛ ولذلك يقول فيه: «أحمد كان أعلم من غيره بالكتاب والسنة, وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان, ولهذا لا يكاد يوجد له قول يخالف نصا كما يوجد لغيره؛ ولا يوجد فى مذهبه قول ضعيف إلا وفى مذهبه قول يوافق القول الأقوى: وأكثر مفاريده التى لم يختلف فيها يكون قوله فيها راجحا ... كقبوله شهادة أهل الذمة على المسلمين عند الحاجة كالوصية فى السفرء وقوله بتحريم تكاح الزانية حتى تتوب» وقوله بجواز شهادة العبد... وأما ما يسميه يعض الناس مفردة انفرد بها عن أبى حنيقة والشافعى مع أن قول مالك فيها موافق لقول أحمد أى قريب منه.. فهذه غالبها يكون فيها قول مالك وأحمد أرجح من القول الآخرء وما يترجح فيها القول

الى

الآخر يكون مما اختلف فيه قول أحمد... وهذا كإبطال الحيل المسقطة للزكاة والشفعة, ونح ذلك الحيل المبيحة للربا والفواحشء وكاعتبار المقاصد والنيات فى العقود.... وكاعتبار العرف فى الشروطء وجعل الشرط العرفى كالشرط اللفظىء والاكتفاء فى العقود المطلقة بما . يعرفه الناس؛ وأن ما عده الناس بيعاً فهى بيع؛ وما عدوه إجازة فهو إجازة؛ رما عدوه هبة فهى هبة, وما عدوه وقفاً فهى وقف, لا يعتبر فى ذلك لفظ معين»!",

وييدى من هذا النقل أنه يرجح مذهب أحمد على غيره من المذاهب» ويزكى نلك الأرجحية بأن ما ينقرد فيه عن غيره من المذاهب الأربعة يكون هو أقرب إلى النصء وأنه إذا رجح عليه غيرهء فإنه لابد أن يكون فى مذهب أحمد قول آخر يوافق القول الراجع؛ وأنه لا يكاد يوجد فيه دول يخالف حديثا أو أثراً» وأن ما ينفرد به هو ومالك يكون أرجح من غيره.

وفى الواقع أن كثرة الأقوال فى هذهب الإهام أحمدء وكونه مذهباً يستمد من الأثر جعله لا يخالف نصاً؛ وعاون على ذلك كون أحمد كان عاماً من أكبر علماء السنة: وكان جماعا لها؛ ولقد كان رضى الله عنه إذا أعوزه الأثر ولى كان ضعيقاً مادام غير ثابت الكذب - أخذ عن فقهاء الأثر. كسفيان بن عيينة والثورى ومالك رضى الله عنه؛ ولذلك كثرت موافقاته لمالك؛ ولايلجاً إلى القياس إلا عند الضرورة الشديدة,

وكثرة الأقوال فى مذهب أحمد كان سببها استمساكه بالسنة وتورعه عن أن يفتى بالقياس جازماء فقد كان أحياتاً يفتى فى المسالة ثم يرى حديثاً» فيفتى بمقتضى الحديث, ولا يهجر قوله الأول. ولكن يروى الاثنين؛ وأن أحمد كان أحياناً ترك فى المسالة قولين» وذلك إذا وجد الصحابة قد اختلفواء ولم يجد حديثاً يرجح أحد الرأيين على الآخر فيترك فى المسالة رأيينء ولقد قال فى ذلك ابن القيم: «إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقريها إلى الكتاب والسنة؛ ولم يخرج عن أقوالهم: فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف فيهاء ولم يجزم بقول فإذا رويت المسألة عنه - روى الرأيان فيها أو الأكثر من غير ترجيح لرأي على رأى فكان له القولان.. منسوبين إليه»!".

وقد وجد ابن تيمية فى ذلك الخلاف معينا نافعاء لأنه جعل مذهب أحمد لايشتمل على )١(‏ الفتاوى جا صة!١!,‏ ١.؟.‏ (6) اعلام الموقعين ج ١‏ ص 0؟.

/

شنوذ قطء لأنه ما من قول مرجوح فيه إلا كان الراجح فيه أيضاً. فكان ذلك مزية استحستها؛ وحببته إليه؛ ومن هذه النافذة قد فتح النور ليدرس فقه الصحابة وفقه التابعين دراسة استيعاب؛ وفتح له عين الطريق ليدرس الفقه دراسة فاحصة كاشفة مميزة.

7"- إن ابن تيمية إذن حنبلى النزعة. يفضل مذهب أحمد على سائر المذافب الإسلامية؛ لأنها مذاهب الجماعة, فمذهب أحمد خير المذاهب الإسلامية؛ إذ يجد فيه خصوبة لايجدها فى غيره؛ وخصوصاً فى احترامه لما يتعارقه الناس والعقود والشروط ما دام لانص يحرم ولادليل من الشارع يمثع.

ولكن مع هذا يلاحظ أنه ليس ممن يرى أن الحق يسوغ احتكاره فى مذهب لا يعدوه» أو يصح أن يدعى ذلك؛ فكل من الأئمة يلتمس الحق» ويجتهد فى طلبه مخلصا غير وان؛ ولاكسلء ولذلك قرر أموراً ثلاثة كل واحد هنها دليل على أنه لايميل إلى التعصب المذهبى, وأن تقديره للمذهب الحنبلى ليس من قبيل التعصب بل هى من قبيل النزعة السلفية فيه,

وهذه الأمور الثلاثة هفى:

)١(‏ أنه يقدر الأئمة الأربعة من ناحية منازلهم الفقهية أيلغ التقدير.

(؟) أنه يوصى الفقيه المحقق ألا يلتزم مذهبا معينا إذا وجد الحق فى غيره.

(؟) وأن يترك المذاهب كلها إذا وجد حديثاً يخالفهاء وإن هذه الأمور الثلاثة هى التى برز لنا منها ابن تيمية فقيها مجتهداً. 0

تقديره للآأئمة كلهم:

7 - والأمر الأول بدا فى دراساته المختلفة لآراء الفقهاء وا موازنة بينها. واختيار أمثلها للعمل؛ كما بدا فى تقديره لآرائهم سواء فى ذلك الخطأ والصواب منها؛ وهى يعتذر عن الخطأ الذى يخالف السنة, ويذكر الأعذار المختلفة, وقد كتب فى ذلك رسالة سماها؛ (رقع الملام عن الأئمة الأعلام) وقد قال فى مقدمتها:

«ويعد.. فيجب على المسلمين بعد موالاة اللهورسوله موالاة المؤمنين» كما نطق به 1

القرآن وخصوصاً العلماء الذين هم ورثة الأنبياء والذين جعلهم الله بمثزلة النجوم يهتدى بهم فى ظلمات البر واليحر» وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم إذ كل أمة قبل مبعث محمد علماؤها شرارها إلا المسلمين: فإن علماءهم خيارهم, فإنهم خلفاء الرسول فى أفته, والمحيون لما هات من سنتهء بهم قام الكتابء ويه قامواء وبهم نطق الكتاب, ويه نطقواء وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قيولا عاماً يتعمد مخالقة رسول الله عه فى شي من سنثه فى دقيق ولا جليلء فإنهم متققون اتفاقاً يقينيا على وجوب اتباع الرسولء وعلى أن كل أحد هن الناس يؤخذ من قوله ويترك من قوله إلا رسول الله مله ولكن إذا وجد لواحد مثهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه؛ فلايد له من عذر فى تركه».

ويأخذ ابن تيمية فى شرح الأعذار فيرجعها إلى ثلاثة: أولها عدم علمه بالحديث - ثانيها علمه بالحديث: ولكن لايعتقد أن المسألة التى أفتى فيها تدخل فى عمومه أو تراد هن

5 - ثم بين أن الجهل ببعض الأحاديث لايغض من قدر الإمام, ويبين أن الجهل له أسياب عدة: ويقول فى بعضها: «إحاطة واحد بجميع حديث رسول مه لايمكن ادعاؤه قطء واعتبر ذلك بالخلفاء الراشدين الذين هم أعلم الأمة بأمور رسول الله وسنته وأحواله. وخصوصاً الصديق رضى الله عنه الذى لم يكن يقارقه حضرا ولا سفراء كان يكون معه فى غالب الأوقات» حتى أنه يسهر عنده بالليل يتذاكران فى أمور المسلمين: وكذلك عمر بن الخطاب رضى الله عنه. فإنه مَيَّهُ كثيراً ما يقول: «دخلت أنا وأبى بكر وعمرء وخرجت أنا وأبى بكر وعمر» ثم مع ذلك لما سثل أبى بكر رضى الله عنه عن ميراث الجدة؛ قال: مالك فى كتاب الله من شئ؛ وما علمت لك فى سنة رسول الله من شى» ولكن أسال الناس» فسالهم فقام المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة فشهدا أن النبى مَل أعطاها السدس... ولم يكن عمر أيضاً يعلم أن المرأة ترث من دية زوجهاء بل يرى أن الدية للعاقلة. حتى كتب إليه الضحاك بن سفيانء وهى أمير لرسول الله عي على بعض البوادى يخبره أن رسول الله عله ورّث زوجة أشيم الضبابى من دية زوجها فترك رأيه لذلك؛ وقال: لولم نسمع هذا لقضينا بخلافه... ولا بلغه أن الطاعون بالشام (وهو قادم إليه) استشار المهباجرين الأولين... ثم لأنصار... ثم مسلمة الفتح فلم يخبره أحد بسنة» حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف بسنة ' ل

رسول الله عله فى الطاعون وأنه قال: «إذا نزل الطاعون بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه. وإذا سمعتم به فى أرض فلا تقدموا عليهاء!.

6 - ويذكر فى الأمر الثاني: وهو علمهم بالحديث وظنهم أن الحديث لاينطبق على المسالة التى أفتوا فيها كالحديث المرفوع: «لا طلاق ولاعتاق فى إغلاق» فإنهم فسرو) الإغلاق بالإكراهء ومن يخالقه لايعرف هذا التفسير.

ثم يقول فى سبب عدم التطبيق لمعنى الحديث مع العلم به: «تارة يكون معناه فى لغته وعرفه غير معناه فى لغة النبى مك وهو يحمله على ها فهمه فى لغته بناءعلى أن الأصل بقاء اللغة كما سمع بعضهم أثارا فى النبيذء فظنوه بعض أنوا ع المسكرات؛ لأنه لغتهم, وإنما هو ما يتبذ لتحلية الماء قبل أن يشتد؛ فإنه جاء مفسراً فى أحاديث كثيرة صحيحة, وسمعوا لفظ الخمر فى الكتاب والسنة. فاعتقدوه عصير العنب المشتد خاصة: وبناء على أنه كذلك فى اللفة: وإن كان قد جاء من الأحاديث أحاديث صحيحة تبين أن الخمر اسم لكل شراب مسكر. ويكون اللفظ مشتركاً أو مجملا أو متردداً بين حقنيقة ومجاز. فيحمله على الأقرب عنده.... وتارة تكون الدلالة من النص خفية: فإن جهات دلالات الأقوال متسعة جداً: يتفاوت الناس فى إدراكهاء وفهم وجوه الكلام: بحسب منح الحق سبحانه ومواهبه, ثم قد عرفها الرجل من حيث العموم؛ ولا يتفطن لكون:هذا المعنى داخلا فى العام ثم يتفطن له تارة: ثم ينساه بعد ذلك: وهذا باب واسع جداً» ولايحيط به إلا الله»(),

7 ويبين السبب الثالث لمخالفة الحديث لظن أنه منسوث, فيذكر أن بعض العلماء يعتقد أن الحديث مؤول أى منسوخ لمعارضته نصاً آخر. ويضرب لذلك مثلا بما يسلكه كثير , من فقهاء العراق فى تقديم ظاهر القرآن على نص الحديث, وقد يعتقدون ما ليس يظاهر ظاهراً لما فى دلالات القول من الوجوه الكثيرة: ولهذا ردوا حديث الشاهد ويمين صاحب الحق» إن لم يكن معه شاهد آخرء وغيرهم يعلم أنه ليس فى ظاهر القرآن ما يمتع الحكم بشاهد ويمين صاحب الحق إن لم يكن غيره. ويضرب مثلا ثانيا بمعارضة مالك وطائفة من علماء أهل المدينة الحديث الصحيح بعمل أهل المدينة» ورده إلى تأويله إن خالف ما عليه أهل )١(‏ رسالة رفع الملام صفحة 4؟: ١0‏ فى ضمن رسالتين: مطبعة الآداب والمؤيد سنة ١714‏

,؟١ الرسالة المذكورة ص‎ )١( 0

المدينة بناء على أنهم مجمعون على مخالفة الخبرء وأن إجماعهم حجة مقدمة على الخبرء كمخالفة أحاديث خيار المجلسء ومنها قوله عليه الصلاة والسلام «البيعان بالخيار هالم يتفرقا» بناء على هذا الأصلء وإن كان أكث الناس يثبتون أن المدنيين قد اختلفوا فى تلك المسالة؛ وأنهم لى اجتمعوا وخالفهم غيرهم لكانت الحجة فى الخبر؛ ويضرب ابن تيمية أيضاً مثلا لمخالفة الحديث بما يقارب النص معارضة بعض فقهاء الكوفة والمدينة بعض الأحاديث بالقياس الجلىء وهو الذى يكون فيه الوصف الذى اعتبر علة, أقوى من الفرع المقيس عليه, أو مساويا له مساواة تامة لاشك فيها؛ وذلك لأن القياس إذا امستنبطت علته صارت قاعدة, والقاعدة الكلية فى الشريعة لاتنقض بخير الآحاد فى زعمه().

17 - وإننا بهذا نرى ابن تيمية الفقيه يقدر الفقهاء والأئمة الأعلام حق قدرهم, ويعتذر عن أخطائهم؛ ويبين أنهم فى أخطائهم مجزيون مثابون ؛ لأنهم مجتهدون مخلصون لا مبتدعون ولامقتاتون على دين؛ والمجتهد إن أصاب فله أجران؛ وإن أخطأ فله أجر واحدء وإنه لكان المجتهد محاسباً على خطئه بالعقاب» وعلى صوابه بالثواب, لكان فى ذلك حرج وضيق؛ وما اجتهد مجتهد فى تعرف الحق خشية الزلل؛ فإن توقى العقاب أقرب إلى النفس من الجرأة على الحق وطلبه؛ وإن كان ثمة احتمال للصواب ومعه ثواب. ويقول فى ذلك رضى الله عنه: «درك الصواب فى جميع أعيان الأحكام إما أن يكون متعذراً أو يكون متعسراً» وقد قال تعالى: «وما جعل عليكم فى الدين من حرج؛!') وقال تعالى: «يريد الله بكم اليسر ولايريد بكمالعسر»(,

وأن النبى عله ما لام مجتهداً على اجتهاده إذا كانت عنده أدواته من الفهم: ولافد س عقابا على مجتهد مخطىئ؛ ولو كان عقابا دنيويا؛ وأذلك لم يوجب على أسامة بن زيد عقاباء لا بالقصاص ولا بالدية ولا بالكفارة لما قتل من قال لا إله إلا الله فى إحدى الغزوات معتقداً جواز قتله, لأنه قالها تحث حر السيفء وقال فى هذا المقام, جمهور الفقهاء على أن ما استباحه أفل البغى من دماء أهل العدل بتأويل لايضمن بقود ولادية ولاكفارة؛ وإن كان قتلهم

وقتالهم حراماء2). )١(‏ الرسالة الماكورة ص "7؟, 44, (؟) الحج: 4/ (") البقرة: 144 (4) الرسالة المذكورة ص 71,

لمكن

ونرى من هذا أن ابن تيمية كان يتسامح فى المخالفة فى الفروع ما دأمت من مجتهد توافرت له أدوات الاجتهاد كلهاء بينما لايتسامح فى العقائد؛ ولذلك يرمى المخالفين له فى العقائد بالابتداع أحياناً» والضلال أحيانا؛ والكفر فى أحيان قليلة» ويظهر أن السبب فى ذلك أنه لا دسغى أن يكون فى أى أمر يتصل بالعقيدة خلاف. كما أنه لا اختلاف فى أصل الفرائض؛ لأن العقيدة وأصل الفرائض جوهر الدين وأبابه, والحقيقة أن الخلاف فى شئون العقيدة كانت خلافات جِزئية لاتتصل بليابها وجوهرها؛ بل يكاد الخلاف فيها يكون لفظيا.

لايلزم مذهب إمام فى أآمر إذا كان الحق فى غيره:

4 - وإذا كان ابن تيمية يقدر الأئمة الذين اعترفت الجماعة الإسلامية بقضلهم,. ويخص مذهب أحمت بفضل من التقدير لقريه من السنة؛ فإنه يقدر الحق فى هذا الشرع الشريف من غير نظر إلى سواه. فلا يسوغ لأحد أن يلتزم مذهبا معينا قد اختاره إذا تبين له أن الحق فى أمر هو فى غيرهء فإنه يجب أن يكون رائد طالب الشريعة هى الحق لذات الحق» ولليسوغ ل أن يتعصب لرجل مهما تكن إمامته ولاينظر إلى الشريعة إل من وراء

نظره. ويمنظاره لايعدوه فإن كل واحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب الروضة الشريفة محمد يله

ولذلك لايسوغ لطالب الحق الآخذ بمذهب من هذه المذاهب أن يلتزمه فى أمر من لأمور التى يرى أنها الحق فى غيره من المذاهب الأخرىء ويقول فى ذلك رضى الله عنه:

«إن الإنسان ينشا على دين أبيه, أوسيده. أى أهل بلدهء كما يتبع الطفل فى الدين أبويه, وسادته؛ وأهل بلدهء ثم إذا بلغ فعليه أن يلتزم طاعة الله ورسوله حيث كانتء ولايكون ممن إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله, قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءناء فكل من عدل عن اتباع الكتاب والسنة وطاعة الله ورسوله إلى عادته وعادة أبيه وقومه فهى من أهل الجاهلية: وكذلك من تبين له فى مسالة من المسائل الحق الذى بعث الله به رسوله, ثم عدل عنه إلى عادته, فهو من أهل الذءلا)

5 - ولكن هل يسئغ لكل شخص أن يترك مذهباً قلده لما يظنه الحق فى غيره ولى كان هذا الشخص من غير أهل النظر والاستدلال: أو كان الباعث الهوى؟

)١(‏ الفتاوى ج ‏ ص "٠١؟‏ طبع الكردى, ؟

يقسم ابن تيمية الناس بالنسبة لهذه المسالة إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: من يتبين له رجحان قول آخر على قول إمامه الذى التزم مذهبه؛ وهو يعرف الآدلة التفصيلية؛ ويدرك الراجح من المرجوح: وعنده أدوات الموازنة» ومعرفة الأحكام من النصوص والأقيسة. وهذا يكون من الواجب عليه أن يتبع الحق فى دين الله تعالى, ولايتبع سواهء حتى يكون عاملا بقوله تعالى: «فلا وريك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم: ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليماء!') وقوله تعالى: «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرأ أن يكون لهم الخيرة من أمرهم؛!') ولذلك إذا تبين لمن عنده قدرة على الاستدلال أن الحق فى غير المذهب الذى التزمه وجب عليه أن يتبع ما فى المذهب الآخر الذى لاح له الحق فيه, وذلك لأن الأئمة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم يعرفون من الأحكام مالا يعرف غيرهم, وهم وسائل وطرق وأدلة بين الناس ويين الرسول لمن لم يعرف الدليلء وقد يكون عند أحدهم ما هو أقرب إلى قول الرسول وبيائه؛ فعليه أن يتبعه, ولايفض ذلك من قدر مَنْ اختاره!؟).

وإن ابن تيمية يرى أن القادر على الاستدلال فى مسائل الدين لايجوز له أن يقلدء وكذلك القادر على الاستدلال فى مسألة معينة:, لايقلد: فيها؛ ويروى عن أحمد أنه قال إن قلد أثم, ويذكر أنه مذهب الشافعى وأصحابه وسفيان الثورى.

٠‏ - القسم الثانى: الرجل الذى ليس له قدرة على الاستنباط وهذا لايتبع الدليل بل يتبع رجلا صالحاً مجتهداً إماماً. ويقول فى ذلك: لما كان من الأحكام ما لا يعرفه كثير من الناس رجع الناس فى ذلك إلى من يعلمهم ذلك؛ لأنه أعلم بما قاله الرسولء وأعلم يمراده: فلأئمة المسلمين الذين اتبعوهم وسائل وطرق وأدلة بين الناس وبين الرسول يبلغونهم ما قاله. ويفهمونهم مراده بحسب اجتهادهم واستطاعتهم».

وهؤلاء العامة فى كل زمان: ولذلك كان الشافعى رضى الله عنه يقسم العلم إلى قسمين علم الخاصة وعلم العامة, وأن علم العامة هو العقيدة وأصول الفرائضء وأن علم الخاصة ما وراء ذلك كالعلم بالناسخ والمنسوخ والمحكم والمؤول والنص والظاهر: والعام والخاصء وين ذلك من مطرائق استنياط الأحكام من الشرع الشريفء فإن هذه لا يعلمها إلا الخاصة: والأول فرض عينء والثانى فرض كقاية.

(0 التساء 56 000000 (1) الأحزاب: 51 (؟) هذا خلاصة ما فى صلفحة 7٠١7‏ من الفتاوى الجزء المذكور. كل

وإذا كان العامى لاعلم له بأصول الاستنباط. وطرائق الاستدلال فإنه لايتبع الدليل. بل يتبع الرجال. ومذهبه فى الحقيقة هو مذهب مفتيه؛ ولا ينتقل من رأى إلى رأى إلا تبعا لغيره «بأن يرى أحد رجلين أعلم بتلك من الآخرء أى اتقى الله فيما يقولء فيرجع عن قول خثل هذاء فهذا يجوزء بل يجبء وقد نص على ذلك الإمام أحمد»(؟.

يحكى ابن تيمية فى ذلك خلافا من حيث إن العامى عليه أن يلتزم بمذهب معين: أو يتبع المفتى فيقول فى هذاء أصل هذه المسألة أن العامى هل عليه أن يلتزم مذهياً معيناً يأخذ بعزائمه ورخصه؟ فيه وجهان لأصحاب أحمد : وهما وجهان لأصحاب الشافعى: والجمهور من هؤلاء وهؤلاء لايوج بون ذلك والذين أوجبوه يقولون إذا التزمه لم يكن له أن يخرج عنه مادام ملتزماً له. أو مالم يتبين له أن غيره أولى بالالتزام منه().

1١‏ - القسم الثالث: من ينتقل من مذهب إلى مذهب من غير دليل إن كان من أهل الاستدلال أو من غير مقصد دينى إن كان من العامة يل ينتقل لهوى وغرض ومصلحة؛ ومن غير عذر شرعى يسوي الانتقال تيسيراً و تسهيلاء وطلباً لليسرء فإن هذا لايسوغ لأن ذلك عبث بالمذاهب والشريعة» ويذكر ابن تيمية أن أحمد بن حنبل رضى الله عنه وغيره؛ قد نهوا عنه. لأنه لايسغ لأحد أن يعتقد الشئ واجبا أى حراماء ثم يعتقده غير واجب أى غير حرام المجرد الهوى. وذلك كمن يطلب الشفعة بالجوار أخذاً من مذهب أبى حنيفة؛ لأنه يعتقد أنه حق وهو يلتزمه؛ ثم إذا طلبت منه الشفعة بالجوار عارض قائلا أنها ليست ثابتة بالنص.

مثل ذلك من يعتقد أن الإخوة الأشقاء؛ أو لاب يكونون عصية مع الجد فى الميراث. ويتقاسمون الباقى معه. فإذا صار جداً ومعه أخ قال إن الجد لايصح أن يقاسمه الإخوة أخذا بمذهب أبى حنيفة الذى يعتبر الجد أبا فى الميراث» يحجب كل الإخوة كما يحجب الأب كل الإخوة.

ومثل ذلك أيضاً من يشنع على من يلعب الشطرنج أو يشرب النبيذ المختلف فيه؛ أى يحضر السماعء إذا كان من وقع منه ذلك عدوا له. فيشدد النكير عليه ويطالبه بالهجرة, ويطلب إنزال العقوية الرادعة به, فإذا فعل ذلك صديقه أى ذى جاه قصر لسانه؛ وقال إنه فصل مجتهد فيه. )١(‏ الفتاوى الجزء المذكور ص ١٠؟,‏ (؟) الكتاب المذكور. ٠‏

يذكر ابن تيمية هذه الأمثال» ويقرر أن هذا لايسوغء ومن كان كذلك هو ممن يحلون ويحرمون عبثاً بالدين والشرع الشريف. ويقول فى ذلك رضى الله عنه: «لاريب أن التزام المذاهب والخروج عنها إن كان بغير أمر دينى مثل أن يلتزم مذهباً لحصول غرض دنيوى من مال أو جاه ونحى ذلك فهذا مما لايحمد عليه؛ بل يدم عليه فى نقس الأمرء ول كان ما انتقل إليه خيراً مما اتتقل عنه؛ وهى بمنزلة من يسلم لايسلم إلا لغرض دنيوى؛ أو يهاجر من مكة إلى المدينة, لامرأة يتزوجها أو دنيا يصيبهاء وقد كان فى زمن النبى مله رجل فاجر إلى امرأة يقال لها أم قيس, فكان يقال له مهاجر أم قيسء فقال النبى عله على المنبر فى الحديث الصحيع: «إنما الأعمال يالنيات: وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله, فهجرته إلى الله ورسوله, ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجهاء فهجرته إلى ما هاجر إليه»!"",

ترك المذهب للحديث:

- يترك ابن تيمية المذهب للحديث النبوى؛ ولايسوغ الاستمساك بالمذهب مع الحديث الصحيح قط؛ وإن كل من يعتقد صحة حديث عليه أن يأخذ به؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: «فإن تنازعتم فى شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمئون بالله واليوم الآخر () ولذلك لايجب على أحد التزام مذهب معين إلا قول الرسول عَلله,

وإن السلف الصالح منذ عهد الصحابة إلى عصر الأئمة المجتهدين ما كانوا يعتبرون لأحد قولا إذا ثبت قول الرسول عله ؛ ويروى فى ذلك أن عبد الله بن عباس لما كان يناقش فى نكاح المتعة الذى كان يزعم أنه مباح فى الإسلام» وقيل له إن أبا بكر وعمر رضى الله عنهما قد حكما بيطلائه, قال رضى الله عنه: «يوشك أن تنزل عليهم حجارة من السماء. أقول لكم قال رسول الله ع ويقولون قال أبى بكر وعمر»(").

وان الأثمة الأريعة من بعد الصحابة والتابعين كانوا ينهون الناس عن تقليدهم إذا وجدوا حديثاً يخالف قولهم. وهذا أبى يوسف تلميذ أبى حنيفة كان على رأى شيخه فى الأحباس: فلما حج وأطلعه الإمام مالك على أحباس الصحابة رجع عن مذهب شيخ وأجاز (!) الفتاوى ج .صن ١.؟.‏ (1) النساء: (؟) الكتاب المذكور صفحة "ه؟,

الوقفء وحكم بلزومه؛ وقال مالك رضى الله عنهما: «رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله ولو رأى صاحيى ما رأيت لرجع كما رجعت!).

ولقد كان مالك رضى الله عنه يقول: «إنما أنا يشر أخطئ وأصيبء فاعرضوا) قولى على كتاب الله وسنة رسوله». والشافعى رضى الله عنه كان يقول: «إذا صح الحديث» فاضريوا بقولى عرض الحائطه» ويقول: «إذا رأيت الحجة موضوعة فى الطريق فهى قولى».

وكان الإمام أحمد يقول: «دلاتقلد فى ديتك الرجالء فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا , ومن ترك الحديث وأخذ بقول الرجال؛ فقد ترك من لايغلط إلى من يغلط».

- ولاشك أن من عنده قدرة على الاستدلال لايسوغ أن يترك حديشاً للنبى عله لقول إهام من الأئمة مهما تكن منزلته لأنه يترك من قوله حجة ملزمة إلى من ليس قوله حجة بحال من الأحوال وأقوال الأئمة مهما تكن قابلة للرد» وأما أقوال الرسول فغير قابلة للرد ولكنها قابلة للمعارضة بمثلهاء وإذا لم تثبت المعارضة فالأصل قبواها؛ ومن ترك حديثا لقول إمام فقد جعل الأصل فرعاء والقرع أصلاء لآن قول الإمام إنما يقبل ويعتبر حجة لمقلده؛ لأنه فى نظره دارس لكتاب الله وسنة رسوله: فإذا قبل قوله دون قول الرسولء فقد جعلناه أصلاوقول الرسول فرعا وإن ذلك يكون مضاهاة للذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرياباً من دون الله؛ إن أقاموا قولهم فى الدين مقام الاعتبارء ولم يحاولوا أن يعرفوا الدين من أصوله.

وإذا كان الذى اعتقد صحة حديث ليس من أهل الاستدلال؛ ورأى معارضبة بين قول إمامه وهذا الحديث الصحيح فهل يسوغ له أن يترك الحديث: ويعمل بقول الإمام مع اعتقاد صحته؟ ظاهر كلام ابن تيمية ومؤداه أنه لايس ترك الحديث لأنه فى هذه المسألة يعد قد عرف دليلهاء فكان من أهل القهم فيها فهى يقول: «والاجتهاد ليس أمراً واحداً لايقبل التجزئ والانقسامء بل قد يكون الرجل مجتهداً فى فنء أو بابء أو مسألة , دون فن أو باب أو مسالة, كل أحد فى اجتهاده على حسب علمه»!.

لايسوغ ابن تيمية ترك الحديث لمن اعتقد أنه حديث صحيح وفهم معناه فهما مستقيما؛ إلا إذا علم المعارضء وتبين أنه أقوى من الأول؛ أو ثبت نسخه: فإنه فى هذه

(1) الكتاب المذكور صفحة 740. (1) الفتاوى ج "١‏ ص 484؟, اليل '

الحال يسوغ له أن يخالفء ويثرك الحجة إلى أقوى منها؛ والحديث إلى أصم. أو المنسوخ إلى الناسغ؛ ويقول فيمن وجد حديثاً فى مسالة واتبعه, ثم علم بمعارضة: دوالذى تستطيعه من العلم والفقه فى هذه المسألة قد دلك على أن هذا القول هى الراجح, فعليك أن تتبع ذلك. ثم إن تبين لك فيما بعد أن النص معارض راجح كان حكمك فى حكم المجتهد المستقل إذا تغير اجتهادهء وانتقال الإنسان من قول إلى قول لأجل ما تبين له من الحق محمود بخلاف إصراره على قول لاحجة معه عليه»(١),‏

4" - هذا نظر ابن تيمية فى دراساته الفقهية: ونظرته إلى الرجال والآراء؛ يقدر الأئمة الأربعة وكل الفقهاء الذين ارتضتهم الجماعة الإسلامية أئمة مهديين؛ وفقهاء مجتهدين؛ وينظر إلى فقههم كأنه وحدة فكرية لايتعصب ذهب دون مذهب؛ ولايتحيز لإمام دون إهام: يل يتعمق فى دراسة كل مذهب؛ كأنه يدرسه وحده؛ ويتخصص فيه؛ حتى ليعلم دقائقه أكثر من بعض الكبار من الآخذين بذلك المذهب لا يتجاوزونه, ويغلقون الباب عليهم فى فهمه؛ ويقدر الأئمة كلهم حق قدرهم. وإن دراستهم المقارنة لهذه المذاهب قد جعلت فهمه يدق فى الوصول إلى أغوارهاء ويدرك مفارقاتها ومقارناتها فى فهم عميقء وإدراك دقيق, ومع هذه النظرات فى الأفق الواسع» قد كان يميل إلى مذهب أحمد من غير تعصب, كما بيناء ولعل تلك الدراسات الواسعة هى التى جعلته يعرف ميزات ابن حتبل لشموله وقربه من السنة وتحريره للأس. ومع هذا التقدير الشامل؛ والعلم الواسع لمذاهب الأئمة, ومذاهب التابعين» كان يحلق فى سماء الكتاب والسنة غير مقيد إلا بنصوصهها؛ وقد أدت به هذه الدراسة إلى أن يخالف الأئمة الأربعة ومذاهب الجمهور؛ لأنه رأى السنة فى غير ما قالواء ونصوص القرآن بظواهرها وبحكمها تصرح بغير ما انتهوا إليه. فخالفهم أجمعين فى أيمان الطلاق» وفى الطلاق الثلاث, وإذلك وافق الشيعة فيما قالواءأو قاريهم. وخالف فقهاء الجماعة مجتمعين, وسترى أن ذلك الرأى الذى انتهى إليه فى الطلاق والأيمان متلاق مع مذهب الشيعة الإمامية ا فى جملته وفى بعض تفصيله. ظ يك

0 - من أجل هذا نقسم الدراسات الفقهية التى تعرض لها ابن تيمية إلى أربعة أقسامء أولها - فتاوى فى مسائل تقيد فيها بمذهب أحمد بن حنبلء وتقرير الحق فيهاء وثانيها - دراسة مقارنة للمسائل فى مذاهب الفقه المختلفة. وثالثها - اختيارات من المذاهب الأربعة قالها غير متقيد فيها يمذهب معين من مذاهب السنة وإن كان فى الجملة لايخرج عن مذاهب السنة فيهاءوالقسم الرابع اجتهاده فى مسائل أداه إلى الانطلاق فيها من قيود مذاهب الجماعة؛ ومخالفتها جميعاً؛ وسنورد لكل واحد من هذه الأقسام باباً نضرب الأمثال فبه,

١‏ - فتاوى له فى مذهب أحمد

3 - مكث ابن تيمية أمداً طويلا فقيها حنيلياً يفتى فى المسائل على مقتضى مذهب أحمدء مختاراً من الأقوال فيه ما يراه أقوى حجة؛ أو أقرب إلى المصلحة؛ أى أقوى قياساً؛ أو أكثر موافقة للمذاهب الأخرى؛ وهى فى هذه الإجابة لايخلى من المقارنة بين مذهب أحمد وغيره؛ واكنها مقارنة جاءت عرضاً؛ لتحرير الموضوع وتوضيحه لا لذات المقارنة والدراسة,

ومن ذلك أكثر الفتاوى المصرية التى أفتى فيها وهى بمصر؛ فقد كان يستفتى فى مصر بوصفه فقيها حنبليا يحرر ذلك المذهبء ويقول بمقتضاهء وإن تعرض للمقارنة فلتوضيح الفكرة الحنبلية وييانها ومقامها من أقوال الجمهورء وإذا خالفت ما فى أكثر المذاهب الأربعة بين بوضوح وجه الحق فيما اختاره من المذهب الحنبلى.

وإن فتاويه فى ذلك متسعة الأفق كثيرة ؛ لا نستطيع أن نختار بعضها دون بعض, فكلها منهاج واحد فى تحرى الدقة فى النقل المذهبى ؛ والتوضيح والاستدلال » والتوجيه على ضوء أقوال السلف رضوان الله تبارك وتعالى عنهم ؛ وانختر من هذه المسائل بعضاً يتصل ببعض ما أختارته قوانين الأحوال الشخصية الجديدة من مذهب أحمد رضى الله عنه؛ أو بما نراه يتقارب من التفكير القانونى فى عصرنا أى علاجا لداء اجتماعى, ومن ذلك ها يأتى:

4

(1) طلاق المكره والسكران:

1 - يقتى ابن تيمية بأن طلاق المكره والسكران لايقع» وهى مذهب أحمد؛ فيقول فى طلاق المكره: «وطلاق المكره لايقع عند الجمهور كمالك والشافعى, إذا كان حين الطلاق أحاط به أقوام يعرفون بأنهم يعادونه ويضريونه. ولايمكنه إذ ذاك أن يدفعهم عن نفسه وادعى أنهم أكرهوه على الطلاق قبل قوله» وهى فى هذا يبين رأى أحمد, ويذكر من وافقه من الفقهاء آما من خالفه فلم يذكره هناء والذى خالفه هو أبى حنيفة, لأنه قاس الإكراه على الهزلء وطلاق الهازل يقع بنص الحديثء فطلاق المكره يقع, لأن كليهما قد فقد عنصصر الرضاء وإذا كان النكاح والطلاق والعتاق قد أهمل فيها عنصر الرضا بإمضائها فى الهزلء واعتبار الهزل جداً» والجد جداً» فقد تبين بهذا النص أنه لا يتراخى حكمها عن سيبها؛ وأن الرضا ليس بلازم فيه وأن الاختيار متوافر مع الإكراه, لأنه اختار الطلاق بدل إنزال الأذى.

وكما أن الإكراه يؤثر فى الطلاق فهو يؤثر فى الإبراء عند أحمدء ويؤثر فى الخلع المترتب على الإبراءء ولذا يقول ابن تيمية: «ومن أكرهها أبوها على إبراء زوجها وطلاقه, قأبرأته مكرهة يغير حق لم يصح الإبراء؛ ولم يقع الطلاق المعلق به, وإن كانت تحت حجر الأب: وقد رأى أن ذلك مصلحة لها فإنه جائز فى أحد قولى العلماء فى مذهب مالك وقول فى مذهب أحمد»(!),

ولاشك فى أن المال لايجب عند أبى حنيفة عند إكراهها؛ لأن العقود المالية لابد من توافر الرضا فيهاء والخلع بالنسبة للمرأة تصرف مالى تثبت له أحكام إنشاء التصرفات المالية كلهاء والرضا شرط للزوم التصرفات ا مالية: أما الطلاق فمقتضى الأقيسة الفقهية فى المذهب الحنفى أن الطلاق يققع؛ لأن الخلع بالنسبة للزوج طلاق معلق على قبول المال. لا على صحة الالتزام با ماله وقد تحقق القبول فيقع الطلاق؛ وآثر الإكراه لم يكن فى تحقيق القبولء بل أثره فى صحة الالتزام بالمال؛ ولم يكن ذلك هو المعلق عليه فى الطلاق.

4- وأما طلاق السكران فقد قال لايقع؛ وتبع فيه ابن تيمية قولا لأحمد أيضاًء وقال فيه عندما استفتى: وطلاق السكران فيه نزا ع لأحمد وغيره والأشبه بالكتاب والسنة أنه

3( مختصر الفتاوى المصرية صن م 2 , 8

لايقع؛ ويشبت ذلك عن عثمان رضى الله عنه. ولم يثبت لصحابى خلافه؛ وهو قديم قولى الشافعى: وبعض أصحاب أبى حنيفة, وهى قول كثير من السلف والفقهاء. والثانى يقع» وهو مذهب أبى حنيفة ومالك والشافعىء وزعم طائفة من أصهاب مالك والشافعى وأحمد أن النزاع إنما هو فى السكران الذى قد يفهم, ويغلط. فأما الذى تم سكره بجيث لايفهم ما يقولء ولاما يقال له, فلايقع به- قولا واحداً» وإن الأئمة الكبار جعلوا النذاع فى الجميع»('".

هذا كلام ابن تيمية فى فتاويه. وقد أخذ يعدم وجوب الطلاق فى حال السكر كحال الإكراه القانون رقم لسنة 5؟14ء ومذهب أبى حنيفة الذى كان معمولا به قبل وهى القاعدة العامة فى تصرفات السكرانء سواء آكانت عقودا أم كانت إسقاطات إنه ينظر إلى سبب السكر فإن كان محرماً تناوله مختاراًء فإنه مسئول عن تصرفاته المالية وغير المالية؛ وعلى ذلك يقع طلاقه. وتنفذ تصرفاته, وإن كان سبب السكر غير حرام, أو لم يتناوله مختاراً فإن عقوده وتصرفاته لاتلزمء فطلاقه لا يقع؛ كما لا ينعقد بيعه ولاهبته... إلخ.

3 (ب) جرائم السكران:

4 - وقد تعرض ابن تيمية لجرائم السكران فتكم فيها بأدق ما وصل إليه علماء القانون فى عصرنا الحاضرء فيقول رضى الله عنه:

«الفهم شرط التكليف, فلا يكلف المجنون ولا السكران» فعلى هذا لا يقع طلاق السك.اخ ولايجب عليه القصاص فى القتلء فإن قيل إذا سكر ثم قتلء فإنه يأثم على السكر والقتل؛ فترتب الإثم يدل على التكليف لأن غير المكلف لا إثم عليه؛ فالجواب من وجهين (أحدهما) منع ترتب الإثم على القثلء يل إنما هو مرتب على الشرب والسكرء وهذا قول من يقول: إنه كالمجنون فى سائر أقواله وأقعاله, إلا أنه وجب تكليقه. (الثانى) أنه لى ترتب الإثم على القتل والسكر لتساوى من قتل وهو صاح ثم سكر. ومن قتل وهى سكران وهذا لايقوله أحدء فإن السكران الذى لايفهم كيف يقال أن إثمه فى القثل كإثم الصاحى الذى يفهم الخطابء ويترتب على فعله العقاب».,

هذا مذهب أحمد كما يقرره ابن تيمية, ولكن ذلك الفقيه الدقيق لايكتفى بذلك: بل يفرض فروضا فقهية عملية دقيقة» فيفرض أن القاتل السكرانء قد سكر ليقدم على القتلء )١(‏ مختصر الفتاوى المصرية ص 047.

الف

أى ليميت ضميره ويصم وجدانه فيقدم غير هياب ولاوجلء فيقول: «ويحتمل أن يقال: إن السكران إن كان قصهه القتل أو الزنى أو غير ذلك من المحرمات قيل السكر, ثم فعل ذلك فى حال السكرء فإنه يكرن إثمه مثل إِثم من فعل ذلك حال الصحو وأكثرء وإن لم يكن قصده ذلك بل ابتدأ غيره بالمهابشة فقتله, فإن إثمه يكون أقل من ذلك»(').

- وإن النظر فى جرائم السكران فى القانون يتقارب مع هذا النظر الشرعى المستقيمء قفريق من فقهاء القانون اعثبروه غير مسثول عما يرتكب؛ وبيعضهم لم يعتبره عامداً؛ وبعضهم اعتبره مسئولا مسئولية ثامة, وأدقها من فصل بين السكر لارتكاب الجريمة, وبين ألسكر من غير قصد لإجرام؛ ثم يجئ الإجرام تبعاً لحال السكرء وأقد قال فى ذلك الأستاذ الدكتور محمد مصطفى القللى: ديتطرف بعض غلاة هذا الرأى الذى يمنع العقاب. فيقولون إن الشخص لايعاقب فى هذه الحالء وأو تتاول المسكر بقصد ارتكاب الجريعة, والواقع أن هذه منطقية لرأيهم, فما دام السكر يعدم التمييز والإدراك فلا محل للمسئولية, غير أنه كما يقول الأستاذ جارى«هذا مجرد فرض نظرى؛ فالشخص يصمم على ارتكاب الجريمة: ثم يتناول مادة مسكرة بقصد التشجع على ارتكابها, ثم يرتكيها بعد سكره؛ هذا القول لايمكن القول معه يأنه فقد الشعور تماماًء فهى ينفذ ما صمم عليه من قبلء فكيف تقول أنه فقد وعيه»(),

ولاشك أن ابن تيمية فى فرض هذه التفرقة التي توضع الإصرار على القتل؛ وعدم الإصرار كان عميقاً؛ وذلك لأن السكران فى حال سكره لايمكن الحكم بأنه قد فقد التقدير, فإذا سقطت المسئولية لفقده التقديرء فلذلك يجب أن يكون مقصوراً على التصميم الذى يكون فى حال السكرء أما إذا كان قد قدر الأمر من قبل ووزنه من كل وجوهه وأحس بتخاذله عن التنفيذ: فاتخذ السكر ذريعة لدفع هذا التخاذل, فإنه بلا شك مؤاخذ مسئول عن تبعات جريمته مسئولية كاملة, لأن الإقدام عليها كان وهو مميز واع مقدر, بل إن هذا يدل على إصرار أقوى: وتصميم أشد.

,5١؟ (؟) المسئولية الجنائية ص‎ .50١ مختصر فتاوى ابن تيمية ص‎ )١( 51١

(ج) العمل يالخط:

١‏ - يقرر ابن تيمية وجوب العمل بالخط؛ مخالفاً بذلك جمهور الحنقية الذين يقولون إنه لا يعتبر الخط بينة مثبتة أى دليلا ملزماً» لأن الخط يشبه الخطء فلا يقضى به؛ ولكن يقرر ابن تيمية بانياً رأيه على مذهب أحمد أنه يعمل بالخط فى الإثبات والإقناع, فيقول: «إن العمل بالخط مذهب قوىء بل هو قول جمهور السلفء وإذا رأى الرجل بخط أبيه حقاً له وهو يعلم صدقه جاز له أن يدعيه؛ ويحلف عليه ويقرر أنه إذا مات الشاهد يحكم بخطه؛ وأن ذلك مذهب أحمد ومالك؛ والشافعى جوز الأخذ بالخط فى صورة المضبطة:(١)‏ ويقرر أيضاً أن الخط كاللفظ, فإذا كتب مثلا أنه كان عنده على سبيل الوديعة: وأنه قيضه أخذ بالخط كما لو تلفظ بذلك!"),

ويقول: «إذا كانت عادة العمال أنهم يستأجرون بالوصولات فمات أحد العمال, فادعى بعض المستأجرين أنه قبض منه فلا يقبل منه إلا ببينة أو وصولء(.

وهكذا يقرر أبن تيمية ما تعارفه الناس اليوم أمثل الطرق للإثبات وهى الكتابة, وقد نهجت لائحة المحاكم الشرعية ذلك المنهاج» ومن الإنصاف أن تقول أن المتآخرين من الحنفية كأبى السعود العمادى وقيره قد أفتوا بوجوب العمل بالكتابة فى الإثبات كالبينات.

(د) الهبة لرقع الظلم أونيل الحق:

4 - تكلم ابن تيمية بانياً كلامه على المذهب الحنبلى فى الرشوة وأقسامها ما ظهر منها وما بطن؛ وفى الأجرة على الشفاعة عند الحكام وقضاء الحقوق. وإثم المعطى والآخذ بكلام نرى فيه وصفاً شرعياً للأعمال التى تقع فى هذا الزمانء يقرر ابن تيمية أنه لا يجوز للحكام أن يقبلوا هدايا فى الولايات ولافى وصول الحقوق إلى أريابهاء ولا فى رفع الظلم عن الناس؛ فإن ذلك عملهم؛ فإن كانوا لا يوصلون الحقوق إلى أصحابها إلا يمال فذلك

.508 (؟) الكتاب المذكور ص‎ .10١ مختصر الفتاوى ص‎ )١( (؟) الكتاب المذكور,‎

يحض

جور مضاعف, جور بالامتناع عن أداء الحق» وجور بقبول المال فى سبيل أدائه. وكذلك إذا أنزلوا بالناس الظلم, ولم يرفعوه إلا فى نظير مال فقد ضاعفوا الظلم. فيضاعف الله لهم السخط فى الدنيا وفى الآخرة. والعذاب الأليم, لأنهم ظلمواء وأخذوا امال بغير حقه؛ ورفعوا الظلم عن القادرين على العطاء؛ وتركوا الظلم والفقر ياكلان الفقراءء فلا يصح أن يولى شخص بمالء ولا أن يعزل شخص لعدم دفع المال. وهكذا؛ لأن هذه منافع عامة يعطيها ولى الأمر للمستحقء ويقول فى ذلك رضى الله عنه: «المنقعة لعموم الناس. أعنى المسلمين: فإنه يجب أن يولى فى كل مرتبة أصلح من يقدر عليهاء وأن يرزق من رزق المقاتلة والأئمة وأهل العلم والدين أحق المسلمين» وأنقعهم للمسلمين. وهذا واجب على الإمام؛ وعلى الأمة أن يعاونوه على ذلك»('.

8" - هذا هو الحكم فى شان الولاة ومن بيدهم الأمر لايصع أن يأخذوا شيئاً مطلقاً؛ لأنه رشوة لا تجوزء ولكن هل للشفعاء والذين يعرفون الحكام ولهم جاه عندهم أن يأخذوا ليوصلوا صاحب الحق؛ الإجماع منعقد على أنه لايجوز أن يأخنوا أيضاًء وهم آثمون إن قعلوا؛ لورود الأحاديث الناهية عن هذاء فقد قال النبى عله «من شفع لأخيه شفاعة, فأهدى له هدية فقيلهاء فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا» وسئل اين مسهود عن السحت فقال: «هى أن تشفع لأخيك شفاعة فيهدى لك هدية فتقبلهاء فقال له أرأيت إن كانت هدية فى ياطلء فقال ذلك كفر «ومن لم يحكم بما أنزل الله فئواتك هم الكافرون»().

ولأن ذلك يؤدى إلى الرشوة: ويؤدى إلى أن تباع الوظائف والأرزاق؛ وبه يروج الفساد؛ ولأنه مال بلا عوض يقوم يمالء لأنه من باب السعى لرفع الحق» وهى واجب دينى من قبيل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر, والمصالح العامة التى تجب معاونة ولى الأمر عليهاء وأداؤها من النصيحة لأولياء الأمر وإرشادهم إن كان ذلك حقاً.

ومع هذه الحجج البينة والنصوص الواضحة: وإجسماع السلف الصالح والأئمة المجتهدين على عدم جواز أخذ مال لمن يسعى فى إنصاف المظلوم وإقامة العدل وإعطاء كل ذى حق حقه.. مع هذا وجدنا فى عصور الظلم والفساد والفوضىء من سايرهاء فوجدنا من المتسمين باسم العلماء من قال إن" أخذ المال يجوز لذوى الجاه والشفاعة ما داموا يعملون لرفع الحقء ولذا اشتد ابن تيمية فى لومهم ونقدهم: فقال رضى الله عنه:

46 المائدة:‎ )5( ,١7١ الفتاوى ج 4 ص‎ )١(

رض

«رخص بعض المتأخرين من الفقهاء فى ذلك. وجعل هذا من باب الجعالة وهذا مخالف للسنة وأقوال الصحابة والأئمة فهى غلط؛ لأن مثل هذا العمل هو من المصالح العامة التى يكون القيام بها فرضاً إما على الأعيان: وإما على الكفاية» ومتى شرع أخذ الجعل على مثل هذا لزم أن تكون الولاية وإعطاء أموال الفئ وغيمرها لمن يبذل فى ذلكء وازم أن يكون كف الظلم عمن يبذلء والذى لايبذل لا يولى ولا يعطىء ولايكف عنه الظلم» وإن كان أحق الناسء وأتفع للمسلمين من هذاء والمنفعة فى هذا ليست لهذا الباذل» حتى يؤخذ منه الجعل كالجعل على الآبق والشارد»(),

نظرة حكيمة عادلة؛ يستغرب ابن تيمية قول من جعل ثمن الجاه وأجر الساعى لدى الحكم لرفع الظلمء أو عطاء الحق - كأجرة من بحث عن جمل شاردء أو عبد أبق من وجوه ثلاثة: أولها - أن الجعالة النفع فيها خاص:ء فهى لصاحب الجمل أو صاحب العبدء أما الولايات والأعطية وغيرها فالأمر فيها عام والنقع عام. ثانيها - أن معاونة المظلوم» وتمكين العدل اتصالح من العمل الذى يناسبه فى الدولة, إذا لم يكن غيره'أولى منه من قبيل الفروضس على وجه الكفاية التى إذا قام بها البعض سقط الحرج عن الباقين. أى فرض عينء أما البحث عن الجمل الشارد أو نحى ذلك فليس من قبيل الفرائض العامة,

وثالثها - أن أخذ أجرة على المعاونات الشخصية لا ضرر فيه على الجماعة؛ ولا يترتب عليه أى إثم عام ينشر الشر والفساد؛ أما أخذ أجرة على الولايات أى دقع الظلم أو إعطاء الحق»: فإنه يؤدى إلى ممعنى يقوض العدل فى ذاته؛ ويجعل أعمال الدولة لايعود تفعها على أحد إلا لمن يدفع جعلا فردياً؛ فلا يرفع الظلم إلا بثمن: ولا يجلب الحق إلا بثمن, فوق الفرائض الأساسية التى قامت عليها قواعد الدولة؛ وميزانيتها.

4- هذه نظرة ابن تيمية فيمن يأخذ الهبات من الحكام والولاة, وذوى الجاه عند الحكام والولاة والأمراءء أها من يعطى ويهب فله فى نظر ابن تيمية ثلاث أحوال: أولها - أن يكون طالبا ما ليس بحقه. أو يطلب من يكون غيره أولى هنه فيه؛ أو مالا يتعين هو له. يل يستقيم الأمر بغيره فيه. وثانيتها - أن يطلب ما هو حق له وهى أولي به ولا أحد فى اعتقاده خير منه ولا أحق. ويمكن أن يصل إلى حقه بغير الهبة والهدايا؛ بل بالإقناع والاستدلالء ولكنه اتخذ الهبات طريقاً» والثالثة - أن يكون صاحب حق ولايمكنه الوصول إلى حقه إلا بهذه الطريقة.

4

وأقد قال ابن تيمية فى هذه الحال الأخيرة أنه يسوغ للمظلوم أن يعطى ليرفع عنه الظلمء وإثمه على من ظامه, وعلى من صعب وصول الحق إلى صاحبه. وعلى ذلك تأخذ الهدية وصفين متغايرين بالنسبة للطرفين» فهى بالنسبة للمعطى لا إِثم فيهاء وهى فى موضع العفى والغفرانء وبالنسبة للآخذ حرام؛ ويستشهد ابن تيمية لحل الإعطاء من المعطى فى هذمٍ الحال بقول النبى َل: «إنى لأعطى أحدهم العطية؛ فيخرج يتأبطها نارأًء قيل: يا رسول الله فلم تعطيهم؟ ! قال يأبون إلا أن يسالونى: ويأبى الله لى البخل» وإذا كان الإلحاح قد سوغ للنبى أن يعطىء قكيف لايسوغ دفع الظلم للمظلوم أن يعطى.

هذا رأى ابن تيمية فى الهدية فى الحال الأخير وهى رشوة فى حق من يأخذء لاريب قى ذلك؛ حلال فى حق من أعطى؛ أما فى الحال الأولى؛ وهى ما إذا كان هأ يطلبه ليس حقا له؛ فإنها رشوة من الجانبين» وهى نشر للشر والفساد وتوسيد الأمر إلى غير أهله؛ وينطيق عليها قول النبى عه «لعن الله الراشى والمرتشى» ويقول ابن تيمية الرشوة تسمى «البرطيل والبرطيل فى اللغة الحجر المستطيل قوهء!'). فكان تلك التسمية تشبه حال الراشى والمرتشى معاً؛ إذ كلاهما يمتد فوه إلى ما ليس له ويأخذ ها ليس حقه.

ويدخل فى حكم هذه الحال من طلب مالا ليرجح على غيره كأن يدفع مالا ليرجح على سواه فى الولاية؛ وهما متساويانء أو غيره أولى منه؛ فإن الآخذ والمعطى يكون كلاهما أثما مرتكبا جريمة فى دينه وخلقه ودولته, وذلك لأن الرشوة فى ذاتها جريمة؛ ولا ترخص إلا فى حال الضرورة. حيث تتعين طريقاً لرفع الظلم؛ أى الوصول إلى الحق؛ ويبوء الآخذ باد الفريقين؛ وفى هذه الحال لاظلم ولاحق يتعين للسعطى فلا رخصة فى الإعطاء فتكون على أصل المنع؛ وحقيقة الإجرام لا تنفصى عنهاء وفوق ذلك؛ إن الولاية لايسوغ طلبها إذ وجد من يماثئله فى استحقاقهاء فكيف يسوغ أن ترتكب جريمة الرشوة فى سبياهاء ويقول ابن تيمية فى ذلك: «نقس طلب الولايات منهى عنه. فكيف بالعوض»٠‏

وفى الحال التى يكون غيره أولى يكون طلبه حراما وظلماء ولايسئغ الطلب ولايسوخ دفع امال ويكون هذا من قبيل طلب الحرام. 4" - أما الحال الباقية» وهى التى يطلب فيها حقاً؛ ويمكنه أن يصل إليه بغير

.174 الكتاب المذكور ص‎ )١( 6

الهدية أو الهبة؛ ولكن يختار طريقهاء فهل يحل لطالب الحق أن يعطى؟ لم يقصد ابن تيمية لشرح حكم هذه الحال باللفظ الصريح: ولكن الحكم يقهم ضسمناً من قوله. وهى أنه لايحل الإعطاء, كما هو مذهب ابن حنبلء لأن الرشوة فى ذاتها حرام: وهى فى لغة العامة برطيل, ولايسوغ الإقدام على حرام وفى الإمكان تفاديه؛ وفى القدرة تحاشيه. ولأن الحلال لايكون طريقه حراما إلا عند الاضطرارء فيحل الأقل ضرراً لدفع الأكثر ضرراً؛ والقضية هنا لا اضطرار فيها ولاما يشبه الاضطرار وإن طلب الحق بالحجة والإقناع من الولاة غير العادلين جهاد, والجهاد كيفما كانت صوره مطلوب مثاب عليه ولايعدل عن موضع الثواب» إلى مباءة العقاب؛ ولآن حمل الظالمين على العدل واجب ها دام فى دائرة الإمكان: وطلب الحق بالإهداء زيادة ظلم فوق ظلم المنع وتصعيب الحق على أهله؛ فإذا كان يستطيع نيله بغير الإهداء وتاله يكون قد منع ظلم الظالم؛ وكف نفسه عن ظلم ثان؛ ولايترك دفع ظلمين فى الاستطاعة دفعهما إلى ارتكاب ظلمين والله أحكم الحاكمين.. (ه) “اختلاط الحلال بالحمرام:

1 - يتكلم ابن تيمية فى المال يختلط الحرام بالحلال فيه؛ والكلام فيه من ثلاث نواح؛ أولها: من ناحية حله تصاحبه ولاشك أن عليه أن يفصل عن الحلال الحرام ما أمكن الفصلء ويرد الحرام إلى صاحبه: إن كان له صاحب معروف فإن لم يكن له صاحب معروف كان مأله الصدقة؛ لأن المال المشتبه فيه أو الخبيث يكون لمن أخذه منه؛ وإلا تصدق به.

هذه هى الناحية الأولى: أما الناحية الثانية فهى الأكل منه فى ضيافة: ويقول ابن تيمية إن تأكد أن بعضه حرام: أو كانت الشبهة كبيرة بحيث يغلب الحرام؛ فإنه لا يصح الكل منه لضيف؛ فلايسىغ لمن استضافه من يكون ماله حراماء أى فيه شبهة كبيرة أن يأكل هنه؛ وإن كانت الشبهة قليلةء فيقول ابن تيمية: «إذا كان فى الترك مفسدة: وفيه مصلحة" الإجابة فقط؛ وفى الإجابة مفسدة أكل ما فيه شبهة فأيهما أرجح؟ فيه نزاع»(') أى أن الفقهاء اختلفوا فيه. قيل: بحل وقيل لايحل؛: وقد ترك المسألة من غير ترجيسء والأمر فى ذلك إلى ضمير المبثلى وتقديره؛ فإن تنازع المصالح والمفاسد يترك الأمر فيه إلى تقدير المتدين» وليعلم أن الله يراقبه وهى لا يخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السهاء.

)١١‏ مختصر الفتاوى هي ه؟؟. لضن

والناحية الثالثة هى التعامل مع من اختلط حلال ماله بحرامه؛ كالذين يتعاملون بالربا ويأكلونه. ويضيفون إلى رأس المال فى الديون فائدة, ويقول ابن تيمية أن التعامل مع هؤلاء فيه شبهة؛ وليس الحكم بالتحريم قطعاً, ولا بالتحليل قطعاً؛ بل الأمر موضع اشتباه, ولا يحكم بالتحريم قطعاً إلا إذا ثبت أنه أعطاه من الحرام: كما لايحكم بالتحليل قطعاً؛ إلا إذا ثيت أنه أعطاه من الحلال؛ ويقول: «إن كان الحلال هو الأغلب. لم يحكم بتحريم المعاملة؛ وإن كان التعامل مع غيره أوثى .وإن كان الحرام هو الأغلب قيل يحل التعامل وقيل لايحل التعامل»('),

ويقرر أن من يتعامل بالريا فالغالب على ماله الحلال إلا إذا ثبتت الكثرة من جانب آخر.

4 - هذه نماذج من فتاوى ابن تيمية» وهى فى موضوعها أسئلة عن وقائع كانت تقع, والإجابة أحكام جزئية: وليست بقواعد كلية؛ وإن كان ما اخترناه يشير إلى القضايا الكلية؛ ولا يقتصر على البيان الجزئى: وهى كيفما كانت مقيدة بإطار المذهب الحنبلى؛ والإفتاء بما يراه أقوى دليلا فيه؛ فهو وإن كان فيها يتقيد بالمذهب الحنبلى لايعدوه كان مجتهداً فيه,

ولابن تيمية بحوث فى الفقه يتصدى فيها للمقارنات بين المذاهب فى موضوع معين يثيره البحث والجدلء فيقرر آراء الأئمة وأدلة كل إهام؛ ويعرض ال موضوع عرضاً علمياً ثم ينتهى بذكن الأدلة والقاعدة التى يستمسك بها كل إمام؛ واتنتقل إلى منهاجه فى ذلك.

ات دراسات فقههية مقارتة

4 - ابن تيمية فقيه عميق النظرة. متسع الأفق الفقهى؛ واسع الاطلاع- يعرف منطق المذاهب الأريعة وأقيستها معرفة دقيقة؛ وهى إذ يقارن يبين النظريات والأسس التى انبنى عليها كل رأى فى دقة وإحكام؛ ولكى تتجلى تلك المقدرة الفقهية؛ وذلك العمق فى المقارنة. نختار ثلاثة موضوعات مما درسه دراسة مقارنة: ونمرض تفكيره فيها؛ وهذه ا موضوعات هى: )١(‏ القاعدة فى القثال فى الإسلام. (؟) والقاعدة فى الشروط المقترنة بالعقود.(؟) والقاعدة فى وضع الجوائح: وهى قاعدة تلف محل العقد قبل تسليمه.

م

القاعدة فى القتال

- تكلم ابن تيمية فى هذه المسالة على أصل شرعية القتال وما الباعث عليه. فقرر أن الوقائع التى يبنى عليها القول فى هذه القضية أن النبى عله قاتل الكفار الذين اعتدوا عليه وعلى أصحابه وأخرجوهم من ديارهم؛ فما السبب فى القتال؟ أهى كونهم كفاراً, أم السبب أنهم معتدون, فإن كان الأول. فإنه يحل قتال كل كافر إلا إذا كان ثمة عهد سائغ» وإن كان الثانى: فإنه لايحل إلا قتال المعتدين: فليس كل الكافرين يسغ قتالهمء وإذا كان القتال لأجل وصف الكفر فإن العلاقة بين المسلمين وغيرههم هى الحرب» حتى يكون عهد؛ فكل دار المخالقين دار حرب؛ ما لم يكن عهد؛ وإذا كان القتال لأجل الاعتداء فإن الأصل فى العلاقة هو السلة» حتى يكون مسوغ للحرب؛ ثم إذا كان الأصل هو السلم فإنه يصح عقد معاهدة بسلم دائمة: لأنها فى معناها ميثاق عدم اعتداء؛ وإذا كان الأصل هى الحربء فإنه لايصح عقد عهد بمعاهدة إلا مؤقتة.

وعلى ذلك يكون فى هذا الأمر ثلاث مسائل بعضها مبنى على بعض؛ أولها: كون القتال لأجل الكفر أو لأجل الاعتداء. ثانيها: كون الأصل فى علاقة المسلمين مع غيرهم الحرب أم السلم: ثالثها: جواز صلح بسلم دائمة أى عدم جوان ذلك.

هذه مسائل ثلاث يدرسها ابن تيمية. والقاعدة فيها تقوم على الفكرة فى المسالة الأولى.

بالنسبة للمسالة الأولى» وهى كون القتال لوصف الكفر أو لوصف الاعتداء يقرر ابن تيمية أن فى المسألة رأيين (أحدهما) قول الجمهور كمالك وأحمد بن حنبل وأبى حنيفة وميرهم وهى أن القتال لأجل الاعتداءء ويقتضى هذا الرأى أن لاقتال إلا عند الاعتداءء فالقتال لدفاع: ولى لبس لبوس الهجوم. وألا يقتل إلا المقاتلون أو من لهم رأى فى القتال بحيث يستفاد من تجاريهم فيه أى نحو ذلك؛ فلا يقتل النساء ولايقتل الرهبان: ولا الزمنى ولا الشيوخ الذين لايقاتلون, ولا خبرة لهم ينتفع بها ولا يحرضون, وفى الجملة لايقتل من لا يقاتل ولايحرض على قتال ولاينتفع به فى القتال بأى وجه من وجوه الانتفااع.

الرذى الثانى: أن السبب الموجب لقتال الكفار هو كونهم كفاراً؛ لا كينهم معتدين, وهذا قول الشافعى. وعلى هذا الرأى يقتل كل بالغ عاقل من الكفارء سواء أكان قادراً على القتال أم غير قادرء وسواء أكان مقاتلا أى معيناً فى القتال أم غير مقاتل ولامعين.

14

ويرى أبن تيمية أن قول الجسهور هو الصسيم. ويحتج له بنصوص القرآن والهدى النيوى فى القتال.

ويقول رضى الله عنه: «قول الجمه ور فو الذى يدل عليه الكتاب. والسنة؛ والاعتبار»!!!,

7 - ويسوق الأدلة من القرآن؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول «وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم» إلى قوله تعالى: «واعلمو) أن الله مع المتقين»!') فقد دلت هذه الآيات على أن شرعية القتال لدفع الاعتداء من وجوه: (أولها) أنه سبحانه وتعالى يقول «وقائلوا فى سبيل الله الذين يقالونكم» فإياحة القتال من المسلمين مبنية على القتال من غيرهم: فكانت العلة قتالهمء (وثانيها) قوله تعالى فى هذه الآيات دولاتعتدوا » فدل على أن ققثال من لم يقاتلنا؛ أو قتل من ليس من شأنه أن يقاتل عدوان نهى عن (وثالثها) أنه جعل الفاية من القتال منع الفتنة, ققال سبعائه: «وقأئلوهم حتى لاتكون فتنة, ويكون الدين لله:(؛) فدل هذا على الباعث والانتهاءء فالباعث الاعتداء بالفتنة, والانتهاء بانتهاء الفتنة.

فكانت هذه الآيات مشيرة بنصها ومعناها إلى علة القتال وهى دفع الاعتداء؛ بوصف المقاتلين بالاعتداء من جانبهم, ومنع الاعتداء من جانبنا؛ وبذكر غاية القتال؛ وهى منع الفتنة,

ولكن يرد على استدلال ابن تيمية هذا ادعاء أن الآيات الكريمة منسوخة: لأنها تعين الغاية من القتال بأتها ليست دفع الاعتداء فقطء ولذا يسوق هو أقوال مدعى النسخ ويناقشها قولا قولاء وينتهى بأن قزل القائلين أنها منسوخة قول ضعيفء ويقول: «إن دعوى النسخ تحتاج إلى دليلء وايس فى القرآن ما يناقض هذه الآية. بل فيه ما يوافقهاء فأين الناسيخ(*,

ويستغرب كيف ينسخ النهى عن الاعتداء فيقول: «إن الاعتداء هو الظلم والله لايبيح الظلم قط».

(1) راجع فى هذا رسالة القتال فى مجموع رسائل نجدية ص .١١1‏

(1) سورة البقرة من آية 111 إلى 2.194 ' ()) البقرة: ١5١‏

مض

ويستدل ابن تيمية على أن القتال لدفع الاعتداء. من القرآن أيضاً بقوله تعالى: «لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى» وهذا نص عام؛ ولو كان القتال لوصف الكفرء لكان فى ذلك إكراه على الإسلام. ويقول رضى الله عنه: «إنا لا ثكره أحداً على الإسلام: لى كان الكافر يقتل حتى يسلم لكان هذا أعظم الإكراه على الدين».

ولكن يرى ابن تيسية من العلماء من يقول إن هذه الآية وهى «لا إكراه فى الدين:!(١)‏ منسوخة؛ فيرد قولهم رداً عنيفاً ويقول «جمهور السلف على أنها ليست مخصوصة ولامنسوخة؛ بل يقولون إنا لانكره أحدأ على الإسلامء وإنما نقاتل من حاربناء فإن أسلم عصم دمه وماله. ولى لم يكن من أهل القتال لم نقتله, ولم نكرهه على الإسلام»().

395 - ويسوق رضى الله عنه الأدلة من السنة. فإن النبى عَيلّهُ مر فى بعض مغازيه على امرأة مقتولة, فقال عليه الصلاة والسلام «ما كانت هذه لتقاتل» فعلم أن العلة في تحريم قتلها أنها لم تكن تقاتلء فكانت المقاتلة منهم هى سيب القتال منا.

وأن النبى عله كان يوصى جيشه دائماً بألا يقتل إلا المقائل» فكان يقول: «انطلقوا باسم الله, وبالله وعلى ملة رسول الله ولاتقتلوا شيخاً فانياًء ولاطفلاء ولا امرأة, ولاتغلواء وضموا غنائمكم؛ وأصلحواء وأحسنوا إن الله يحب المحسنين»,

وإن النبى لَه ومن منعه من المؤمنين كانوا يأسرون الرجال والنساء من المشركين, ولايكرهونهم على الإسلامء بل قد أسر النبى لله ثمامة بن أثال. وهو مشركء ثم من عليه, ولم يكرهه على الإسلام حتى أسام من تلقاء نفسه. وكذلك من له على بعض أسرى بدر.

ويقول ابن تيمية رضى الله عنه: «كانت سيرته أن كل من هادنه من الكفار لم يُقاتله. وهذه كتب السيرة والحديث والتفسير والفقه والمغازى تنطق يهذاء وهذا متوافر من سيرته عليه الصلاة والسلام فهو لم يبدا أحداً بقتال»().

علاقة المسلمين بفيرهم:

4 - ينتهى أبن تيمية من تقرير رأى الجمهور وأدلته إلى أن القتال من المسلمين لغيرهم هو لاعتداء الكافرين عليهم, وليس لمجرد الخلاف الدينى.

.١؟؟ رسالة القتال.ص‎ )1( ١61 البقرة:‎ )١(

(؟) الرسالة الملأكورة ص ١176‏ . كران

وإن الذى ينبنى على ذلك الرأى لامحالة هو أن الأصل فى علاقة المسلمين بغيرهم هو

السلم لا الحربء حتى إذا اعتدوا كانت العلاقة هى الحربء لأن ذلك لازم لاعتبار العلة فى القتال هى الاعتداءء فإنه إن لم يكن اعتداء فإن العلاقة تكون هى السلمء ولكن لم يعقد ابن تيمية لهذه المسألة فصلا قائماً بذاته, بل جاء ما يدل عليها فى مطوى كلامه؛ وذلك فوق الملازمة للقول الأولء ومن ذلك قوله: «وهذا باب الأصل الذي قاله الجمهورء وهى أنه كان القتال لأجل الحربء فكل من سالم ولم يحارب لا يقاتلء سواء أكان كتابيا أم كان مشركاء!".

ثم يذكر أن النبى عله لم يقاتل المشركين إلا دفاعاً؛ لأنهم قاتلوه وأخرجوه. ولم يبتدئ «وأما النصارى فلم يقاتل مله أحدأ منهم حتى أرسل رسالة بعد صلح الحديبية إلى

جميع الملوك يدعوهم إلى الإسلام فأرسل إلى قيصر.ء وإلى كسرى. وإلى المقوقس والنجاشىء وملوك العرب بالشرق والشامء فدخل فى الإسلام من النصارى وغيرهم من دخل» فعمد النصارى بالشام فقتلوا بعض من قد أسلم: فالنصارى هم حاريوا المسلمين أولاء وقتلوا من أسلم منهم بغياً وظلماً... فلما بدأ النصارى بقتل المسلمين أرسل سرية أمر عليها زيد ب حارثة, ثم جعفراً» ثم ابن رواحة؛ وهو أول قتال قاتله المسلمون للنصارى بمؤتة من أرض الشامء واجتمع على أصحابه خلق كثير من النصارى واستشهد الأمراء رضى الله عنهم: وأخذ الراية خالد بن الوليدء().

ويهذا نتتهى إلى أن ابن تيمية يقرر أن الأصل فى علاقة المسلمين بغيرهم هى السلم, إلا إذا اعتدوا بالقثالء وقد كان الملوك منذ ظهر الإسلام ينظرون إليه نظرة عداوة, لأنه يحرر الشعوب ويحمى الحريات؛ ويقرر المساواة: فنزهوا عن قوس واحدة, يقاتلونه فقاتلهم المسلمون! واعتبروا البلاد التى تحث سلطانهم دار حرب؛ لا لأن الأصل هى الحرب حتى يكون عهدء بل لأنهم اعتدوا فكانوا محاربين» وليسوا مسالمين.

حكم المعاهدات:

6 - وإذا كان الأصل هو السلم فإنه يجوز عقد عهد دائم أو مطلق؛ وهذا ما يقرره الجمهور الذين روا أن القتال هى للاعتداء لا للكفر؛ وأن من لايعتدون لايقاتلون, )١(‏ رسالة القتالرص 975 00 (1) ص 154,

فق

يقرر اين تيمية أن المعاهدات المؤقتة بمدة معينة جائزة باتفاق المسلمين؛ لأن النبى يله عقدهاء أما المعاهدات المطلقة أو الدائمة, فقد قال الأكثرون من الفقهاء أنه يجوز عقدهاء وأن ولى الأمر له أن يفعل ما فيه مصلحة المسلمين: فإن رأى مصلحتهم فى العهد المطلق من غير توقيت عقد؛ وإن رأى مصلحتهم فى المعاهدات المقيدة عقد.

وإنْ العهد لازم عند الجمهور ماعدا أبا حنيفة. ولكن قرروا أن العهد المطلق ليس من العقود اللاز: ة, ولكن لا قتال إلا عند الاعتداء أو مظنته؛ تحقيقاً لقوله تعالى: «وإما تخافن من قوم خيانة فانيذ إليهم على سواء(١).‏

والعهود اللازمة: وهى العهود المؤقتة واجبة الوفاء وهى التى ينطبق عليها قوله تعائى فى سورة براءة إن استثنى المعاهدين من القتال. فقال تعالى «إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام: فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم»(").

هذا كلام ابن تيمية فى العهد. والحق عندى أن العهد بنوعيه واجب الوفاء؛ ولايصح نبذه إلا عند الخيانة أو خوف الخيانة إذا كان للخوف بوادر ومظاهر وأمارات دلت عليه, وعلى ذلك تكون آية الأنفال:«وإما تخافن من قوم خيانة» غير متعارضة مع أية براءة «فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم» بل هما متلاقيتان غير متعارضتين: الأولى بينت الحكم عند

الخيانة, والثانية ذكرت حكم الوفاء. والإسلام دعا إلى السلم المطلق مع من يريده, وأذا قال سبحانه «وإن جنصوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله»(؟).

- وابن تيمية فى هذه المسألة يغوص فى أقوال الفقهاء غوص العارف الفاهم المطلع, المدرك لسماحة الإسلام الذى يعرف أنه جاء للسلم لا للقتال؛ ولكنها سلم عزيزة تمتشق السلاح وترد الاعتداءء. فليس عدواً لأحدء ولكنه لايسامح أعداعه إلا إذا ألقوا إليه السلم, وامتنعوا عن الاعتداء؛ وإذا يقول فى رسالة أرسلها إلى ملك قبرص المسيحى: «نحن قوم نحب الخير لكل أحد ونحب أن يجمع الله لكم خير الدنيا والآخرة؛ أعظم ما عبد الله به نصيحة خلقه. ..» وقد عرف التصارى كلهم أنى خاطبت التتار فى إطلاق الأسرى, وأطلقهم غازان فسمح بإطلاق المسلمينء قال لى لكن معنا نصارى أخذناهم من القدس فهؤلاء لايطلقون, فقلت له؛ بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتناء فإنا نقتكّهم ولاندع أسيراً من أهل الملة ولا من أهل الذمة؛ وأطلقنا من النصارى من شاء الله فهذا عملنا وإحساننا والجزاء عند الله»(,

)١(‏ الأثفال: (؟) التوية: ؛ (5) الأنفال: 11١‏ (4) الرسالة القبرصية ص ؟١.‏ فض

الغقود والشروط

1 هذا باب من النظريات العامة للعقود, يتكلم به فيه القانونيون, وهو الخاص بحرية التعاقد, ويقصد بذلك إطلاق الحرية للناس فى أن يعقدوا مز المقود ما يرون؛ وبالشروط التى يشترطون غير مقيدين إلا بقيد واحد. وهى ألا تشتمل عقودهم على أمور قد نهى عنها الشارع؛ وحرمها؛ كأن يشتمل العقد على ريا أونحوه مما حرمه الشرع الإسلامى. قما لم تشتمل تلك العقود أو الشروط المشترطة فيها على أمر محرم فإن الوفاء بها لازم والعاقد مأخوذ يما التزم به:وإن اشتملت العقود على ما حرمه الشارع فهى فاسدة» أو على الأقل لا يجب الوفاء بالجزء المحرم فيها.

وإن حرية التعاقد بهذا المعنى ليست قاعدة متفقا عليها بين فقهاء المسلمين؛ بل هى موضموع خلاف بينهم, وإن الأكثرين لا يطلقون تلك الحرية إطلاقاء والآخرون هم الذين يطلقونهاء ويقتحون أبوابها إلا إذا ورد نص با متع.

وذلك الخلاف مبنى على الخلاف فى التشدد والتساهل فى جعل آثار العقود من عمل الشارع: فالذين شددواء فجعلوا أثار العقود من عمل الشارع قالوا إن الأصل فى العقود والشروط المنع حتى يقوم الدليل على الإباحة, ومع الإباحة وجوب الوفاء والذين تساهلوا وجعلوا لإرادة العاقدين وحاجاتهما سلطاتاً فى آثار العقود بمقتضى الإذن العام من الشارع يجعل الرضا ذا أثر فى الالتزام, والوفاء بما اشتمل عليه العقد, جعلوا الأصل فى العقود الإباحة ووجوب الوفاء بما تعاقد العاقد عليه. حتى يقوم الدليل على المنع والتحريم.

وعلى القول الأول نكون مقبدين بالعقود والشروط التى جاء الدليل من الشارع الإسلامى على وجوب الوفاء بها فما لم يقم عليه الدئيل من نص أو قياسء فهو ممتوغ؛ ولا

وعلى القول الثاتى يكون الناس أحراراً فى أن يعقدوا ما شاءوا من العقودء ويشترطوا من الشروط ما يرون مصلحتهم فى اشتراطه ويجب عليهم الوفاء بما التزمواء وها اشترطواء وما أخذ عليهم من شروط إلا إذا قام الدليل على المذع, فعندئذ لا يجب الوفاء. لفل

ولقد تعرضى اين تيمية لشرح هذه القاعدة ودرسها دراسة مقارنة وذكر الأقوال فيهاء قال فى هذا «القاعدة الثالثة فى العقود والشروط فيهاء وما يحل أى يحرم وما يصح منها ويفسدء ومسائل هذه القاعدة كثيرة جدأً والذى يمكن ضيطه متها قولان (أحدهما) أن يقال الأصل فى العقود والشروط فيها وثحى ذلك الحظر إلا ما ورد الشارع بإجازته فهذا قول أهل الظاهر وكثير من أصول أبى حنيفة تبنى على هذا وكثير من أصول الشافعى؛ وأصول طائفة من أصحاب مالك وأحمدء فإن أحمد قد يرد بطلان العقد بكونه لم يرد به أثر ولا قياس كما قاله فى إحدى الروايتين فى وقف الإتسان على تقسه. وكذلك طائفة من أصحابه قد يعللون فساد الشروط بأنها تخالف مقتضى العقدء ويقولون ما خالف مقتضى العقد فهى باطلء وأما أهل الظاهر فلم يصححوا عقدأ ولا شرطاً إلا ما ثبت جوازه بنص, وإذا لم يشبت جوازه أبطلوه واستصحبوا الحكم الذى قبله. وطردو) ذلك طرداً جارياً. لكن خرجوا فى كثير منها إلى أقوال ينكرها عليهم غيرهم. وأما أبى حنيفة فأصوله تقتضى أنه لا يصحح فى العقود شرطاً يخالف مقتضاها المطلق: وإنما يصحح الشرط فى ال معقود عليه إذا كان العقد مما يمكن فسخه ولهذا له أن يشرط فى الييع خياراء ولا يجوز عند تأخير تسليم المبيع بمالء ولهذا منع بيع العين المؤجرةء وإذا ابتاع شيئاً عليه ثمر للبائع فله مطالبته بإزالته.... والشافعى يوافقه على كل شرط خالف مقتضى العقد فهو باطل لكنه يستثنى مواضع الدليل الخاص فلا يجوز شرط الخيار أكثر من ثلاثء ولا استثناء منفعة المبيم().

وترى من هذا النص أن ابن تيمية يشرح أقوال العلماء فى دقة. وهم الذين يرون تقييد إرادة العاقدينء فى أآثار العقود المقررة من قبل الشارع وشرطهاء ويذكر مراتبهم فى ذلك التقيدء فالظاهرية أشدهم تقييداً لإرادة العاقدين, لأنهم يرون أنه لا يوفى بثسرط؛ ولا يازم عقد إلا بنص من الشارع؛ ويجرون استّصحاب الحال فى الأمر بين العاقدين كما كان قبل الاتفاق؛ ويرى أن ذلك قد تأدى بهم إلى ما أنكر عليهم.

ثم بين مذهب أبى حنيفة:؛ وهو أيسر من مذهب الظاهرية: لأنه يوسع معنى الدليل؛ فيدخل فيه القياس والاستحسان والعرفء ويقاريه فى ذلك الشافعى: وأها أحمد ومالك, فهما

[0 النتارى ج؟ ص ؟ طبع اأكردى, ترون

: أكثر تيسيراً؛ وبعض أصحابهما يعتبرون الاصل المنع حتى يقوم الدليل: وبعض أصحايهما يرون إباحة الاشتراط حتى يقوم دليل المنع.

وإن ابن تيمية يفصل أقوال كل إهام تفصيلا حسناً فيبين الأصل عنده؛ ثم الاستثناء من ذلك الأصصملء والأسس التى قام عليها الاستثناء, ومعتمد الاستثناء هو الكتاب والسنةوالرأى.

ويعد ذلك التقصيل الدقيق يشرح القول الثانى: وهى الذى يقول أن الأصل فى العقود والشروط هو الإباحة حتى يقوم الدليل» ومذهب القائلين لذلك القول» فيقول:

«القول الثاني أن الأصل فى العقود والشروط الجواز والصحة. ولا يحرم ويبطل منها إلا مادل على تحصريمه وإبطاله دليل من نص أو قياسء وأصول أحصد رضيى الله عنه المنصوص عنه أكثرها تجرى على هذا القول ومالك قريب منه, لكن أحمد أكثر تصحيحاً للشروط؛ فليس فى الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحا للشروط مثه؛ وعامة ما يصححه أحمد من العقود والشروط فيها تنبيه بدليل خاص من أثر أى قياس. وكان قد بلغه فى العقود والشروط من الآثار عن النبى عه والصحابة ما لم يجده غيره من الأئمة, ققال بذلك وبما قى معناه قياساً, وما اعتمد عليه غيره من نص فقد يضعفه أو يضعف دلالته. وكذلك قد يضعف ما اعتمدوه من قياس». ش

ونرى من هذا أنه يوضح مذهب أحمد ويبين أنه أكثر الفقهاء الأربعة تصحيحاً للشروط؛ وأن الذى يليه فى تصحيحها مالك رضى الله عثه. وأن أحمد فى الشروط الثى يصححها يأتى لها بدليل خاص من أقوال الصحابة أو الأحاديث النبوية؛ أى القياس عليهاء واكنه لا يقرى أن ما لم ينص عليه أى لم يثبت له دليل خاص يكون باطلا إنما بالدليل لأنه باطلاهه على السنة قد قام لديه الدليل على تصحيح طائفة كبيرة: وإن تلك الكثرة من الشروط التى كان يصححها السلف جعلته يرى أنهم يصححون كل شرط إلا ما قام الدليل على بطلاته.

ويسرد ابن تيمية طائفة كبيرة من الشروط التى يصححها الإمام أحمد فى العقود, ويعتقدها واجبة الوفاء:

(1) منها: إجازة شرط الخيار فى النكاح بأن يتم العقد على أن يكون أحدهما له حق

الفسخ فى مدة معلومة. كرش

(ب) ومنها: أن كل شرط يشترط فى النكاح صحيعح إذا كان الشرط يحقق غرضاً صحيحاً لم ينه الشارع عنه. كاشتراط ألا يتزوج عليهاء أى لا ينقلها من بلدهاء وذلك قوله له كما روى عنه فى الصحيحين: «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج».

(ج) ومنها: أنه لا يجوز للبائع أن يشترط منفعة المبيع لنفسه مدة معلومة؛ اتباعا لحديث جابر رضى الله عنه لما باع النبى عله جمله.واستثنى ظهره إلى المدينة ومثل ذلك يجوز للمعتق؛ فله أن يشترى منفعة العبد لنفسه أو لغيره مدة بعد عتقه؛ وذلك لأنه روى أن لم سلمة أعتقت عبداً واشترءات عليه خدمة النبى عله ما عاش.

(د) ومنها: أنه يجوز أن يشترط البائع لنفسه أن يكون أحق بالمبيع إذا باعه المشترى» فإذا باع جارية واشترط على المشترى أن يأخذها بالثمن الذى اشتراها يه إذا أراد بيعها جاز الشرط؛ ووجب الوفاء به. بل إنه يجوز أن يشترط شرطاً فيه متفعة للمبيع, كأن يبيع جارية» ويشترط على المشترى أن يتسرى بها ولا تكون للخدمة. صح الشرط وأزم.

(ف) رمذها: أنه يجوز أن يبيع البائع العين ويشترط أن يقفهاء والعبد ويشنترط أن يعتقه؛ فإن شرط ذلك فالشرط صحيحء ومن ذلك ما روى هن أن عثمان رضى الله عنه اشترى من صهيب دارأً» وقد شرط عليه أن يقفها من بعده على صدهيب وذريته؛ فاجيز ذلك الشرط؛ وهكذا روى ابن تيمية صحة كثيز من الشروط التى يقيد فيها انتفاع المشترى بالعين؛ أى يقيد تصرفه.

ويقول ابن تيمية فى هذا النوع من الشروط: «وجماع ذلك أن الملك تستفاد به تصرفات متنوعة, فكما جاز بالإجماع استثناء بعض المبيع» وجوز أحمد وغيره استثناء بعض منافعه جوز أيضاً استثناء بعض التصرفات: فمن قال: هذا الشرط يثافى مقتضى العقدء مطلقاً» فإن أراد الأولى (أى المقتضى الأصلى) فكل شرط كذلك؛ وإن آراد الثانى (أى مايجئ تبعاً) لم يسلم له, إنما المحظور أن ينافى مقصود العقدء كاشتراط الطلاق فى التكاح أو اشتراط الفسخ فى العقدء فأما إذا شرط شسرطا يقصد بالعقد, لم ينف المقصودءط(!).

)١(‏ واجع الفروع السابقة وما فيها من خلاف مع هذا النص فى الفتاوى الجزء الثالث ص/!9؟..774, ,هبام طبع الكردى. فق

ونرى من هذا أن ابن تيمية يقول أن كل شرط فيه تقييد لتصرفات المشترى أو من يشبهه كالموهوب له شرط صحيح؛ لأنه يشبه استثناء بعض المنافع للبائع» واستثناء بعض المنافع استثناء بعض المبيعء وهذا جائز بالإجماع؛ فما يشبهه ينبغى أن يجوزء وأن الشرط الذى يكون منافيا لمقتضى العقد ليس هى الشرط الذى يعين بعض المقصود من العقد؛ بل هى الشرط الذى ينافى المقصود كله.

١"‏ 4- وابن تيمية يرجح القول الثانى وهو الذى يطلق حرية التعاقد؛ ويختاره: بل يقول إنه «هو الصحيح بدلالة الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار مع الاستصحابء!'). ويسوق الأدلة من هذه الأنواع الأريعة:

(1) أما الأدلة من الكتاب فهى ماورد فى القرآن من وجوب الوفاء بالعقود من غير تعيين» فكل ما يصدق عليه أنه عقد فهو واجب الوفاء بمقخضى نص القرأن فى مثل قوله تعالى: «يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود»!"), وقوله تعالى: «ويعهد الله أوفوا» وقوله تعالى «وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا»(') وهكذاء وكل شرط فى عقد فهو عهد والتزام يجب الوفاء به» ومن لم يوجب الوفاء؛ فهى يخالف نص القرأن الكريم,

(ب) وأما الأحاديث فهىما ورد من الآثار الصحاح النافية عن الغدر من مثل قوله عليه الصلاة والسلام: «أريع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا عاهد غدرء وإذا خاصم فجرع ومثل قوله عليه الصلاة والسلام: «ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به يقدر غدره» وهكذا قد وردت الأحاديث بذم الغدر والعقاب عليه, وكل من شرط شرطا ثم نقضه فقد غدرء ولى كان الأصل فى العقود الحظر إلا ما أباحه الشارع لم يجز أن يؤمر بالوفاء مطلقاً» ويذم نقضهاءوغدر مطلقا .

وأكثر من هذا قد صرحت الأحاديث بلزوم الوفاء بكل شرط يشترطه الشخص على نفسه؛ فقد قال عليه الصلاة والسلام: «الصلح جائز بين المسلمين إلا ملحا أحل حراماً؛ أو حرم حلالاء والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أوحرم حلالا»؛ ولقد روى ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله عله قال: «الناس على شروطهم ما وافقت الحق». (؟) المائدة: ١‏ (5) الاسراء: 6

يفف

وإن الاشتراط فى أصله حلال بإجماع العلماء والمباح إذا أوجبه الشخص على نفسه لآخر صار واجباً لتعلق حق الغير به؛ كالنكاحء والإجارة والبيع وفير ذلك؛ فإنها مباحات, فإذا أوجبها شخص على نفسه تعلقت بها حقوق غيره؛ وكذلك الشروط ما دامت هى فى ذاتها غير منهى عنها؛ فإذا أوجبها الشخص على نفسه صارت لازمة الوفاء لتعلق حق غيره بذلك الالتزام: وموضوع الشروط إذا كان مباحا فى حال دون حال فإلزامه بالشرط يجعله واجباء فالزيادة فى الثمن والرهن وغير ذلك هذه مباحات فى حال خاصة, وبالاشتراط

تصير واجبة.

(ج) هذه هى الأدلة التى ساقها من نصوص القرآن والحديث؛ أما الأدلة التى ساقها من القياس» وهى ما يسميه الاعتيار فمن وجوه:

أولها: أن العقود والشروط من قبيل المعاملات والأقعال العادية, إذ يست من قبيل الأعيان والأفعال والتصرفات, ولم يثبت أن العقود والشروط حرام إلا بدليل» وإذا لم تكن حراماً قلا فساد, لأن الفساد إنما ينشأ من التحريم.

ثانيها: أن الأصل فى العقود رضا العاقدين: ونتيجتها هى ما أوجياه على أنفسهما بالتعاقد؛ لأن الله تعالى قال فى كتابه: «إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم؛(') وقال تعالى: «فإن طبن لكم عن شئ منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئا»(), وإذا كان طيب النفس والرضا قد أوجب حقوقاء فبالعلة المخصوص عليها كل ما كان طيب النفس فى عقد يوجب حقوقاً ما لم يكن منهياً عنه محرماً.

ثالثها: أن الشروط التى تشترط فى العقود أمور مقصودة للناس يحتاجون إليها: إذ لولا حاجتهم إليها ما اشترطوها؛ لأن الإقدام على أمر مظنة الحاجة إليه؛ ولم يثبت تحريمه فيباح؛ لما ثبت فى مصادر الشارع وموارده من وجوب رفع الحرج والضيقء ولا شك أن منع

ورابعها: أن الأمر فى الشروط المقترنة بالعقود لا يخلى من أمور ثلاثة: إما ألا تحل إلا بدليل خاص من الكتاب والسنة والقياس وحيث حلت وجب الوفاء بهاء وكان على الحاكم )١(‏ الأنعام: ١15‏ (؟) النساء: (؟) النساء: ؛

لفن

تنفيذه؛ وإما أنها لا تحل إلا بدليل عام أوجب الوفاء بهاء وإما أنها تحل من غير حاجة إلى دليل ما دام لا دليل على التحريم,

أما الأول؛ قمتتف لإجماع المسلمين على وجوب الوفاء بالعقود التى عقدت فى الجاهلية ما دامث لا تشتمل على أمر منهى عنه, وإذأا اشتملت على منهى عنه ينفذ ما لم ينه عنه كما أوجب النبى عله المال فى العقود الريوية التى كانت معقودة فى الجاهلية: ووضع الريا؛ وقال: ريا الجاهلية موضوع.

وأها الثانى: فإن موجبه الوفاء بكل شرط غير منهى عنه؛ للأمر العام بالوفاء بموجب العقود,

وأما الثالث: فهى يقرر أنها من المعاملات والعادات لا من العادات فتكون على أصل الإباحة(!).

47- هذه هى خلاصة الأدلة التى ساقها ابن تيمية: أو خلاصة المرمى فى بعضها, ومن الإنصاف أن نسوق الأدلة التى تساق لتأييد رأى مخالفيه؛ وإن كنا نميل لرأيه().

لقد استدل أولئك الذين يقولون أنه لا يجب الوفاء بشسرط إلا إذا قام الدليل على وجوب الوفاء به بما يأتى:

(1) إن الشريعة قد رسمت حدود ا لتسود المعاملة بين الناس بلاشططء ولم تترك أمر الناس فرطاً بلا ضوابط: ولا حدود ولا قيود تمنع الظلم والغرر والجهالة المفضية إلى النزاع؛ وكل عقد أو شرط لم يرد به دليل مثبت له من الشرء؛ أولا يعتمد على أصوله الثابتة يلاريب فى ثبوتها فهى تعد لحدود الشريعة:» وما يكون فيه تعد لحدودها لا تقره» ولا توجب الوفاء به. وأيضاً فإن وجوب الوفاء إلزام من الشارع الحكيم ولا يصع أن تقر أمراً» وندعى أن الشارع ألزم به إلا إذا ورد فى أصول الشريعة ومصادرها ما يدل على الإلزام ووجوب الوفاء به, ومن ألزم فى الشريعة الوفاء بأمر لم يرد فى مصادرها ما يوجب الوفاء؛ فقد حرم حلالاء أى أحل حراماً.

)١(‏ قد استخلصنا هذه الأدلة من كلام مستفيض فى الشروط من 74 إلى ١4١‏ من الجزء الثالثك من الفتاوى, (؟)راجع فى هذا كتابنا (الملكية ونظرية العقد),

قاب

(ب) ولقد قال عليه الصلاة والسلام «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهى رد» فصح بهذا النص بطلان كل عقد وكل شرط التزمه الإنسان إلا ما صح أن يكون عقداً جاء به النص بالإلزام به أى إباحة التزامه وأيضاً فقد ورد أن النبى عله وقف خطيباً فحمد الله وأثنى عليه بما هى أهله؛ ثم قال: «أما بعد, فما بال أقوام يشترطون شروطا ليست فى كتاب الله. ما كان من شرط ليس فى كثاب الله فهو باطلء ولو كان مائة شرط؛ كتاب الله أحق: وشرطاللهأوقق»("),

٠5‏ هذه أدلة الفريقين اللذين يتجاذبان النظر, وهما الحنابلة من جانبء والظاهرية والحنفية والشافعية من جانب آخرء وإن كان ثمة فرق بين هؤلاء فهى فرق ما بين الظاهرية والشافعية والحنقية من توسيع فى معنى الدليل وتضييق فيه, فالظاهرية ضيقوا نطاق الدليل وقصروه على النص والأثر. وما هو فى معناهما . والمثقية جعلوه يشمل النص والإجماع والقياس والاستحسان والعرفء والشافعية قضتروه على ما عدًا الاستحسان والعرفء وكان لهذا الاختلاف فى التوسع فى الدليل الاختلاف فى التوسع فى الشروط.

ولكن بين هذين الفريقين المتباعدين الحنابلة وغيرهم ممن ذكرنا فريق توسع فى الشروط ولم يقصرها على ما يوافق مقتضى العقد؛ بل أجاز شروطا اعتبرها غيره غير موافقة لمقتضى العقدء واكنه لم يوافق الحنابلة موافقة تامة, وهذا الفريق هم ا مالكية؛ فهم قريبون هن الحنابلة ولم يوافقوهم موافقة تامة.

والمالكية يقسمون الشروط المقترنة بالعقود إلى ثلاثة أقساء:

(القسم الأول) الشروط التى يشترطها أحد العاقدين؛ وفيها منقعة له وليس فيها منع للعاقد الثاني من حق أعطاه له الشارع بمقتضى العقد؛ كان يشترط البائع لنفسه سكنى . الدار المبيعة مدة يسيرة هى شهر وقيل سنة؛ ففى هذه الحال لم يمنع المشترى من حق اكتسبه بمقتضى البيع؛ وعلى ذلك يصح العقد والشرط.

)١(‏ راجع هذه الأدلة وغميرها فى كتاب الإحكام فى أصول الأحكام لابن حزم الجزء الخامس ص١‏ وما يليها. وإن ابن تيمية يرد الاستدلال بهذه الأحاديث, لأن الشروط التى ليست فى كتاب الله هى الشروط التى تعارض ما جات به وما جاءت به السنة مثل اشتراط الولاء لغير المعتق وهو ما كان سبب خطبة النبى عله المذكورة.

رن

(القسم الثانى) الشروط التى فيها منع لأحد العاقدين من تصرف أعطاه إياه الشارع بمقتضى العقد من غير أن يكون فى الشروط جهة برء ومثال ذلك أن يبي شخص لآخر عينا من الأعيان: ويشترط عليه ألا يبيعهاء ففى هذا منع له من حق أعطاه له الشارع؛ إذ أعطاه بمقتضى البيع ملكية مطلقة يكون له بها التصرفات الشرعية كلهاء فأى حد لتلك التصرفات من غير معنى مقصود من البرء هومنع حق اكتسبه بمقتضى البيع؛ فيكون منافياً لمقتضى العقدء فلا يصح ذلك الشرطء ويفسد البيم.

(القسم الثالث) الشرط الذى يكون فيه تقييد لبعض التصرفات. ولكن يكون براً؛ كان يبيع عقاراء ويشترط على المشترى وقفه مسجدا تقام فيه الصلواتء فإن كان العقد مشروطاً فيه التعجيل صعح العقد والشرطء وإن لم يكن التعجيل مشروطاً فيه لم يصع للغرر الذى يفضى إلى النزاع فى الزمن الذى يجب فيه إنشاء المسجد أى الصرف على جهة البر.

هذا وقد انفرد مالك من بين الفقهاء يرأى فى الشروط التى تفسد العقدء وهو أن الشرط الذى يفسد العقد إن لم يتمسك به مشترطه ينقلب العقد صحيحاً لزوال سبب الفساد؛ وقد خالفه فى ذلك جمهور الفقهاء ووجهة نظره فى ذلك أن الفساد جاء بسبي الشرط لمعنى معقول فيه معلل به. وهو وجود الشرط المنافى لمعنى العقد ومقتضاه؛ فإذا زالت تلك العلة التى أوجدت القساد؛ زال القساد معها.

0 ويتبين من هذا أن المذهب المالكى يتقارب فر, الجملة من مذهب أحمد الذى قرره ابن تيمية على أكمل وجه: وموضمع اختلافهما فى أمرين:

(أولهما) أن المذهب الحنبلى يصدع كل الشروط التى لم يقم على بطلانها دليل؛ ولو كانت مقيدة للتصرفات فى العين كما رأينا من الأمثلة السابقة. ويعتبر استثناء التصرفات كاستثناء بعض المناقع» وكاستثناء بعض المبيع؛ أما المذمب المالكى فلا يس التضييق فى التصرفات إلا إذ! كانت لجهة برء والتصرف عاجل لا آجل.

(ثانيهما) أن المذهب الحنبلى يعتير كل شرط فى الزواج محترماً واجب الوفاء ويسوخ لمن اشترط له أن يفسخ العقد إن لم يعرف الطرف الآخرء أما مالك فظاهر مذهبه ألا تلزم الشروط المقترنة بعقد الزواج ما لم تكن من مقتضاه أو مؤكدة لمقتضاه أو ورد بها أثر أو جرى بها عرف؛ ولذا جاء فى المقدمات الممهدات لاين رشد ما نصه: «أما الشروط المطلقة فى

لفرن

النكاح فمن أهل العلم من أوجبهاء وروى القضاء بها ء وروى عن ابن شهاب أنه قال: أدركت من العلماء من يقضون بها لقول الرسول لله «أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج» وا معلوم المعروف فى المذهب أنها لا تلزم لكن يستحب الوفاء بها. ومن أمثلة تلك الشروط أن يتزوجها ويشترط فى العقد ألا يتزوج عليهاء فالعقد صحيح والشرط غير لازم» ولكن الوفاء به مستحبء ولقد قال مالك رضى الله عنه ينهى العاقدين أن يشترطا فى النكاح شروطاً» وقد قال رحمه الله: أشرت على قاضدى أن ينهى الناس أن يتزوجوا على الشروط. وأن يتزوجوا على دين الرجل وأمانته؛ وقد كتب بذلك كتاباء وصيح به فى الأسواق وعابها عيبا شديدا»!!), وضع الجوائح

1 قد تبين مما تقدم كيف شرح ابن تيمية شرحاً دقيقاً مقارناً بين الفقهاء فى الشروط المقترنة بالعقود» وكيف اختار مذهب أحمد بن حنبل الموسعء وقد أتممنا المقارنة ببيان مذهب مالك رضى الله عنه. ونرى هذا المذهب وخصوصا فى الزواج أسلم وأدق؛ واننتقل بعد ذلك إلى القاعدة الثالثة التى اخترنا دراستها من أقوال ابن تيمية؛ وهى القاعدة التى سماها وضع الجوائح فى المبايعات والمؤجرات, ونحوها من العقود اللازمة التى تعد معارضة؛ وهى تلف المعقود عليه بجائحة؛ قبل القبض,

والكلام فى هذا يدخل تحت قاعدة عامة: وهى قاعدة تلف المعقود عليه قبل التمكن من قبضه؛ ويبنى الكلام فى هذا على مقدمتين: هما عماد البحث؛ وحولهما يدور الخلاف بين الفقهاء. .

المقدمة الأولى: إن أكل أموال الناس بالباطل منهى عنه بحكم الشرع؛ وكل أخذ للمال بغير عوض من غير رضا صاحبه يعد أكلا لمال الناس بالباطل؛ وقد قال الله تعالى: «يأيها الذين أمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم»!") وقال تعالى: «ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوافريقاً من أمدال الناس بالإثم وأنتم تعلمون»() وإذلك نهى عن الربا وعن الميسر؛ لأنها أكل للمال بغير عوض

معقول. )١(‏ المقدهات الممهدات لابن رشد: الجزء الثانى ص 9ه, .+ )١(‏ النساء: ١9‏ (*) البقرة. 18/4

نض

ومن أكل أموال الناس بالباطل أخذ أحد العوضين بدؤن تسلم العوض الآخر؛ أو مع تعذر تسليمه. لأن المقصود بالعقود المالية التفابض, فكل من العاقدين يطلب تسليم ها عقد عليه, إذ القبوض هى المقصودة المطلوبة: وأذلك بتمام القبض تنتهى التبعات: ولهذا لو عقد غير المسلمين عقداً وتم التقابض فيه. ثم أسلماء وتحاكما إلينا لإيطاله لا نبطلهه لأنه باتتهاء التقابض انتهت كل حقوق العقد فتوفرت كل أحكامه؛ وليس لأحد سبيل من بعد.

واذا تعذر التقابضء أو لم يكن تقابض لأحد العوضين: بل كان كلاهما مؤجلا لم يصح العقد؛ لأنه نهى عن بيع الكالئ بالكالئ: وهى مالم يقيض بما لا يقبض: وقال جمهور العلماء: لا يجوز بيع الدين لغير من عليه الدين» وإن جون ذلك فى بعض الأقوال فى المذهب الحتبلى(!),

المقدمة الثانية: إن المعأوضات كالبيع والإجارة» وما يدخل فى عموم كل منهما مبناها على المعادلة والمساواة من الجانبين» إن لم يبذل أحدهما ما بذله. إلا ليحصل له ما طلبه. فكل واحد منهما أخذ معطء طالب مطلوب» وليس من المعادلة والمساواة أن يلتزم أحدهماء أى يستمر التزامه حيث سقط الالتزام عن الآخر؛ فلا إلزام بغير التزام؛ ولا يسوخ لواحد أن يطالب الآخر؛ حيث لا يستطيع هو أن ينفذ المطلوب مئه.

/ا٠‏ 4 - وينبفى على هاتين المقدمتين أنه إذا تلف المعقود عليه فى عقود المعاوضات قبل تسليمه تلقا لا ضمان فيه أى لا يوجد من يضمن أرش التلف؛ فإن العقد ينقسخ؛ لفوات المعادلة والمساواة, إذا استمي الالتزام بالعقد؛ ولآن ذلك يكون أكلالمال الناس بالباطل؛ ولأن التبعات لم تنته. وكان التلف قبل تمام كل حقوق العقد من عهد وتبعات؛ وأذلك قال رسول الله مَكهُ فيما رواه مسلم عن جابر: «لى بعت من أخيك تمرا فأصابته جائه فلا

' يحل لك أن تأخذ هنه شيئاً؛ بم تأخذ مال أخيك», وفى رواية «أن رسول الله عله أمر يوضع

الجوائح»!).

ولقد اتفق الفقهاء على أن تلف المعقود عليه قبل القبض يبطل العقد فى المعاوضات اللازمة كلها؛ لآن ذلك مقتضى الحديث الذى أمر بوضع الجوائح: ومنع المطالبة بالثمن, )١(‏ ملخص بتوضيح من كلام ابن تيمية ص4:؟: ١٠١ ١7١5‏ من مجموعة الرسائل والمسائل جه طبع المثار,

() الكتاب المذكور ص١١؟‏ والتلخيص بتصرف وتوضيح. رفن

رقرر ابن تيمية هذا وينتهى منه إلى وضع قاعدة عامة يرأها تستنبط من النصوص والأقيسة السابقة؛ وكلها تتجه إلى تقرير قاعدة سماها وضع الجوائح؛ وهى إسقاط كل تلف لاضمان فيه ينال أحد العوضين للعوض الآخر الذى يقابله فى العقد؛ ويقول فى ذلك «قاعدة وضع الجوائح ثابتة بالنص؛ وبالعمل القديم الذى لم يعلم فيه مخالف من الصحابة والتابعين, وبالقواعد المقررة,().

4 -- اتفق العلماء على أن التلف الذى يلحق العين قبل قبضها فى عقود المعوضات يؤثر فى العقدء وذلك مبتى على أن العين ما دامت لم تقبض فهى على ضمان العاقد الذى يملكها ولم يسلمهاء وأكنهم اختلفوا بعد ذلك فى أمرين:

(أولهما) فى مدى الضمان قبل التسليم. (وثانيهما) فى القبض.

وقد اتفقوا على أن المبيع أو العين المؤجرة فى ضمان البائع أو المؤجرء قبل التسليم: ولكنهم اختلفوا فى مدى هذا الضمان أهو قوى إلى درجة أنه لا يجوز التصرف فيه من المشترى؟ فى مذهب أحمد روايتان (إحداهما) لا يجوز التصرفء لا فرق بين عقار ومنقول, (والثانية) يجون التصرفء وعلى الرواية الأولى يكون الضمان كاملا؛ وعلى الثانية لا يكون كاملاء إلا أن يقال: إن قبض المشترى الجديدء أو المستأجر الجديد قبض عن القديم ويكتفى بالتخلية فى القبض, ومذهب مالك والشافعى ومحمد من أصحاب أبى حنيفة بمنع التصرف مطلقاً فلا يتصرف فى المبيع قبل قبضه؛ سواء أكان عقاراً أم كان منقولا لعدم خروجه من ضمان البائع» ومذهب أبى يوسف جوان التصرف مطلقاً لحصول الملكية؛ والتصرف يتيع الملكية ولا يتبع الضمان: ولاشك أن الضمان فى هذه الحال لا يكون كاملاء وأبى حنيقة فصلء فقال: إن كان المبيع عقاراً يجوز التصرف فيه قبل القبض لعدم مظنة هلاكه, ولثياته, ولا يجوز النصرف فى المنقول قبل القبض لخشية الهلاك قبل التسليه().

هذا هو الكلام فى مدى الضمانء أما الكلام فى معنى القبض؛ فقد قال بعض الفقهاء إن التخلية كافية للقبضء ويالتخلية ينتقل الضمان من البائع أو المؤجر إلى المشترى والمستاجر؛ بل إن الشافعى رضى الله عنه يقول: إن الضمان ينتقل من الباتع إلى المشترى (1) مجموعة الرسائل والمدائل جه 1١1‏ )١(‏ أشار ابن تيمية إلى هذا الخلاف ص50١77١؟‏ ولم يتممه وقد أتممناه؛ لتوضيح الموضوع.

ترون

بمجرد التمكن من القبضء ومالك وأحمد يقواون فى العين الحاضرة إن أمكن قبضها تعتبر قد قبضت؛ وإلا فلاه كبيم ثوب يلبسه البائع. وأما إذا لم يكن المبيع حاضرأ فالقبض بالتسليم أى التخلية على حسب ما جرى العرفء لا يواحد بعين(!),

وأبى حنيفة رضى الله عنه يعتبر الأعيان الحاضرة مقبوضة فعلا بمجرد التخلية: أما إذا لم تكن تخلية كأن كانت فى يد البائع أو يلبسها أوفى حجره أو على عاتقه؛ أو كان المبيع دابة ويمسكهاء فالقبض لم يتم؛ والهلاك يكون على ضمانه, أى إنه بالنسبة للأعيان الحاضرة اعتبر مناط ضمان البائع إمكان الحيازة الفعلية» وفى الغائب لا يتم إلا بالتسليم أو التخلية!).

وينتهى ابن تيمية من استعراض موجز لآراء العلماء فى القبض إلى تقرير قاعدة فى القبضء وهى «القبض مرجعه إلى عرف الناس حيث لم يكن له حد فى اللغة ولا فى الشرع, وقبض ثمن الشجرة لابد فيه من الخذمة والتخلية المستمرة إلى كمال الصلاح بخلاف قبضص مجرد الأصولء وتخلية كل شئ بحسبهيا").

-- وقد انبنى على الخلاف فى حقيقة القبض ومدى الضمان اختلاف فى الثمر إذا بيع وقد بدا صلاحه؛ وهلك قبل النضج بعد التخلية؛ فابن تيمية مع الإمام أحمد يقول إن الضمان على البائع» لأن الضمان لم يخرج من عهدته: إذ القبض ام يثم, لأن التخلية وحدها فى مثل هذه الحال لا تكفى للقبضء إذ أن المقصود من الثمر هو الانتفاع به بالطعام؛ وذلك لا يكون إلا بالنضج الكامل» فلايعد قد قبض ما دام لم ينذمج نضجاً كاملا والتخلية لا تكفى فى هذه الحالء إذ أنه يجب أن يستمر فى الأرض على شجر يتغذى منه ويتربى عليه ولا تغنى التخلية المجردة عن ذلك شيئاء قهى فى ضسمان البائع إلى أن يتكامل نموه, ولذلك ورد الحديث الصحيع بوضع الجوائح عنه وقد قال ذلك أحمدء ومالك والشافعى فى قوله القديم, أما في قوله الجديد وه قول الحنفية, فهى أته مادامت التخلية قد تمت وجاز التصرف فيه فإن الهلاك يكون على المشترى.

,؟١؟ص ملخص بتوضيح‎ )١( راجع فى هذا الجامع الصقير للإمام محمد بن الحسن.‎ )1( .؟١؟ص (؟) مجموع الرسائل جه‎

و

ولاشك أن نظر ابن تيمية فى تعليل الحكم نظر عميق دقيق. إذ أن الثمر مادام على الشسجر فهو قائم على ملك البائع» وليس مستغنيا عن الشجر ما دام لم ينضج فتحقق المقصود من العقد لا يمكن أن يتم بتلك التخلية, والكلام فى الزرع كالكلام فى هذا تماماًء لأن الزرع إن حصلت التخلية وهى لم يكمل نموه؛ وإن كان قد بدا صلاحه. وحصلت آفة فإن الهلاك يكون على البائع عند أحمد ومالك وقول الشافعى وهواختيار ابن تيمية» وقال أبى حنيفة وهى القول الجديد عند الشافعى: إن التخلية كافية لنقل الضمان مع التمكن من القبض. معثى الجائحة: -٠‏ يعرف ابن تيمية الجائحة بأنها الآفة السماوية التى لا يمكن معها تضمين أحد مثل الهلاك بسبب الريح, والبرد والحر والمطر والجليد والصاعقة ونحى ذلك. وعلى ذلك إذا أتلفها أدمى يمكن تضمينه أيا كان الآدمي» يخير المشترى بين إمضاء البيع وتضمين المثلف القيمة. وبين فسخ البيع» واسترداد الثمن» أى الامتتاع عن تسليمه إن لم يكن قد سلمه. ظ وإذا أتلف الممقود عليه آدمىء ولكن لا يمكن تضمينه, كالجيوش التى تنهب, وص التى لا تعرف. أو عرفت وام يمكن تضمينها؛ أيعتبر ذلك جائحة كافة السماء أم إتلافا؛ لأنه فعل إنسان؟ يقول ابن تيمية: فى ذلك وجهان: (أحدهما) ليس ذلك جائحة؛ لأنه فعل أدمى (والثانى) هو قياس المذهب أنها جائحة وهى مذهب مالك؛ لأن المأخذ هو إمكان الضمانء ولهذا لو كان المتلف جيوش الكفار أو أهل الحرب كان ذلك كالآفة السماوية. والجيوش واللصوصء وإن فعلوا ذلك ظلماً ولم يمكن تضمينهم فهو بمنزلة البرد فى المعنى(' وإن ذلك واضح تماماً؛ لأنه حيث لا يمكن التضمين, فلا تبعة على شخص معين؛ ويكون كالهلاك من غير فعل أحد. العقود التى توضع فيها الجوائح: -١‏ اتفق العلماء على أن الجوائح توضع فى البيع إذا هلك المبيع قبل القبض, )١(‏ مجموعة الرسائل والمسائل جه ص1 10. هلق

وإن اختلفوا فى معنى قبض الزروع والثمارء أيتم بمجرد التخلية أم لا يتم إلا بالتخلية ومجئ وقت القطعء وهى المسمى فى اللغة والشرع بوقت الجداد. وموضع الخلاف عندهم هى الحال التى يكون قيها البيع متصباً على الثمر أو الزرع من غير نص على الأرض أو الشجر؛ أما هذا قلا خلاف فيه أن يكون الضمان على البائع؛ وكما أنه من المتفق عليه ضمان التلف على البائع فى المبيع قبل القبض على الخلاف الذى بيناه كذلك من المتفق عليه أن المنقعة إذا لم يمكن استيفاؤها تبطل الإجارة: وقد قال ابن تيمية: «لا نزاع بين الأئمة أن منافع العين إذا تعطلت قبل التمكن من استيفائها سقطت الأجرة, لآن المنفعة التى لم توجد لم تقبض يحال» ولهذا نقل الإجماع على أن العين المؤجرة إذا تلفت قبل قبضها بطلت الإجارة: وكذلك إذا تلفت بعد قبضها وقبل التمكن من الانتفاع؛ إلا خلافاً شاذاً حكوه عن أبى ثور لأن المعقود عليه تلف بعد قبضه. فأشبه تلف المبيع بعد القبض جعلا لقبض العين قبضاً للمنفعة... لكن يقولون: المعقود عليه هنا المنافع, وهى معدومة لم تقبض, وإنما قبضها باستيفائها؛ أو التمكين من استيفائهاء وإنما جعل قبض العين قبضاً لها فى انتقال الملك والاستحقاق وجواز التصرفء فإذا تلفت العين فقد تلفت قبل التمكن من استيفاء المنفعة فتبطل الإجارة, وإن تلفت العين فى أثناء المدة انفسخت الإجارة فيما بقى من مدة دون ما مضىء وفى انقساحها فى الماضى خلاف شانء وتعطل بعض الأعيان المستأجرة يسقط نصيبه من الأجرة, كتلف بعض الأعيان المبيعة مثل موت بعض الدواب المستأجرة وانهدام الدور»!"".

١‏ 4- وترى من هذا أن أحكام الإجارة فى وضع الجوائح هى أحكام البيع,»وما بينها من خلاف فهو من قبيل تطبيق الحكم على طبيعة كل عقد؛ فاعتبر تسليم العين فى البيع هى التسليم النهائى: لأن محل العقد هى العين.

أما محل العقد فى الإجارة فهى المنفعة فكان القبض فيها ليس بقيض العين فقط, بل بالتمكن من الانتفااع إلى نهاية المدة بكل العين» وما نقص فبحسمابه.

ويهذا يتقرر كما يقرر ابن تيمية أن الإجارة تبطل بتعطيل المنفعة, وأن المنفعة تعطل بتلف العين التى تعلقت بها أ بزوال نفع العين مع بقائهاء وإذا زال بعض نفعها المقصود

يفيل

ويقى بعضه كان للمستاجر الحق فى فسخ الإجارة» ويكون ذلك كالعيب يكون فى محل العقد؛ وإذا اختار أن تبقى الإجارة ففى الفقه الإسلامى رأيان هما فى مذهب أحمد رضى الله عنه: (أحدهما) أن يمسك بالأجرة كلهاء لأنه ليس له إلا الفسخ أو الإمضاء بالأجرة كاملة. (وثانيهما) أن يمسكها بما يقابلها من الآجرة وذلك بخلاف ما إذا لم يتمكن من الانتفاع جزءاً هن الزمن فإنه ينقص من الأجرة ما يقابله بالاتفاق» لأن ذلك العقد متجددء ينعقد ساعة فساعة:؛ فكأة' جملة عقود بالنسبة للزمن.

١‏ 4- ويينى ابن تيمية على هذه القضية العامة فى الإجارة» وهى أن تعطل المنفعة يوجب انفساخ الإجارة: أى يسم فسخها إن لم يكن التعطل كاملا- يبنى على هذا الحكم فيمن استأجر أرضا ليزرعهاء فانقطع الماء قبل الزرع أى بعده أى غرقت الأرض دسيل أو طفيان النهر» ونحو ذلك من الأسباب القاهرة,.

فيرى أن انقطاع الماء أو الغرق سواء أحدث بعد الزرع أم قبل الزرع فإن عطل الانتفاع كاملا فلا أجرة لعدم استيقاء المنفعة» وإن عطل بعض المنفعة نقص بقدرها على أحد الرأيين فى مذهب أحمد.

ولكن يقول إن من الفقهاء من فرق بين انقطاع الماء وبين غرق الأرض بعد الزرع: ففى انقطاع الماء عمم الحكم فنسقط الأجرة كلها أو بعضها على حسب مقدار ما تعطل من المنقعة سواء أكان قبل الزرع أو بعده؛ وفى غرق الأرض قال إنه إن كان بعد الزرع وجبت الأجرة. لأن الزرع ملكه, والآفة قد جاءت فى ملكه كمن يسكن دارا يصيبها سيلء فيتلف أمتعته, وإنه بالزرع قد تم القبضء أما إذا كان الغرق قبل الزرع فقد منع ذلك القبضء فلا تثبت الأجرة: وقد ذكر هذا من الحنابلة القاضى ابن أبى يعلى: وذكر أنه مذهب مالك؛ وهى بلا شك أحد القولين فى مذهب أحمد.

وأكن ابن تيمية يثور على هذا القول الذى يفرق بين الغرق وانقطاع المياهء ويقول: اتفق الأئمة على أن المنفعة إنما تقبض شيئا فشيئاء ولهذا اتفقوا على أنه إذا تلفت العين, أو تعطلت المنقعة, أو بعضها فى أثناء المدة سقطت الأجرة؛ أى يعضهاء أو ملك الفسخ: وإنما دخلت الشبهة على من دخلت عليه؛ من حيث ظن أن المنفعة المقصودة بالعقد إثارة الأرض والبذر فيهاء وظن أن نلف الزرع بغرق أو غيره بمنزلة تلف زرع الزارع بعد الحصادء ويمنزلة تلف ثوب له فى الدار المستئجرة. وهذه غفلة بينة لمن تدير»(1),

. مجموعة الرسائل والمسائل ص1/8؟ جه‎ )١( رفن‎

وقال أيضاً رضى الله عنه: «إن ٠«قصود‏ المستاجر الذى عقد عليه العقد هو تمكنه من الانتفاع بتربة الأرض وهوائها ومائها وشمسهاء إلى أن يكمل صلاح زرعه. فمتى زالت منفعة الترابء أو الماء» أو الهواء, أو الشمس لم ينيت الزرع, ولم تستوف ال منفعة المقصودة بالعقد... وليس المقصود هو مجرد فعل المستأجر الذى هو شق الأرضء وإلقاء البذرء حتى يقال إذا تمكن من ذلك؛ فقد تمكن من المنفعة جميعها, وإن حصل بعده ما يفسد الزرع ويمنع الانتفاع. لأن المعقود عليه هو منفعة الأرض وانتفاعه بها. وأما شق الأرض فتعب ونصبء وإلقاء البذر إخراج:؛ وإنما يفعل ذلك لما يرجوه من انتفاعه بالزرع الذى يخلقه الله فى الأرض من الإنبات» كما قال تعالى: «ينبت لكم به الزرع والزيتون والتخيل والأعناب»!'!.

ثم يتنزل بالمسألة إلى منزلة البدهيات التى يعلمها كل العقلاءء ويعجب كيف يخالف الفقهاء فيهاء فيقول:

«ينكر كل ذى فطرة سليمة ذلك (أى أن العقد منصب على شق الأرض وإلقاء البذر) حتى من لم يمارس علم الفقه من القلاحين: وشذاذ المتفقهة ونحوهمء فإنهم يعلمون أن المعقود عليه هى انتفاع المستأجر بمنقعة العين المؤجرة لا مجرد تعبه ونفقته الذى هو طريق الانتفاعء فإن ذلك بمنزلة إلجامه واقتياده للفرس المستأجرةء وذلك طريق إلى الانتفاع بالركوب لا المعقود عليه... فمن ظن أن مجرد فعله هى المعقود عليه فقط غلط غلطا بينا باليقين الذى لا شبهة فيه. وسبب غلطه كون فعله أمراأ محسوساً لحركته؛ وكون نفع الأرض معقولا لعدم حركته. فالذهن لما أدرك الحركة المحسوسة توهم أنها المعقود عليه؛ وهذا غلط منقوص بسائر صور الإجارة: فإن المعقود عليه هو نفع الأعيان المؤجرة, سواء أكانث جامدة كالأرض والدار والثيابء أم متحركة كالأناس والدواب؛ لا عمل الشخص المستأجر, وإنما عمل الشخص طريق إلى استيفاء المنفعة»!".

4 وهكذا نرى ابن تيمية يقرر قاعدة وضع الجوائح فى العقود, فيقرر أن الجائحة إذا كانت قبل استيفاء المعقود عليه فى عقود المعاوضات تسقط من الالتزام بقدر ما يقابلهاء فإن كان العقد بيعاء فإنه يبطل إذا هلكت العين قبل القبضء والقبض الذى يراه )١(‏ مجموعة الرسائل ص71 جه. الآية ١١‏ من سورة النحل (1) الكتاب المذكور آثفاً ص74/.

مرف

ابن تيمية هو القبض الذى جرى العرف يه, ويكون به التمكن من الانتفاع فلا يعتير القبضشس فى بيع الثمر أو الزرع بمجرد التمكن والتخلية» يل يكون وقت الجداد أووقت الحصادء حتى يتم النضجء وفى عقود المنافع إذا لم يتمكن من استيقاء المنفعة كلها أى بعضهاء ينقص من الأجرة بمقدار ما تعذر عليه استيفاؤه؛ ويسوق ذلك فى أسلوب محكم؛ وتفكير عميق حتى يستمد قوته من نظم الحياة. ووقائع الوجود فيكون الفقه حيا خصبا نامياء وكذلك كان فى كل ما مارس من أيواب الفقه. - اختيارات ابن تيمية

0- ذكرنا فى الأبواب السابقة طائفة من فتاوى ابن تيمية لتكون نموذجاً من إفتائه العامة» وكان فى فتاويه هذه حنبلياً خالصاًء ويشير أحيانا إلى أقوال المخالفين؛ ثم ذكرنا دراسته المقارنةء واخترنا نماذج لذلك تصور نفاذ بصيرته وقوة مداركه فى الغوص على أدق المعانى» ومزج ألفقه بالحياة, وجعله حكما عدلا على أحكامها؛ من غير انحراف عن مقاصد الشريعة: بل غرضه تحقيق معانيها فى معالجة مشاكل الحياة, وما يجرى بين الناس؛ وهى فى هذه المقارنة يميل إلى مذهب ابن حنبل فى الجملة؛ ؤيعاضد منه ما يكون أعدل بين الناس؛ وأكثر موافقة لمصالحهم.

وبقى أن نتكلم فى اختياراته؛ وهى آراء جمعها فى كتاب هى مختار من الفقه الإسلامى كله من غير تقيد بمذهب من بينها؛ يتخير منها ولا يتقيدء ولكن مع هذا نراه أميل إلى المذهب الحنبلى أيضاً.

وأقد كان أساس الاختيار كما يبدى يدور حول أقطاب ثلاثة:

أولها: القرب من الآثار. فهو حريص على ألا يختار غرائب الفقه بل يختار ماله اتصال أوثق بمصدره.

ثانيها: القرب من حاجات الناس ومألوفهم وتحقيق مصالحهم والعدالة فيهم؛ فإنه بعد استيثاقه من الاتصال بين الحكم والمصدر الشرعى من كتاب أو سنة؛ يختار الأعدل والذى يلائم العصر ويثقق مع الحاجات.

وثالثها: تحقيق المعانى الشرعية التى شرعت لها الأحكام. فهو على ذلك جد حريص فى كل ما يختار ويفتى» ويعلن من آراء.

ان

1- وإنذكر فى هذا الباب تماذج من أختياره:

() ومن اختياراته قوئه فى الزكاة أنها لا تصرف لأهل المعاصى المصرين عليها إلا أن يتوبواء ولو كانوا فقراء ومساكين فهو يقرر «أنه لا ينبغى أن تعطى الزكاة لمن لا يستعين بها على طاعة الله تعالى, فإنه سبحانه فرضها معونة على طاعته لمن يحتاج إليها من المؤمنين كالفقراء والغارمين. أو من يعاون المؤمنين فمن لا يصلى من أهل الحاجات لا يعطى شيئاً حتى يتوب ويلتزم أداء الصلاة:(').

ونحن نخالف ابن تيمية فى هذا لثلاثة أسباب:

أولها: عموم نصوص القرآن فى مصارف الزكاة من غير تخصيص بين مطيع وعاص: وليس لأحد أن يخصص لمأجرد استحسانه من غير نص مخصص,ء أو دليل من الشرع يدل على التخصيص, ثم لا ندرى كيف نعطى لغير مسلمين لنتالفهم على الإسلام من الزكاة, ولا نعطى العصاة, أفلا نعطيهم لنتالفهم على الطاعات. كما تالفنا فؤلاء على الإسلام» لذلك نرى أن رأى ابن تيمية إن لم يخالف نص أيات الزكاة فهى يخالف فحواهاء أو مرماها قى الجملة, الحياة؛ وأنه يباح للمجتمع أن يتركه يتضور جوها حتى يموت: وإذا كان ذلك مباحا فقئله أيضاً مباح؛ لأنه لا فرق بين القتل بالسيف والقثل بالجوع إلا فى الوسيلة, ولا فرق بينهما قى النهاية, فإن أحدا لم يقل ذلك إلا الخوارج وليس ابن ثيمية منهم والحمد لله.

إن الزكاة شرعت لتنظيم المجتمع وتخفيف ويلات الفقرء وهى بر وعطف» ولا يختص بالبر والتعاون فريق دون فريقء وأنه ريما كان العصيان لابتئاس النفس بالفقر والحاجة وإن علم النقس الجنائى أثبت أن الجرائم تنبعث فى نفوس الذين ينبذهم المجتمع؛ إن تتولد فيهم روح العداوة للناس» فمنع العصاة الفقراء من حقهم الشرعى فى الزكاة لا يدفعهم إلى الطاعات, بل يدفعهم إلى الجرائم والمنكرات؛ فتلتوى النتيجة على القصد» ويتحقق شر كبيرء

ا اا000ا 000100001 )١(‏ الاختبارات العلمية ص١7‏ طبع الكردى. "١‏

ثالثها: أن النبى له كان يعين المشركين فى ضرائهمء فعندما نزلت بقريش جائحة بعد صلح الحديبية أرسل إلى أبى سفيان بن حرب خمسمائة دينار يشترى يها ما يسد حاجة الفقراء من أهل مكة وكان جلهم مشركين: فإذا كان البر بالمشرك المحتاج سائغاء أفيسوغ فى منطق الإسلام أن يترك العاصى جائعاً حتى يتوبء فإن لم يتب فليمت بغيظه أو ليكن سراقاً أو طراراً,

من أجل هذا نخالف الإمام أبا العباس فى هذا. وإن كان فرط تقواه هى الذى دفعه إلى ذلك الاختيار أى هذا القول.

7- (ب) ومن اختيار ابن تيمية أيضاً فى الزكاة أنه أجاز إعطاء بنى هاشم منها إذا منعوا من خمس خمس الغنائم, فإن حقهم كما يقرر الآئمة الأربعة فى ذلك ليغنيهم عن الزكاة كما قال تعالى: «واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلذا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان»(١).‏

فيقرر ابن تيمية أنهم إن منعوا ذلك الحق ظلماًء ساغ لهم أخذ الزكاة: وقال ابن تيمية فى ذلك: «وهى قول القاضى يعقوب وغيره من أصحابناء وقاله أبى يوسف من العراقيين والأصطخرى من الشافعية؛ لأنه محل حاجة!'). ولايد من سد الحاجة أياً كان صاحبهاء ولا شك أن الإثم لا ينتفى عن الذى منعهم حتى اضطرهم إلى أن يأخذوا الزكاة سداً للحاجة.

ويظلهر أن ابن تيمية يسئغ فى كل حال أن يأخذ الهاشميون زكاة الهاشميين: للصلة التى تريطهم, ولا مذلة فى أن يأخذ بعضهم من بعضء ولأن النبى عله عندما نهاهم عن أخذها قال إنها أوساخ الناس؛ فقد منعهم أن يأخذوا من الناسء ولم يمنعهم أن يأخذ بعضهم من بعضء واذا يقول: «ويجوز لبنى هاشم الأخذ من زكاة الهاشميين وهو يحكى عن طائفة من أهل البيت»(),

وظاهر قوله هذا أنه أخذها من فقهاء آل البيث: وهو يدل على اطلاعه على فقه الشيعة, وسنشير إلى ذلك فى آرائه فى الطلاق إن شاء الله تعالى.

.5١ص الأنفال: ١غ (؟) الاختيارات العلمية‎ )١( (؟) الكتاب المذكور.‎

حان

- (ج) وقد اختار ابن تيمية فى الزكاة أيضاً جواز صرف الزكاة إلى الأصول وإن علواء وإلى القروع وإن نزلواء إذا لم يكن من تجب عليه الزكاة كسوياً كسباً يكون منه فضل ينفق منه على هؤلاء؛ وكان معه نصاب تجب فيه زكاة: أو كانت له أرض تنتج زرعاً لا يكفيه هو وهم بعد إخراج الزكاة لغيرهم وذلك لأن الإنفاق عليهم صدقة؛ وهم عاجزون عن سد حاجاتهمء وهو عاجزء فكان المقتضى للدفع ثابتاًء ولم يكن مسانع من الإعطاء. ولذلك يقول: «ويجوز صرف الزكاة إلى الوالدين وإن علواء وإلى الولد وإن سفل إذا كانوا فقراء, وهى عاجن عن نفقتهم؛ لوجود المقتضى السالم عن المعارض الممانع؛ وهى أحد القولين فى مذهبحمد»().

وإن ذلك الكلام مستقيم؛ إذ كيف يسوغ له أن يعطى زكاة زرعه؛ ومعه أولاد أق أبواه لا يفضل لهم بعد الزكاة ما يكفيهم!! إن إعطاءهم إدراك سليم لمعنى الزكاة: والمقصد منها؛ ومعنى الغنى والحاجة وطرق سدها.

وقد سو ابن تيمية أن تسدد من الزكاة ديون أبويه أو أولاده, باعتبار أن هؤلاء من الغارمين, كما أجاز إعطاء الزكاة لأصوله وفروعه إذا اتقطع بهم السييل عن أموالهم, وأصبحوا فى حاجة إلى ما يدفع عنهم غائلة الجوع والعرى وعدم المأوى» وقد ذكر أن ذلك أحد القولين فى مذهب أحمد أيضاً, ولاشك أن هذا اختيار يدل على مدارك فقهية مصلحية عالية,

4- (د) وقد اختار ابن تيمية من أقوال الفقهاء«أن دور مكة لا تؤجر» وأن من استأجرها لا تلزمه الأجرة ويحرم عليه دفعها إلا أن يكون مضطراً بأن كان على مكة متغلب أو كان أهل مكة لا يمكئون الحجيج من الدور والرياع إلا بأجرة, ويقول فى ذلك رضى الله عنه, ومكة المشرفة فتحت عنوة؛ ولا تجوز إجارتهاء فإن استأجرها فالأجرة ساقطة يحرم يذلهاء!؟). :

وهذا الكلام يدل على أمرين: (أحدهما) أن مكة فتحت عنوة فى عصر النبى عله ولم تفتح صلحا. (وثانيهما): أنها لا تؤجر دورها؛ لأنها إذا فتحت عنوة لا تجوز إجارتهاء ولأن

اسمس )١(‏ الكتاب المذكور ص١5.‏ (1) الاختيارات العلمية ص١/.‏ زذال

ذلك الموضوع له أهمية خاصة: ولأن أولى الأمر فى مكة يطبقون مذهب ابن حنبل عامة؛ وآراء ابن تيمية نشير ونذكر بالإجمال إلى الآراء فى هذه المسألة.

اختلف الفقهاء فى شأن دور مكة من حيث بيعها وإجارتها؛ فقال أبى حنيفة رضى الله عنه تجوز إجارتهاء ولا يجوز بيعها لأن مقتضى أنها فتحت عنوة أن تكون يد أهلها ليست يد ملك قلا يجوز بيعهاء ولكن لأنهم يملكون منقعتها يجوز لهم التصرف فيها بالإجارة» فان أجروها فقد تصرقوا فيما يملكون, فصحت الإجارة ولكن روى عنه أنه صحح الإجارة فى موسم الحج فقطء وقال الشافعي أن مكة فتحت صلحاً فيجوز بيع أرضها ودورهاء وإجارتها.

أما أحمد فقد الختلفت الآراء فى مذهبه لاختلاف الرواية عنه, فقيل: يجوز البيع والإجارة كمذهب الشافعى؛ وقيل: لا يجوز البيع ولا الإجارة: ففى رواية عن أحمد وقد ساله سائل: «ما ترى فى شراء المنازل بمكة قال لا يعجبنى: فيه نهى كثير»» وفى رواية أبى طالب لاتكرى بيوت مكة إلا أن يعطى المتاع لحفظه فقيل: «أليس عر اشترى دارا للسجن؟ قال اشتراها للمسلمين يحبس فيه الفساق» فقيل له. فإن سكن الرجل لا يعطيهم كراء! قال لايخرج حتى لا يعطيهم أنا أكره كراء الحجام؛ ولكن أعطيه أجرته: ولا يتبغى لهم أن ياخنى(".

وفى رواية أخرى عن أحمد أن البيع يجوز؛ لشراء عمر داراً للسجنء وأما الإجارة قلا تجوزء وقد ذكل فى هذه الرواية أنه إن سكن دور مكة وقدر على عدم إعطائهم لا يعطيهم, فقد سئل فى الرجل يسكن بأجرة ققال: «إن قدى ألا يعطيهم فليفعل».

وإن ابن تيمية يختار ذلك الرأى الذى يمع البيع والإجارة بالبناء على أنها فتحت عنوة؛ وعندى أن الذين ساروا على أن دور مكة لا تؤجر من أقدم العمصور نظرو) فى هذا إلى أنها حرم المسلمين جميعاً الآمن إلى يوم الدين» وأن ذلك مأخوذ من قوله تعالى فى المسجد الحرام: «سواء العاكف فيه والباد»("), أى سواء المقيم فيه أى حوله. والبادى أى المسافر الذى يقصده ويحج إليه. ولذلك يقول ابن ثيمية نفسه عن روايته عن أحمد فى نهيه عن بيع ال منازل فى مكة وشرائها «وبعض الناس يتأول قوله تعالى: سواء العاكف فيه والباد». (1) الأحكام السلطانية لابن آبى يطى. 2 (1) الحهنه؟

لال

وإن هنع إجارتها هو المروى فى الصحاح عن الصحابة والتابعين» ولقد روى ابن ماجه أن رسول الله نه توفى هو وأبى بكر وعمر وما تدعى رباع مكة إلا السوائبء من احتاج سكن ومن استغنى أسكن('. وروى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان ينهى عن تبويب دور مكة لينزل الحجاج فى عرصاتهاء فكان أول من بوب داره سهيل بن عمرو. فأرسل إليه عمر بن الخطاب فى ذلكء فقال: أنظرنى يا أمير المؤمنين إنى كنت امرما تاجراً» فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لى ظهرى. قال: لك ذلك إذن؛ وروى أن عمر رضى الله عنه قال: «يا أهل

مكة لا تتخذوا لدوركم أبواباً لينزل الناس», وروى عن ابن عمر موقوفاً أن رسول الله مله قال: «من أكل كراء بيوت مكة أكل تارل(),

وفى هذه الآثار نلمح أن المقصد من منع إجارة دور مكة أنها حرم الله الآمن؛ وأن التيسير فى الحج والتسهيل فيه. وجعله غير شاق لا يسو إجارته: وإذلك كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه ينهى عن بيع الطعام قى موسم الحج» حتى لا يجهد الناس» ويكون الاحتكار. وترتفع الأسعار.

فمكة بهذا الاعتبار لها منزلة خاصة:؛ وإذا يقول أبو عبيدة: «إن رسول الله عه قد سن لمكة سنناً لم يسنها لشئ من سائر البلاد.... إنها مناخ لمن سيقء ولا تباع رباعهاء ولا تؤخذ إجارتها ولا تحل ضالتهاء ولا تغلق دورها دون الحاج... ولا يطيب كراء بيوتها وإنها مسجد للمسلمين»().

وقد سقنا هذا الكلام ليعلم القائمون على شئون الحج؛ وسدانة بيت الله الحرام والحكام فى مكة المكرمة المباركة- أن تسهيل الحج على طلابه أمر لازم واجب على الحكام؛ وأن رسول الله طلّه أمر بهذا التيسيرء وأن الصحابة رضى الله عنهم من بعده قد سلكوا ذلك الطريق القويم حتى أن عمر كان يمنع من أن تتخذ الأبواب على الدور فى مكة؛ لكيلا يحاجز شئدون مسأوى الحجيج. وليعلموا أيضاً أن الذين يصعبون الحج على طلابه إنما (1) تفسير أبن كثير جا ص؟١.‏ (1) تفسير أبن كثير ج؟ ص5١‏

(؟) كتاب الأموال لأبى عبيد. دان

يصدون عن المسجد الحرامء فيكونون فى هذا كالذين قال الله فيهم: «إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذى جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد» ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم(١),‏

وليعلموا أيضاً أن مذهب الإمام أحمد, وهو إمامهم الأول هو القول الراجح فيه أن دور مكة لا تؤجر؛ وأن اختيار ابن تيمية وهو الإمام الثاني أنها لا تؤجر؛ وقد نترخص فنسوٌ العمل بمذهب الشافعى وأبى حنيفة؛ واكن لا يرخص أحد فى التصعيب: وتكليف الحجاج مالا يطيقون.

وإذا على يقين من أننا نضاطب حكاماً يستمعون إلى حكم القرآن, ويتعرفون سنة الرسول «ويتبعون ولا يبتدعون: فنستطيع أن نقول لهم: هذا حلال وهذا حرام بحكم القرآن: وأنه يكفى أن ينبهوا فيتنبهوا؛ ويذكروا فيّتذكروا «إن فى ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمعوهىشهيد».

(ه) ومن الختيارات ابن تيمية أنه يجوز تقدير الصنعة فى الأموال الريوية التى نص النبى ظّهُ على تحريم رضا الفضل فيها- ومنها الذهب بالذهب, والفضة بالفضة, فإن جمهور الفقهاء يقررون أنه إذا بيع ذهب مضروب دنائير أى مصنوع حلياً من الذهب وجب اتحاد الوزن حتماء والزيادة رباء ولا عبرة يقيمة الصناعة, ولكن اختار القول الآخر وهى الذى لا يراه الجمهور؛ وهى أن تقدر قيمة الصناعة فيسوغ حينئذ التفاضلء وتكون الزيادة فى مقابل الصنعة, ويقول فى ذلك «ويجوز بيع المصئغ من الذهب والفضة بجنسه من غير شتراط التمائل؛ ويجعل الزائد فى مقابلة الصنعة: وليس هذا ريا»!؟),

وإن ذلك القول يتفق مع قول مالك ورواية ضعيفة فى مذهب ابن حنبل ويقول صاحب المغنى فى ذلك مبيناً الرأيين: «والصحيع والمكسور سواء فى جواز البيع من التماثل, وتحريمه مع التفاضلء وهذا قول أكثر أهل العلم منهم أبى حنيفة والشاقعى؛ وحكى عن مالك جوان بيع المضروب بقيمته بجنسه؛ وأنكر أصحابه ذلك ونفوه عنه, وحكى بعس أصحاينا عن أحمد رواية: لا يجوز بيع الصحاح بالمكسرة؛ لأن للصناعة قيمة يدليل حال الإسلاف فيصير كأنه ضم قيمة الصذاعة إلى الذهب». ‏ 7 )١(‏ الحج: ه١١ )١(‏ الاختيارات العلمية صه/.

دان

«وانا قسول الذبى لله« الذهب بالذهب مثلا بمثل, والفضة بالفضة مثلا بمثل» وعن عبادة أن النبى مله قال: «الذهب بالذهب تبرها وعينهاء والفضة بالفضة تبرها وعينها» رواه أبو دأوود؛ وروى مسلم عن أبى الأشعث أن معاوية أمر ببيع آنية من فضة فى أعطيات الناسء فبل: الذهب بالذهب, والقضة بالفضة. والبر بالبر والشعير بالشعير, والملع با ملح إلا سواء بسواء عيناً بعين, فمن زاد أو استزاد فقد اربى,[",

وهكذا يسرد صاحب ال مغنى الروايات» واكن ابن تيمية لا يرى أن ذلك ينفى للصنعة قيمة إذا كانت لها فلايد من اعتبارها عند الثقابل. بل إن إلغاءها يجعل فضلا فى التقابل ولا يكون مماثلا ولايجوزء وإنه من المتفق عليه عند الحنابلة أنه تجوز أجرة الصناعة؛ فمن .قال لصانع اصنع لى خاتما وزته درهما وأعطيك مثل وزنه ودرهما لأجرتك لم يكن رياء فإذا جاز هذا فكيف لا تعتبر قيمة الصياغة, ولا يدفع هذا أن المعاوضة فى عقد إجارة والزيادة .أجرة؛ لأن العبرة بالنتيجة والغاية» وهو اعتبار الصياغة ذأت قيمة,

هذا ولابن تيمية اختيارات كثيرة تدل على اطلاع غزيرء وأفق واسع؛ وإدراك لمصالع التاسء واب الفقه والشريعة. ؛- اجتهاده فى الطلاق

١‏ بينا فى الأبواب السابقة فتاوى ابن تيمية ألتى كان يفتى بها من المذهب 'الحنيلى: ويختار من دائرة ذلك المذهب لا يعدوه ثم ذكرنا نماذج من دراساته المقارنة بين المذاهب الإسلامية محققاً متعمقاً بين الأدلة, ثم ذكرنا طائفة من اختياراته الفقهية التى انطلق فيها يجوس خلال المذاهب الإسلامية؛ يقيس منها بعقل مدرك؛ وبصر نافذ» وتخدير

ويقول العلماء إن له فى الطلاق منهاجا اجتهد فيه. ووصل إلى نتيجة تخالف ما عليه الفقهاء فى المذاهب الأربعة؛ وهذه ا مسائل الخاصة بالطلاق ترجع إلى ثلاث- أولاها- الطلاق اليدعى الذى ورد النهى عنه أيقع مع الإثم, أم لا يقيع؛ لأنه لا يجتمع الوقوع والإمضاء مع الإثم بسبب النهى- وثانيتها- الطلاق الثلاث بلفظ الثلاث أو فى مجلس واحدء

)١(‏ المغنى ج؛ مرة. كان

أو فى قرء واحد أيقع به ثلاث طلقات: كما قصد المطلق وكما أراد وكما دلت العبارات أم لا يقع بها إلا طلقة واحدة ليتحقق الغرض المقصود من جعل الطلاق ثلاث مرات: فيكون له ثلاث فترات يتمكن فى أثنائها من المراجعة؛ أم لا يقع به شئ لأنه بدعى منهى عنه؛ ولا يجتمع النهئ مع الوقوع والإمضاء- وثالثها- الحلف بالطلاق» والطلاق المعلق الذى ققصد به ال منع من فعل أ الامتناع من فعل أو توثيق قوله ولم يقصد به طلاقاً؛ أيقع به طلاق مع عدم القصد إليه؟ أم يقع به الطلاق؛ لأنه جرى على لسانه وعلق القول على أمر وتحقق.

هذه هى المسائل التى أثارها ابن تيمية: أو التى تثور فى كل زمان ومكانء ويفرق بين الزوجين بسبيهاء وأثار ابن تيمية فيها قولا يخالف ما عليه الجمهور فى ذلك الإبان أو ما عليه المذاهب الأريعة, فثار عليه الفقهاء من أجلها وسجن بسببهاء وقد أشرنا إلى ذلك أثناء كلامنا فى حياته ونريد فى هذا أن تبين مقدار الخلاف بيثه ويين الجمهورء والأساس إلذى بنى عليه رأيه, والدليل الذى كان يسوقه.ووجهة نظر الجمهور فيما استقر عليه رأيهم؛ ويعد ذلك لابد من بيان هذا الرأى من حيث معناه أكان معروفا من قبله. وهى قد اختارء أم هو رأى وصل إليه وقد التمسه من الكتاب والسنة مباشرة.

وأثبدا من بعد يبيان هذه الأمور الثلاثة,

الطلاق البدعى. والطلاق السنى

7 - يقسم أبن تيمية الطلاق إلى قسمين: طلاق محرم: وهو المحرم بالكتاب أو السنة والإجماع؛ ويسمى الطلاق البدعي؛ وطلاق ليس بمحرمء ويسميه الفقهاء الطلاق السنى, أى الذى جاء على منهاج السنة, ويعرف هذا الطلاق, فيقول «الطلاق المباح باتقاق العلماء أن يطلق الرجل امرأته طلقة واحدة إذا طهرت من حيضها بعد أن تغتسلء وقبل أن يدخل بهاء ثم يدعها فلا يطلقها حتى تنقضى عدتهاء وهذا الطلاق يسمى طلاق السنة. فإن أراد أن يرتجعها فله ذلك بدون رضاها؛ ولا رضا وليهاء ولا مهر جديد, وإن تركها حتى تنقضى العدة فقد بائت منه؛ فإن أراد أن يتزوجها بعد اتقضاء العدة جان له ذلك لكن بعقد جديدء ثم إذا ارتجعها أو تزوجها مرة ثانية» وأراد أن يطلقهاء فإنه يطلقها كما تقدم؛ فإذا طلقها الثالثة حرمت عليه حتى تنكع زوجاً غيره»!!). )١(‏ الفتاوى الجزء الثالث ص”, ‏

كدان

وإذا كان هذا هو طلاق السنة وهو المباح قطعاء وغير منهى عنه؛ فإذا تخلف وصف أى نيد من القيود السابقة فإن الطلاق يكون بدعياً قد ورد النهى عنه. أو على الأقل جاء على خلاف المنهاج الذى سنه القرآن والنبى م وعلى ذلك يكون الطلاق فى حال الحميض أو أكثر من واحدة دفعة واحدة أو فى طهر واحدء أو فى طهر دخل بها فيه يكون طلاقا بدعياً محرماً لم يجئ نص أو أثر يتسويغه بل جاءت النصوص بالنهى عنه.

وعلى ذلك يكون الطلاق البدعى ذا ثلاث شعب: الطلاق فى الحيضء والطلاق فى طهر دخل بها فيه والطلاق أكثر من واحدة فى طهر واحد يكلمة واحدة: أو فى مجلس وأحد.

بعقى الأحوال: 77 4- وإن الطلاق فى حال الحيض بالنسبة للمدخول بها من النساء قال فيه ابن تيمية من حيث إن الطلاق يقع أولا يقع ما نصه: «الطلاق المحرم في الحيض ويعد الوا

وقبل تبين المحل أيقع أم لا يقع: سواء أكان واحدة أم كان ثلاثا فيه قولان معروفان للسلف والخلف». ْ

ويذكر أن الأساس فى هذا هو حديث النبى مله إن قال لعمر ين الخطاب رضى الله عنه أن عبد الله بن عمر طلق امرأته: وفى حائض: «مره فليرجعها حتى تحيض ثم تطهر؛ ثم )١(‏ يلاحظ ما يأتى: ‏ ' (أ) أن التقيد بالطلاق فى الطهر هى بالنسبة للمدخول يها أما غير المدخول بها نيطلقها فى الطهر والحيض على سواء. (ب) أن الكثيرين على أن الحامل يجوز تطليقها فى الطهر الذى دخل بها فيه لأن طلاقها وهى حامل دايل على كمال النفرة؛ إن الحمل من شأنه أن يرغب البقاء. (ج) إذا كانت للمرأة إرادة فى الطلاق لا يقيد بكونه فى الطهر الذى لم يدخل بها فيه لأن ذلك نوع من اقتداء النفسء وكذاك الطلاق بحكم القاضى: ومثه كل فسخ للزواج بخيار البلوغ أو الإقامة أو الكفاعة؛ أو فوات الشرط عند الحثابلة. (د) المالكية والحنابلة لا يعتبرون السنة إلا طلقة واحدة رجعية؛ ويتركها حتى تنتهى عدتهاء والحنفية يعتبرون من السنة غير الأحسن أن يطلق فى كل طهر طلقة رجعية, وأن الأول أحسن. والشافعى لم يعتبر بدعة فى العدد قطء إنما البدعة فقط فى الوقت. (ه) المعتدة بالأشهرء البدعة فى طلاقها تتعلق بالعدد فقط لا بالوقت.

م

تحيض ثم تطهر» فإن الذين قالوا إن الطلاق يقع مع الإثم يقولون إن الأمر بالمراجعة أمر استحباب؛ أو أمر وجوب ولزوم ولكن المراد أن يراجعها مع احتساب الطلقة من الطلقات الثلاث,

وأما الذين قالوا إن الطلاق لا يقع فى الحيضء وأن أمر النبى عله بالمراجعة لا يتضمن إقرار وقوع الطلاق فقد قالوا إنما المراجعة, هى المراجعة بالأجساء, لأنه ما طلقها كان قد افثرق عنها كما جرت العادة؛ فقال لعمر مره فليراجعهاء ولى كان المراد هى الرجعة الشرعية لقال فليرتجعها أو فليرجعها؛ لأنها عمل من جانبه. والمراجعة عمل من الجانبين وهو بصيغة المفاعلة واضحة فى ال مراجعة الجسمية؛ ولأنه لى كان الأمر بالرجعة لكان فى ذلك تطويل العدة عليها؛ وما كان يسوغ وقد أراد النبى مله أن يرفع إثم الطلاق فى الحيض أن يوقع بها ظلماء ولأن الإشهاد على الرجعة مطلوب فيها لقول الله تعالى: «وأشهدوا ذوى عدل منكم(١)‏ ولأن الطلاق فى الحيض إذا كان منهيا عنه من غير خلاف فقد جاء على خلاف أمر الشارعء وفى السنة «أن كل ما جاء على غير أمرنا فهى رد» ولأن كل أمر جاء على خلاف أمر الشارع يعاقب فاعله بنقضه لا بإقرارهء وإنزال الأذى يغيره.

و يقول ابن تيمية: «ل كان الطلاق المحرم قد لزم لحصل الفساد الذى كرهه رسول الله عله ؛ وذلك الفساد لا يرتفع برجعة يياح الطلاق بعدهاء والأمر برجعة لا فائدة منها يتنزه عنه رسول الله عينه, فإنه إن كان راغبا فى المرأة, فله أن يرتجعهاء وإن كان راغبا عنها فليس له أن يرتجعهاء فليس فى أمره برجعتها مع لزوم الطلاق له مصلحة شرعية؛ بل زيادة مفسدة؛ ويجب تنزه رسول الله عله عن الأمر بما يستلزم زيادة الفساد, والله سبحانه وتعالى إنما نهى عن الطلاق البدعى لمنع الفساد»؟'),

14 ين تيمية إذ يعرض الرأيين مع أدلتهما نراه يقوى دليل الذين يرون أن الطلاق لا يقع؛ وهذا بدل على ميله إليه. وإن لم يكن صريحا فى اختياره» فهى دليل عليه لأنه يصرح بأنه دليل أقوى, فيقول فى ذلك:«وقول الطائفة الثانية - وهى التى تقول أن الطلاق فى الحيض لا يقع - أشبه بالأصول والنصوص, إذ الأصل الذى عليه السلف أن العبادات والعقود المحرمة إذا قعلت على الوجه المحرم لم تكن لازمة إذ كانوا يستدلون على فساد )١(‏ الطلاق: ١١ ١‏ ())الفتاوى ج" ص41,76.

ا

العبادات والعقود بتحريم الشارع لها وهذا متواتر عنهم. وأيضا فإن لم يكن هذا دليلا على فسادها لم يكن عن الشارع ما يبين الصحيح من الفاسد... فالشارع يحرم الشئ لما فيه من المفسدة الراجعة, ومقصوده بالتحريم المنع من ذلك الفساد, وجعله معدوماء فلى كان مع التحريم يترتب عليه من الأحكام ما يترنب على الحلال؛ فيجعله لازما نافذا كالحلال لكان التزاما منه بالفساد الذى قصد عدمه. فيلزم أن يكون ذلك الفساد قد أراد عدمه مع أنه ألزم الناس به, وهذا تناقض ينزه عنه الشارع الإسلامى(".

6- وتنتهي من هذا إلى أن ابن تيمية يرجم دليل الذين يرون الطلاق فى الحيض لا يقع ؛ وبالتالى يرجح رأيهم ؛ وهى قول للسلف وقول الشيعة, ولقد قال فى ذنك صاحب المغتى: «فإن طلقها للبدعة؛ وهى أن يطلقها حائضاء أو فى طهر أصابها فيه أثم ووقع طلاقه فى قول عامة أهل العلم. قال ابن عبد المنذرء واين عبد البر لم يخالف فى ذلك إلا أفل البدع: وحكاه أبو نصر عن ابن علية وهشام بن الحكم والشيعة: قالوا: لا يقع طلاقه ؛ لأن الله تعالى أمر به قبل العدةء فإذا طلق فى غيره لم يقع كالوكيل إذا أوقعه فى زمن أمره بإيقاعه فى غيرهء(,

وترى أنه ينسب الحكم بأن طلاق الحائض يقع إلى الشيعة» وقد وجدنا فى كتتاب تبصرة المتعلمين, وهو مكتوب فى القرن السابع ما نصه: «طلاق البدعة طلاق الحائتض الحائل والتفساء مع حضور الزوج والمسترابة قبل ثلاثة أشهر والكل باطلء(؟),

هذا نظر ابن تيمية إلى الطلاق البدعى الذى كان سبب البدعة فيه أن الطلاق كان فى غير الوقت الذي حده الشارع؛ وقد تبين ميله إلى أنه لايقع به شئّ لترجيع دليل منع الطلاق» فكان ذلك الترجيح دليلاء ونستطيع أن نقرر بناء على ذلك أنه يختار عدم وقوع الطلاق فى هذه الحالء وانتثقل إلى المسالة الثانية. وهى الطلاق الثلاث.

.٠٠١ص الفتاوى ج؟ صلاء. (0) المغنى جلا‎ )١( , 10/1 كتاب تبصرة المتعلمين للعلامة الحلى ص‎ )١(

او"

الطلاق الثلات

4 - الطلاق الثلاث البدعىء له ثلاث شعب - أولاها: الطلاق بلفظ الثلاث؛ ثاتيها: الطلاق المتتابع؛ وثالثها: الطلاق فى عدة مجالسء واكن فى طهر واحد؛ فلم تتواقر الفرص التى أعطاها الشارع المطلق عند طلاقه, ويلحق بهذه الشعب الثلاث فى ثلاثة أطهار من غير توسط رجعة فيهاء على خلاف فى ذلك؛ وقد تكلم ابن تيمية قى هذه الشعب الأربع؛ وذكر أنها جميعاً من الطلاق البدعى المحرم؛ وإن كان يتكلم فيها بكلام منثور قد اختلط بعضه ببعض وام تتميز فيه الأقسام.

وفى القسم الأول: وهى الذى يجمع الطلقات الثلاث فى لفظ واحد؛ وهى أن يطلقها ثلاثاً بكلمة واحدة فى طهر واحد مثل أنت طالق ثلاثاً أو بكلمات مثل أنت طالق طالق» وطالق: أو يقول عشر تطليقات أو نحى ذلك - يذكر ابن تيمية أن أقوال العلماء فيه ثلاثة:

أولها: قول الشافعىء وهى أنه يقع ثلاثاً, ولا إثم فيه؛ لأن البدعة فى نظر الشافعى مقصورة على الطلاق وقت الحيض أو فى طهر أصابها فيه.

والقول الثانى: أنه طلاق محرمء ولكن يقع به ما قصد ونطق به وهى الثلاث وهى قول مالك وأبى حنيفة وأحمد فى الرواية المتآخرة, اختارها أكثر أصحابه. وهذا القول منقول عن كثير من السلف من الصحابة والتابعين.

والثالث: أنه محرم. ولاتقع به إلا طلقة واحدة؛ ويقول رضى الله عنه: «هذا القول منقول عن طائفة من السلف من أصحاب رسول الله عله مثل الزبير بن العوام. وعبد الرحمن بن عوفء ويروى عن على؛ وعن ابن مسعود واين عباسء؛ وهى قول داوود وأكثر ْ أصحابه؛ ويروى عن أبى جعقر محمد (الباقر) ابن على بن حسين. وابنه جعفر (الصادق)

ولهذا ذهب إلى ذلك من ذهب من الشيعة»!",

وهناك قول رابع ذكره ابن تيمية أيضاً وهو أن الطلاق الثلاث بلفظ الثلاث أو نحوها لايقع به شئ» وقد قاله بعض المعتزلة وبعض الشيعة, وقد قال فيه ابن تيمية: «إنه لم يعرف عن أحد من السلفء('),

)١(‏ الفتاوى ج ' ص 8؟. (1) الكتاب المذكور, 1"

ويختار القول الثالث, وهو أنه يقع به طلقة واحدة فيقول: «والقول الثالث هو الذى يدل عليه الكتاب والسنة».

07 - ويستدل ابن تيمية لاختياره ذلك يدليل من القرآن: ومن السنة ومن الأقيسة الفقهية والاعتبار. أما الكتاب فقوله تعائي: «الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان» وهذا التعبير يقتضى أن الطلاق لايقع دفعة واحدة؛ بل يقع مرة, بعد مرة؛ ويقول فى هذا «لم يقل طلقتان: بل قال مرتان: فلو قال لامرأته أنت طالق اثنتين أو ثلاثاً أوعشراً أى ألفاً لم يكن قد طلقها إلا مرة واحدة».

ويستدل من القرآن أيضاً بقوله تعالى بعد الطلاق: «ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لايحتسب» وقوله بعد بيان حدود الطلاق: «لاتدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا» وأن من يسيق الأمور فيطلق ثلاث طلقات فى كلمة واحدة أو كلمات فقد غلق المخرج عليه؛ ومتع أن يحدث الله سيحانه وتعالى أمراً برجوع القلوب إلى مدتها.

هذه أدلته من الكتاب» أما أدلته من السنة» فهو ما روى طاووس عن عبد الله بن عياس أنه قال: «كان الطلاق على عهد رسول لله وأبى بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة: فقال عمر رضى الله عنه: إن الناس قد استعجلوا فى أمر كانت لهم فية أناة فلو أمضينا عليهم ما أمضاه» وفى رواية لمسلم عن طاووس أن أبا الصهباء قال لابن عباس هات من هناتك ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله عله وأبى بكر واحدة؟ قال: قد كان كذلك فلما كان فى زمن عمر تتابع الناس فى الطلاق واحدة فأجازها عليهم عمر رضى الله عنه9),

ولقد روى الإمام أحمد عن عكرمة: طلق ركانة بن عبد يزيد أخى بنى المطلب امرأته ثلاثا فى مجلس واحد فحزن عليها حزناً شديداً فسأله رسول الله مله فقال: كيف طلقتها؟ قال طلقتها ثلاثاً؛ فقال فى مجلس واحد؟ قال نعم قال فإنما تلك واحدة!").

الطلاق:‎ )١( قد تكلم ابن عبد البر عن أبى الصهباء وقال إنه لم يعرف فى موالى ابن عباس؛ ولكن قال القرطبى أن‎ )1( الرواية عن ابن طاووس بذلك صحيحة فقد رواه معمر وابن جريج وغيرهماء واين طاووس امام.‎ (؟) وحديث ركانة قالوا إنه ذكر فى رواية أخرى أن الطلاق كان ألبتة: ولم يكن بلفظ الثلاث. وقرر ابن تيمية‎ بأن الطلاق الثلاث كان يسمى فى عرف الصحابة والتابعين طلاق ألبته. وقد روى فى روايات أخرى بأنها‎ ْ الثلاث فكلتاهما تقسر الأخرى,‎

إذكن

وإذا كان النبى عله اعتبر الطلاق فى مجلس واحد طلقة واحدة. والطلاق الثلاث بلفظ وأحد أولى.

هذه أدلة ابن تيمية من السنة؛ أما دليله من القياسء فهى أن الشارع أباح الطلاق على نحو معين: فما خالف ذلك النحو فقد خالف إذن الله والطلاق فى الأصل ممنوع ولم يأذن به الله إلا فى أحوال معينة» وهى الطلاق فى وقت معلوم: ويعدد معلوم: فما خالف الإذن كان غلى أصل المنع؛ قالطلاق قد جاء المشروع منه على هذا النحى الذي بينه القرآن: فما جاء على غير المشروع فهى فى دائرة الممنوع: والممنوع باطلء وفوق ذلك أن الشارع إذا أباح عقداً أو تصرفاً على نحى معين؛ فغيره غير مباح؛ وغير المباح باطلء ويقول فى ذلك: «كل عقد يباح تأرة ويحرم تارة أخرى كالبيع والتكاح إذا فعل على الوجه المحرم لم يكن لازما تافذاً كما يلزم الحلال الذى أباحه الله تعالى».

- هذه هى الشعبة الأولى من الطلاق المحرم, وهو الطلاق الذى كان ثلاثا بكلمة واحدة أو يكلمات فى معنى الكلمة: بقى الطلاق فى مجلس واحد؛ وهو ما يسمى الطلاق المتتابع فى مجلس واحد. وإن لم تكن الكلمات متتابعة: وهذا أيضاً لايقع به إلا واحدة؛ فإن الأدلة السابقة كلها تتحقق معانيها فيه؛ فحديث ركانة صريح فيه؛ لان النبى َيه ساله: أفى مجلس واحد, فكان مناط جعلها واحدة كونها فى مجلس وأحد.

أما حديث ابن عباس فقد قالوا إنه يشمل التتابع. كما يشمل النطق بالثلاث. بل لقد قيل إنه هؤول على التتابع لأن التتابع يحتمل التوكيد فلايقع من الطلاق إلا الأول,

ودليل ابن تيمية على هذا من القياس هو الدليل الذى سقناه فى الكلام فى الطلاق بلفظ الثلاث.

5 - هذا حكم الشعبة الثانية من الطلاق الثلاث؛ أما الشعبة الثالثة, وهى الطلاق الثلاث فى طهر واحد أو فى قير مجلس واحد؛ فابن تيمية أيضاً يقرر أنه بدعى لايقع إلا واحدة؛ بل إنه يرى أن الطلاق إن كان فى أكشر من طهر بأن كان فى طهرين أو ثلاثة لاتتوسط رجعة لايقع به إلا واحدة ويقول فى ذلك:

«الأصل أن جمع الثلاث فى الطهر الواحد يحرم عند الجمهور: فتيس له أن يردف الطلاق بالطلاق» ولكن تنازع هل له أن يطلقها ثانية فى الطهر الثانى» والشالثة فى الطهر

غه؟

الثالث من غير رجعة؟ على قولين هما روايتان عن أحمد إحداهما له ذلك» وهو قول أبى حنيفة؛ والثانية ليس له ذلك وهو مذهب مالك. وظاهر مذهب أحمد وعليه أكثر أصحابه: وذلك أن الله أمر المطلق إذا بلغت المطلقة أجلها أن يمسكها بمعروف, أو يسرحها بإحسان: فلم يجعل له قسماً ثالثاً يفعله». وطلاقه مرة ثانية ليس إمساكا بمعروف, ولاتسريحاً بإحسان؛ فإن التسريح بالإحسان هو أن يسيبها إذا اتقضت العدة فلا يحبسهاء وقول النبى عله مفهومه أنه لولم يكن فى مجلس واحد لم يكن الأمر كذلك. وذلك لأنها لوكانت فى مجالس لأمكن فى العادة أن يكون قد ارتجعهاء فإنها عنده والطلاق بعد الرجعة يقع؛ والمفهوم لاعموم له فى جاتب المسكوت عنه؛ بل قد يكون فيه تفصيلء كقوله عليه السلام: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث أ لم ينجسه شى وهى إذا لم يبلغ القلتين فقد يحمل الخبث وقد لايحمله» وقوله عليه الصلاة والسلام «فى الإبل السائمة الزكاة» وهى إذا لم نكن سائمة قد يكون فيها الزكاة زكاة التجارة وقد لايكون فيهاء وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام دمن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه»<) وقوله تعالى: «إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا فى سبيل الله أوائك يرجون رحعة الله»(') ومن لم يكن كذلك فقد يعمل عملا آخر يرج به رحمة الله؛ وقد لايكون كذلك؛ يخلاف المجلس الواحد الذى جرت عادة صاحبه بأنه لايراجعها فيه. فقد قال له النبى ظَلله: «ارجعها إن شئت»!". ْ

٠‏ - وترى من هذا أن ابن تيمية يرى أن الطلاق فى طهر آخر قبل الرجعة يكون بدعياء أى يكون محرماً وما كان محرماً لايقع؛ وعلى ذلك لايقع أيضاً الطلاق إذا كان فى

وفى الحقيقة أن ابن تيمية كما يدل ظاهر كلامه ومرماه يقرر أنه لايقع من الطلاق الثلاث إلا الواحدة فى الطهرء ولاتقع الثانية إلا إذا راجعها أو انتهت العدة وعقد عليهاء ولايقع الثالثة إلا إذا راجعهاء وطلقهاء أو انتهت عدتها وعقد عليها من جديد, فلايقع طلاق بعد الواحدة فى غير ذلك: ويبنى كلامه على أساسين:

أولهما: إن الطلاق لايقع منه إلا مارخص به القرآن الكريم والنبى عله والقرآن الكريم يقول «الطلاق مرتان: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان»1') فهو جعل الرجال بين أمرين:

)١(‏ البقرة: 514 . 0( الفتاوى ج. "١‏ ص رق ايها البقرة: كنف 6

إما إمساك بمعروفء وليس منه أن يطلقها أخرى بعد الأولى» وإما التسريح باحسان, وليس منه الطلقة الثانية بعد الأولى» بل هى كما سن النبى عله أن يتركها حتى تنتهى عدتها ويغنيها الله عنه من سعته؛ ولأن الطلقة الثانية بعد الأولى لافائدة منها إلا المضارة والمكايدة, وليس ذلك من التسريح بإحسان فى شئ” وقد يقول قائل: إن النبى عله قد اعترض على ركانة وأمره بالرجعة لأنه طلق فى مجلس واحد» وهذا يفيد بمقهومه أنه إن تعددت المجالس وطلق فى كل واحد منها طلقة يقع؛ فيجيب ابن ثيمية عن ذلك بأن المقهوم لاعموم له ولايدل على تقيض الحكم فى المنطوق؛ ويسوق الأمثلة على ذلك؛ وعلى ذلك يكون المفهوم فى حكم المسكوت منه؛ حتى يقوم دليل آخرء وعلى ذلك يكون الطلاق فى مجالس مسكوتا عنه فى حديث ركانة, والآثار الأخرى الدالة على أن الثلاث فى طهر واحد حراء؛ والآية تفيد بإشارتها وعبارتها وجوب عدم التطليق قبل انتهاء العدة, وإلا كان منافياً للتسريح بإحسان. والإمساك بععروف؛ ولقد قال القرطبى فى ذلك: «قلت ما تأوله الباجى هى الذى ذكره ألكيا الطبرى عن علماء الحديث, أى أنهم كانوا يطلقون طلقة واحدة هذا الذى يطلقونه ثلاثاً أى ها كانوا يطلقون فى كل قرء طلقة, وإنما كانوا يطلقون فى جميع العدة واحدة إلى أن تبين وتنقضى عدتهاء وقال القاضى أبى محمد عبد الوهاب معناه أن الناس كانوا يقتصرون على طلقة واحدة؛ ثم أكثروا أيام عمر رضى الله عنه إيقاع الثلاث: قال القاضىن:وهوى الأشبه بقول الراوى إن الناس فى أيام عمر استعجلو) الثلاث. فجعلها عليهم, معناه الزمهم حكمهاء!),

(الأمر الثانى) الذى بنى عليه رأيه فى الطلاق الثلاث هو أن كل ماثبت النهى عنه وأنه حرام من العقود والتصرفات؛ إذا أوقعه الشخص يكون باطلاء ولاينفذه الشارع ولايلزم به؛ لأنه لايلزم إلا بما أقره وإم ينه عنهء ويقول فى ذلك أبن تيمية «أصل هذا أن كل ما نهى الله عنه وحرمه فى بعض الأحوال وأباحه فى حال أخرى فإن حلل الحرام لايكون صحيدا نافذاً كالحلال. ولايترتب عليه الحكم كما يترتب على الحلالء ويحصل به المقصود كما يحصل(!) بالحلال. وهذا معنى قولهم النهى يقتضى الفساد؛ وهذا مذهب الصحاية والتابعين )١(‏ أحكام القرآن ج ١‏ صفحة 17

(1) رسالة العقود المحرمة فى ضمن مجموعة رسائل ص .٠١١‏ كو

لهم بإحسان وأئمة المسلمين وجمهورهم, فلم يتصور عقل ابن تيمية الفقهى أن ينهى الشارع عن أمسر أى عن تصرف فى حالء ويمذسيه ويلزم به, ويقضى القاضى الذى يحكم بحكم الإسلام بتنفيذهء إن ذلك لم يستسغه ابن تيمية, ولذلك لم يستسغ كل أنواع الطلاق التى ثبت أنها فى موضع النهى؛ حتى لايكون الشارع ملزما بما نهى عنه. ومنفذاً ما حرمه.

١‏ - هذا ومن جهة أخرى فإن الطلاق فى أصله فى موضع الحظرء والشسارع أباحه فى قيود معينة, فكل طلاق لم يكن فى دائرة هذه القيود يكون باطلا وفى حكم اللغو, وقد وضح ابن القيم ذلك المعنى؛ وانذكره ليتجلى رأى شيخه فقد قال فى زاد المعاد ما خلاصنه «قال المانعون لوقوع الطلاق المحرم: لايزول النكاح المثيقن إلا بيقين مثله من كتاب أى سنة أى إجماع مستيقنء فإذا وجدتم واحداً من هذه الثلاثة رفعنا حكم النكاح؛ ولاسبيل إلى رفعه بغير ذلك. وقالوا: كيف يققع الطلاق المحرم, والأدلة متكاثرة تدل على عدم وقوعه. فإن هذا طلاق لم يشرعه الله ولا أذن فيه, فكيف يقال بنفوذه وصحته. وقالوا: إنما يقع من الطلاق ما ملكه الله للمطلق» ولهذا لاتقع به الرابعة: لأنه لم يملكه إياها... ومن المعلوم أنه لم يملكه الطلاق المحرم ولا أذن فيه... فالشارع قد حجر على الزوج أن يطلق فى حال الحيض, وبعد الدخول فى الطهرء فلو صح طلاقه لم يكن لحجر الشارع معنى: ولكان حجر القاضى فى همنعه التصرف أقوى من حجر الشارع؛ حيث يبطل التصرفء وقالوا: الشارع إنما نهى عنه لأنه يبغضه ولايحب وقوعه؛ بل وقوعه مكروه إليه فحرمه لثلا بقع ما يبغضه؛ وتصحيحه وتنفيذه ضد هذا المقصود. وقالوا: لايقع؛ لأنه طلاق محرم منهى عنه؛ والنهى يقتضى فساد المنهى عنهء فإن صححناه ها كان فرق بين المنهى عنه والمأذون فيه من جهة الصحة والفساذ» وقالوا: إذا كان النكاح المنهى عنه لايصح لأجل هذا النهى فما القسرق بينه وبين الطلاق» وكيف أبطلتم ما نهى الله عنه من النكاح» وصححتم ما حرمه ونهى عنه من الطلاق؛ والتهى يقتضى البطلان فى الموضعين»!".

التحريم للعدد؛ كله لايرى أنه واقع» وقد نهج فى ذلك منهج بعض الشيعة الإمامية الذين قرروا أن الطلاق الثلاث بلفظ الثلاث لا يقع به إلاواحدة؛ فهم قد قرروا أن الطلاق فى حال )١(‏ راجع زاد امعان جاع ص 17 ل

انا

الحيضء والطلاق المتعدد فى طهر لايقع, والطلاق الثانى من غير تخلل رجعة أى عقد لايقع: وأن الطلاق الثلاث الذى يقع ثلاثاً هو الذى يكون ثلاثاً قد تخلله رجعتان(").

وهذه نظرات ابن ثيمية سقناها بألتهاء وهو فيها يخالف الأثمة الأريعة أصحاب المذاهب المشهورة فى الجماعة الإسلامية.

ولاشك أن الأئمة الأربعة لهم حجة قائمة, فهم يضعفون أكثر الأحاديث التى ساقها ويدعون أن الإجماع قد انعقد بعد عمر بن الخطاب رضى الله عنه على أن الطلاق الثلاث يقع ثلاثاً؛ وأن لهذا الإجماع مستنداً من الشسرع. وإن لم يعلن ويعرف لناء ولابد أنه كان معروفاً عند الصحابة الذين وافقوا عمر رضى الله عنهء فما كان يسوغ لمثلهم وفيهم أمثال على وابن عباس وزيد بن ثابت أن يوافقوا الفاروق عن غير بينة. والإجماع حجة قاطعة ملزمة؛ وإن كان مستنده فى أصله ظنياً فإن تضافر المجتمعين'على إقرار الاستنباط فيه على النحى الذى انعقد عليه الإجماع يرفعه من مرتبة الظنى إلى مرتبة القطعىء فإن أمة

ويرد ابن تيمية بأن الإجماع لم ينعقد؛ ومن أراد البحث مقارنا مستفيضاً فليقرأه فى زاد المعاد.

الحلؤف بالطلاق

477 - هذه هى المسآلة الثانية التى اخترناها من مسائل الاجتهاد فى الطلاق عند ابن تيمية, وقد اخترناها للدراسة لأنه تحرر فيها من المذاهب الأربعة؛ أو على الأقل من الأقوال المشهورة فيها وادعى أن شمة أقوالا مغمورة فى المذاهب الأريعة أو أصولها تقارب قوله أوتماثه؛ واخترنا هذه المسألة وسابقتها لأن القانون المصرى فى أحكام الطلاق سار على مقتضى أراء ابن تيمية فى بعض ذلكء وإن لم يكن فى المسألة موافقة كل الموافقة لرأى ابن تيمية» وأنبين قوله فيها ليتبين ما أخذ القانون وما ترك,

يقول ابن تيمية إن الشخص العاقل الذى يجرى على لسانه لفظ الطلاق؛ ويقصد إلى )١(‏ راجع كتاب تبصرة المتعلمين ص 107 .

4

النطق به؛ تنقسم عبارته إلى ثلاثة أقسام (أولها) أن تكون العبارة معجزة ليست معلقة على شرطء ولا مضافة إلى زمن مستقل كأن يقول الرجل لامرأته أنت طالقء أو أنت مطلقة أو أنت الطلاق: أو نحى ذلك؛ وهذه يقع بها الطلاق لاشك فى ذلك لأن اللفظ صدر عن أهله مضافا إلى محله, ولم يكن ثمة دليل على غير معناهء بل ظاهر النطق والحال وصون الكلام عن اللغى كل هذا يوجب أن يوقع الطلاق؛ وعدم وقوعه فى هذا الحال مناف للمعقول والمنقول.

وثانيهما: آلا يقصد إلى الصيغة المنجزة؛ بل يقصد إلى صيغة.تدل بصريحها على الحلف بالطلاق» سواء أكان ذلك على فعل شئ” أم على الامتناع عن شئ أو على حمل غيره على فعل شئ» أ على تصديقه بش فإنه فى كل ذلك يكون حالفاً بالطلاق» فمن يقول على الطلاق لأفعلن كذا؛ أى لأمتنعن عن فعل كذاء أى لتفعلن كذاء أو على الطلاق اشتريتها بكذا إلى آخر هذه الصيغ يكون ما صدر عنه يميناًء فهل بقع به طلاق؟ يقول ابن تيمية إن علماء المذاهب الأربعة لهم فى ذلك قولان: (أولهما) أنه لايقع» ويقول هى أنه منصوص فى مذهب أبى حنيفة» وقال طائفة من أصحاب الشافعى كالقفالء وأبى سعيد المتولى؛ ويقول: «يه يفتى ويقضى فى بلاد الشرق والجزيرة والعراق وخراسان والحجاز ومصر والشام ويلاد المغرب: وهى قول داوود وأصحابه كابن حزمء وكثير من علماء المغرب امالكية وغيرهم وقد دل عليه كلام الإمام أحمد المنصوص عنه وأصول مذهبه تؤيد ذلك فى غير موضع»

والقول الثانى: أنه يقع؛ وهى المشهور فى هذهب الآئمة الأربعة إذا حنث فى يمينه. فإن لم يفعل ما حلف عليه يقع الطلاق. وكذلك إن كان كاذباً عندما حلف بالطلاق؛ يقع الطلاق لأنه فى معنى من علق الطلاق على شئ وتحقق ها علق عليه الطلاق !

وهناك قول ثالث: وهى أن الطلاق لابقع وتجب كفارة يمين؛ وهى إطعام عشرة مساكين. أو صوم ثلاثة أيام,

القسم الثالث: من الألفاظ التى تجرى على لسان من يقصدون إلى النطق بألفاظ الطلاق أن تكون الصيغة معلقة على شرط؛ فإن كان يقصد إيقاع الطلاق عند وقوع الشرط, فالجمهور على أن الطلاق يقع به؛ ويراه ابن تيمية واقعاً؛ وإن كان لايقصد إيقاع الطلاق عند وقوع الشرطء بل يقصد الحمل على فعلء أو الامتناع عن فعل؛ فإنه يكون حينئذ يميناً ويكون فيه القولان: أحدهما أنه لايقع به شئ” والثانى: أنه يقع به الطلاق إن حصل التخلف؛

ذ؟

والذين قالوا أنه لايقع شىئ! قال بءعضهم يكون عليه كفارة يعين» وقال بعضهم لايقع شئ ولاتجب كفارة قط,

4 - ويختار ابن تيمية أن الطلاق إذا كان يميناًء أو فى حكم اليمين لايقع به شئ وتجب عليه كفارة يمين» وعلى ذلك يكون من يقول الطلاق بلزمنى لأفعلن كذا لايقع به شئْ عند أبن ثيمية: وتجب كفارة: وكذلك من يعلق الطلاق على شئ ويقصد الحمل على فعل شئ أى الامتناع عن شئ أو المنع من شئ ولايقصد به الطلاق» فإنه لايقع الطلاق؛ وتجب كفارة اليمين» يختار ابن تيمية ذلك الرأى ويؤيدهء فهو يرى أن الطلاق ا معلق الذى لايقصصد به إيقاع الطلاق» وكذلك يمين الطلاق لايقع به شئ وتكون عليه كفارة يمين ويستدل على ذلك بأدلة منها,

أولها: أنه إذا قصد بالتعليق اليمين أو كان الطلاق يصيفة اليمين: فإنه يمين فعند الحنث فيه يجب الكفارة. فقد قال النبى عَيلهُ: دمن حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليئت الذى هو خير وليكفر عن يمينه» وهذا اللفظ يتتاول جميع أيمان المسلمين, سواء ما كان يالله أو حلقا بغير الله.

ثاتيها: أن الله سبحانه وتعالى يقول: «لايؤا خذكم الله باللغو فى أيماتكمء ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان: فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم»(١)‏ فالآية صريحة في أن هذه الكفارة كفارة كل يمين يحلفها المكلف سواء آكانت بالله آم كانت بغير الله ولم تعتبر إثما أى أمراً منهياً عنه نهياً صريحاً.

ثالثها : قوله تعالى: «قد فرض الله لكم تحلة أيماتكم»!!) وأن أيمان الطلاق داخلة فى هذا العموم؛ فتحلتها هى هذه الكفارة الثى, أعلمها الله سبحانه.

رابعها: أن الله سبحانه وتعالى يقول فى سورة الطلاق: «يأيها النبى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصو) العدة: واتقوا الله ريكم لاتخرجوهن من بيوتهن ولايخرجن إلا أن يأثين بفاحشة مبينة, وتلك حدود الله؛ ومن يتعد حدود الله فقد خلام تفسه. لاتدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرأ»(') فللطلاق حدود وللأيمان هدود. ولايصح أن يدخلوا فى الطلاق ما هو أيمان؛ ويقول فى ذلك: «وعلى المسلمين أن يعرفو) حدود ما أنزل الله على رسوله. )١(‏ الماشة: 45 ١‏ ()التحريم:؟ (©)الطلاق:١‏

ا

فيعرفوا ما يدخل فى الطلاق وما يدخل فى أيمان المسلمينء ويحكموا فى هذا بما حكم الله ورسوله ولا يتعدوا حدود الله تعالى فيجعلوا حكم أيمان المسلمين حكم طلاقهم: وحكم طلاقهم حكم أيمانهم: فإن هذا مخالف لكتاب الله وسنة رسوله. وإن كان قد اشتبه بعض ذلك على كثير من علماء المسلمين» فقد عرف ذلك غيرهم من علماء المسلمين: والذين ميزوا بين هذا وهذا من الصحابة والتابعين هم أجل قدراً عند المسلمين ممن اشتبه عليه هذا وهذا... والاعتبار الذى هو أصح القياس وأجلاه إنما يدل على قول من فرق بين هذا وهذا مع ما فى ذلك من صلاح المسلمين فى دينهم ودنياهم إذا فرقوا بين ما فرق الله ورسوله؛ فإن الذين لم يفرقوا بين هذا وهذا أوقعهم الاشتياه إما فى آصار وأغلال: وإما فى مكر واحتيال, كالاحتيال فى أنفاظ الأيمان والاحتيال بطلب إفساد النكاح: والاحتيال بخلع اليمين, والاحتيال بالتحليل والله أغنى المسلمين بنبيهم الذى «يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن ال متكر, ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأخلال التى كانت عليهم»().

- يرى ابن تيمية إذن أن الطلاق المعلق الذى قصد به الحلفء والحلف الصريح به كلاهما لايقع به شئ وتكون عليه كفارة يمين لأنه من اليمين, ويبنى كلامه على الأدلة التى قلناء وعلى القياسء وعلى المصلحة؛ فالقياس يقر أن هذه الصيغ أقرب إلى الأيمان فتعطى حكمها؛ ولايجعلها قريبة من الطلاق, لأنه لم يقصده وأم يرده؛ ومعنى اليمين فيه أوضح من معنى الطلاق؛ لأنه ما قصد إلا المنع أو الامتناع أى الفعل والحمل عليه؛ أى التصديق أى التكذيب: وتلك مقاصد الأيمان لامقاصد الطلاق: وكل امرئ يحاسب بمقصده: ويعطى من الأحكام لأقواله ما يتفق مع معانيها.

وأما المصلحة فيه بعد عموم البلاء؛ فلأن الإفتاء بإيقاعها؛ يوقع الناس فى أغلال وأآصار لايقصدونهاء إذ تقطع العلاقة الزوجية ولا يريدونها إلا موصولة؛ وقد يتحايلون لذلك فى دين الله, فيقدمون على المحللء أو على الأخذ بالخلع الذى يعتبره الشافعى فسخاً؛ لكيلا يعتبر العدد؛ وتلك حيل لاتجوز على الله والأولى الأخذ بالحكم الصريح.

41 - وقد يقول قائل إن الأيمان التى تكون الكفارة فيها هى الحلف بالله سبحانه وتعالى؛ فإن اليمين المعروفة المشهورة هى الحلف بالله تعالى؛ ولى اعتبرنا كل حلف يوجب

)١(‏ الفتاوى ج ‏ ص .٠‏ الآية ١01‏ من سورة الأعراف

كفارة يمين لكان الذى يحلف بالرسول ويحنث تجب عليه كفارة يمين. أو الذى يحلف بمكان تجب عليه كفارة يمين إن حنثء وما عمم أحد من المسلمين الأيمان ذلك التعميم.

وقد أجاب ابن تيمية عن هذا بأن الأيمان التى تعتبر معاصىء أو فى حكم النهى عنه لاتدخل فى الأيمان الثى توجب الكقارة, وذلك هى الحلف بشخص أو وثن: أما غيرهم فتجب فيه الكفارة.

(أولها) اليمين بالله, وهذه يجب تكفيرها إن حنث فيها على خلاف فى بعض أحكامها, لافى أصلها.

(والثاني) الحلف بغير الله أى لغير الله, وهى أن يحلف بمخلوق أو لمخلوق مثل أن يحلف بأبيه؛ أو بالكعبة أى غير ذلك من المخلوقات, فهذه يمين غير محترمة: ولاتنعقد» ولاكفارة بالحنث فيها باتفاق العلماءء ولكن نفس الحلف منهى عنه.

والقسم الثالث: عقد اليمين لله. وذلك يكون فى النذرء وجعل الطلاق فى هذا كالنذر؛ ولذلك يقول: «وأما المعقود لله فعلى وجهين:

(أحدهما) أن يكون قصده الثقرب إلى الله لامجرد أن يخص أو يمنع» وهذا هو التذر فقد ثبت فى الصحيح عن النبى عله أنه قال: «كفارة النذر كفارة يمين» وثبت عنه َيه أنه قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه؛ ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه» فإذا كان قصد محرماً لايجون الوفاء به؛ لكن إن لم يوف بالنذر فعليه كفارة يمين عند أكثر السلفء وهى قول

حمد..»(0),

(والشانى) «أن يكون المقصود الحض أو المنع أو التصديق أو التكذيب. فهذا هو الحلف بالنذر والطلاق والعتاق والحرام؛ كقوله إن فعلت كذا فعلى الحج وصوم سنة ومالى صدقة وعبيدى أحرارء ونسائى طوالق: فهذا الصنف يدخل فى مسائل الأيمان, ويدخل فيه مسائل الطلاق والعتاق والنذر». )١(‏ الاجتماع والافتراق فى الحلف بالطلاق ص ١١‏ .

بكسن

وفى ذكر أقوال العلماء فى هذا الصنف الأخير ثلاثة: (أولها) أنه يلزمه فى الحنث ما التزمه؛ فإن حلف بالطلاق أى العتاق أو صوم سنة أو نحو ذلك لزمه ما ذكر. (والثاني) أنه لايلزمه شئ لقوله عليه الصلاة والسلام «من كان حالقاًء قليطف بالله أو ليسكت». وفى رواية: «لاتحلفوا إلا بالله». (والقول الثالث) أن هذه أيمان يجب فيها كفارة الأيمان عند الحنث.

وهو الذى اختاره كما ذكرناه.

- ومن هذا التحرير وتلك النقول يتبين أن ابن تيمية يبنى رأيه فى عدم وقوع الطلاق إذا قصد به الحلف على أقوال السابقين فى النذر وفى الحلف بالعتاق والقريات» من حيث وجوب الكقارة.

وفى الحقيقة أن الحكم بعدم وقوع الطلاق المعلق على شرط هى قول الشيعة الإمامية الاثنا عشرية: وقد نص على ذلك فى كتبهم؛ فقد جاء فى حاشية كتاب تبصرة المتعلمين ما ئصه: ١‏

«الشرط فى اصطلاح الفقهاء ما أمكن وقوعه وعدمه. كشفاء المريضء وقدوم المسافرء والصفة ما كان محقق الوقوع كغيبة الشعس, وتعليق الطلاق على كل ذلك باطل عندهم»0). ويقول فى التبصرة «ولايقع إلا بقوله أنت طالق مجردا عن الشرطء!') فعندهم التعليق لايقع به طلاق إلا إذا كان التعليق على أسر وأقع فى الحالء فإنه فى هذه الحال

وأما ثبوت الكفارة فلا نعلم أنهم قالوا ذلك: ولانعلم أن فقيها قال ذلك بالنص فى الحلف بالطلاق نقسه؛ ويظهر من سياق ابن تيمية أنه يدخله فى زمرة الحلف بالعتاق أو بالصوم, أو الزكاة أى الحجء كأن يقول تلزمنى حجة إن لم أفعل كذاء أى إن فعلت كذا.

وإن هذا وأشباهه صح فيه النقل عن بعض الفقهاء بأن الكفارة تجب فيه عند عدم الوفاء. ولاشبهة فيه. لأنه باب من أبواب النذر» وهو نذر بطاعة؛ وقربة لاشك فى ذلك؛ إنما موضع الشك هو أن يكون قوله الطلاق يلزمنى إن فسعلت, كذلك الحج أو العتق أو الصسوم يلزمنى إن فعلت كذلك؛ فإن المفارقة بينها وبين الطلاق واضحة؛ لأن هذه قربات: فمعنى النذر والقربة بالوفاء بالمننور واضحة بينة. وإن الكفارة فى ذاتها برء فإن حنثء فإن برا يقوم )١(‏ تبصرة المتعلمين ص 20202.78 )١(‏ تبصرة المتطمين.

رأضن

مقام بر؛ ويكون المعنى الذى قصده الشارع من الكفارة محققاً قائماً, أما الطلاق فإنه لابر فيه, بل إنه أبغض الحلال إلى الله ولايمكن أن يدخل فى عموم قوله عليه الصلاة والسلام: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» ولايمكن أن يكون شبيها بالمنذور من القربات التى من جنسها واجب؛ فكيف تجب الكفارة؛ ثم إن الطلاق فى حقيقة معناه تحريم الحلال على نفسه؛ وإزالة نعمة النكاح الذى شرعه العلى الحكيم؛ فكيف يقاس على العتاق: ويقاس على الحج والصوم والتكاة؟

4 - واقد تعقب ابن تيمية فى هذا السبكى(!) فخطاه فى بعض نقوله, واتهمه بالتزك فى أخرىء كما اتهمه بالحذف فى بعض أخرء وخالفه فى استنباطه وقياسه.

خالفه أولا فى اعتباره الحلف بالطلاق والعتاق يميناً معقودة لله. وقال فى ذلك «إن قوله معقودة لله إن أريد بها التقرب لله فاليمين بالطلاق ليست كذلك. وإن أريد به أنه التزم بها شيئاً يجب لله تعالى كالحج والصدقة فليس كذلك» فهو بهذا القول ينقد ابن تيمية بمشع المشابهة بين الحلف بالله والطلاق. |

وأقد ذكر أن الطلاق لم يعتير داخلا فى كلمة أيمان المسلمين فى عهد الصحابة: وإنما الذى أدخله الحجاج بن يوسف الثقفى فى أيمان البيعة» ويقول فى ذلك «وأما قوله - أى ابن تيمية - إن هذه داخلة فى أيمان المسلمين وأيمان البيعة ودعواه أنه لايعلم فيها نزاعاء فاعلم أن قولنا أيمان المسلمين وأيمان البيعة إنما صار يدخل فيها الطلاق والعتق من زمن الحجاج.ء فإنه زادها فى أيمان السيعة وصار يحلف المسلمين بهاء واشتهرت من ذلك الوقت..».

ثم يقول: «إن قول القائل: أيمان المسلمين إما أن يراد بها ما شرع للمسلمين الحلف بهاء أو ما يتعارف المسلمون الحلف به؛ وجرت به عادتهم؛ فإن أريد الأول فاليمين بالطلاق والعتاق لم يشرع للمسلمين الحلف بهاء بل هى منهى عنها بقوله عله: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» وإن أريد به ما يتعارفه المسلمون وجرت عادتهم بالحلف به فاليمين بالطلاق والعثاق لم تجر عادة المسلمين فى الصدر الأول ولافى زمنه ظأهُ بالحلف بهاء فكيف يقول أنها داخلة فى أيمان المسلمين: ويحتج بعرف طارئ بعد النبى مَللهُ بنحى من سبعين سنة»!"), )١(‏ المتوفي سنة 01 فقد أدرك ابن تيمية. وهو من معاصريه وإن كان أصغر منه. (؟) رسالة الدرة المضية فى الرد على ابن تيعية من .6٠‏

أي

وخالفه ثانياً فى قياس الطلاق على النذر؛ لأن النذر فيه إيجاب أمر تركه معصية: أما التزام الطلاق فهى أمر ليس فى تركه معصية(') وإن المخالفة الأولى وهى اعتبار الطلاق من أيمان المسلمين إن صح نظر السبكى فيها تهدم كل أدلة ابن تيمية,

ومهما يكن فإن السبكى يقطع بنفى نسبة الحكم بوجوب الكفارة فى الطلاق المعلق الذى قصد به منع القعل أى الحمل على فعل فيقولء «وأما القول بوجوب الكفارة فى ذلك فلم يثبت عن أحد من المسلمين قبل ابن تيمية: وإن كان مقتضى كلام ابن حزم فى مراتب الإجماع نقل ذلك إلا أن ذلك مع إبهامه وعدم تعيين قائله ليس فيه أنه فى مسألة تعليق الطلاق» فيجوز أن يحمل على غيرها من صور الججلف»!",

- وهكذا ترى السبكى يناقض ابن تيمية؛ ونحن أسنا على رأى السبكى فى اعتباره كل طلاق معلق يقع ولى قصد الحمل على فعل أو المنع من فعل؛ ونأخذ الحجة من قوله؛ لأنه يقول إن الطلاق لم يتخذ الحلف إلا فى عهد الحجاج طاغية ولاة الأمويين: وقبل ذلك لم يكن الطلاق معتبراً من الأيمان, وعلى ذلك فلم يعرف أن الطلاق يقع به إلى سبعين سنة بعد وفاة النبى عله ثم كيف يسئغ أن يقع طلاق لم يقصده صاحبه؛ ولم يرده. فهل الطلاق يتلمس ويتشوف إليه؛ لقد أفهم أن يقع العتقء ولو لم يقصده. لان الشارع يتشوف إليه. ولكن لا أفهم أن يقع الطلاق وإن لم يقصده فى التعليق؛ لأن الشارع يبغضه. ولايبيحه إلاللحاجة.

وإذا كنت لا أوافق السبكى وجمهور الأصحاب لأئمة المذاهب الأربعة» فإنى أوافق ابن تيمية فى عدم وقوع الطلاق إن لم يقصده. ولكن لا أرى الكفارة لعدم قيام الدتيل على وجويهاء؛ وعدم تحقق القياس فى الطلاق على النذور؛ لما بينا أن هذا قربة وموضوهه من القربات؛ أما الطلاق فليس من القربات فى شئ.

4 - وإن القانون رقم 0" لسنة 1574 قد اختار رأى ابن تيمية ولكنه لم يأخذه كله, بل اعتبر الطلاق المعلق إن قصد به الطلاق يكون طلاقاً إن وقع المعلق عليه وإن لم يقصد به الطلاق لايقع به شى» وفى القسم الأول الرأى لابن تيمية كاملء وفى القسم الثانى كان إلى الشيعة الإمامية أقرب من ابن تيمية؛ لأنه لم يذكر فيه كفارة.

.08 الرسالة المذكورة ص‎ )١( 2 .0١ الرسالة المذكورة ص‎ )١( انا‎

وفى الجملة أن القانون المذكور بالنسبة للطلاق المعلق لم يكن شيعياً خالصاً ولم يكن تابعاً لابن تيمية كاملاء ووجه مخالفته للشيعة أنه يوقم الطلاق فى حال قصد الطلاق بينما الإمامية لايوقعون الطلاق إلا بصيفة منجزةء أو يكون التعليق فى معنى التنجيز بأن يكون التعليق صورياً. وبالنسبة لعدم وقوع الطلاق فى الحال الثانية يوافق الشيعة ولايوافق ابن تيمية. ويصح أن تقول أنه يوافقه, فى الحالين: ولكن لم يوجب فى الثانية الكفارة: لأنها أمر دينى يتصل بدين المسلم, ولاينقذه القضاءء فلم يذكر القانون إلا الأمر الذى ينفذه القضاء. وترك ما للدين ينفذه صاحيه فلم يعرف أن القضاء ينفذ الكفارات. ولم يكن مناسباً فى عصرنا أن ينص على مثل ذلك فى قوانينناء والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

مرتبة ابو تيمية الفقهية

4١‏ - فى البحوث السابقة ذكرنا صوراً لفقه ابن تيمية, بعضها فتاوى؛ أقتى بها معلماً الناس مرشداً لهم فى أمور دينهم, وبعضها نماذج من مقارنات فقهية استعرض فيها الققه الإسلامى قى مسائل اختارها مما يتصل بحياة الناس فى معاملاتهمء أو بالدولة فى نظمهاء أوفى الحسبة ودفع المظالم؛ وقد قبسنا من ذلك قبسة تكشف عما وراءها وتبين شخصية ذلك الفقيه الممتازء وبعضها اختيارات علمية جاس فيها خلال المذاهب الإسلامية المعروفة يقتطف منها ما يرى فيه عبق النبوة, وعرف السلف الصالح: وبعضها اجتهاد خرج به على الناس.

وإن الذى نلاحظه أنه فى القسم الأخير كان يحاول أن يسند آراءه فيه إلى المتقدمين, أو يبنى على آرائهم: أى يخرج على هذاهبهم: كما يحاول أن يثيت أن ذلك هى مذهب السلفء وهو اختيار السابقين» وإن وافق رأيه رأى الشيعة لايذكر المشاركة بينه وبينهم مع أن آراءه

أقرب رحماً بآرائهم. ولاذا كان يصنع ذلك الصنيع فيقرب بين ما وصل إليه باجتهادة وما قال الأثئمة الأربعة أى بعضهم على الأقل؟

الجواب عن ذلك أنه رجل سلفىء فمحاولة رد أقواله إلى السلف هو الذى يتكفق مع منهاجه العام الذى شرحناه أنفاً» والذى بينا فيه أنه فى كل ما اختار وما قارن وما أفتى به. وما اجتهد فيه كان يجتهد فى أن تكون أقواله فى دائرة ما وصل إليه السلف لايعدوها يقف حيث وقفواء ويسير حيث ساروا لايتجاوز طريقهم قيد أنملة. م

قلسببين فى نظرى:

أولهما: نفسى دينىء وهى يتصل بورع ابن تيمية وخلقه الدينى؛ وما علمناه من تقديره للأئمة أصحاب المذاهب التى تتدارسها الجماعة الإسلامية: فقد رأى ابن تيمية التصوص والآثار والمصلحة الاجتماعية ودفع الفساد, رأى كل هذا يدفعه لأن يقرر أن الطلاق الثلاث بلفظ الثلاث واحدة: وأن الحلف بالطلاق لايقع به شئ؛ ثم دفعته تقواه لأن يتوقف عن الإفتاء بالغريب فى الفقه الإسلامى» فكان فى حال يتدافعه فيها أمران:

أحدهما؛ يدفعه إلى القولء والثانى يدفعه إلى الإحجامء حتى لايكون ممن يطلبون غرائب الفثياء أى يقتحمون فيها؛ فحاول أن يؤنس تلك الغرائب التى تخالف ما كان عليه الناس بما كان عليه الأئمة ليقريها من أرائهم؛ ولقد كان الإمام مالك رضى الله عنه, وهى الفقيه العريق فى تعرف مصالح الناس يتعرف ما كان يفتى به أهل الكوفة فيما كان يبتلى يه من استفتاء, لكيلا يقرب منه فى فتواهء روى أنه لما علم أن فى مجلس دراسته حماد بن أبى حنيفة دعاه وأخذ يسأله عن أقوال أبيه فى مسائل وجهها إليه فكان يذكر له قول أبيه.

ثانى السبيين أن عصر ابن تيمية كان يستئكر الخروج على الأئمة: وقد رأى ابن تيمية المصلحة والدين فيما يفتيهم به. فكان يقرب المسائل ليقبلوها ويعملوا بهاء واكيلا ينفروا منهاء وقد رأى فيها علاجاً لأدوائهم, وحلا للأغلال التى كانوا يضعونها فى أعناقهم, فى الحلف بالطلاق بالواحدة وبالثلاث وفى الاندفاع فى الطلاق الثلاث.

445 - وأن القارئ لفقه ابن تيمية فى كل أبوابه يلمح فيه عقلية الفقيه المجتهد الذى تحرر من القيود المذهبية فى دراسته؛ ولايلمح فيه المقلد التابع من غير بينة وبرهان فهو فى فتاويه متحيز مستنبطء كما هى فى اختياراته: بيد أنه فى اختياراته لايثقيد بمذهب: وفى فتاويه يتقيد بالمذهب الحنبلىء وترى أنه فى مقارناته فقيه مستنبط؛ عليم بأوجه القياس ومصادر الشريعة ومواردهاء مستقيم المنهاج فى المقارنة» له هدف وأحد يصوب سهامه نحوه؛ وهى تحافيق معانى الآثار فى مصالح الناس من غير وضع لأغلال تصعب الحلال عليهم: وهو فى اجتهاده يحلق فى سماء الكتاب والسنة ومناهج السلف الصالحء ومناهج الأئمةالمجتهدين.

نض

ولكن مع أنه فقيه مجتهد, وليس مقلداً بلاريبء لأن المقلد ينتتصر للمذهب لمجرد الانتماء إليه, مع أنه كذلك نجد المسائل التى انفرد بها عن الأئمة الأريعة قليلة, كقوله فى الحلف بالطلاق» وقوله فى الطلاق البدعى: وكقوله فى السفر المرخص للإافطار فى رمضان» وقصر الصلاة من أنه مطلق ما يسمى سفراً» وكتجويزه جمع الصلاتين للحاجة؛ ولو فى الحضر إلى آخر ما هناك.. فإنها مهما تكن تعد قليلة, وأكثرها إن لم يوجد فى المذاهب الأربعة يوجد فى غيرها من المذاهب, كمذاهب الشيعة والظاهرية وغيرهاء وعلى ذلك يكون ما ينفرد به نادراً أى أقل من النادرء وهى مع ذلك قد يكون توسطاً بين رأيين أو جمعاً بين نظرين؛ ثم هى فى اجتهاده لم يخرج عن الأصول المقررة عند الأئمة أو كلهم وخصوصاً أصول الفقه الحنبلى التى كان له فضل هو وأسرته فى تحريرها.

وإن ذلك قد يحد من مرتبته فى الاجتهاد على حسب اصطلاح الفقهاء فى مراتب المجتهدين: وأكنه لاينقص من قدره الفقهىء وملكته التى تكونت له من ممارسته الفقه وأصوله ومصادره. والمقابلات التى قام بها فى الثروة الققهية التى تركها السابقون: والحلول والفتاوى والأقضية التى توارثها الخلف عن السلفء فإن مقامه فى ذلك لايتكر مهما تكن مرتبته فى الاجتهاد على حسب الاصطلاح.

"44 - إنه بلا شك من حيث أدوات الاجتهاد. والمدارك الفقهية؛ ومن حيث علمه بالسنة واللغة ومناهج التفسير وفهمه للقرآن» وأصول السنة وإحاطته؛ بالحديث دراية ورواية - يوضع فى الدرجة الأولى من الاجتهاد المطلق: فإن نظرنا إلى ذلك وحده فسنضعه فى مرتبة المجتهدين المستقلين: ولكن نجده قد سلك فى استتياطه مسلك الإمام أحمد فى الجملة, متقيداً بأصوله. وفوق ذلك أن الذى انقرد به لايعد كثيراً؛ بل نادراً؛ بل لايكاد ينفرد كما نوهناء فإن تقيدنا بهذه التاحية الموضوعية فإنا بمقتضى القواعد المقررة؛ نضعه على رأس المجتهدين فى المذهب الحنبلى.

إنه بلاشك قد استوفى فى شخصه كل شروط المجتهد المطلق: من الأدوات والعلم والمدارك: ولكن من ناحية الموضوعات التى وصل فيها إلى نتائج مخالفة: ومن حيث منهاجه نجدها لاتخرج به عن الإطار المذهبى.

وقد يقول قائل: لماذا قل ما أنفرد به أوندر مع استيفائه كل شروط الاجتهاد, ودرايته التامة بعلم السنة والتفسير والاستنباط؟. وإن الجواب عن ذلك مشتق من التاريخ, واتساع أفق الاستنياط.

4

لقد جاء ابن تيمية يعد أن اتسع الققه وكثرت الفتاوى فيه, وانفتح باب التخريج على مصراعيه؛ فقد جاء فى آخر القرن السايع وأول القرن الثامن الهجرى. وكانت أكثر فتاويه واستنباطه واختياراته. واجتهاده فى أول القرن الثامن: جاء بعد أن لم يترك الأول للآخر شيئاً» فقد دون قبل عصره فقه الأئمة الأربعة أصحاب المذاهبء كما دون الفقه الظاهرى والفقه الشيعى بكل مذاهبه وفقه الإباضية؛ وقد كثر المجتهدون والمخرجون فى كل مذهب من المذاهب» يجتهدون على أصول الإمام؛ أو يخرجون على أقواله للواقعات التى تقع بين الناسء وللحوادث التى تحدث: ولم يكتف أصحاب كل مذهب ومعتنقوه بالإفتاء فى الحوادث الواقعة. بل أفتوا فى الحوادث المتوقعة؛ بل قدروا كل ما يتصور فى العقل وقوعه؛ بل تجاوزوا فى القرن الرابع والخامس والسادس الحد فى التصور والتقديرء فتصوروا مالا يؤيده الواقع» وأخذوا يفتون فيه كأنه وقائع ابتلى بها الناس, فقد اتسع الفقه التقديرى, حتى أفتوا فى المعقول الذى يقعء ثم مما يجرى فى الخيال ولايقع.

وإذا أضيف ذلك إلى أن الوقائع التى تصدوا للافتاء فيها كانت كثيرة بسبب اختلاف الأزمان: واختلاف الأعراف فى البلدان» فقد صارت البلاد الإسلامية تمتد من الصين فى الشرق إلى جنوب أوريا بل ما يقرب من وسط أوريا فى الغرب؛ وأكل إقليم أحداثه, ولكل بلاد عاداتهاء واكل مصر عرفه. وقد تفتقت عقول العلماء تحت سلطان المذاهب التى استنبطت فخرجوا وأفتواء ويندر أن تكون واقعة فى عصر ابن تيمية لم يكن قد وقع مثلها؛ فيما وراء النهرء أو العراق: أو خراسان. أو فارسء أو مصر والشام. أو المغرب أو الأندلس؛ ودونت الفتوى فى كتب مذهب من المذاهب الإسلامية أى أكثر من هذه المذاهب.

ويخطئ من يقول أن التابعين لمذهب من المذاهب كانوا يسيرون فيه جامدين: بل إنهم كانوا يحيون المذهب: ويجدونه فى كل عصر من العصور بما جد من ألوأن فكرية» ويفتون فيما يقع من الحوادث بما يتفق مع الحالء ويصلح المآل» وأحياناً كانوا يخالفون إمامهم؛ ويقولون هذا اختلاف زمان لا اختلاف برهان: ولى كان الإمام فى عصرنا لقال مثل قولناء ألم تر المالكية والشافعية أفتوا فى القرن الرابع بميراث ذوى الأرحام؛ واختاروا طريقة الحنابلة» وخالفوا بذلك الإمامين مالكا والشافعى: وكان وجه المخالفة فساد بيت امال فى عصرههم. وأنه لم يعط ذوى الحقوق حقوقهم؛ فافتوا بما يتفق مع الحالء ولم يتقيدوا بالمنصوص عن الإمامين الجليلين: وعلموا أن الإمامين لى كانا فى عصرهم لقالا مثل مقالهم, وقبسا من أقرب المذاهب إلى الأثر وهو مذهب أحمد.

551

44 - جاء ابن تيمية فوجد تلك الأقوال الكثيرة: وتلك الفتاوى المختلفة فى ثمانية مذاهب من المذاهب الإسلامية الكبرى, وهى مذاهب الأريعة, والشيعة الإمامية والزيدية والظاهرية والإباضية؛ وكل مذهب هى في ذاته مجموعة من المناهج: بل المذاهبء فما كان من المعقول أن يأتى بجديد لم يسبق فى أى مذهب أو أى رأى من هذه الآراء المختلفة: قما ترك الأول لاكخر شيئاً حقاً وصدقاً» فلا يعيبه أنه لا يجتهد فى مسالة إلا وجد لقوله نظيراً فى فقه الشيعة أو الظاهرية ونحوهم كما رأيت فى الطلاق الثلاث, بل الغريب عن المعقول أن يقول قولا لم يسبق به قطء مع اختلاف المناهج والأنظار والحوادث والأمصار عند السابقين.

وإنك عند ترديد النظر فى فقه الأئمة الأربعة واختلافهم واتفاقهم تجد أنه من الثادر أن ينفرد أحدهم بقول ليس له نظير فى أى مذهب من هذه المذاهب الأريعة» أى الأقوال فيه. وخصومياً أن يعضها كان يأخذ من بعض:ء ويقبس من بعضء فيقل بل يندر ما يقول أبى حنيفة مخالفاً الباقين: ثم إن ما ينفرد به أحدهم دون ثلاثتهم فإنك لابد وأجد له نظيراً أى مشابهاً قريباً عند غير الأربعة. ولم يغض ذلك من أقدارهم فى الاجتهاد والاستنباطه ولم يمنع أنهم هم الذين فتحوا عين الفقه ليردها الناس من بعدهم؛ وميدوا الطريق ليسلكه الناس من بعدهم, بل إنهم لشدة تدينهم وقوة إيمانهم بالحق كانوا يكرهون غرائب الفتياء وأن يخرج الفقيه على الناس برأى لم يعرف لأحد من الناس.

- وإذن لايغض من اجتهاد ابن تيمية أنه قل أن ينقرد برأى لم يسبق يه أى يكاد لاينشرد» ولكن قد يقول فائل أنه لم يخرج عن المنهاج الحنبلى: بل إنه فى فتاويه وأكثر اختياراته؛ ومقارناته الفقهية كان يميل إلى الحنبلية ميلا بينا واضحاً بل إنه كان ينتصر لابن حنبل مما يجعلنا نحكم بأنه فقيه حنبلى فى دراساته وأصوله وآرائه فى الجملة, ولايخرجه عن الحنبلية بعض أراء قليلة خرج بها عن المذهب الحنبلى؛ بل إنه فى خروجه كان يقول فى حق أنه يطبق الأصول الحنبلية» وأكثر من هذا أنه كان يحاول أن يجعل لها مشابهاً ونظيراً من بعض الآراء فى مذهب الإمام الجليل: فهى حنيلى الابتداء والانتهاء. وفى النشأة والنتيجة.

وإن لذلك القول مقامه من الحق» فإن صفة الحنبلية لانستطيع أن نقول أنها فارقت ابن تيمية:, لأنه رأى ذلك المذهب الخصيب أوسع المذاهب الإسلامية من حيث كثرة الاجتهاد ران

فيه, فقد قرر كثيرون أنه لايصح أن يخلى عصر من العصور من المجتهدين المطلقين ولم يعرف بينهم إغلاق باب الاجتهاد, وأجيز لكل فقيه دارس فيه أن يجتهد فيما لم يؤثر عن الإمام على أصوله وعلى منهاجه؛ ولم يخل عصر من عالم على هذا النحى إلى أن جاء ابن تيمية فأوفى على ألغاية؛ فكان هذا المذهب جهود علماء خلفوا أحمد فى تركته الفقهية المثرية قتموها؛ وإذلك كثرت الأقوال والآراء فى ذلك المذهبء حتى إنك لترى فيه فى المسالة الواحدة آراء أريعة أحياناًء وكلها تنسب لأحمد رضى الله عنه...

ولقد سموا الآراء التى يصل إليها المجتهدون فيه وجوهاء وقد جاء فى تصحيح الفروع ما نصه:

«اعلم أن الصحيح من المذاهب أن ما قيس على كلامه (أى أحمد) مذهب له وهذا رأى الأثرم والخرقى وغيرهما من المتقدمين» وقاله ابن حامد وغيره فى الرعايتين وآداب المفتي والحاوى وغيرهمء وقيل: ليس يمذهب له؛ قال ابن حامد عامة مشايخنا مثل الخلال وأبى بكر ابن عبد العزينء وأبى على وإبراهيم؛ وسائر من شاهدناهم لايجوزون نسبته إليه. وانكرو! على الخرقى ما رسمه فى كتابه من حيث إنه قاس على قوله, وقال فى الرعاية الكبرى إن نص الإمام على علته, أو أوما إليهاء وإلا فلاء ولا أن تكون أقواله أى أفعاله, أو أحواله مشيرة للعلة المستنبطة بالصحة والعين.. وقال الموفق فى الروضة والطوفى فى المختصر: إن بين العلة فمذهبه فى كل مسألة وجدت فيها العلة كمذهبه فيما نص عليه؛ وإن لم يبين العلة وإن أشبهتها؛ إن هى إثبات مذهب بالقياسء ولجوان ظهور الفرق له لى عرضت عليه»!"",

وترى من هذا أنهم يعتبرون قول المجتهد من المذهب» مادام يسير على أصوله؛ ولكن أيصح أن ينسب إلى الإمام أحمد رضى الله عنه؟ قال الخرقى: يجوز وقال غيره: لايجوز إلا إن نص على العلة أحمد, وكان ذلك تطبيقاً للنص؛ وقال آخرون تجوز النسبة إليه إن عرف أن هذه العلة هى التى لاحظها أحمدء سواء أكان ذلك بالقول أم بالفعل أم بالإشارة» . ومهما يكن النظر فى هذهء فإن ذلك الاجتهاد الكثير فيه جعله نامياً خصباً .

441 - من هذا المعين الخصب استقى ابن تيمية ونهل حتى شدا وترعرع» ولا اجتهد كان يسير على منهاج أحمد فى الاستنباط؛ ووصل إلى نتائج أكثرها من مذهب الإمام, (1) مقدمة تصحيح الفروع الجزء الأول ص ه.

لكين

وقليل منها من غيرهء وأقل منها قد انفرد به وهى فى كل ذلك مجتهد لايسير من غير دليل» ولايحكم من غير بينة» يوافق عن بينة ويخالف عن بينة» وصفة التقليد المطلق منفية فى كل قول له أو إفتاء أو اختيارء أو مدارسات: فما كان ذلك إلا عن اجتهادء واتباع للدليل وقد جانب اتباع الرجال: فهو يوافق رأى أحمدء وهى على استعداد لأن يأخذ رأى أبى حنيفة, إن وجد وجه القياس عند أبى حنيفة أقوىء ولم يكن فى الموضوع أثرء ولكن ما نوع اجتهاده أهى مجتهد مطلق؛ آم مجتهد فى المذهبء أم مخرج قيه؟ ولنبين مراتب المجتهدين؛ ثم نضعه فى المرتبة التى تنطبق عليه, مراتب الاجتهاد

- الاجتهاد مراتب: فقد يكون المجتهد مقصوراً عمله على الاجتهاد فى الفروع, والتزم فى الاجتهاد أصول مذهب معين. فيخالف ذلك المذهب فى التفريع ولايخالفه فى الأصول التى تفرعت عنها المسائل. وقد يكون المجتهد فى الأصول والفروع معاًء فيكون مجتهداً مطلقاً غير متقيد بمذهب من المذاهب, وقد يكون الاجتهاد فى دائرة أضيق؛ فهو لايجتهد فى الأصول ولا الفروع: ولكن يخرج على فروع المذهب باستخراج علة الحكم فيها؛ والبناء على مجموعة القواعد والنظريات التى تريط بين الفروع المختلفة فى فقه مذهب من المذاهب, ويفتى على هذه القواعد ويخرج عليهاء ويسمى المجتهد فى المذهبء ويقسم الفقهاء المجتهدين على ذلك إلى أقسام مختلفة العدد.

4 - وإنا نختار فى العدد والتقسيم ما اختاره ابن تيمية» فقد قسم أبى عمرى ين الصلاح وابن حمدان المجتهدين إلى خمسة أقسام؛ وقد ذكر ابن تيمية هذه الأقسام فى مسودة الأصول التى ابتدأها جدهء وأتمها أبوه» وزاد عليها هو:

القسم الأول: المجتهد المستقلء أو المطلق الذى لاينتمى إلى مذهبء ولايتقيد بأصول خاصة لإمام آخرء وينتهى إلى نتائج فى أصول الاستنباط تخالف ما عليه غيره فى قليل أي كثير؛ وقد ادعى اين الصلاح أنه قد طوى بساط المجتهد المطلق على هذا المعني؛ لأن العلماء قد استوعبوا الأصولء وأكثروا من الفروع؛ حتى صار من العسير أن يجئ شخص فيأتى بما لم يأت به أحد من الأولين,

نف

القسم الثانى: المجتهد المنتسبء وهى مجتهد فى الفروع وفى الأصول؛ فهى يتعرف الحكم هن دليله, ولكنه يتلاقى مع إهام من الأئمة في منهاجه وطريقه فى الاستنباط: إما لأنه تربى فى مذهب ذلك الإمام وترعرع فيه. أ لأنه انتهى فى دراسته الحرة إلى موافقة ذلك المذهب فى الأصول والمنهاج؛ ويسمى هذا مجتهداً منتسباً لأنه يدعو إليه. ولأنه قرأ كثيراً منه على أهله فوجده صواباً» وأولى من غيره. وأشد موافقة ل ومن هؤلاء كثير من أصحاب أحمد الذين عاصروه وتلقوه عليه؛ وبعض أصحاب مالك كابن القاسم وابن وهبء وابن عبد الحكم وغيرهم وبعض أصحاب الشافعى كا مزئى» ويدعى بعضهم أن من هؤلاء أصحاب أبى حنيقة كزفر بن الهذيل وأبى يوسف ومحمدلا).

وهذا القسم هى الذى ينمى به المذهب. فإنه يجتهد فى المسائل التى تتجدد والحوادث التى تققع: ويكون اجتهاده على مقتضى المنهاج الذى وضعه إمامه. واختارهى عن بينة لا عن تقليد» وآرائه تعد آراء فى ذلك المذهب: وقد ينتهى إلى مخالفته فى بعض الفروع؛ وتلك المخالفة لاتمنع أنها تكون فى المذهب وقد يختار للإفتاء رأيا غير رأى الإمام نقسه فيهاء ومع ذلك يعد رأيه من المذهب, يكون ذلك من نماء المذهب وتوسيع الأفق فيه. وتسمى آراؤه فى المذهب وجوها.

9 - القسم الثالث: أن يكون مجتهداً مقيداً فى مذهب معين يقرر ذلك المذهب ويحررهء ويجمع أحكامه ويربط بين الفروع؛ ويستخلص منها القواعد الضابطة لهاء والمحررة لخلاصة المذهبء الموضحة لأقيسته والعلل الضابطة فيه, وهى يتعرف أحياناً بعض أحكام الحوادث الثى لم يعرف لإمامه رأى فيها واكنه فى استدلاله لايتجاوز الأصول التى اختارها إهامه منهاجاً له فى الاستنباط وطريقاً له فى تعرف الأحكام, وهو قد اختار هذه الأصول عن اتباع وتقليد لا عن اجتهاد واستنباط ثم توافق» ولاشك أن المجتهد الذى يكون على هذا النحى لابد أن يكون عالما يالأصول من كتاب وسنة وإجماع وطرق اجتهادء ولكن الذى يجعله متقاصراً عن أن يصل إلى مرتبة من سبقه خلل فى بعض علمه بالحديث أو بالمعارض فى الاستدلال: مما يجعل اجتهاده ناقصاً» وهى لايجتهد فى مسألة يجد فيها نصا لإمامه إنما يجتهد فيما لم يجد لإمامه حكما فيه, ولايقتى إلا إذا كانت المسألة لا نص فيهاء ولم يكن ثمة مجتهد من النوعين السابقين يفتى.

(1) قد اخترنا أن هؤلاء مجتهدون مستقلون لأنهم خالفوا شيخهم فى المنهاج والفروع, وإن كان لشيخهم الفضل الأول راجع فى هذا كتابنا (أبى حنيقة). نذان

أولها: أن هذا مقلد فى الأصولء أما المنتسب فمجتهد فيها.

والثانى: أن ١‏ لمنتسب لا خلل فى معرفته بمصادر الشريعة؛ أما الثالث فدون هذا.

والثالث: أن هذا لايفتى يغير المذاهب إلا عند الضرورة: أى عند الحاجة حيث لايكون حتى فيما نص عليه فى المذهب ويخالفه؛ وفتوى المجتهد المقيد تكون بالتخريج على فروع

ويكون المجتهد المقيد على ذلك النصوء من أصحاب الوجوه؛ لأن آراءه الثى ينتهى إلبها تسمى طرقاً وتخريجاً فى المذهب.

ءءء - القسسم الرايع: المجتهد الذى لا يبلغ درجة أصحاب الوجوه المنتسبين, ولا أصحاب الطرق المخرجين. غير أنه فقيه النفس حافظ مذهب إمامه عارف بأدلته, قائم بتقريره ونصرته؛ يصور ويحررء ويمهد ويقررء ويزيف ويرجع»(') وأكنه دون درجة السايقين, إما لكونه لايعرف ما يعرفون فى أصول الفقه ومصادرةء, وإها لقصور أدوات الاجتهاد من علم باللسان, ومدارك للأقيسة, وإما لعدم الإحاطة بالمذهب الذى ينتسيون إليه, ويخرجون فيه كالصنف الثالث فى الجملة؛ ولايفتى إلا عند الابتلاء وعدم وجود نص» وعدم وجود من هو أعلى درجة:؛ وفتواه من قبيل المطلوب على وجه الكفاية» وليس له أن يفرع فى المذهب فى غير موضع السؤال؛ ويقول ابن الصلاح فى هذا القسم: «هذه هى مرتبة المصنفين إلى أواخر المائة الخامسة, وقد قصروا عن الأولين فى تمهيد المذهبء وأما فى الفتوى فيسطوا بسط أولئك: وقاسوا على المنقول والمسطور غير مقتصرين على القياس الجلى» وإلفاء الفارق»9),

١هغ-‏ القسم الخامس: المجتهد الذى يحفقظ المذهب ويقفهمه فى واضحات المسائل ومشكلاتها غير أنه لايستطيع تقرير أداته. وتوضيح | لأسس التى قام عليها؛ وهذا يعتمد

يفن

نقله. وتعتمد فتواه بشرط ألا تتجاوز المنصوص عليه فى المذهب من فروع؛ فإن لم يجد منقولاء وأكنه وجد ما يمائثل الحال استقتى فيها من غير فضل فكر ولا اجتهاد. ولا استخراج لأوجه الشبه الخفية؛ فإنه فى هذه الحال يفتى؛ كأن يكون المنصوص عليه فى المذهب حكم عبد, والمسئول عنه حكم الأمة فى مثل ما وقع عن العبد فى غير ما تختلف فيه الذكورة عن الأنوثة, وكذلك يفتى إذا كان المستفتى فيه لايوجد مثله فى الفروع» ولكن يندرج تحت قضية عامة فى المذهب, ولقد قال ابن الصلاح: «يندر عدم ذلك: كما قال أبى المعالي: يبعد أن تقع واقعة لم ينص على حكمها فى المذهب؛ ولا هى فى معنى شئ من المنصبوص فيه من غير فرق؛ ولا هى مندرجة تحت شئ من ضوابطه:(') ولابد فى صاحب هذه المرتبة أن يكون فقيه النفس؛ لأن تصور المسائل على وجهها ونقل أحكامها لايقوم به إلا فقيه النفس أى صارت له ملكة فقهية خاصة يدرك بها مرامى المذهب.

67؛ -- هذه مراتب المجتهدين: أو بعبارة أدق الذين لهم الفتوى وليس لمن دونهم ذلك فى المذهب الحنبلىء واقد قال فى ذلك ابن الصلاح: «ولاتجون الفتوى لغير هؤلاء الأصئاف الخمسة» وقد اخترنا ذلك التقسيم من المذهب الحنبلى؛ والشافعية تقسيم يقاربه. والحنفية تقسيم أيضاً, لأن ابن تيمية اختاره وأقره كما جاء فى مسودة الأصول التى زاد عليها.

وفى أى المراتب يوضع ابن تيمية؟ لاشك أنه أعلى من المراتب الثلاث الأخيرة: فهو أكبر منهاء وهى فى نظرنا أجل من أصحاب الطرق كما يسمى أهل هذه الدرجات الثلاث. فلا يوضع فى واحدة هن المرائب الثلاث الأخيرة فى نظرناء وإن كان بعض خصومه لايتجاوزون به واحدة من الطبقات الثلاث, وإن دراستنا لآرائه الفقهية ولاختياراته وعلمه بمسالك الاستدلال: واستبحاره فى السنة وتفسير القرآن وعلوم السلف؛ كل أوائك يجعله بلاريب فى مرتبة أعلى من هذه الثلاث؛ بل هى يوضع مع العالمين بالأصول ذوى الاستقلال فى الجملة,

من المذاهب: وعلى ذلك يكون القول المعتدل الذى لا مغالاة فيه ولاشططء ولابخس ولاوكس؛ أنه مجتهد منتسبء وعلى ذلك تكون الأقوال بالنسبة لابن تيمية ومرتبته فى الاجتهاد ثلاثة:

. ١584 المدخل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل ص‎ )١( لا‎

أولها: أنه مجتهد مطلق؛ ولكن ينقض هذا استمساكه بالمذهب الحنيلى فى أكثر أدواره وفى أكشر آرائه؛ وإعلانه أن المذهب الحنبلى خير المذاهب, وأنه أقربها إلى السنة؛ وأنه يشتمل على القول الراجح عند اختلافه مع بعض الأئمةء وأنه إن كان فيه قول ضعيفء فالقوى فيه أيضاً؛ وأنه فيما ينفرد عن الأئمة, لابد أن يكون فيه ما يوافقهم وأنه ما من أمر يكون فيه المذهب الحنبلى على قول واحد إلا كان من الأئمة من يوافقه. وإن خالفه أبى حنيفة والشافعى ووافقه مالك.

فدعوته المذهب الحنبلى بتلك الدعاية تصريح بأثه منتسب إليه؛ مهما تكن مرتبته فى العلم بالأصول والمناهج, ولأنا لم نجده خالفه إلا فى بعض مسائل قليلة؛ وما خالفه قد ذكر أنه بناه على أصولهء وعلى مناهجه؛ فلم يكن فيه منطلقاً عنه.

وفوق ذلك أن الأصول الفقهية التى بنى عليها اجتهاده هى أصول أحمد؛ فهو لم يخالف أصلا من الأصول المقررة فى المذهب الحنبلى: وإن كان له منهاج فى تقريرها وتقرييهاء فهى اتوضيحهاء والدفاع عنهاء والبناء عليها؛ وإن هذا بلا شك يجعله ملازماً للمذهب الحنبلى لا يمكن أن يكون منطلقاً عنه خالعاً ريقته.

القول الثانى: أنه فقيه فى المذهب الحنبلى دون مرتبة الفقيه المنتسبء ولكن علمه بالسنة - إذ يكاد يحفظ أكير قدر فى طاقة عالم أن يحفظه وموازنته الفقهية بين الأئمة وعلمه بالأصول علماً دقيقاً. واستخدامه لهذه الأصول- كل هذا يجعلنا لا نستطيع أن نقرر أنه قد حصل خَلل فى أدوات الاجتهاد عنده؛ وعلمه بالأصول هو علم المستقل الفاهم المستيقن المدرك؛ وما اتفق فيه مع أحمد فى الأصول وإن كان كثيراً كان عن بينة؛ وما ارتضى من فروع أحمد كان عن دليل خاص لكل ما يختاره.

وقد يقول قائل أنه قد تخلف به الزمان عن أن يبلغ مرتبة الاجتهاد المطلق أى الاجتهاد المنتسبء فإنهما فى معنى متقارب من حيث القدرة العلمية؛ فقد كان فى آخر القرن السابع وأول القرن الثامنء وقد قال ابن الصلاح أن الاجتهاد طوى عند القرن الخامسء قد يقول قائل ذلك ولكن الاجتهاد لا ينظر فيه فقط إلى الزمان؛ بل العبرة فيه بما قام يه الرجل من جهود علمية؛ وقد رأينا ابن تيمية يسير فى جهود علمية فى الفقه موفقة, كان يجوس فيها خلال المذاهب الإسلامية؛ وإن فقهاء قد جاءوا بعده؛ وادعى بعضهم أنهم

أو

بلفوا هرتبة الاجتهاد المطلق؛ فقد أدعى بعض الحنفية أن كمال الدين بن الهدام صاحب فتع القدير قد بلغ مرتبة الاجتهاد. وصرح بذلك ابن عابدين فى حاشيته رد المحتار على شرح الدر المختار, وإذا كان قد أدعى ذلك لابن الهمام وغيره؛ فلا تكون ثمة غرابة فى أن يدعى لابن تيمية أنه مجتهد منتسبء وقد تبدى علمه بالأصول والمصادر الشرعية علماً تاماً وتحرر هو من التقليد فى الأصول والفروع؛ وأنه ها وأفق أحمد فى أكثر فقهه إلا عن بينة» وأنه فى مذهب أحمد كالمزنى فى مذهب الشافعي؛ وإن تخلف به الزمان؛ وما كان تخلف الزمان كافياً وحده لبيان تقاصصر الهمة وضعف الاجتهاد والاستنباط.

09 1- هذان قولان كلاهما يبين أنه لا يتطبق على ابن تيمية الققيه؛ لأن الأول لم بدعه ابن تيمية لنفسه؛ بل ادعى غيره: وشرط الاجتهاد المطلق أن يدعو لاجتهاده دون سواه؛ والشانى يناقض المأثور من فقهه وآرائه فلم يبق إذن إلا أن نختار الثالث, وهو أن يكون

وإثنا إذ نختار أنه مجتهد منتسبء لا مجتهد مطلق؛ ولا مجثهد فى المذهب فقط نقرر أنه لم يكن مقلداً فى النتائج الققهية التى وصل إليهاء ولا فى الأصول التى اعتمد عليها؛ فإنه قد اختار هذه الأصول بعد فحص ودراسة وتعمق؛ وقد وافقت أصول أحمد فى الجملة؛ وكذلك كان ما اختاره من مسائل فى الفقه, كان يختار ما يختار لدليله ويرهانه؛ وكذلك فى فتاويه الحنبلية التى قررها على مقتضى المذهب الحنيلى فى تقريعه وأصوله كان يختار ما يختار للفثياء عن دليل وحجة. لا مجرد الاتباع؛ ومتله فى تقريره للمذهب الحنبلى؛ كمثل تقرير المزنى للمذهب الشافعى؛ فهو يحكيه وينقله. وينقل معه نهى الشافعى عن التقليد والاتباع» ويرى أنه لا يمنع استمساكه بالاجتهاد أن ينقل مذهب استاذه ومناهجه فى البحث والدراسة.

ولقد كان ابن تيمية ينهى من عنده أدوات الاجتهاد عن التقليد؛ ويرصى الدارس الفاحص ألا يتبع إلا ما يوصله إليه الدليل غير معتمد على سواهء ولا متيع خير سبيله, وينقل نهى الأئمة عن الاتباع لهم من غير معرفة دليلهم, ويجعل ذلك النهى مقد ورا على من عنده قدرة على الاستدلال وأنه يفتح باب الاجتها؛. على مصراعيه: للقادر عليه, وإن كان يستطيع أن يجتهد فى بعض أيواب الفقه دون البعض الآخر وسعه أن يقلد فيما لا يستطيع أن يجتهد فيه؛ ولا يسعه التقليد فيما يستطيع الاجتهاد فيه. 1/1

4 - وإذا كان ابن تيمية مجتهداً منتسباً للمذهب الحنبلى, فإنه بلا شك تتحدد الأصول التى اعتبرها مصادر الفقه مع الأصول التى اختارها أحمد؛ إذ يتحدان فى المنهاج والتفريع؛ وكان ينبغى أن تعد أراؤه وجوها فى المذهب الحنبلى: فرأيه قى الطلاق الثلاث: والطلاق ا معلق, وأيمان الطلاق وأيمان المسلمين» كل هذا كان ينبغى أن يعد وجوها فى المذهب الحنبلي» ولكن لم نجد أحداً من الفقهاء أشار إلى ذلك؛ فلم يعدوها فى نطاق المذهب الحنبلى مطلقاًء ولعل السبب فى ذلك أمران (أولهما) أنها جاءت فى عصر متأخر, فقد جاء ابن تيمية فى أول القرن الهجرىء وقد كان المذهب قد استقام على سوقه» ودونت وجوهه وطرقه: والآراء التى قالها الأصحاب وكانت خمسة قرون تقريباً كافية لتقريره وتوجيهه, فلم يعد فيه متسع لجديد, (وثانيهما) أن النكير قد اشتد على ابن تبمية لقوله تلك الأقوال. إن كان منفرداً بها بين فقهاء الجماعة, وقد حاول أن يزيل غريتها بتقريبها من أصول الأئمة الأربعة وفتاويهم؛ ويبين أنها من نوعها وإن ام تكن عينهاء فتعذرمع هذا النكير أن تنسب إلى ذلك المذهب الأثرى ولم يجد | الحنابلة الشجاعة لأن يضيقوها إلى المذهب كما أضاف السابقون غيرهاء وكان تلاحق السجن عليه بعد قواها سبباً فى أن لم يتمكن من' الدعوة إليها وهو حر طليق,

ومهما تكن قيمة الفروع التى خالف فيها أحمد فالأصول واحدة: ويحسن أن نقول كلمة فى الأصول التى استمسك يها ابن تيمية؛ وهى فى جملتها كما قلنا أصول أحمد؛ ولكنه وضحها وبينها ووجهها ودافع عنهاء ووضح مغلقهاء وكان له فضل فى دراسة الأصول دراسة خصبة منتجة. لا دراسة نظرية فقطء واقد حق علينا أن نشين إلى هذه الدراسة بالإجمالء لأنها لب منهاجه الفقهى.

أصول ابن تيمية

؛- لا نريد أن نفصل القول فى كل الأصول التى تمسك بها ابن تيمية فإن أصوله هى أصول أحمد رضى الله عنه. وقد ذكرناها مقصلة ومجملة فى كتابنا (ابن حنبل) ولكنا نذكر الأمر مجمل؛ إلا إذا كان لابن تيمية نظر خاص فيه؛ أو يكون فيه كشف عن عمل خاص له فى المذهب الحنبلى؛ فإننا نبيثه, لأثه يكون جزءاً من المقصد الأصلى: وهى شرح عقلية ابن تيمية وفكره.

1

وأقد ذكر ابن تيمية الأصول التى انبنى عليها الاستنباط فى إحدى رسائله وسماها طرق الأحكام الشرعية فيقول: «أما طرق الأحكام الشرعية فهى بإجماع المسلمين- الكتاب- لم يختلف أحد من الأئمة فى ذلك: كما خالف بعض أهل الضلال فى الاستدلال على يعض المسائل الاعتقادية»!),

والطرق الأخرى التى ذكرها ابن تيمية هى السنة: ثم الإجماع؛ ثم القياس على النص والإجماع, د قم الاستصحاب: د نم المصالح المرسلة: وقد أدخل الاستحسان فى نطاق الصماح المرسلة؛ أوعده قريباً منها.

0 هذه هى الأدلة التى سردها ابن تيمية؛ وقد دمج ابن القيم الأصلين الأول والثانى فى واحد عندما عد أصول أحمد بن حنبلء كما دمج المصالح المرسلة فى القياس,2 فذكر الأصل الأول وسماه النصوصء وهى الكتاب والسنة: والأصل الثاني فتاوى الصحابة التى لا يعلم لها مخالفء والثالث التخير من فتاوى الصحابة بما يوافق حديث رسول الله كه والأصل الرابع الأحاديث المرسلة والضعيفة التى لم يقم دليل على كذبهاء وهى خلاف الأحاديث ا موضوعة التى قام الدليل على كذبهاء والأصل الخامس مما ذكره ابن القيم القياس.

وأقد وجدنا ابن القيم تلميذ ابن تيمية لم يذكر من الأدلة الإجماع؛ ويجمل القول فى بعضها ويفصل فى بعضهاء فأدمج فى كلمة النصوص الأحاديث الصحيحة؛ وفى كلمة القياس المصالح المرسلة والاستصحاب؛ باعتبار أن ذلك من الرأى؛ ثم اعتبر فتاوى الصحابة التى لا خلاف فيهاء قسماً قائماً بذاته. وفتاوى الصحابة المختلف فيها طريقاً من طرق الاستنباط إذ يتخير من بينها أقريها ثم اعتبر الحديث المرسل والفضسعيف الذى لم يثبت كذبه حجة أيضاً. )١(‏ ذكر القرآن على أنه هو موضع الإجماع من طرق معرفة الأحكام, وهذا يستفاد منه أن غيره فيه اختلاف, مع أن السنة ليست موضع خلاف إلا من قوم من أهل البصرة قد انقرضواء ولكن لأن كلمة الأحكام فى نظره تشمل العقائدء وقد أنكر بعض العلماء أن تثبت العقائد بالسنة وذكر أن فى إثباتها بالسنة خلافاً. وسمى المخالفين أهل الضلال.

ل

ووجه اين القيم فى عدم ذكر الإجماع أن الإجماع المعترف بوجوده عند الحنابلة إجماع الصحابة: أما إجماع غيرهم فلم يعترف فى المذهب الحنبلى بوقوعه؛ وقد ذكر الإجماع المعترف به فى فتاوى الصحابة وإذا جعله وراء النصوص مباشرة: ومقدماً على الأحاديث الضعيفة غير الموضوعة.

07 ؛- وأنخص كل واحد من هذه الأصول أو الطرق على حد تعبير ابن تيمية:

النصوص

وأولها: النصوصء ويشمل ذلك الكتاب, والسنة التى تكون مقسرة له؛ ثم سائر السان؛ الوضع اللب فى ال مذهب الحنبلى؛ واين تيمية ينظر ذلك النظر أيضاً؛ وذلك أن فقهاء المذهب الحنبلى تايعون لإمامه رخسى الله عنه يقررون أن السنة و)لكتاب متلازمان من حيث إن السنة شارحة الكتاب والمبينة الموضحة له؛ وعلى ذلك هم يقررون قضيتين (إحداهما) أن السنة من حيث الاعتبار وقوة الاستدلال فى ذاته متأخرة عن الكتاب (والثانية) أنها الشارحة المبينة وأنها الموضحة ا معينة لمعاينه عند الاحتمال.

والقضية الأرلى: موضع التسليم من جميع فقهاء المسلمين؛ لأن القرآن حجة الإسلام الأولى: ولأن الاحتجاج بالسنة ثبت بمثل قوله تعالى: «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم»(') وقوله تعالى: «رما آتاكم الرسول فخذوه. وما نهاكم عنه فانتهوا»!") وإذا كان اعتبار السنة حجة قد عرف بالقرآن؛ وثبت عن طريقه فهى بلا ريب متآخرة عنه فى الاعتبار؛ إذ لولا القرآن ما اعتبرت حجة.

والقضية الثاتية: موضع التسليم أيضاً؛ لأنه باتفاق الفقهاء السئة هى شارحة الكتاب فى موضع الاشتراكء ومبينة لما يخفى على الناسء ومفصلة لمجمله؛ فليس فى ذلك خلاف, إنما موضع النظر فى أمرين.

أحدهما: أن تكون السنة آتية بحكم جديد ليس فى القرآن نص عليه.

وثانيهما: أن السنة تترك أى يؤخذ بها إذا خالفت ظاهر القرآن؛ أو خالفت النصوصن العامة منها. أما القضية الأولى فجمهور فقهاء المسلمين على أن السنة قد تأتى بأحكام

)02( الأحزاب: 71 (؟) الحشر: ٠‏ ميان

ليشهد القرآن لكل حكم منها بالقبول؛ ولكن قرر بعضي الفقهاء المحققين أنه ما من حكم فى السنة إلا له أصل فى القرأن يرجع إليه, ولكن ليس معنى ذلك ألا يؤخذ حكم جاء فى السنة إلا إذا وجدنا تفسيراً له فى القرآن؛ بل معنى ذلك أن السنة لا يمكن أن تأتى بأمر مخالف للقرآن أو أمر زائد عليه إلا كان له أصل فيه بالعبارة أو الإثشارة» وليس على المسلم أن يتكلف البحث عن شواهد للسنة من القرأن ليقبلهاء بل عليه أن يقبلها متى ثبتت صحتهاء وتلقاها العلماء بالقبول,

ولقد قرر ابن تيمية أن السنة حجة؛ لا فرق فى ذلك بين السنة المفسرة. وغيرهاء وقد قسم السنة إلى ثلاثة أقسام» وذكر أنها جميعها حجة:

أولها: السنة المتواترة التى لا تخالف ظاهر القرأن؛ بل تفسره مثل أعداد الصلاة, وعدد ركعاتها؛ ونصاب الزكاة بكل أنواعها وفرائضهها, وصفة المج ونسكه. والعمرة وأركانهاء وغير ذلك من الأحكام التى لم تعلم إلا من طريق السنة, وهذه قد أجمع العلماء على أنها تثمة القرآن؛ ومن أنكر حجيتها فقد أنكر شيئاً علم من الدين بالضرورة» وهدم ركن الإسلام؛ وخلع الريقة.

والقسم الثاني: السئة التى لا تفسر القرآن: ولا تخالف ظاهره؛ ولكنها تأتى بحكم

جديد ليس بعنصوص عليه فيه كرجم الزانى؛ وتقدير نصاب السرفة, وقد قرر ابن تيمية أن مذهب السلف والفقهاء أجمعين- ما عدا الخوارج- الاحتجاج بهاء وقد قال فى ذلك: «مذهب جميع السلف العمل يها إلا الخوارج» فإن من قولهم أى قول بعضهم مخالفة هذه السنة حيث قال أولهم للنبى عله فى وجهه: «إن هذه قسمة ما أريد يها وجه الله» ويحكى عنهم أنهم لا يتبعونه إلا فيما بلغه عن الله من القرآن والسنة المفسرة له... ولهذا كانوا مارقة مرقوا من الإسلام؛ كسا يمرق السهم من الرمية. ولقد قال النبى مله لأولهم: «لقد خبت وخسرت إن لم أعدل» فإذا جوز أن الرسول يجوز أن يخون ويظلم فيما ائتمنه الله عليه من الأموال» وهو معتقد أنه أمين الله على وحيه فقد اتبع ظا ما كاذباً. وجوز أن يخون ويظلم فيما ائتمنه الله من امال وهو صادق أمين قيما ائتمنه الله عليه من خبر السماء. ولهذا قال النبى عله

«أيأمننى من فى السماء ولا تأمنونى,(').

.؟١ص الرسالة والمسائل جه‎ )١(

والقسم الثالث من أقسام السنة التى ذكرها ابن تيمية: ماروى بأحاديث آحاد برواية ثقات؛ وهذه أيضاً قد أتفق أهل العلم على قبولها واتباعهاء وقد اشترط بعضهم لقبولها ألا تعارض ظاهر القرآن: وهذا موضع القضية الثانية.

- والقضية الثانية وهى المعارضة بين ظاهر القرآن وأخبار الآحاد التى تلقتها الأمة عن الثقات بالقبول. وهذا موضع الخلاف بين الحنفية والمالكية ويين الشافعية والحنايلة, فالأولون يعرضون أحاديث الآحاد على الكتابء فما كان منها متفقاً مع الكتاب قبلوه؛ وما لا يتفق مع الكتاب يقفون منه موقف الرد وقد عمم الحنفية المخالفة التى توجب الردء سواء أكانت تخالف النص أم تخالف ظاهر النص كالعام؛ فإن الحنفية لا يخصصونه بحديث الآحاد» ويقع ذلك من المالكية أحيانا كحديث ولوغ الكلب فى الإناء فإن مالكا رضى الله عنه رده لمعارضته لظاهر القرآن فى قوله تعالى: «وما علمتم من الجوارح مكلبين»!) إن يفيد هذا النص أكل صيد الكلب؛ فلم ير مالك إمكان التوفيق بين إباحة صيده: ونجاسته,

أما الشافعى فلا يرد السنة لمخالفة ظاهر القرآن؛ بل تخضص السنةعمومه؛ ويفهم القرآن عن طريقهاء وهى بيانه وتفسيره وشرحه؛» حتى لقد عبر بعضهم عن هذا العنى بأن السئة حاكمة على القرآن: فن حيث إنها طريق تفسيره؛ والسبيل لبيانه. وأنها تقصل مجملهوتبين الناسخ من المنسوخ من القرآنء وتقيد المطلق؛ وهكذاء ولهذا يجعلهما الشافعى من حيث الاستنباط فى مرتبة واحدة. وإن كان الأصل هى القرآنء والاعتبار الأول له. إذ عن طريقه عرفت حجة السنة كما نوهنا.

4- وأن أحمد رضى الله عنه ينظر ذلك النظر. ويسير على مقتضاه: وكان ابن القيم صادق الحكاية عنه عندما اعتبر الحجة الأولى هى النصوص من غير تفرقة بين نص قرآنى ونص نبوى,

ولقد شدد أحمد رضى الله عنه فى اعتبار السنة مفسرة للقرآن؛ وأن ظاهره يخرج عليهاء أو أنه لا يكون تعارض فى الظاهر ولابد من حمل الظاهر على مقتضى السنة: واقد ألف ذلك الإمام الجليل كتاباً فى الرد على من أخذ بظاهر القرآن وترك السنة: وجاء فى مقدمة ذلك الكتاب ما نصه: «إن الله جل ثناؤه وتقدست أسمازه بعث محمداً بالهدى ودين | عق ليظهره على الدين كله. ولى كره المشركون. وأنزل عليه كتابه فيه الهدى والنور لمن اتبعه, (١)المائدة‏ 4 20

بذكن

وجعل رسوله الدال على ما أراد من ظاهره وياطنه, وخاصه وعامه؛ وناسخه ومتسوخه, وما قصد له الكتاب. فكان رسول الله هو المعبر عن كتاب الله الدال على معانيه؛ وشاهده فى ذلك أصحابه الذين ارتضاهم لنبيه, واصطفاهم له ونقلوا ذلك عنه؛ فكاثوا أعلم الثاس برسول الله. ويما أراد الله من كتابه يمشاهدتهم: وما قصد له الكتابء فكانوا المعبرين عن ذلك بعد رسول الله عَله,(0,

هذاكلام أحمد بتصه. وقد قرر فى هذا ا موضع ومواضع كثيرة مأثورة عنه أن طلب علم الكتاب يكون عن طريق السنة: وأن طلب الدين يكون عن طريق السنة, وأن السبيل المعبد لطلب فقه الإسلام وشرائعه الحق هو السنة نفسهاء وأن الذين يقتصرون على الكتاب من غير الاستعانة بالسنة فى بيانه وتعرف شرائعه يضلون سواء السبيلء ولا يهتدون إلى الحق فى دين الله؛ وذلك لأسباب كثيرة منها:

أولا: أن تصوص القرآن واردة بوجوب طاعة الرسول صلوات الله وسلامه عليه, وليست طاعته إلا باتباع سنته؛ وأن الاحتكام إنى الرسول فى حياته. وإلى المروى عنه بعد وفاته أمر ثابت فى الدينء ولذا قال تعالى: «فلاوريك لا يؤمونون حتى يحكموك فيما شجر بينهم, ثم لا يجدوا فى آنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً»!",

ثانياً: ماورد من الأحاديث التى تثبت وجوب الأخذ بالسنة, مثل قول مأْلهُ: «يوشك رجل منكم متكثاً على أريكته يحدث بحديث عنىء فيقول بينى وبينكم كتاب الله, فما وجدنا من حلال استحللناه. وما وجدنا من حرام حرمناه؛ ألا وإن ما حرم رسول الله مثل الذى حرم الله».

ثالثاً: أن الأحكام الإسلامية الكثيرة التى أجمع المسلمون على كثير منها مأخوذة من السنة. وكثير منها كان تخصيصاً لعام القرآن كتحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها فقد كان من السنة.وهى مخصصة لقوله تعالى: «وأحل لكم ما وراء ذلكم(),

وأن ابن تيمية يختار ذلك المسلك عن بينة؛ فما علم أنه رد حديثاً صحيحاً لخالفته لظاهر القرآن: أى عموم الأمور؛ بل إنه كالإمام أحمد لايرى جواز الاجتهاد مع )١(‏ كتاب ابن حنيل للمؤلف ص١١7,‏ (؟) التساء: 56 (؟) النساء: 01

ول

الحديث بالبحث عن المعارض: فإن لم يكن المعارض الذى يكون فى مثل قوته من الثبسوت لا يتركه؛ ولا يرى الأخذ بعموم القرآنء وترك الحديث الصحيح: بل يرى أنه يخصصه لأته لو أخذ بكل ما ادعى عمومه من نصوص القرآن لأهملت أحاديث كثيرة ثبتت صحتها؛ وتيلغ درجة التواتر فى معناهاء من حيث تكرر معانيها فى أكثر من رواية وسند.

وأنه إذ يوافق أحمد والشافعى فى مساكهما هذاء يخالف مسلك أبى حنيفة ومالك فى بعض أقواله عندما يردون بعض السان لمخالقته لعموم القرآن عند أبى حنيقة ومالك أحياناً: أو مخالفتهما لعمل أهل المدينة عند مالك. ويحكى كلامهم بصيغة تدل على عدم قبولها؛ بعد أن أعلن ما يقبله, وهى ألا ترد سنة ثبتت صحتها وعدم نسخها؛ فيقول: «وكثير من أهل الرأى قد يذكر كثيراً منها بشروط اشترطوهاء ومعارضات دفعوا بها ووضعوها؛ كما يرد بعضهم بعضها؛ لأنه بخلاف ظاهر القرآن فيما زعمء أ لأنها خلاف الأصولء أو قياس الأصول: أو لأى عمل متآخر وأهل المدينة على خلافه أى غير ذلك من المسائل المعروفة فى كتب الفقه والحديث وأصول الفقه».

-4١‏ وأن ابن تيمية يشدد كل التشدد فى التمسك بالسنة وجعلها حاكمة على الكتاب فيمنع الناس من أن يفسروا القرآن يآرائهم؛ وقد رأينا كيف يؤكد أن النبى لَه قد فسر القرآن كله؛ لأنه هى الذى عليه أن يبينه؛ وبيانه من أركان التبليغ» وأن الصحابة فى مجموعهم تلقوا تفسير القرأن كله وعلمه كله. سواء أكان يتعلق بالاعتقاد أم كان يتعلق بالعمل؛ فكلهم قد تلقوا كل تفسير القرآن وتخريج أحكامه. وما يجهله البعض يعرفه البعض؛ وكل يتبادل المعلوم.

وعلى ذلك يكون التفسير للنبىء ثم للصحابة الذين ألقى النبى عليهم تفسيره. ثم للتابعين الذين نلقوا ما تلقى الصحابة؛ وعلى هذا لا مجال للرأى فى فهم القرأن, كما بينا من قبل, وإذا لم يكن ثمة مجال للرأى المجرد؛ فكيف يقدم ظاهر القرآن على الحديث أو يضعف مخالفته ظاهر القرآن بمجرب الفهم الذى لا يعتمد إلا على مجرد الفهم اللغوى!! إن ذلك غير معقول فى نظر اين تيمية لا فى العقائد ولا فى الأعمال.

الإجماع

5- تكلم أبن تيمية فى الإجماع وكونه حجة تلى حجية النصوص؛ وقد قال فى اق

ذلك: «الإجماع متفق عليه بين عامة المسلمين من الفقهاء والصوفية؛ وأهل الحديث والكلام وغيرهم فى الجملة؛ وأنكره بعض أهل البدع من المعتزلة والشيعة:!(١),‏

وإن ابن تيمية إن يعتبر الإجماع من الحجج القاطعة بعد النصوص يقرر أن الإجماع المعتبر هى إجماع علماء المسلمين على حكم من الأحكام: فيقول: «معنى الإجماع أن يجتمع علماء المسلمين على حكم من الأحكامء وإذا ثبت إجماع الأمة على حكم من الأحكام لم يكن لأحد أن يخرج على إجماعهم: فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة:().

ابن تيمية يتكلم فى مسائل الإجماع فيتكلم فى دليله من الكتاب.

فيذكر أولا أن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة, لأنها خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المذكرء وأنها أمة وسطء والوسط هى الخير دائماً فيقول فى ذلك:

قال تعالى: «كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المتكر وتؤمنون بالله»(') وهذا وصف لهم بأنهم يأمرون بكل متهروف وينهون عن كل منكرء كما وصف نبيهم بذلك فى قوله تعالى: «الذى يجدونه مكتويا عندهم فى التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر»() وقال تعالىووكذلك جعلناكم أمة وسطأ لتكونوا شهداء على «الناس, ويكون الرسول عليكم شهيداً»!*) والوسط العدل الخيار(!),

ويستدل ثانياً بقوله تعالى: «ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سسبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا»(') ويقول: «الشافعي لما جرد الكلام فى أصول الفقه احتج بهذه الآية على الإجماع, فالآية دلت على أن متبع غير سبيل المؤمنين مستحق للوعيدء كما أن.مشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى مستحق للوعيد, ومعلوم أن ذلك الوصف يوجب الوعيد بمجردهء فلو لم يكن الوصف الآخر يدخل فى ذلك لكان لا فائدة له».

أى أن اتباع غير سبيل المؤمنين سبب للذم بنفسه. فهو في هذا مناظر لمشاقة

(1) الرسائل والمسائل ص١؟‏ الجزء الخامس (؟) فتاوى ابن تيمية جا ص5٠‏ 4.

() آل عمران: ٠١١‏ () الأعراف: 1١817‏ (ه) البقرة: ١67‏

(1) رسالة معارج الوصول من مجموعة الرسائل الكبرى ص5١‏ ج١ا. )١(‏ النساء: ١١١‏ دنا

الرسول؛ فليس العقاب على كليهما مجتمعينء بل على كل واحد منهما ومخالفة الإجماع اتباع غير سبيل المؤمنين فتكون مخالفة الإجماع موجبة للعقاب الشديد والذم والحرمان.

7 4- ويهذا يتبين من قوله أن الشافعى يستدل بهذه الآية على حجية الإجماع ويوافقه, ولكن جرت مناقشة حول استدلال الشاقعى يهاء وحول ققوة دلالتها على حجية الإجماع؛ أما الأول فهى أننا لم نجد الشافعى فى الرسالة احتج لثبوت الإجماع بهذه الآية, بل احتج بالحديث المروى عن سليمان بن يسار أن عمر بن الخطاب خطب بالجابية فقال: «إن رسول الله مله قام فينا كمقامى فيكمء فقال: «أكرموا أصحابى: ثم الذين يلونهم: ثم الذين يلونهم؛ ثم يظهر الكذب؛ حتى إن الرجل ليحلف ولا يستحلف, ويشهد ولا يستشهد, ألا فمن سره بحبحة الجنة؛ فليلزم الجماعة, فإن الشيطان مع الفذء وهى من الاثنين أبعد» ولا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهماء ومن سرثه حسنته, وساءته سيئته فهو مؤمن».

ويقول فى ذلك رضى الله عنه: «من قال بما تقول به جساعة المسلمين فقد لزم جماعتهم؛ ومن خالف ما تقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم التى أمر بلزومهاء وإنما تكون الغفلة فى الفرقة, فأما الجماعة فلا يمكن فيها كافة غفلة عن معنى كتاب وسنة, ولا قياس إن شاء الله تعالى» وترى أنه استدل فى الرسالة التى دون فيها أصوله بالحديث

وأكن مع ذلك نسب إلى الإمام الشافعى أنه استدل بالآية التى ذكرها اين تيمية وقد ذكر ذلك الفخر الرازى عنه فقد قال فى التفسير الكبير ما نصه: «روى أن الشافعى سثل عن أية فى كتاب الله تعالى تدل على أن الإجماع حجة: فقراً القرآن ثلاثمائة مرةء حتى وجد هذه الآية أى «ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين»(١)‏ وتقرير الاستدلال أن اتباع غير سبيل المؤمتين حرام فوجب أن يكون اتباع سبيل المؤمنين واجبأء بيان المقدمة الأولى أنه تعالى ألحق الوميد بمن يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين» ومشاقة الرسول وحدها موجبة لهذا الوعيد, فلى لم يكن اتباع غير سبيل المؤمنين موجباً لكان ذلك ضمعاً لما لا أثر له فى الوعيد إلى ما هو مستقل باقتضماء ذلك الوعيد؛ وأنه غير جائزء فثبت أن اتباع غير سبيل المؤمنين حرام: وإذا ثبت هذا لزم أن يكون اتباع سبيلهم واجباء وذلك لأن عدم اتباع سبيل المؤمنين يصدق عليه اتباع لغير سبيل المؤمنين,

مان

فإذا كان اتباع غير سبيل المؤمنين حراماً لزم أن يكون عدم اتباع سبيل المؤمنين حراماً, وإذا كان عدم اتباعهم حراماً كان اتباعهم واجباً».

وأقد استدل قبل الفخر الرازى بهذه الآية على حجية الإجماع الزمخشرى وغيره. ولكن خالقهم كثيرون من الأصول؛ وقالوا إن الذم على الاثنين على مشاقة الرسول وها ترتب عليه, وهى اتياع غير سبيل المؤمنين, أو كان الذم فقط على مشاقة الرسول بالأصلء والثانى لازم له؛ فلااصلة لهذا بالإجماع؛ ولأنها قى ذم مشاقة الرسول نفسه.

وقد اختار الغزالى فى المستصفى كون الآية لا تدل على حجية الإجماع ولا صلة لها بذلك. فقد قال الغزالى فى هذه الآية وغيرها من الآيات التى تساق للاحتجاج بها فى هذا المقام:

«وهذه كلها ظواهر نصوص لا تنص على الغرض, بل لا تدل أيضاً دلالة الظواهر, وأقواها قوله تعالى: «ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ويتيع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى» ونصله جهنم. وساءت مصيرأً» فإن ذلك يوجب اتباع سبيل المؤمنينء وهذا ما تمسك به الشافعىء وقد أطنبنا فى كتاب تهذيب الأصول فى توجيه الأسئلة على الأدلة ودفعهاء والذى نراه أنها ليست نصاً فى الغرض» بل الظاهر أن المراد بها أن من يقابل الرسول ويشاقه ويتبع غير سبيل المؤمنين ومشايعته ونصرته ودقع الأعداء نوله ما تولى» فكأنه لم يكنف بترك المشاقة؛ حتى تنضم إليها متابعة سبيل المؤمنين فى نصرته والقرب منهء والاتقياد فيما يأمر وينهى؛ وهذا هى ظاهر السياق, فإن لم يكن ظاهراً فهو محتمل»,

5- ومهما يكن من الأمر فقد الختار ابن تيمية هذه الآية للاستدلال وارتضاها دليلا؛ وهو يقرر الإجماع طريقاً من طرق الاستنباط؛ رحجة من حججه؛ وأكنه يرى أن الإجماع لابد أن يكون له سند من حديث صحيعح قد اعتمد عليه ووجود الإجماع دليل وجود حديث علمه بعض المجتمعينء وإن لم يعلمه كلهم ولكنه مع هذا لايصح أن يخالف الإجماع حديثاً صحيحاً؛ لأنه بعده ووراءه فلا يصح أن يرد حذيث لأجل الإجماع؛ ويقول فى ضرورة تص يعتمد عليه الإجماع: «نحن لا نشترط أن يكونوا كلهم علموا النصء فنقلوه با معنى, كما تنقل الأخبارء لكن استقرأنا موارد الإجماع فوجدناها كلها منصوصة: وكثير من العلماء لم يعلم النص: وقد وافق الجماعة, كما أنه قد يحتج بقياس؛ وفيها إجماع لم يعلمه فيوافق الإجماع؛ وكما يكون فى المسألة نص خاص وقد استدل فيها بعموم»(). (1) معارج الوصول سن ؟؟؟ جا من مجدوح الرسائل الكبرى:

بذكا

فابن تيمية ينتهى بأنه لا إجماع إلا إذا كان شمة نص يعتمد عليه, ويذكر مسائل كثيرة ادعى فيها أنها تثبت بالإجماع المجرد؛ والواقع أنها قد وردت فى السنة واتعقد الإجماع عليها من بعد ذلك, ومن هذا المضاربة ويقول فيها: وقد كان بعض الناس يذكر مسائل فيها إجماع بلانصء كالمضارية: وليس كذلكء بل المضاربة كانت مشهورة بينهم فى الجاهلية» ولأ سيما قريش» فإن الأغلب عليهم كان التجارة وكان أصحاب الأموال يدفعونها إلى العمال. ورسول الله مه قد سافر بمال غيره قبل النبوةء كما سافر بمال خديجة. والعير التى كان فيها أبى سفيان كان أكثرها مضارية مع أبى سفيان وغيرهء فلما جاء الإسلام أقرها رسول الله مله وكان أصحابه يسافرون بمال غيرهم مضارية, ولم ينه عن ذلك والسنة قوله عله وفعله وإقراره؛ فلما أقرها كانت ثابتة بالسنة, والأثر المشهور فيما رواه مالك عن عمر فى الموطاء فإنه لما أرسل أبى موسى الأشعرى بمال أقرضه لابنيه» واتجرا فيه وريحاء وطلب عمر أن يأخذ الربح كله للمسلمين؛ لكونه خصهما بذلك دون سائر الجيشء فقال أحدهما لى خسر المال كان عليناء فكيف يكون لك الربح وعلينا الضمانء فقال بعض الصحابة: اجعله مضارية فجعله مضاربة؛ وإنما قال ذلك لأن المضاربة كانت معروفة بينهم, والعهد بالرسول قريب ولم يحدث بعدهء فعلم أنها كانت معروفة بينهم على عهد الرسولء كما كانت الفلاحة وغيرها من الصناعات كالخياطة والجزارة» وعلى هذا فالمسائل المجمع عليها قد تكون طائفة من المجتهدين لم يعرفوا فيها نصاً فقالوا فيها باجتهاد بالرأى الموافق للنص لكن كان النص عند غيرهم, وطائقة يقولون لا ينعقد الإجماع إلا عن نص نقلوه عن الرسول مع قولهم بصحة القياس»(),

ومن هذا يستفاد أن ابن تيمية يرى أن الإجماع لابد أن يبنى على نص» فسنده يتعين أن يكون نصاء ولا يكون قياساء وأن ذاك نظر صائب, لأن القياس إذا كانت علته واضحة جلية إلى درجة أنه لا يجرى فيه خلاف» فإنه تكون العلة منصوصا عليهاء أو تكون واضحة بيئة من النص كالمنصوص عليه, فيكون سند الإجماع فى الجملة نصا.

أما إذا كانت علة القياس خفية لا تعلم إلا بالنظر والاستنباط: والسبر والتقسيم, والترديد بين الأوصاف وأوجه تأثيرهاء واستخراج أقواها تأثيرا وأوثقها اتصالا بالحكم؛

)١(‏ الكتاب المذكور. 4

فإن الاتفاق يندر أن يحصل على وجه القياس والوصف الذى يعتير علة فيتفق عليه الفقهاء فى جيل من الأجيال فى كل الأقاليم والأمصار. ْ

6 ولا يعتبر ابن تيمية الإجماع دليلا على النص وحكاية له بحيث يعارض نصا معروفا؛ وعلى ذلك لا يرى إجماع أهل المدينة دليلا على الأثر عندهم كما قال ربيعة الرأى, وكما قال مالك رضى الله عنهماء وإن ذلك هو نظر الشافعى رضى الله عنه. ولذا يقول الشافعى فى الرسالة فى باب الإجماع, فى إجماع الصحابة أنفسهم؛ «ما اجتمعوا عليه فذكروا أنه حكاية عن رسول الله مه فكما قالواء وأما ما لم يحكوه فاحتمل أن يكونوا قالوا حكاية عن رسول الله مله واحتمل غيره ولا يجوز أن نعده له حكاية؛ لأنه لا يجوز أن يحكى إلا مسموعاء ولا يجوز أن نحكى شيئًا يتوهم؛ ويمكن فيه غير مأ قال فكنا نقول بما قالوا به اتباعا لهمء ونعلم أنه إذا كانت سان رسول الله عله لا تعزب عن عامتهم قد تعزب عن بعضهمء ونعلم أن عامتهم لا تجتمع على خلاف سنة رسول الله. ولا على خطأ إن شاء الله»,

71- وإذا كان ابن تيمية لا يرى إجماعاً إلا مبنياً على بيان من الرسول وأنه لا يكون يذاته حكاية عن النقل بطريق التلازم؛ فإن السماع لا يثبت إلا بسماع فما قيمة الإجماع فى الاحتجاج؟.

يقرر ابن تيمية أنه إذا انعقد الإجماع يكون هو بذاته حجة. ولا تتحرى السنة التى أعتمد عليهاء ويكون دليلا آخر أعطى النص قرة المجمع عليه الذى لا خلاف فيه ويقول فى ذلك: دولا توجد قط مساألة مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول عليه الصلاة والسلام ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناسء ويعلم الإجماع فيستدل به كما أنه يستدل بالنص هن لم يعرف دلالة النصء وكذلك الإجماع دليل أخر كما يقال قد دل على ذلك الكتاب والسئة والإجماع: وكل هذه الأصول تدل على الحق مع تلازمها؛ فإن ما دل عليه الإجماغ فقد دل عليه الكتاب والسنة, وما دل عليه القرآن فعن الرسول أخذ('), فالكتاب والسنة كلاهما مأخوذ عنه. ولا توجد مسألة يتفق عليها الإجماع إلا وفيها نص»!"). )1١(‏ ذلك سير على منهاجه فى فهم القرآن. وهى أنه لا يؤخذ إلا عن الرسولء ولا يؤْخذ بالعقل المجرد.

(1) الفتاوى جا ص" ١؟.‏ 14

4 والإجماع فى نظر ابن تيمية كما بينا فى صصدر كلامنا هى إجماع العلماء فى عصر من العصورء ولا يكتفى باجماع جمع من العلماء دون غيرهم؛ فلا إجماع إلا إذا ثبت أن كل علماء العصر قالوا مثل القول الذى ادعى فيه الإجماعء ولا إجماع إن لم يكن ذلك ويرد قول الذين يدعون الإجماع حيث يكون خلاف فيقول: «ولكن كثيراً من المسائل يظن بعض الناس فيها إجماعاء ولا يكون الأمر كذلك. بل يكون القول الآخر أرجح فى الكتاب والسنة, وأما أقوال بعض الأمة كالفقهاء الأربعة وغيرهم فليس حجة لازمة ولا إجماعا باتفاق المسلمينء بل قد ثيت عنهم رضى الله عنهم أنهم نهوا الناس عن تقليدهم, وأسروا إذا رأوا قنولا فى الكشاب والسنة أقوى من قولهم أن يالخذوا بما دل عليه الكتاب والسنة؛ ويدعوا أقوالهم؛ ولهذا كان الأكابر من أتباع الأئمة لا يزالون إذا ظهر لهم دلالة الكتاب والسنة على ما يخالف قول متبوعيهم اتبعوا ذلك:!') ويسوق بعد ذلك أمثلة مما خالف فيه الأئمة الأربعة, كمخالفته لهم فى مدة السفر الذى تقصر فيه الصلاة: ويباح فيه الإفطار فى رمضان؛ فإذه يسم الرخصة فى كل ما يسمى سفرا غير مقيد بزمن: ولا بمسافة, وكمخالفته لهم فى أن الطلاق البدعى لا يقع» وأن الطلاق الثلاث تقع به واحدة: إلى آخر ما سقنا من مسائل اجتهد فيها وكان موضوعها الطلاق.

4- وإذا كان ابن تيسية قد اششرط فى الإجماع أن يقول كل علماء العالم الإسلامى مقالة واحدة فى أمر من الأمور, وأن الإجماع يكون أساسه بلا شك هى معرفة رأى كل عالم؛ وهذه هى المرتبة الكاملة والأولى من الإجماع فى الفقه الحنبلى؛ قإن الإجماع فى المذه. الحنبلى له مرتبتان ذكرهما ابن القيم تلميذ ابن تيمية الذى قام على تركته العلمية فبينها ونظمها وأعلنها الناس,

(أولى المرتبتين) وهى العليا هى الإجماع الذى يجتمع عليه العلماء أجمعون, وهى التى ذكرها ابن تيمية دون سواهاء وهى التى لا تعتمد مسائله إلا على نص عند ابن تيمية.

(والمرتبة الثانية) أن يعلم رأى ويشتهر ولا يعلم له مخالف قط؛ فهذه المرتبة هى الثانية من الإجماغ إن صح أن تسمى إجماعا يعتبر فى الاحتجاج دون المرتبة السابقة؛ وهى فوق القياسء ويظهر أنها تجوز ألا تعتمد على نص, وتعتمد على القياسء وقد ساق ابن القيم أمثلة فى هذاء فقال:

)١(‏ الفثارى جا ص".؟. و

«ومن القياس المجمع عليه صيد ما عدا الكلب من الجوارح قياسا على الكلاب» يقول تعالى: «وما علمتم من الجوارح مكلبين»!١)‏ وقال تعالى: «والذين يرمون المحصناتء(!) فدخل فى ذلك المحصنون, وكذا قوله تعالى فى الإماء «فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب»!') قدخل العبد قياسا عند الجمهور إلا من شذء وأجمعوا على توريث البنتين الثلثين قياسا على الاختين!').

4- وإن تشديد ابن تيمية فى ضرورة أن يكون الإجماع منشؤه إجماع كل علماء الإسلام على رأى واحد فى مسألة بعينها ينتهى به إلى أن المسألة المجمع عليها قليلة وأيست كثيرة؛ ويستنكر قول الذين يقولون إن أكثر مسائل الإسلام المستند فيها الإجماع؛ بل يرى أن الإجماع فى أقلهاء وفى عصر واحد من عصورالإسلام هو الذى كان فيه الإجماع: ويقول فى معارج الوصول: من قال من ال متأخرين أن الإجماع مستند معظم الشريعة فقد أخبر عن حاله؛ فإنه لنقص معرفته بالكتاب والسنة احتاج إلى ذلك وهذا كقولهم أن أكثر الحوادث يحتاج فيها إلى القياس تعدم دلالة النصوص عليهاء فإن هذا قول من لا معرفه له بالكتاب والسنة ودلالتهما على الأحكام: وقد قال الإمام أحمد أنه ما من مسالة إلا وقد تكلم فيها الصحابة أو فى نظيرهاء فإنه لما فتحث البلاد وانتشر الإسلام حدثت جميع أجناس الأعمال» فتكلموا فيها بالكتاب والسنة, وإنما تكلم بعضهم بالرأى فى مسألة قليلة: والإجماع لم يكن يحتج به عامتهم: ولا يحتاجون إليه؛ إذهم آهل الإجماع فلا إجماع قبلهم؛ لكن 1 جاء التابعون كتب عمر إلى شريع: «اقض بما فى كتاب الله. فإن لم تجد فبما فى سنة رسول الله لله فإن لم تجد فبما قضى به الصالحون قبلك» وفى رواية «فبما أجمع عليه الناس» وعمر قال قدم الكتابء ثم السنة, وكذئك قال ابن مسعود قدم الكتاب ثم السنة ثم الإجماع»!",

)١( |‏ هذه المسائل الأربع أوافق على انعقاد الإجماع عليهاء ولكن أساسه النص لا القياس فقوله تعالى مكلبين تشمل كل جارحة من جوارح الصيد, فيطلق لغة على كل حيوان مفترس اسم كلب: ومن ذلك أن النبى نه قال: «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك» فقتله أسد فاعتبروا ذلك إجابة لدعوة النيى» وذكر أحد الصنفين الذكر أو الأنثى فى حكم هو ذكر للآخر فذكر المحصنات والإماء ذكر للمحصنين والعبيد, ما دامت الأنوثة ليست سبب العقوبة, وميراث البنتين للثلثين ثيت بدلالة النص لا بالقياس, لأنه إذا كانت الأختان تأخذان الثلكين وقرابتهما دون قرابة البنتين: فئولى أن تأخذهها البنتان: فكان ذلك بدلالة النص أو الأولى لا القياس. (1) ص4 ؟, '

لفن

-٠‏ ولصعوية وجود الإجماع بالمعنى السابق قرر ابن تيمية أن الإجماع لم يعلم أنه انعقد إلا فى عهد الصحاية؛ فإجماعهم وحدهم هو المعروف, وكل دعوى للإجماع من بعدهم متقوضة بوجود المخالفء ويقول فى ذلك: دلكن المعلوم منه (أى من الإجماع) هو ما كان عليه الصحاية. وأما ما بعد ذلك فتعذر العلم به غالباء ولهذا اختلف أهل العلم فيما ذكر من الإجماعات الحادثة بعد الصحابة» واختلف فى مسائل منه كإجماع التابعين على أحد قولى الصحابىء والإجماع الذى لم ينقض عصر أهله حتى خالفهم يعضهم, والإجماع السكوتى وغيرذلك».

وهكذا نرى ابن تيمية يقرر أنه لايعلم أن إجماعا قد وقع إلا فى عصر الصحابة؛ وهذا يستفاد منه أمرانء أولهما: أن الإجماع حجة شرعية مقررة: وأنه ممكن الوقوع وليس بمستحيل الوقوع؛ لأنه لم ينف إمكان الوقوع؛ بل نفى فقط الوقوع. ثانيهما: أته لا يرى إجماعا قد وقع فعلا إلا إجماع الصحابة قبل أن يتفرقوا فى الأمصار ويتقرق معهم علم الرسول» واجتهاد الصحابة الأولين وكل إجماع يدعى بعد إجماعهم موضع خلاف.

وأنه بهذا يتلاقى مع الشافعى الذى كان يرى أن الإجماع لم ينعقد إلا فى أصول الفرائض التى أجمع عليها الصحابة فى النقل عن النبى طله.

-١‏ وابن تيمية يرى أنه فى ترتيب الاستدلال ينظر إلى الكتاب أولاء ثم السنة ثانيا ثم الإجماع ثالثاء وإن كانت السنة فى الجملة متلاقية مع الكتاب: أى هى التى تفسره وتشرحه. ولا يفهم ولا يتبين إلا من طريقهاء وهى فيها يذكر أن ذلك مسلك عمر رضى الله عنه. وعبد الله بن مسعودء وأنه لم يتجائف عن طريقهماء ولا يصح لمسلم أن يقدم الإجماع على النصء وإلا كان واضعا للفرع فى موضع الأصلء وللاصل فى موضعع الفرع؛ ولكن وجد من المتأخرين المقلدين أو المجتهدين فى المذاهب من جعل المسائل يبحث أولا فيها أهى موضوع إجماع أم لاء فإن وجدها موضع إجماع لا يتجاوزه من بعد ولى قامت السنة تنادى مشيرة معلمة بمكانها؛ وقد تكون المسألة التى ادعى الإجماع فيها موضع خلاف طويل, وأكنه يجهله واقتصر فى علمه على الفقهاء الأربعة ومن يقاريهم غير متقص الأمر وراء ذلك؛ وقد ناقش ابن تيمية هذه القضية, وقال فى ذلك:

«كان ابن عباس يقتى بما فى السنة؛ ثم بسنة أبى بكر وعمر لقوله مَله: «اقتدوا 1

بالذين من بعدى أبى بكر وعمر»» وهذه الآثار ثابثة عن عمر وابن مسعود وابن عباسء وهم أشهر الصحابة بالفتيا والقضاءء وهذا هى الصوابء ولكن طائفة من المتأخرين قالوا يبدأ المجتهد بأن ينظر أولا فى الإجماع؛ فإن وجده لم يلتفت إلى غيره؛ وإن وجد نصا خالفه اعتقد أنه منسوخ بنص لم يبلفه, وقال بعضهم الإجماع نسخه؛ والصواب طريقة السلف».

- وثرى من هذا أن ابن تيمية يرى أن طريقة السلف هى تئخير الإجماع عن النصوص فإن عارض الإجماع نصا ول خبر أحاد قدم على الإجماع؛ ويحكم بأن ذلك كان مسلك المتقدمين وبعض المتأخرين: أما البعض الآخر من المتأخرين فيقدم الإجماع على النصوص حتى القرآن؛ وهم فريقان, أحدهما: يقرر أنه إذا علم نصا يخالف الإجماع, فلابد أن يكون ذلك النص قد نسخ بنص مثله؛ وأذا كان الإجماع على النص الناسخ؛ وفريق آخر يرى أن الإجماع نفسه قد نسخ ذلك النص؛ وابن تيمية يرد الأمرين ويرى فيهما قلبا للأوضاع؛فوق أن سلوك مسلك تقديم الإجماع على النصوص خطر فى تعرف الحق؛ ذلك بأن الإجماع معرفته ليست ميسرة معبدة, فقد يزعم المجتهد أن الإجماع قد انعقد, والإجماع لم ينعقد؛ وما ادعيت قضية انعقاد الإجماع فى مسالة إلا وتبين أن فيها خلافاء حتى قال الشافعى فى إحدى مناظراته:

«اجتمع الناس على أنه لم يكن إجماع إلا فى أصول الفرائض» فكيف يترك الأمر الواضع البين وهو النص ويبحث عن أمر محتمل لا قطع فيه؟ ولا يمكن الوصول إليه بعد الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عنهم»

أما رد ابن تيمية الخاص على الزعم الأول وهى ادعاء نسخ النص بنص آخر غير معلوم إذا خالف الإجماع فيقول فيه «إن الإجماع إذا خالفه نص معروف فلابد أن يكون مع الإجماع نص معروف, عليه ينعقد الإجماع وبمدلوله أفتى المجتمعون؛ وعلى ذلك يكون الذى نسخ النص نص أخرء ولا يصح أن يفرض أن النص المجمع على دلالته وسلامته مجهول والآخر معروفء لأن معنى ذلك حينئذ أن الأمة قد ضيعت النص المحكم؛ وحفظت النص المنسوئ ولا يصح أن ينسب إلى الأمة مجتمعة أنها حفظت ما نهيت عن اتباعه؛ وأضاعت ما أمرت باتباعه»(').

نض

ووجه رده الخاص لقول من زعم أن الإجماع نفسه هو الذى يعد ناسخا أنه يقرر أن ذلك مخالف كل المخالفة لقواعد النسخ, لأن الكتاب لا ينسخه إلا كتاب والسنة لا ينسخها إلا سنة؛ فكيف ينسخ واحد منهما ما ليس منهما؛ إن الناسخ يقضى على المنسوخ؛ ويحكم فيه, فكيف يقضى فى القرآن ما ليس قرأناء وكيف يقضى فى السنة ما ليس سنة, وإن أحدا من علماء الأصول لم يفرضى التمارض بين الأدلة إلا فى معارضة القرآن للقرآن, أو السنة للسنة, أوأحدههما للآخر أو القياس مع النص» وم يذكروا معارضة بين إجماع وواحد منهما حتى يعد بذاته ناسخا لواحد منهما؛ وينتهى ابن تيسية من هذه الدراسة الدقيقة المحكمة إلى قضية صحيحة صادقة كل الصدق. وهى أن الإجماع الصحيح لا يعارض كتابا ولاسنة.

وعلى ذلك فمن يتوهم معارضة بين نص وإجماع فمنشؤه أنه توهم الإجماع أو ظنه ولا إجماع: وألله سبحانه أعلم بالصواب.

القيا

47- لابن تيمية رسالة قيمة فى القياس؛ تصدى فيها لبيان القياس الحقء والقياس الباطل» ووسع أفق ا معنى قى القياسء وربطه بمصالح الناس ومقاصد الشريعة ونصوصها ربطا محكما دقيقاء فلم يكن بحثا فقهيا نظريا فقطء بل تصدى فيه لعلاج مشاكل فى معاملات الناسء وتخريجها على أحكام الشريعة تخريجا لا يرهق الثاسء ولا يذهب بلب الشريعة ومرماهاء وقد استعرض فى هذه الرسالة مقود! كثيرة كان الفقهاء يقررون أنها عقود غير قياسية» وأنها ثبتت على وجه الاستحسان: ألجات إليها الحاجة أى الضرورة كعقود الإجارة والمزارعة؛ والمضارية وغيرهاء فأثبت ابن تيمية بمقتضى قوانينه التى استخرجها هن معانى الشريعة ونصوصها أنها عقود قياسية.

414- يعرف ابن تيمية القياس تعريف الفقهاء واكثه يرى مع هذا التعريف أن القياس لفظ مجمل يدخل فيه القياس الصحيح. أو القياس غير الصحيع. فيقول: «القياس هو الذى وردت به الشريعة؛ وهى الجمع بين المتماثكين. والتفريق بين المختلفين» ويسمى الأول قياس الطردء لأنه يحكم فى النظائر بحكم واحد . فيطرد الحكم فى المتشابهات»: ويسمى الثانى قياس العكس, لأنه يحكم فى النقيض بغير حكم نقيضه. وهذا ما يقوله الفقهاء أن العلة الفقهية تعمل طردا وعكساء أى أنها إن وجدت أنتجت الحكم؛ وإن لم توجد كان الحكم

خلافه. ان

والقياس القاسد هو الذى لا يتحقق فيه التماثل فى العلة, أى لا يتحقق فيه الافتراق فى علة الحكم: أى توجد العلة: ولكن يوجد المعارض المانع من استمرار الحكم كالاصل.

ويقرر ابن تيمية أن القياس الصحيح من العدل الذى بعث الله به رسوله, لأن التفريق بين المتماثلين من غير معارض فى أحدهما ظلم فى الأحكام, وبين الأاشخاص؛ وفى الأمور كلها ؛ ومثل ذلك التسوية حيث تكون أسباب التفريق قائمة؛ فكما أن من الظلم التفريق بين المتمالين؛ فمن الظلم التسوية بين المفترقين فى أسياب الحكم.

ويفصل ابن تيمية القول بعض التفصيل فى بيان القياس الصحيع: فيقول: «القياس الصحيح مثل أن تكون العلة التى علق بها الحكم في الأصلء موجودة فى الفرع من غير معارض فى الفرع يمنع حكمهاء ومثل هذا ألقياس لا تأتى الشريعة بخلافه قط وكذلك القياس بإلغاء الفارق وهى آلا يكون بين الصورتين فرق مؤثر فى الشرعء فمثل هذا القياس لا تأتى الشريعة بخلافه. وحيث جاءت الشريعة باختصامى بعض الأنواع بحكم يفارق به نظائرهء فلايد أن يختص ذلك النوع بوصف يوجب اختصاصه بالحكم؛ ويمتع مساواته لغيره, لكن الوصف الذى اختص به قد يظهر لبعض الناسء وقد لا يظهرء وليس من شرط القياس الصحيع ا معقول أن يعلم صحته كل أحدء فمن رأى فى الشريعة شيئا مخالفا للقياس فإنما هو مخالف للقياس الذى انعقد فى نفسه. وليس هن شرط القياس الصحيح الثابت فى نفس الأمر»(!),

- ويوضمح خاصة القياس الفاسد, وهى مخالفته للنص أو القياس الصحيعح: أى مجموعة الأحكام العامة الثايتة بالأقيسة الصحيحة فيقول: «وحيث علمنا أن النص جاء بخلاف قياس- علمنا قطعا أنه قياس فاسدء بمعنى أن صورة النص امتازت عن تلك الصور التى يظن أنها مثلها بوصف أوجب تخصيص الشارع لها بذلك الحكم: فليس في الشريعة ما يخااف قياسا صحيحاء لكن فيها ما يخالف القياس الفاسد» وإن كان من الناس هن لا يعلم قسانه».

ويقرر ابن تيمية أن الشرع دائما يبطل القياس» وأن الذين يحاولون إفساد الأحكام والعقائد وأخلاق الناس يستعملون دائما الأقيسة الفاسدة: ويضرب لذلك الأمثالء فيقول: )١(‏ رسالة القياس من مجموعة الرسائل الكبرى هر)/١؟:‏ ج؟.

56

«الشرع دائما يبطل القياس الفاسد كقياس المشركين الذين قالوا إنما البيع مثل الرياء والذين قاسوا الميت على المذكىء وقالوا أتأكلون ما قثلتم ولا تأكلون ما قتل الله!! فجعلوا العلة فى الأصل كونه قتل بعمل أدمىء وقياس الذين قاسوا المسيح على أصنامهمء فقالوا: ما كانت ألهتنا تدخل النار؛ لأنها عبدت من دون الله فكذلك ينبغى أن يدخل المسيح النار, فقد قال تعالى: «ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون + وقالوا الهتنا خير أم هو ما ضريوه لك إلااجدلاء يل هم قوم خصمون»!١)‏ وهذا وجه مخاصمة ابن الزيعرى لما أنزل الله تعالى: «إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أتتم لها واردون * لى كان هؤلاء آلهة ها وردوها وكل فيها خالدون»!') فإن الخطاب للمشركين لا لأهل الكتابء والمشركون لم يعبدوا المسيح وإنما كانوا يعبدوئ الأصنام؛ والمراد بقوله وما تعبدون هو الأصنام.

وبعد أن يُضرب أمثلة على الأقيسة الفاسدة يقول: «من قال إن الشريعة تأتى بخلاف هذه الأقيسة فقد أصاب. وهذا من كمال الشريعة واشتمالها على العدل والحكمة التى بعث الله بها رسوله. ومن لم يخالف مثل هذه الأقيسة الفاسدة بل سوى بين الشيئين باشتراكهما فى أمر من الأمور لزمه أن يسوى بين كل موجودين لاشتراكهما فى مسمئ الوجود. فيسوى بين رب العالمين وبين بعض ال مخلوقين» فيكون من الذين هم بربهم يعدلون: فإن هذا من أعظم القياسالفاسد»!»,

1 - وأقد أطال ابن تيمية فى التفرقة بين القياس الصحيح والقياس الفاسد» ونور التفرقة بينها بالأمظة الكثيرة منهماء ولا تهمنا أمثة الأقيسة الفاسدة, إلا بمقدار بيان القياس الصحيح؛ واذلك نذكر طائفة من هذه الأمثة, واكن قبل أن نذكر تلك الطائفة نشير. إلى أهرين:

أولهما: أن ابن تيمية تحرى هذه التفرقة لإثيات أن الشريعة الإسلاميةكلها تعتمد على النصوص. إما بالنص أو بالحمل عليها: فالشريعة ما جاءت به النصوصء وما قيس على هذه النصوصء وأن كل ما جاء فى الشريعة الإسلامية يتفق تمام الاتفاق مع المصلحة؛ ومع الأتيسة الفقهية الصحيحة؛ فإذا كان الفقهاء قد حاولوا استخلاص طائفة من القواعد بالأقيسة على النصوص.ء والجمع بين المؤتلف منهاء وتوضيح الفروق بين المخلفة: فأمارة

)٠١‏ التخرف: لاه )١( ١‏ الأتبياء: ()) الرسالةالمذكورة ص940,744. لمانا

صدق هذه القواعد ألا يوجد أمر شرعى» أو نهى شرعى» أو إباحة قد ثبتت بالنص أو الإقرار هن الرسول يخالف هذه القواعد وتلك الأقيسة» فإن جاء قياس وخالف أمرا مقررا فى الشريعة فهو الفاسد؛ وكذلك إذا خالفت قاعدة قامت على الجمع بين الأشباه والنظائر نصا شرعيا فا مخالفة فيها لا فى النص. ولا فى الأمر الذى أقرته الشريعة.

ثانيهما: أنه لا ينظر إلى الأوصاف التى تعد عللاء النظرة المقسيدة التى ينظرها الحنفية والفقهاء القياسيون عامة؛ بل يعتبر الأوصاف المناسبة التى تعد المصلحة المشتملة عليها التى أوجبت الحكم هى العلة فى القياس؛ لأنها الباعث الحقيقى عليه.

ا - ولثبين ذلك بعض البيان: مع الإجمال:

إن الحنقية ومن نهج نهجهم يقررون أن القياس أساسه العلة. وهى الوصف الظاهر المنضبط المششرك بين الأصل والفرع, وهى الذى يؤثر فى ثبوت الحكم فى الأصلء فيثبت بمقتضاه الحكم فى الفرعء ويقرقون بين العلةء وهى ذلك الوصف المؤثرء وبين الوعصف المناسب أو الحكمة؛ ويقواون الحكمة هى الوصف ال ملائم غير المنضبط الذى تتحقق معه المصلحة التى قصد إليها الشارع من إثبات الحكم بالطلب أو المنع» أما العلة فهى الوصف الظاهر الملائم المنضبط الذى من شأنه أن يكون الحكم أثرا له. وهى فى غالب الأحوال تتلاقى مع الحكمة لأن الملامسة المشتركة بينهما هى التى اقتضت أن يكون الوصف الذى اعتبر علة هو مناط الحكم لاتضباطه. ولكن قد توجد العلة ولا توجد معها الحكمة؛ ولا يمنع ذلك من كون العلة مؤثرة, لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدماء ولم يجعل الحنفية ومن سلك طريقهم الحكم يدور مع الحكمة أى الوصف الملائم؛ لأنه غير منضبطء والأحكام ككل القه انين يجب أن تسير على قواعد منضبطة الأصل فيها المصلحة؛ وإن تخلفت فى بعض جزئياتهاء أو لم تنضح فى هذه الجزئيات: فإن ذلك لا يمنع سريانهاء ولهذا قرر الحنفية أن العلة لها عموم كعموم القوانين, فهى تثبت الحكم دائما كلما تحققت في أى أمر من الأمور, وبذلك تتقرر الأصولء وتضبط الأحكام: ويكون الحمل على النصوص الشرعية: وتعرف الأحكام القياسية» وقد تجئ أحكام شرعية بالنص ونحوه مخالفة لهذه القواعد المتجمعة من العللء فيقال حينئذ هذا الحكم مخائف للقياس» يحترم ولكن لا يقاس عليه.

4- ولكن ابن تيمية يخالف هذاء ويخالف الأصل الذى قام عليه؛ ولا يرى أن علل

بذكلا

'لأقيسة هى تلك الأوصاف المضسبوطة التى يغلب تحقق الوصف المناسب فيهاء بل إنه يتجه إلى اعتبار الوصف المناسب نفسه علة القياس أحياناء وهى إن اختلف فى بعض الجزئيات, فحيث تحةق» تحقق معه الحكم الشرعىء وما لم يتحقق يتحقق فإنه يتبع النص الشرعى؛ وعساه إن كان لا يدخل؟ وصف مناسب معين فسيدخل فى غيره لا محالة؛ لأنه ما من مصلحة شرعية إلا وهى متحققة فى النصوصء وما من حكم شرعى إلا هو مشروع لحكمة واضحة بينة عند أهل العقول المدركة المستقيمة الفاحصة؛ وإن خفيت على بعض نوى الأفهام لاتخفى على الجميع.

لقد قال الجنفية أن الأمر يكون مخالفا للقياسء أو جاء على خلاف القياس إذ! جاء مخالقا للقواعد المستتبطة التى هى الأوصاف المضبوطة التى اعتبرت علة مؤثرة فى الحكم بالإيجاد أى عدم الوجودء واكن ابن تيمية ينظر نظرا آخرء فيرى أن الحكم يكون موافقا للقياس. إذا تحقق أمر واحدء وهى موافقته للمقاصد الشرعية العامة الثى ترجع فى جملتها إلى جلب المصالح: ودقع المضسارء وأن كل ما جاء فى الشريعة من أحكام جاءت بها النصوص العامة والخاصة تتحقق فيه الصلحة والعدالة فى الكليات والجزئيات جميعا

وعلى ذلك يقرر أن الشريعة فى أحكامها كلها جملة وتفصيلا سواء أكانت بنص أم كانت بياس كلها تتفق مع ما توجبه الأقيسة السليمة التى تقوم على تحقيق المقاصد

- نظر ابن تيمية وتلميذه ابن القيم- تابعا له- إلى الوصف ال ملائم؛ أو الحكمة, واعتبروها علة القياس أحياناء والأساس الذى قام عليه. ولا يمكن أن يوجد نص إسلامى ليست له حكه” معروفة: وليست فيه مصلحة مشروعة. وإذا كانوا قد اعتبروا الوصف الملائم هى الذى يربط بين الأشباه والنظائر فى الجزء الذى يتحقق فيه. فإئه يترتب على ذلك أمران. أولهما: آن الأقيسة الشرعية تكون قريبة من مرامى الشارع؛ موضحة فى كل حكم من أحكامه. ومعينة لأغراضه فى الجزئيات والكليات؛ وبذلك يكون الفقه قريب المنحى من متعارف الناس ومصالحهم. وثانيهما: أن علل الأقيسة لا تكون عامة مضبوطة لآن الحكم ريما لا يتحّقق فى بعضى الجزئيات: فكان الحنفية يعالجونها بالاستحسان؛ وذلك بقياس آخر؛ يتحقق فيه وصف ملائم: أى حكمة أخرى تتحقق فيها المصلحة:؛ أما ابن تيمية, فهو يجعل لان

القاعدة غير شاملة إذا لم تتحقق الحكمة فى موضع, ويدخلها فى عموم حكمة أخرى غير الأولى» وبهذا نجد النظرين متقاربين غير متباعدين فى هذا الموضع؛ بيد أن ابن تيمية يقرب الفقه من المصالح ودفع المضارء ولو كانث القواعد غير مضبوطة ضبطا تأها,

أما الحثقية ومن اختار منطقهم فإنهم يضبطون القواعد الققهية ضبطا محكما بأقيسة دقيقة مضبوطة يجرونها فى كل موضمع: إلا إذا تخلفت عن المصلحة وتباعدت عن الوصف املاثم؛ فإنهم يجرون الاستثتاء بطريق الاستحسان؛ ويجعلون الاستحسان فى هذه المواضع: وأذلك يقول الذين حكوا طريقة أبى حنيقة فى الاستنباط, أنه يجرى القياس فى غير موضع النص؛ إلا إذا قبح القياس قإئه يستحسن.

- ومهما يكن أمر التقارب بين نظر ابن تيمية ونظر أبى حنيفة فى هذا المقام, فإن ابن تيمية لايمكن أن يرتضى أمرا فى الفقه الحنفى؛ وهو أنهم يجرون قواعدهم الفقهية المأخوزذة من الأوصاف ال منضبطة؛ حتى إذا! خالفها نص أفتوا بالنصء وقالوا إنه جاء على خلاف القياس؛ ولا يقاس عليه, وكأتهم بهذا يجعلون القياس سابقا للنصوص؛ وقد ترتب على هذا أن جاءوا لبعض العقود وقالوا أنها عقود .جاءت على خلاف القياسء فالإجارة والمزارعة والسلم وغيرها من العقود جاءت على خلاف القياس. ومثل ذلك الشفعة وغيرهاء فقد قالوا أن أحكامها جاءت على خلاف القياس؛ وتتبع فيها النصوص.

لم يرتض ابن تيمية ذلك المسلكء ووجد فيه قلبا للأوضاع الفقهية من ناحية النظر الفقهى المجردء وإن كان من الناحية العملية متقارباء بل يكاد يكون متلاقياء ولذلك قرر أن لا شئ فى النصوص جاء مخالفا للقياس الصحيح: وأن لا شئ. فى القياس الصحيح يخالف النصوص؛ وما خالفهاء أو توهم الققهاء المخالفة فيه, فالمغالفة سببها الخطأ فى فهم القياسء وأنهم توهموا المماثلة ولا مماثلة.

ولا يكتفى بمجرد الرد النظرىء بل يجئ إلى العقود التى ادعوا أنها مخالفة للنياس. ويثبت موافقتها القياسء: وأنقبض قيضة من هذه العقود ونعرضها وسنجد فيها عبقرية ابن تيمية فى التخريج؛ وضبط الأحكام؛ ورد الفروع إلى الأصمول والجزئيات إلى الكليات فى دقة وإحكام واستقامة تفكير؛ وينتهى إلى ضبط للأقيسة فى الجملة, وإن كان يخالف منهاج الحنقية.

لمن

(1) ولنبتدئ من هذه العقود بعقد السلم, وعقد السلم قسم من أقسام عقود البيع» وهى البيع الذى يكون فيه تسليم المبيع مؤجلاء وتسليم الثمن معجلاء ويقول الفقهاء فى تعريفه بأنه بيع آجل بعاجلء أو بيع دين بعين؛ لأن المبيع الذى صار مؤجلاء هى مال معروف بالوصف والنوع والجنس؛ والمال الذى يكون على هذا الوصف يكون دينا فى الذمة غير معين. ويقول الفقهاء أن عقد السلم جاء على خلاف القياس وأجازه النبى عل وجاء به العرفء ووجه مخالفته للقياس أن الأصل أن يكون المبيع معيناء والثمن غير معين؛ بأن يكون دينا فى الذمة وفى السلم قد انعكس الوضع؛ وأيضاً فإن المبيع غير موجود فى ملك البائع وقت العقدء ومن المقررات ألا يبيع الإنسان ها ليس عنده؛ ثم إن المبيع فى السلم غير موجود وقت العقدء والأصل أن بيع المعدوم لا يجوز؛ لهذا كله قالوا إن السلم ثبت على خلاف القياس بالاستحسان: ووجه الاستحسان أن النبى عه سوفه؛ وأن عرف العرب جرى به؛ وأن فيه فائدة للمشترى وللباد مع؛ ففائدته للمشترى الذى بيده النقود أن يدفع نقودا سيتسلم بدلها فى المستقبلء وريما استفاد كثيرا من تفاوت الأسعار عند القبض» وأن البائع أخذ نقودا انتفع بها فى تجارة رابحة:» أى صناعة منتجة: أى زراعة مغلة.

هذا ما قرره الحنفية فى عقد السلم, إذا اعتبروه عقدا ثبت استحساناء وكان مخالقا للقياس؛ ولكن ابن تيمية,يقول أنه موافق للقياس موافقة تامة: وأنه لا يخرج على أن المبيع هو المؤجل؛ بل يخرج على أن المبيع هو المعجل؛ ويكون بدل السلم حينئذ دينا ثابتا فى الذمة؛ فلم يوجد بيع معدوم؛ ولم يوجد بيع الإنسان ما ليس عنده, إذا اعتبر اليائع هو الذى يدفع النقودء ولذا يقول: «فأما السلم المؤجل. فإنه دين من الديونء وهو كالابتياع بشمن مؤجلء فأى فرق بين كون أحد العوضين مجلا فى الذمة؛ وكون العوض الآخر مؤجلا فى الذمة» وقد قال تعالى: «إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه»!) وقد قال ابن عباس أشهد أن السلف المضمون فى الذمة حلال فى كتاب الله وقرأ هذه الآية, فإباحة هذا على وفق القياسء لا على خلافه»(),

7- (ب) ومن العقود التى ذكر الفقهاء أنها جاءت على خلاف القياس الإجارة فقد قالوا إنها عقد على المنافع وهى بيع المعدوم؛ لأن المنافع وقت العقد لم تكن موجودة: ومن

145 البقرة:‎ )١( 3 ٠

القواعد المقررة أن بيع المعدوم لا يجون؛ ولكن جازت استحسانا لشدة الضرورة إليها؛ ولإجماع الناس على جوازهاء ولورود النصوص بصحتها؛ وهنا نجد ابن تيمية يخالفهم فى هذاء ويحكى قولهم, فيقول: «وأما الإجارة فالذين قالوا هى خلاف القياس قالوا إنها بيع معدوم؛ لأن المنافع معدومة حين العقد؛ وبيع المعدوم لا يجوزء ثم إن القرآن جاء بإجارة الظثر للرضاع فى قوله تعالى: «فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن»!١)‏ فقال كثيرون إن إجارة الظئر على خلاف قياس الإجارة. فإن الإجارة. عقد على منافع» وإجارة الظثر على اللبن؛ وفى من باب الأعيان لا من باب المنافع؛ ومن العجب أنه ليس فى القرآن ذكر إجارة جائزة إلا هذاء وقالوا هذه خلاف القياس»(),

ونرى من هذا أن ابن تيمية يأخذ عليهم أولا أنهم حكموا بأن الإجارة مخالفة للقياس؛ ثم يأخذ عليهم حكمهم بأن إجارة الظئر مخالفة لقياس الإجارة؛ وكأنهم فى هذا يعتبرون للإجارة قياسا قائما بذاته؛ ثم يأخذه العجب ثالثا من أن النص القرانى الواحد الذى صرح بالإجارة وصححها فى الشريعة هو إجارة الظئرء فكان عجبا أن يقواوا أن النص القرآنى الذى أثيث الإجارة جاء على خلاف قياس الإجارة. ‏ '

وابن تيمية يتصدى لبيان أن الإجارة موافقة للقياس, ويرد قول الحنفية إنها مخالفة للقياس لأنها بيع المعدوم» وبيع المعدوم باطل, فيقول: ناقولهم الإجارة بيع معدوم؛ وبيع المعدوم على خلاف القياس مقدمتان مجملتان فيهما تلبيسء فإن قولهم الإجارة بيع» إن أرادوا أنها البيع الخاص الذى يعقد على الأعيان فهو باطلء وإن أرادوا البيع العام الذى هو معاوضة دين على معينء وإما على متفعة: فقولهم فى المقدمة الثانية أن بيع المعدوم لا يجوز؛ وإنما يسلم إن سلم فى الأعيان: لا فى المنافع, ولا كان لفظ البيع يحتمل هذا وهذا تنازع الفقهاء فى الإجارة هل تنعقد بلفظ البيم»!').

75- تحليل دقيق, فهو يبطل المقدمة الثانية من حيث إن الإجارة ليست بيعا إن قصر البيع على الأعيان: يبطل المقدمة الثانية إن كان لفظ البيع مرادفا للفظ المعاوضة, بحيث يكون اللفظا شاملا للأعيان والمنافع, فيكون بيع المنافع جائزاء وإن قيل أنها غير () الطلاق: 5 20222 )١(‏ الرسالةالمذكيرةصى/|؟؟. (؟) رسالة القياس ص ة7؟.

موجودة وقت العقد,ء ويقرر أن الشارع جوز المعاوضة على المعدوم؛ وأن المنافع يجوز المعاوضة عنها بإذن من الشارعء ولى كانت غير موجودة فى الحلء ولا يصح قياس ال منافع على الأعيان من حيث إن بيع الأعيان لا يجوز إذا كانت غير موجودة, فكذلك المعاوضة على المنافع, ويقرر أن هذا القياس باطلء فيقول: «هذا القياس فى غاية الفسادء فإن من شرط القياس أن يمكن إثبات حكم الأصل فى الفرع: وهى هنا متعذرء لأن المنافع لا يمكن أن يعقد عليها فى حال وجودها('), فلا يتصور أن تباع المناقع حال وجودهاء والشارع أمر الإنسان أن يؤخر العقد على الأعيان التى لم تخلق إلى أن تخلق» فنهى عن بيع حبل الحبلة وبيع الثمر قبل بدو صملاحه؛ وعن بيع الحب حتى يشتند... وأمر بتأخير بيعه إلى أن يخلق» وهذا التفصيل وهو منع بيعه فى حال وإجازته فى حال يمتنع مثله في المنافع: فإنه لا يمكن أن تباع إلا هكذاء فما يبقى حكم الأصل مساويا لحكم القرع»!",

ونرى من هذا أن ابن تيمية يمنع القياس من أصله: لأنه قياس بين حقيقتين مختلفتين لأن الأعيان أحيانا تكون موجودة: وأحيانا تكون معدومة مرجوة الوجود: فإن كانت موجودة صع العقد لتحقق الركن من غير مانع؛ وإن كانت لم تخلق؛ وهى في طريق الوجود: لا يصح العقد عليها حتى لا يكون غرر أى مخاطرة بعارض جائحة أو نحو ذلك» والمنافع لا يتحقق فيها ذلك التفصيل؛ فهى ليست موجودة بحال يمكن العقد عليها فيها على اعتبار أنها موجودة, وأنها لا توجد إلا آنا فآناء فإما ألا يعقد على منافع قطء وإما أن يعقد عليها بنظر آخرء وبقياس يختص بها دون غيرهاء ولا تشترك فيه مع البيع من حيث وجود , المعقود عليه أى عدم وجوده.

4- ويسترسل ابن تيمية فى مناقشة القياس فى القضية مناقشة الفقيه فى القياس: العارف المدل بمعرفته ودقة أقيسته, فيفرض أنهم قاسوا المعاوضة فى المتافع على بيع المعدوم من حيث إنه معدوم: قلم يقيسوا مطلق إجارة على مطلق بيع حتى يوجد ذلك التفريق بين المعقود عليه فيهماء بل يقيسؤن الإجارة من حيث إنها عقد على معدوم على بيع المعدوم من حيث إنه عقد على معدوم: فيرى ابن تيمية ذلك الفرض بالتسليم بأصل )١(‏ أى لا يتصور العقد على المنافع حال وجودها لأنها لا تبقى زمانين: ولأتها لا توجد وقت العقد عليها بل توجد عند التمكن من الانتفاع, (؟) رسالة القياس ص؟5؟.

مع

القياس وييطل الإنتاج» فإنه يقول أن العلة فى بطلان بيع المعدوم الذى يرجى وجوده ليس كونه معدوما حتى يكون مقتضى القياس بطلان الإجارةءبل العلة كونه معدوما مرج الوجود يمكن العقد عليه حين وجودهء حتى لا تكون ثمة مخاطرة فى العقد, وفيه من الغرر ما يؤدى إلى النزاع: وهذه العلة لا تتحقق فى المنافع لأن المنافع لا يمكن أن توجد فى حال يمكن فيها العقد عليها أصلا.

ويختار أن العلة الثانية» وليست الأولى وهى العدم وحده, وعلى ذلك لا تكون الإجارة مخالفة للقياس قط وقد يقال أن العدم وحده أولى بأن يكون علة من غيره؛ فيوازن بين العلتينء فيقول فى كون العلة فى منع بيع المعدوم كونه معدوما يرجى وجوده: مأ ذكرناه علة مطردةء وما ذكرته علة متتقضصة. فإنك إذا عللت المنع بمجرد العدم انتقضت علتك ببعض الأعيان والمنافع» وإن عللته يعدم ما يمكن تأخير بيعه إلى حال وجوده؛ أو يعدم فى العقد عليه غرر طردت العلة؛ فهو يوازن بين العلتين بأن أحدهما مطردة فتصلح للتعليل. والثانية غير مطردة فلا تصلح للتعليل.

ثم يقصد إلى اللب فى الموضوع فيثبت أن الحكمة أو المناسبة تشهد للوصف الذى اختاره علة فيقول: المناسبة تشهد لهذه العلة, فإنه إذا كان له حال وجود وحال عدم كان بيعه حال العدم فيه مخاطرة وقمارء وبها علل النبى عله المنع حيث قال: «أرأيت إن منع الله الثمرة أيأخذ أحدكم مال أخيه بفير حق؟» بخلاف ما ليس له إلا حال واحدة: والغالب فيه السلامة فإن هذا ليس مخاطرة: والحاجة داعية إليه؛ ومن أصول الشرع أنه إذا تعارضت المصلحة والمفسدة قدم أرجحهماء فهى مَك إنما نهى عن بيع الفرر لا فيه من المخاطرة التى تضر بأحدهماء وفى المذع مما يحتاجون إليه من البيع ضبرر أعظم من ذلك؛ فلا يمنعهم من الضرر اليسير بوقوعهم فى الضرر الكثير بل يدفع أعظم الضررين باحتمال أدناهماء!!".

وفى هذا توجيه حسن للعلة؛ لأنه يقرر أن المضرة التى تنشأ من منع الإجارة لعدم

وجود المعقود عليه وقت العقد أكبر من المضرة التى تنش من العقدء مع أن المنافع تكون غير

موجودة وقت العقد. ولأن الضرر يكون من الغرر والمخاطرة إذا كان محل العقد غير موجود,

ولاغرر ولا مخاطرة فى الإجارة على المنافع التى توجد ساعة فساعة؛ إن الغالب فيها ءءء

السلامة إلى وقت التسليم, ولأننا لى أطلقنا الأمر فى منع كل معقود عليه غير موجود وقت العقد وشمل المنافع لكان الناس فى ضيق شديد» وحرج عظيم؛ من غير داع إليه؛ ولا يقال إن قياساصحيحا يقر ذلك الوضع؛ وأنه إن وجدت علة القياس كيفما كانت حالها من القوة فقد وجد المانع من أعمالهاء وأنه لكى تعمل يجب ألا يوجد مانع من أعمالها. وحسب ذلك الحرج والضيق مانعا؛ فإنه لا قياس يستقيم مع وجوده.

6 وإن هذه المناقشة التى حمل لواعها ابن تيمية كان الأساس فيها التسليم بأن بيع المعدوم لا يجوز؛ وقد ساير هذه المقدمة» وانتهى إلى أن النتيجة تلتوى عليها فلا تجعلها منتجة؛ وهى فى الواقع لم يسلم بصحة هذه المقدمة تسليما عن اقتناع؛ بل تسليمه كان تسليما جدلياء وقد بين أنها لا تنتج ما يدعون: وإذلك جاء بعد هذا وبين بطلان هذه المقدمة, وبذلك تنهار دعوى مخالفة الإجارة للقياس من أساسها إذا انهارت الدعامة الأولى التى تقوم عليها.

فقد أخذ يعد ذلك يناقش تلك القضية التى هى الدعامة, فذكر أنها باطلة على عمومها من وجهين: (أولهما) أنه ليس فى كتاب الله ولا سسنة رسوله؛ ولا عن أحد من الصحابة أن بيع المعدوم لا يجونء لا بلفظ عام ولا بمعنى عام وإنما فيه النهى عن بعض الأشياء التى هى معدومة؛ كما فيه النهى عن بعض الأشياء التى هى موجودة؛ وليست العلة فى المنع الوجود أو العدم, إنما العلة الغرر, لأن الذى ثبت فى الصحيع عن النبى لله أنه نهى عن بيع الفرر, والفرر قى هذا المقام ما لا يقدر على تسليمه. سواء أكان موجودا أم كان معدوماء وقد نهى عن بيع العبد الآبقء والجمل الشارد؛ ونحو ذلك مما لا يقدر على تسليمه, فشراؤه وبيعه مقامرة ومخاطرة: فإنه يشترى بأقل من قيمته حاضراء فإن عثر المشترى عليه كانت الخسارة على البائع» وإن لم يعثر عليه المشترى كانت الخسارة على المشترى. والمخاطرة والمقامرة والغرر معان متحققة ثابتة بلا شك وقت العقد, هم أن البيع موجود, ومثل ذلك بيع الثمر قبل أن ينعقد, وإن تلك المخاطرة لا تتحقق فى الإجارة.

الوجه الثانى الذى ذكره ابن تيمية لإبطال الدعوى التى تقول بمنع بيع المعدوم- هى

مأ ذكره أبن تيمية بقوله: «الشارع صصح بيع المعدوم فى بعض المواضع. فإنه ثبت عنه فى

غير وجه أنه نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه؛ ونهى عن بيع الحب حتى يشتد... فيدل 6

ذلك على أنه جوز بعد ظهور الصلاح أن يبيعه على البقاء إلى كمال الصلاح؛ وهذا مذهب جمهورالعلماء!!),

وأقد اعتبر بيعه؛ وقد بدأ صلاحه على أن يبقى فى الأرض من نوع بيع المعدوم؛ ولأنه ليس ثمرا مكتملاء ولا حبا ينتفع بهء فحقيقته وقت البيع غير الحقيقة التى قصد الانتفاع بهاء وهى التى تكون ببقائه حتى يكون منتفعا به, ولكن ألا يسوغ لنا أن نقول أن الشارع جوز بيعه يعد أن يبدو صلاحه. ويظهر ما يدل أو يغلب على الظن أنه سيكمل نضجه؛ وأن وجوده على حاله الأخيرة الكاملة المنتفع بهاء هو امتداد لوجوده الذى كان وقت العقدء فلم يكن معدوماء كمن يشترى حيوانا ولا يتسلمه إلا بعد زمن يكون قد نما نموا كبيراء فإن الحال التي آل إليها عند التسليم هى امتداد للحال التى كانث عند العقد؛ ويعتبر موجودا وقت العقد, ولم يكن معدوها.

وقد يقال إنه كان موجودا على هذا الاعتبار» وإن لم يبد صلاحه؛ لأن وجوده فى حاله الأخيرة امتداد لوجوده عند الانتفاع, ونقول فى رد ذلك مقالة أبن تيمية: إن البيع قبل بدو الصلاح فيه مخاطرة كبيرة ضررها أكبر من ضسرر المنع؛ ولكن عند بدو الصلاح تقل المخاطرةء إذ يغلب على الذهن السلامة.

1- ويهذا ينتهى ابن تيمية إلى أن دعوى مخالقة الإجارة للقياس ليس لها سند فقهى مستقيم تقوم عليه؛ وأن القياس الصحيح لا يمكن أن يخالفها.

وبقى أن نبين رأى ابن تيمية فى إجارة الظئر وقول فقهاء الحنفية وغيرهم أنه جاء على خلاف القياس المقرر فى الإجارة لأن الإجارة تعقد على المنافع» والظثر موضع العقد بالنسبة إليها هى اللبن» وهو عين؛ وليس بمنفعة: وابن تيمية لا يرى رأيهم بل يقرر أن إجارة الظئر ليس فيها مخالفة للقياس فى عمومه. ولا لقياس الإجارة فى خصوصهاء ويقول إن الذى أوقع الفقهاء الذين قالوا هذا فى قولهم اعتبارهم الإجارة معقودة على المنافع؛ وأن المنافع أعراض لا تبقى زمانين وأن اللبن ليس عرضا يفنى بمجرد تحققه, بل هو مادة تبقى زمانين بل أزماناء وأقد دفعهم ذلك إلى أن يحتالوا ليجعلوا إجارة الظائر من قبل الإجارة العامة. فقالوا إن الإجارة على إلقام الثدىء لا على ذات اللبن.

(1) رسالة القياس ص/7141,

ولقد رد ابن تيمية قولهم أن المعقود عليه فى الإجارة دائما المنافع التى تبقى زمانين» فيقرر أنه يعد من المنافع أيضا الأشياء التى توجد شيئًا فشيئا؛ أووقتا بعد وقت, فمن المنافع غلات الأراضى الزراعية: وثمرات الأشجارء وألبان الماشية: وكذلك من المنافع أيضا لبن الظئرء ويقول فى ذلك رضى الله عنه: «قول القائل أن إجارة الظئر على خلاف القياس, إنما هى لاعتقاده أن الإجارة لا تكون إلا على منافع هى أعراض ولا يستحق بها أعيان, وهذا القدر لم يدل عليه كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس: بل الذى دلت عليه الأصول أن الأعيان التى تحدث شيئا مع يقاء أصلها حكمها حكم المنافع كالثمر على الشجرء واللبن فى الحيوان: وكان بين هذا وهذأ فى الوقفء فإن الوقف تحبيس الأصل وتسهيل الفائدة فلايد أن يكون الأصل باقياء وأن تكون الفائدة تحدث مع بقاء الأصل: فيجوز أن تكون فائدة الوقف منفعة كالسكنى: ويجوز أن تكون ثمرة كوقف الشجرء ويجوز أن تكون لبنا كوقف الماشية للانتفاع بلبنها... فكذلك فى الإجارة تارة تكون فى العين المنفعة التى ليست أعياناء كالسكنى والركوب؛ وتثارة للعين التى تحدث شيئًا بعد شئ مع بقاء الأصل» والمسوغ الاجارة هُوما بينهما من القدر المشترك وهى حدوث المقضود بالعقد شيئا فشيئا. سواء أكان الحادث عينا أم منفعة؛ إذ كونه جسماء أو معنى قائما بالجسم لا أثر له فى جهة الجوان: مع اشتراكهما فى المقتضى للجوانء بل هذا أحق بالجواز: فإن الأجسام أكمل من صفاتها. ولا يمكن العقد عليها إلا كذلك»(!,

7- وابن تيمية بعد تقرير أن إجارة الظئر جاءت على وفق القياسء وأنها ليسث مخالفة له. وأن النص القرآنى الذى جوزهاء وأوجب الأجرة فيها معلل يمكن القياس عليه؛ جعل العلة تطرد فى كل ما يشبهها فإجارة الظثر تشبه إجارة الماشية لأجل اللبن الذى تدره, ويقرر أن العقد على اللبن قى الماشية صحيح: ويقول: «الماشية إذا عقد على لبنها بعوض, فتارة يشترى لبنها مع أن علفها وخدمتها على المالك. وتارة على أن ذلك على المشترى, فهذا الثانى يشبه ضمان البساتين وهو بالإجارة أشبه؛ لأن اللبن تسقيه الطفل: فيذهب فى جوفه. وينتفع به. فهى كاستئجار العين يسقى بها أرضه. بخلاف من يقبض اللبن فإنه هنا قبض العين المعقود عليهاء ويسمى هذا بيعاء",

)١(‏ رسالة القياس ص؟0؟. (1) الرسالة المذكورة ص507؟. عع

ونرى من هذا أن ابن تيمية يعتبر الاتفاق على الانتفاع بلبن الماشية وقتا معلوه) بأجر معلوم هو من قنبيل الإجارة, وهى يشبه إجارة الظئر وإجارة البستان» واجارة عين ماء لسقى أرضه؛ إلى غير ذلك من الإجارات التى تكون منفعتها أعيانا تجئ أنا بعد آن, ولا شك أن فى ذلك تيسيرا على الناس وسيرا على مقتضى أعرافهم من غير ضرر ولا ضرار» ومن غير غرر ولا قمار.

4- (ج) ومن العقود المتى قال الفقهاء أنها جاءت على خلاف القياس ااضارية والمزارعة والمساقاةء فالمضاربة أن يدفع رب المال ماله لآخر يعمل فيه على أن يكون الربح بينهما يحصص شائعة كالنصف, والمزارعة دفع الأرض لمن يزرعها على أن يكون الزندرع بينهما بحصص شائعة أيضاء والمساقاة دفع الشجر لمن يصلحه على أن يكون الثمن بينهما بحصص شائعة كذلك.

وقد قالوا إن هذه العقود على خلاف القياس لأنها من نوع الإجارة: والأجرة ليست معلومةء مع أن شرط صحة الإجارة أن تكون الأجرة معلومة بالمقدار وقت العقدء وهنا ليست ثمة أجرة معلومة؛ بل حصة شائعة فى ريح أى زرع أى ثمرء وهى غير معلوم المقدار» وريس لا يأتى ربح قط ولا تننج الأرض شيئاء ولا يخرج ثمر من الشجر.

وهنا يقول ابن تيمية إن هذه العقود قياسية؛ لأن الشارع قد ورد بها جميعا؛ وقد ثبتت بالسنة لإقرار النبى مه لهاء ووجه أنها قياسية عند ابن تيمية أنها عقود شركة لا عقود إجارة:؛ وإن ذاك بلا شك يجعلها قياسية؛ إن أنه قد اشترك اثنان فى ثمرة تجارة؛ أو فى نتاج زراعة؛ أو فى ثمر شجرء وانترك الكلمة لابن تيمية فإنه يقول؛ «قالوا المضاربة والمساقاة والمزارعة على خلاف القياس» ظنوا أن هذه العقود من جنس الإجارة. لأنها عمل بعوض, والإجارة يشترط فيها العام بالعوض؛ والمعوضء فلما رأوا العمل فى هذه العقود غير معلوم: والريح فيها غير معلوم: قالوا تخالف القياس» وهذا من خلطهم؛ فإن هذه العقود من جنس المشاركات:؛ لاامن جنس ا معاوضات الخاصة التى يشترط فيها العلم بالعوضين, والمشاركات جنس غير جئس ال معاوضات, وإن قيل أن فيها شوب معاوضة: وكذلك المقاسمة جنس غير جنس المعاوضة الخاصة وإن كان فيها شوب معاوضة؛ حتى ظن بعض الققهاء أنها بيع يشترط فيه شروط البيع الخاص». 0 لا

4- ومن الإنصاف أن نقول أن الحنفية مع تقريرهم أن هذه عقود غير قياسية يقاربون ابن تيمية فى تخريجها أو يتحدون معه فى بعضهاء فالمضاربة تكون شركة, ويضعونها فى أبواب الشركات ويقولون عنها شركة المضاربة. وهى لا تأخذ حكم الإجارة إلا إذا فسدت. فإتها إذا فسدت يكون للعامل أجرة مثله؛ ويكون الربح كله لصاحب رأس المال» ويكون تصرف العامل فى المال بالبيع والشراء باعتباره وكيلاء كما هى الشأن فى شركات العقود» لأنها تتضمن الوكالة. '

أما المزارعة والمساقاة, فقد قرر فقهاء الحنفية أنها تأخذ حكم الإجارة ابتداء؛ وإن لم تكن على مقتضى قياس الإجارة, وتأخذ حكم الشركة فى الزرع عند الإنتاج فتكون فى الانتهاء شركة, ومثلها المساقاة, ويقال لها أيضا المعاملة.

- وإن ابن تيمية لا يكتفى بأن يشير إلى أن هذه العقود من قبيل المشاركات» بل يضع قاعدة محكمة مميزة للعقود الواردة على العمل؛ فيقسم العمل إلى ثلاثة أقسام:

-١‏ أولها عمل متميز معلوم مقصود مقدورء فتقدر المكافأة عليه تقديرا بيناء والعقد الوارد على هذا النوع من الأعمال عقد إجارة صحيحة بينة. والقسم الثانى عقد على عمل غير معلوم المقدار, ولا معلوم النتيجة, ويسمى العقد عليه جعالة إذا كان له جعل معلوم مقدورء ومن هذا النوع أيضا عمل الطبيب لشفاء المريض, والقسم الثالث مالا يقصد به العمل, بل يقصد به الماله ومن هذا القسم المضاربة والمزارعة والمساقاة, وهذا لا تتعين المكافأة للعمل: بل لمقدار الناتج, وهو غير معلوم: فكان التعيين بالمصص الشائعة: وانترك الكلمة له ليحرر هذه المعانى بقلمه:

«وإيضاح هذا أن العمل الذى يقصد به امال ثلاثة أنواع (أحدها) أن يكون العمل مقصودا معلوما مقدورا على تسليمه؛ فهذه الإجارة اللازمة: (والثانى) أن يكون العمل مقصودا لكنه مجهول أو غررء فهذه الجعالة» وهى عقد جائز ليس بلازم؛ فإذا قال: من رد عبدى الآبق فله مائة» فقد يقدر على ردهء وقد لا يقدر على رده؛ وقد يرده من مكان قريب» وقد يرده من مكان بعيد» فلهذا لم تكن لازمة لكن هى جائزة: فإن عمل هذا العمل استحق الجعل, وإلا فلا؛ ويجوز أن يكون الجعل فيها جزءا شائعاء ومجهولا جهالة لا تمنع التسليم, مثل أن يقول أمير الغزى: من دل على حصن فله ثلث ما فيه... ومن هذا الباب إذا جعل للطبيب جعلا على شقاء المريض جاز.

م

ولى استآجر طبيبا إجارة لازمة على الشفاء لم يجز؛ لأن الشفاء غير مقدور, فقديشفيه الله وقد لا يشفيه؛ وهذا ونحوه مما تجوز الجعالة فيه».

«وأما النوع التالث فهوما لا يقصد فيه العمل بل المقصود المال؛ وه المضارية, فإن رب المال ليس له قصد فى نفس عمل العاملء ولهذا لوعمل ما عمل وأم يربع شيئًا لم يكن له شى؛ وإن سمى هذا جعالة يجزء مما يحصل بالعمل كان نزاعا لفظياء بل هذه مشاركة: هذا بنفع يدنه وهذا بتقع ماله؛ وما قسم الله من الريح كان بينهما على الإشاعة, ولهذا لا يجوز أن يخص أحدهما بريح مقدرء لأن هذا يخرجهما عن العدل الواجب فى الشركة وهذا هى الذى نهى عنه النبى مله من المزارعة:(!),

-0١‏ هذه قبضة من رسالة القياس التى حررها ابن تيمية, وهى تتكشف عن ثلاثة أمور:

أولا: أن ابن تيمية يقرر أنه ليس شئ فى الشريعة يجئ مخالفا للقياس الفقهى السليم؛ لأن معارضة النصوص لبعض الأقيسة الفقهية الصحيحة يؤدى فى ظاهر الأمر إلى التناقض بين الأحكام الشرعية؛ أو على الأقل بين مناهجهاء وذلك غير مستقيم فى ذاته, لذلك ضبط الأقيسة ضبطا دقيقا؛ وأثبت أن كل ما يدعى مخالفته لقياس من نصوص هو موافق للقياسء؛ وللمنهاج الشرعىء والمخالفة هى فى فهم القائل, لا فى ذات الواقع.

ثانيا: العمق فى التفكير والاستيلاء على المعانى الفقهية. مع تقريبها من وقائع الحياة والريط بين هذه المعانى وما يجرى بين الناس ريطا دقيقا محكما حتى بدت الشريعة فى بياته واضحة المعالم فى إقامّة الحق؛ ودقع الفساد وجلب المنافع» وأن كل ما جاءت به النصوص هو للإصلاح ودفع الضرر والظلم؛ وأنه فى قوة مداركه الفقهية يثبت ا موافقة للقياس فى بعض الأحوال التى كان يبدى أنها مخالفة تمام المخالفة للقياس. وإن كانت فى ذاتها مصلحة وعدلاء فهذا حديث المصراة, وهو قول النبى مَللهُ: «لا تصروا الإبل ولا الغثم فمن ابتاع مصراة؛ فهى بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسكهاء وإن شاء ردها وصاعا من تمر»(") وقد رده الحثفية خالفته نص الكتاب: «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه

,7 7١ص رسالة القياس‎ )١( المصراة الشاة أو الناقة أو البقرة التى ترك اللبن فى ضرعها هدة طويلة من غير أن تحلب لتبدو كثيرة‎ )5( الدر,‎

ا

بمثل ما اعتدى عليكم»!') وللسنة التى تفيد أن الضمان إذما يكون بالقيمة أو المثلء وتضمين صاع من تمر فى نظير اللين ليس بالقيمة أو المثل ولقد ذكروا أنه مخالف للقياس من وجوه: أولها أنه أوجب رد صاع من تمر بازاء اللبن وهما جنسان مثليان» والمثل يضمن بمثله لغير جنسه. وثانيها أن اللبن يحلب بعد الشراء والقيض وهى فى ضمان المشترى؛ وهى فرع ملكه؛ فلا يضمنه بالتعدى, لأنه لم يتعد. ولا يضمنه بالعقد لآن ضمان العقد ينتهى بالقبضء ألا ترى أنه لا يتضمن اللبن الذى يحدث فكذا اللبن الذى كان حادثا ثم حلب بعد القبضء وثالثها أنه لم يكن مالا مستقلا فهى كالحمل فلا يضمنء ورابعها أنه لكان مالا لكان تايعا كالصوف فلا يضمن, وخامسها أن الضمان لو كان بالعقد لوجب إسقاط ما يقابله من الثمن, وأى كان بالتعدى لوجب مثله أو قيمته وفى كلتا الحالين لا يتضمن بصاع من تمر.

والشافعى مع أنه أخذ بالحديث ولم يرده قال إنه مخالف القياس المخوذ من الأثر: «الخراجبالضمان».

وأكن ابن تيمية لا يعجبه شئ من هذاء ويرى الحديث موافقا للقياس الصحيح: فقد تسلم الناقة أو نحوها على أنها كثيرة الدرء فتبين أنها قليلة الدرء فقات وصف مرغوب فيه, فإن شاء أبقى وترك حقه فى الفسخ: وإن شاء فسخء وهنا نجد أن اللبن الذى حدث يعد الحلب كان فى ملك المشترى فلا يضمنء وكان فى نظير الحفظ فى الملك: أما اللين الذى اختزن فى الضرع من قبل فقد حدث وهى فى ملك البائع» وقد كان كثيراء وقد رد العين من غيره. فكانت العدالة أن يضسمن, واكن لا يعرف بأى مقدار كان اللبن الذى كان يجب أن يعوضء وقد قدره النبى عَلنّه بصاع من تمر ولم يقدره بلبن؛ لأن اللبن مختلف من حيث نوعه, ومن حيث الحيوان الذى يدرهء ولأنه غير معلوم: فلى قدر باللين لكان احتمال الزيادة وهى رباء فيحترز عنه, فكان الضمان بغير جنسه وكان قريبا منه؛ لآن غذاء العرب كان اللين أى التمر, فعوض النبى مله بصاع من تمر حسما للنزا ع؛ وتحقيقا للعدل ما أمكن, ولأن الشاة لا تحتمل فى ضرعها أكثر من قيمة صاع. ثالث الأمور التى تكشف عنها رسالة القياس- الاستقلال الفكرى فى استخراج علل الأقيسة؛ وإن هذا وحده يدل على أن ابن ثيمية لم يكن فقيها مقلداء ولا فقيها مخرجا فى المذهب الحنبلى؛ ولكنه فقيه أدرك أصول الأدلة إدراكا مستقلاء وفهم الفرؤع بادلتها؛ ووجه )١(‏ البقرة: ١54‏ ا

الأقيسة:؛ وتلاقى فى كل ذلك مع ما وصل إليه الفقهاء فى المذهب الحنبلى: فكان يعد لذلك

وإذا كان القياس هو لب الفقه. وهو مظهر اجتهاد الفقيه. وباختلاف المدارك فيه تختلف المناهج الاستدلالية. حتى أن بعض كتب الأصول تسمى باب القياس يباب الاجتهاد؛ كما فعل الشاطبى وغيره؛ فمن حقنا أن نقول أن منهج ابن تيمية المستقل فى القياس يدل على مرتبته الفقهية» وهى أنه مجتهد منتسب؛ لنسبته إلى الإمام أحمد بن حنبل؛ وموافقته فى الأصول مع الإمام أحمد فى الجملة.

بقية الأصول الحنبلية

- قد بينا أن ابن تيمية قد اختار الأصول التى اختارها الإمام أحمد عن بينة واستدلال لا عن تقليد واتباع مجرد, بل إنه فى كل المسائل التى درسهاء سواء أكانت كان يختار ما يختار» عن برهان ودليلء لا عن مجرد الاتباع والتقليدء فإن رأيت أن تقول أنه لم يكن مقلدا فى أى ناحية فكرية من نواحى تفكيرهء بل كان المستقل فى تفكيرهء لا يتقيد إلا بالكتاب والسنة» وما يهدى إليه القياس المستقيم فقل.

وقد ذكرنا قوله فى القياس بشئ من الإفاضة. لأنه يوضح عقليته الفقهية كما نوهناء ولأنه لب الاستنباط فى الفقه كما ذكرنا.

وبقية الأصول تتلاقى مع أصول الإهام أحمد تماماً؛ بل إنه كان من الذين حرروا هذه الأصول واستدلوا لهاء وبينوا أنها المسالك الفقهية الموصلة إلى معرفة الشرع الشريف على

وجهه؛ ولنذكر كل واحد منها بكلمة مجملة. قتاوى الصحابة والتابعين:

457- فهى كان يأخذ بفتاوى الصحابة إذا لم يكن نص من حديث نبوى شريف» فإن وجد الصحاية مجتمعين بعد ذلك أفتى بقولهم على أنه السنة, وإن لم يجمعوا اختار من

أقوالهم ولم يخرج عن مجموعهم. ١ع‏

ولقد يبدى من كلام ابن تيمية فى التفسير أنه كان يأخذ بفتوى التابعين؛ لأنه كان يأخذ بتفسيرهم إن لم يكن فى الموضوع حديث: ولم يكن فيه فتوى لصحابى وإن ذلك فو المشسهور عند الحنابلة؛ وإن كانت هناك روايتان فى المذهب الحنبلى رواية تقول أن فتواه كتفسيره؛ وهى يؤخذ بقوله فى التفسير فيؤخذ بقوله فى الفقه إن لم يكن حديثء ولى كان ويظهر من مجموع المأثور عن ابن تيمية أنه كان يحنج بأقوال كبار التايعين كسعيد اين المسيب والحسن البصرىء ومجاهدء ومكرمة مولى عبد الله بن عباسء وغيرهم من كبار التابعين الذين نقلوا علم الصحاية؛ والحقيقة نه لا يكاد يوجد رأي مشهور عن التابعين إلا كان له أصل من حديث أو تنقلوه عن الصحابة. الاستصحاب: ' 454- وابن تيمية يأخذ بالاستصحاب حجة ومنهجا فى استخراج الأحكام الفقهية حيث لايكون نصء وقد أجمع عليه ألفقهاء تقريبا.. ويعرف ابن تيمية الاستصحاب بأنه البقاء على الأصل فيما لم يعلم ثبوته وانتفاؤه بالشرع» أى أن الأمر إذا كان على حال ولها حكم خاص من الشارع؛ فإن ذلك الحكم يستمر إلى أن يكبت تغير الحال؛ فما لم يثبت انتفاء الحكم ولا يقاؤه» فهو ياق يحكم استصحاب الحالء فالحال الثانية يفرض وجودهاء معها حكمها حتى يقوم دليل على تغيرها فتفير الحكم؛ كحال المفقود الذى لا تعلم حياته ولا موته. يفرض حيا حتى يقوم الدليل على ا موت؛ ويقول ابن تيمية: «هى حجة فى عدم الاعتقاد وهل هى حجة فى اعتقاد العدم؟ فيه خلدف(", ومعنى هذا الكلام أن الاستصحاب حجة فى عدم اعتقاد المكلف تغير الحال فبالنسبة للمفقود هى حجة لمن لا يعتقد أن الحال تغيرت؛ لأن التغير لم يقم دليل عليه؛ فلا يجزم بالتفيير ولا عدم التغيير لأن اعتقاد تغيير الحال لابد له من دليل: فما لم يقم دليل على التغيير فالاعتقاد بالتغيير غير قائم. ولكن كونه حجة فى اعتقاد عدم التغيير موضع خلاف. أى أن المكلف لا يكتفى بعدم اعتفاد التغييرء بل يعتقد عدم التغيير ويجزم به. وينبني على هذا خلاف أن الذين يقولون إن الاستصحاب حجة كافية لعدم اعتقاد التغير يقولون لكيلا يقف المكلف موقفا سلبيا إن الاستصحاب لا يكون حجة إلا فى النقى لافى الإثبات: )١(‏ مجموع الرسائل والمسائل ص١١‏ جه. د

أى فى بقاء الحقوق لا فى إثبات حقوق؛ فالمفقود لا تذهب ملكيته عن ماله ما دامت حاله لم تعلم ولم يرجح القضاء موه بحكمه؛ ولكن لا تثبت له حقوق لأن ثبوت الحقوق يقتضى وجوب الاعتقاد يبقائه؛ لا مجرد عدم الاعتقاد بموته. والذين قالوا إن الاستصحاب حجة فى اعتقاد عدم التغيير يثبتون بالاستصحاب الحقوق الثابتة؛ والحقوق الجديدة؛ فأصحاب هذا الرأى يقولون فى المفقود أن استصحاب حال الحياة أوجب اعتقاد أنه حى: رعلى ذلك تثبت له الحقوق التى كانت قائمة من ملكيته لماله وغير ذلكء وتثبت له الملكيات الجديدة: كالهبات والوصايا والمواريث وغير ذلك: لأن استصحاب الحال أوجب اعتقاد عدم التغيير»!",

وقد فصلنا القول فى الاستصحاب فى كتاب (ابن حنبل) وهوما اخثاره ابن ثيمية.

المصالح المرسلة:

6- وإبن تيمية يشرح المصالح ا مرسلة: ومع أن هن المقررات عند علماء الأدسول أن الحنابلة أخذوا بالمصالح المرسلة, وقد بينا ذلك فى موضعهأ" نجد أبن تيمية يفقف موقف. المتردد فى قبولهاء ويقول فى تعريفها: «المصالع المرسلة أن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب مصلحة راجحة: وليس فى الشرع ما ينفيه»() وأن المصلحة كما تكون بجلب منفعة تكون بدفع مضرة.

ويخطئ ابن تيمية الذين يعتبرون المصلحة مقصورة على حفظ النفوس والأموال والأعراض والعقول والأديان: ويبين أن المصلحة المرسلة كما تشمل المحافظة على هذه الأمور الخمسة بدفع المضارء تشمل جلب المنافع: ويقول فى هذا: «المصالح المرسلة ف جلب المنافع» وفى دفع المضار. وما ذكروه من دفع المضار عن هذه الأمور الخمسة فهو أحد القسمين؛ وجلب المنفعة يكون فى الدنيا والدين» ففى الدنيا كالمعاملات والأعمال التى يكون فيها مصلحة للخلق من غير حظر شرعى, وفى الدين ككثير من المعارف والأحوال والعبادات والزهادات التى يكون فيها مصلاحة للإنسان من غير منع شرعيىء فمن قصر المصالح على العقويات التى فيها دفع الفساد عن تلك الأحوال ليحفظ الجسم فقد قصرء"), '

(؟) مجموعة الرسائل والمسائل جده ص7؟. (4) الكتاب المذكور.

لد

ويذكر ابن تيمية الخلاف فى شأن المصالح المرسلة» ويذكر حجة الذين يعتبرونها حجة الدينء وأساسها أن هذه مصلحة:, والشرع لا يهمل المصالح.

1 وابن تيمية يتردد فى قبول المصلحة أصلا من أصول الاستدلال: مع أن المنصوص عليه -ند الحنايلة قبول ذلك الأصلء والأخذ به. كما هو مشهور مستفيض»ء ويظهر أن ابن تيمية قد كان يعتمد على الوصف ال ملائم فى أقيسته. وعلى ذلك تكون المصالح المعتبرة كلها يشهد لها دليل من الشارع؛ وتدخل فى عموم القياس» وأن تجد من بعد مصلحة لا يمكن أن تدخل فى قياسء ولذا يقول:

«القول الجامع أن الشريعة لا تهمل مصلحة قطه بل إن المله تعالى قد أكمل هذا الدين: وأتم النعمة, فما من شئ يقرب إلى الجنة إلا وقد حدثنا به النبى عله وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارهاء لا يزيغ عنها بعده إلا هالكء لكن ما اعتقده العقل مصلحة وإن كان الشرع لم يرد به فأحد الأمرين لازم له. إما أن الشارع دل عليه من حيث لم يعلم هذا الناظرء أى أنه ليس بمصلحة واعتقده مصلحة. لأن المنفعة هى المنفعة الحاصلة أو الغالبة: وكثيرا ها يتوهم الناس أن الشئ ينفع فى الدين والدنياء ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة كما قال تعألى: «يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومناقع للناس, وإثمهما أكبر من تفعهماء!).

ويقول ابن تيمية إن المصلحة تسمى رأيا عند بعض الفقهاء. وتسمى استحسانا عند آخرينء وهى كانت تدخل فى عموم كلمة الاستحسان فى عرف بعض المالكية عندما قيل فى ذلك المذهب: «الاستحسان تسعة أعشار العلم» وتدخل فى عموم الاستحسان الذى أبطله الشافعى فى كتاب (إيطال الاستحسان) الذى شغل حيزا من كتابه الأم.

7 وإقسد قلنا أن مذهب الحنابلة يقرر المصالح المرسلة أصلا من أصول الاستنباط, وقد شرحنا ذلك بأدلته وتوجيهه فى كتاب (ابن حنبل)9).

ويظهر كما قلنا أن ابن تيمية يرد المصالح المعتبرة إلى القياس؛ وقد علمنا أنها على مقتضبى نظر ابن تيمية فى عمومه؛ إن جعل الوصف ا ملائم هى أساس القياس وركنه؛ وحيث

(1) مجموعة الرسائل والمسائل جه ص"77. الآية 114 سورة البقرة

(؟) راجع فى هذا كتاب (ابن حنبل) للمؤلف ص/ا9؟ وما يليها. 0001

كان كذلك: وكان من المقررات عند ابن تيمية وغيره أن الشرع جاء لجلب المصالح فى الدين والدنيا ودقع المضارء فكل مصلحة داخلة فى أقيسته.

وعلى ذلك لا يكون ثمة خلاف بين ابن تيمية ويين الحنابلة فى الأصول المقررة: لأنه يقرر المصالح فى مواضعهاء ويرى أن كل مصلحة حقيقية لها حتما شاهد من الشارع الإسلامى خاص؛ سواء أكان الشاهد قرييا يجيب عند أول نداءء أم كان الشاهد بعيدا لا يعرف إلا بالاستنباط والتحرى الدقيق العميقء الذى تغوص لمعرفته العقول القوية التى على شاكلة عقل ابن تيمية؛ فهى متلاق مع الحذابلة فى أصولهم غير متباعد عنهم؛ وهذا القدر من الاختلاف فى النظر يؤكد استقلاله فى استخراج الأصولء وأنه لم يكن تابعا تبعية مطلقة لمن سيقوه.

4- وماذا يقف ابن تيمية من المصالح المرسلة تلك الوقفة المتشككة وهو الذى قرب الشريعة من مصالح الناس وعالج بها أدواءهم؟ لقد أشرنا إلى بعض تلك الأسبابء وهى توسيعه نطاق القياسء واعتقاده أن الشريعة فى جملتها وتفصيلها لم تترك مصلحة إلا أشارت إليهاء إما بنص عليها أو بشاهد يشهد لها فى الجملة.

ومع هذه الأسباب وقوتها؛ قد كان فى عصره أمور أوجبت أن يقف موقف الشك فى الدعوة إلى المصلحة المرسلة, ولقد ذكرها فى كتاباته ولنشر إلى بعض هذه الأمور:

(1) ومنها: أن بعض الصوفية كانوا يفرطون فى الأخذ بما سموه مصالح أو إلهاهات, أى آنواقا صوفية؛ بأن يعتبروا هذه من قبيل المصالح المرسلة؛ ولعل منهم من يحاول أن يهدم النصوص بهذه المصالح الموهومة التى لم يسيروا فى تعرفها على منطق عقلى مستقيم؛ وقد أشار هى إلى ذلك قى أول كلامه فى المصلحة. فقال: «قريب منها -أى من المصالح المرسلة- نوق الصوفية ووجدهم وإلهاماتهم؛ فإن حاصلها أنهم يجدون فى القول والعدل مصلحة فى قلوبهم» ويذوقون طعم ثمرته»(١),‏

(ب) ومنها: أنه رأى أن الذين أخذوا با مصالح دخلوا فى باب واسع من الفوضى الفكرية» ولم يهتموا بأن تكون هذه المصالح وجدت ما يعارض اعتبارها من الدين أو لم يوجد؛ ولذا يقسول فى فصل المصالح رضى الله عنه؛ دإنه من جسهة حصل أمسر الدين في

وا

اضطراب عظيم؛ وكثير من الأمراء والعباد رأوا مصالح فاستعملوها بناء على هذا الأصلء وقد يكون منه ما هى محظور فى الشرع, ولم يعلموه؛ وريما قدم فى المصالح المرسلة كلاما خلاف النصوص, وكثير منهم أهمل مصالح يجب اعتبارها شرعاء بناء على أن الشرع لم يرد بهاء فقوت واجبات ومستحبات, أووقع فى محظورات ومكروهاتء وقد يكون الشرع ورد بذلك:ولم يعلمه»(",

(ج) ومن الأمور التى جعلته يتشكك فى الحكم بالمصالح المرسلة أنه وجد صلة قوية بين قول بعض العلماء: إن الأمور يدرك حسنها وقبحها بالعقلء فليس الأخذ بمبدأ المصالح المرسلة إلا الحكم العقلي بأن الفعل حسن فى ذاته عقلاء فيؤخذ به, أو قبيح فى ذاته عقلاء فيجتنب وينهى عنه؛ وهذا طريق فكرى لا يستحسنه ابن تيمية؛ وه يؤدى إلى أن يشرع فى الدين مالم يثّن يه الله. سبحانه وتعالى؛ ويقول فى ذلك: «والقول بالمصالح المرسلة يشرع من الدين مالم يأذن به الله وهى تشبه من بعض الوجوه مسألة الاستحسان والتحسين العقلى والرأى» ونحى ذلك: فإن الاستحسان طلب الحسن والأحسن كالاستخراج: وهى رؤية الشئ حسناء كما أن الاستقباح رؤيته قبيحا؛ والحسن هو المصلحة فالاستخسان والاستصلاح متقاريان: والتحسين العقلى قول بأن العقل يدرك الحسن: ولكن بين هذه فروق» ومع تقريره

هذه الفروق يتضح من كلامه أنها جميعا تنبع من معين واحد فى نظره.

(د) ومما جعله يتشكك فى الأخذ بمبدأ المصالح المرسلة أيضا أنه فى ظل هذه المصالح كان ايتداع الناس فى العقائد والأعمالء وكان من هذا اتخاذها الملوك والحكام بابا للظلم وإرهاق الناسء وانزال الأذى بهم فى أموالهم وأتفسهم وقد اتخذت المصلحة سبيلا لذلك قبل الإسلام وبعده؛ فوجب الاعتماد على المصالح الشرعية دون سواهاء ولذلك يقول رضى الله عنه: «وكثير مما ايتدعه الناس من العقائد والأعمال من بدع أهل الكلام: وأهل التصوفه وأهل الرأى؛ وأهل الملك حسبوه منقعة أو مصلحة نافعة» وحقا وصواباء ولم يكن كذلك؛ بل كثير من الخارجين عن الإسلام من اليهود والنصارى والمشركين والصايئين يحسب كثير منهم أن مبا هم عليه من الاعتقادات والمعاملات. والعبادات مصلحة لهم فى الدين

والدنياء!؟), :

)١(‏ المجمومة ج؟ ص؟؟. (1) المجموعة المذكورة ص4؟. كاع

6 وابن تيمية إذ يقف من المصالح المرسلة التى لم يشهد لها دليل من الشرع بالنفى أو الإثيات لا يخالف الذين أثبتوها من الفقهاء كا مالكية والحتابلة مخالفة كبيرة: لأنه فى التطبيق الجزئى يفتح الباب كما يفتحون, بيد أنهم يأخنون بالمصالح فى ذاتها, ويعتمدون على مداركهم الفقهية فى تقديرها. وأما أبن تيمية فإنه يرى أن كل مصلحة حقيقية وليست وهمية جاء دليل من الشارع باعتبارها؛ ويتوسع فى معنى القياس حتى يتسع لها.

ثم إنه يقرر أن كل مصالح العبادء والمنافع الحقيقية هى على أصل الإباحة الأصلية, بمقتضى حكم الاستصحاب الذى يجعل كل نفع مباحا حتى يقوم الدليل على خلافه.

وقد رأينا كيف بنى الفكرة فى إطلاق العقود على أساس أنها من العادات لا من الغبادات» وأن الأصل فى المعاملات أن تقوم على المصالح والمنافع التي هى بأصل وضعها فى موضع الإباحة الأصلية. وأقواله التى ظاهرها قد يفيد التعارضء فإنه يقرر كل المصالح الحقيقية المعتبرة.

الذرائع:

- أخذ ابن تيمية بذلك الأصلء وقد ارتضاهء واعتبر بعض ما انبنى عليه من أحكام من مزايا المذهب الحنبلى» فهو يرى أنه من أخص ما امتاز به المذهب الحنبلى أنه نظر فى العقود والتصرفات إلى البواعث عليها ومآلاتهاء وإن ذلك بلا ريب هن هذا الأصل المسمى بالذرائع» ومعناها أن المتعين وسيلة لمطلوب يكون مطلوياء وما يؤدى إلى المنهى عنه يكون منهيا عنه. فخلاصة ذلك المبدأ أن الوسائل تأخذ حكم المقاصد والغايات, وأن النظر

فى الوسائل يتجه إلى اتجاهين: حرام. أم يصل به إلى حلال.

ثانيهما: أن ينظر إلى المالات المجردة من غير نظر إلى البواعث والنيات, ومن الأول أن يعقد عقدا لا يقصد مقتضاه الشرعى:؛ بل يقصد به أمرأ غيره. كمن يعد عقد زواج لا يقصد به أصل العشرة الدائمة بل يقصد به أن يحلها لمطلقها الثلاث. /ااع

وكمن يعقد عقد بيع لا يقصد به نقل الملكية وقبض الثمن؛ بل يقصد به التحايل على الرياء فإنه فى هذه الأحوال وأشباهها يكون العاقد أثما ولا يحل له ما عقد عليه فيما بينه وبين الله. وإن قامت الدلائل عند إنشاء العقد على نيته أعتبرت تلك النية الظاهرة سببا قى فساد العقد وبطلانه؛ لأن اعتبار النية التى قام عليها دليل مادى اقترن بإنشاء العقد أولى فى نظر بعض الفقهاء من اعتبار الألفاظ المجردة؛ لأن قرائن الأحوال تعين المراد؛ وتكشف المقاصد, وإن الأنفاظ مقصودة للدلالة على مقاصد العاقدين: فإذا ألغيت تلك المقاصدء واعتبرت العبارات مجردة كان إلفاء لما يجب اعتباره؛ واعتبارا لما يقصد لذاته.

وأما الثانى وهى النظر إلى المالات المجردة من غير اعتبار للبواعثء قالاتجاه هنا إلى الأفعال: فإن كانت تنحو نهى المصالح التى هى المقاصد والغايات من معاملات الناس بعضهم مع بعض كانت مطلوية بمقدار ما يناسب طلب هذه المقاصد المقررة فى الشريعة؛ وإن كانت مالاتها تنحو نحو المقاسد فإنها تكون محرمة بما يتناسب مع تحريم هذه المالات.

والنظر إلى المالات على ذلك النحى لا يلثتفت فيه كما ترى إلى نية العاملء بل إلى نتيجة عمله وثمرته؛ وبحسب النتيجة والثمرة يحسن العمل فى الدنيا أى يقبح» ويطلبه الشارع أو يمنعه. أما النية فعند الله حسابها؛ فمن سب الأوثان مخلصا النية فقد احتسب ثيته عند الله فى زعمه. لولا أن الله سبحانه وتعالى نهى عن السب إن أثار حنق المشركين فسبوا الله عدوا بغير علم فقد قال تعالت كلماته: «ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم»(١)‏ فالله سيحانه وتعالى وجه أنظار الناس إلى النتيجة والثمرة.

--١‏ ولقد أخذ المذهب الحنبلى بمبدأ سد الذرائع: )١(‏ فمئع بيع السلاح فى الفتنة» (؟) ومنع تلقى السلع قبل نزولها فى الأسواق, لأنه وإن كان الشراء فى أصله جائزا إذا أجيز ذلك النوع منه كان الناس فى ضيقء ولم تستقم حرية التعامل؛ (؟) ومع احتكار الطعامء وما يحتاج إليه الناس» (4) وأقد أفتى الإمام أحمد معتمدا على الأصل أن من احتاج إلى طعام شخص أو شرابه فلم يعطه حتى هات جوعاء وجبت عليه الدية؛ فكان وجوب الدية مع أنه لم يقتل لا عمدا ولا خطأء واكنه كان متسبياء إذ هنعه كان ذريعة الموت؛ فتجب الدية لذلك. ولسد ذريعة الشر والفساد, وابث روح التعاون بين الناس,

٠"‏ - وإأقد أخذ ابن تيمية رضى الله عنه بميدأ سد الذرائع وفصل القول فيه تفصيلا حسنا؛ وقد قسم ذرائع المحرمات إلى ثلاثة أقسام:

4

المحرم؛ وذلك كالعقود التى تتخذ وسيلة إلى التعامل بالرياء فإن هذه تكون حراما لأجل الباعث ونا تؤدى إليه.

القسم الثانى: ما يكون ذريعة مؤدية إلى مال لا يحسن؛ وإن كانت فى ذاتها من غير

والقسم الثالث: ما يحتال به من المباحات فى الأصل كبيع النصاب فى أثناء الحول فرارا من الزكاة: وكإغلاء الثمن فرارا من الشفعة(!),

ويقول ابن تيمية فى سد الذرائع: «الذرائع حرمها الله وإن لم يقصد بها المحرم خشية إفضائها إلى المحرم» فإذا قصد بالشئ نفس المحرم كان أولى بالتحريم من الذرائع» وبهذا التحريم تظهر علة التحريم فى بيع العينة!') وأمثاله وإن لم يقصد البائع الرباء لأن هذه المعاملة يغلب فيها قصد الرياء فتصير ذريعة, فسد هذا الباب لثلا يتخذه الناس ذريعة إلى الرياء يقول القائل لم أقصد به ذلك: ولئلا يدعو الإنسان فعله مرة غير قاصد إلى أن يقصده مرة أخرى, وإثئلا يعتقد أن جنس هذه المعاملة حلال» ولا يميز بين القصد وعدمه. وائلا يفعله الإنسان مع قصد خفى من نفسه على نفسه؛ والشريعة أسرار فى سد الذرائع وحسم مادة الشر بعلم الشارع بما جبلت عليه النقوس: وبما يخفى على الثاس من خفى هواها الذى لا يزال يسرى فيهاء حتى يقودها إلى الهلكة, فمن تحذلق على الشارع واعتقد فى بعض المحرمات أنه حرم لعلة كذا وتلك العلة مقصودة فيه فاستباحه بهذا التأويل» فهو ظلوم لنفسه جهول بأمن ريه؛ وهى إن نجا من الكفر لم ينج غالبا من بدعة,أو فسق؛ أو قلة

فقه فى الدين» وعدم بصيرة)(),

*0- ويسوق ابن تيمية الشواهد الإسلامية الكثيرة التى يستفاد منها أن سبيل الحرام حرام: لأنه طريق إليه.

,١؟؟ص الفتاوى ج؟‎ )١( العينة أن يبيع شخص لآخر عينا ويقبض ثمنها ثم يشتريها بثمن أعلى مؤجل فيكون المعنى أنه‎ )5( اقترض دينئا ليدفعه أكثر. (؟) الفتاوى ج؟ ص١ 1؟.‎ 5

)١(‏ فيذكر نهى النبى تيه عن أن يشتم أبويه؛ وقوله عليه الصلاة والسلام: «يسب الرجل أبا الرجل؛ فيسب أباهء ويسب أمه؛ فيسب أمه». واعتبر ذلك عليه الصلاة والسلام سبا لأبويه لأنه يؤدى إليه؛ (؟) ويذكر نهى الشارع عن خطبة المعتدة, لأنه قد يجر إلى ما هو أكبر منه, وهى الزواج فى العدة (؟) ويذكر نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع وسلف مع أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر يصع. وإنما نهى عن ذلكء لأن اقتران أحدهما بالآخر قد يؤدى إلى أن يقرضه ثمانمائة. ويبيعه شيئا تافها بألف؛ فيكون المعنى أنه اقترض ثمانمائة ليؤدى ألفاء (4) ويذكر نهى النبى المقرض عن قبول هدية المقترض؛ لكيلا تتخذ ذريعة للرباء فيكون الريا فى صورة هدية أو يكون التأجيل لأجل الإهداء؛ (0) ويذكر أن الشارع منع أن يكون للقائل ميراث؛ لكيلا يتخذ القتل سبيلا لتعجيل الميراث» (1) ويذكر قتل الجماعة بالواحد باثقاق الصحابة؛ مع ما فيه من عدم المساواة بين القاتل والمقتول التى يحقق فيها معنى القصاص, وذلك كيلا يكون الاشتراك ذريعة إلى الإجرام مع الإفلات من العقاب» (7) ويذكر أن الله سبحانه وتعالى منع رسول الله عله لما كان بمكة من الجهر بالقرآن حيث كان المشركون يسمعونه؛ فيسبون القرآن ومن أتزله ومن جاء به(').

يقرر ابن تيمية بهذه الشواهد وغيرها أن سد الذرائع أصل فى هذا الشرع معتير, ويقول فى ذلك: «والكلام فى سد الذرائع واسع لا يكاد ينضبط. ولم نذكر من شواهد هذا الأصل إلا ما هو متفق عليه أو منصوص عليه؛ أو مأثور عن الصدر الأول شائع عنهمء إذ الفروع المختلف فيها منها ما يحتج لها بهذه الأصول ولا يحتج بها».

٠4‏ ويبنى ابن تيمية على أصل سد الذرائع؛ منع الحيل فى الشريعة الإسلامية, ويقول: «اعلم أن تجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة: فإن الشارع سد الطريق إلى ذلك المحرم بكل طريق؛ والمحتال يريد أن يتوسل إليه. ولهذا لما اعتبر الشارع فى البيع والصرف والنكاح وغيرها شروطا. سد ببعضها طريق الزنىء والرباء وكمل بها مقصود العقود- لم يمكن لمحتال الخروج منها فى الظاهر: فإذا أراد الاحتيال ببعض هذه العقود على ما منع الشارع هنه. أتى بها مع حيلة أخرى توصله بزعمه إلى نفس ذلك الشئ الذى سد الشارع ذريعته فلا يبقى لتلك الشروط التى تأتى بها فائدة ولا حقيقة: بل يبقى بمنزلة اللعبوالعبث»,

)١(‏ راجع هذه الفروع فى ضدمن فروع كثيرة فى الصفحات: ١1471470141١14٠‏ 144 من الفتاوى حا 6

وإذا كانت الحيل باطلة لأنها ذريعة إلى تعطيل أحكام الشارع فكل عقد يتبين أن المقصود به ذلك التحايل فهى عقد باطل عند ابن تيمية» وعلى ذلك يكون كل عقد بين اثنين قصد به التحايل على الربا فهى باطل, فبيع العينة باطل ويرد إلى العاقد رأس ماله؛ وكذلك إذا وهب لأحد ورثته بقصد التحايل للخروج من أحكام الميراث فهبته باطلة, وكذلك إذا كانت هبته لأجنبى ضررا لورثته, وإذا علم الفرض من العقد بأدلة مثبتة كان للقضاء إبطالله؛ وإن كان غرضه معروفا للعاقد معه فإن العقد باطل بالنسبة لهماء ولا يحل للموهوب له بحكم الشرع فيما بينه وبين الله, وانترك الكلمة لابن تيمية فهى يقول:

«إذا تواطآ على بيع أى هبة لإسقاط الزكاة.. وإن كان الاحتيال من واحد مثل أن يهب لابنه هبة يريد أن يرجع فيها!') لكلا تجب عليه الزكاة: فإن وجود هذه الهبة كعدمهاء ليست هبة فى شئ من الأحكامء لكن إن ظهر المقصود ترتب الحكم عليه - أى على مقتضى المقصود - ظاهرا وياطناء وإلا بقيت فاسدة فى الباطن فقطء وإن كانت حيلة لا يستقل بها مثل أن ينوى التحليل ولا يظهر للزوجة: أو يرتجع المرأة ضرارا بها؛ أويهب ماله ضرارا لورثته, ونحى ذلك. كانت هذه العقود بالنسبة له ولن علم غرضه عقودا باطلة؛ فلا يحل له الدخول بالمرأة: ولا يرثها إذا ماتت, وإذا علم الموهوب له أو الموصى له غرضه لم يحصل له الملك فى الباطنء فلا يحل له الاتتفاع به؛ بل يجب رده إلى مستحقه»ا"!.

6 وابن تيمية يبطل كل الحيل التى تؤدى إلى إسقاط حق أو تسويغ محرم؛ أو إسقاط شرط من الشروط التى حرمها الشارع؛ لأن هذه مطلويات وإهمالها محرم؛ وكل ما يؤدى إلى المحرم يكون محرما ولو كان فى أصل ذاته مباحاء وكل تصرف مباح اتخذ ذريعة محرم فهى باطل ظاهرا وياطنا إن كان معلوما للناس؛ وياطل عند القاصد وحده إذ لم يعلن مقصده إلى الحرامء أى إلى إسقاط الشروط التى اشترطها الإسلام.

وكذلك إذا كان غرضه أن يصل إلى أمر محلل, ولكنه لم يستطع الوصول إليه إلا بأمر محرم؛ فإنه فى هذه الحال لا يكون التحايل سائغاء لأن المحرم الذى اتخذ وسيلة إلى الحلال حرام لذاته. كمن يتخذ الخيانة سبيلا للوصول إلى حقه؛ أو شهادة الزور لإثبات حق مجحود! فإن ذلك لا يسئغ؛ لأن الخيانة حرام لذاتها؛ وشهادة الزور حرام لذاتها؛ والمضرة التى تترتب على فساد الشهادات: وضياع الأمانات أشد من المفسدة التى تقع بضياع حق مفرد لواحد )١(‏ هبة الرجل لابنه يجوز الرجوع فيها فى مذهب أحمد خلافا للحنفية, (؟) الفتاوى ج؟ ص14”5١,‏

ره

من الناس؛ فإنه إن ساغ الاستشهاد بالزور لإثبات الحق؛ فيستشهد بالزور لإثبات الباطل, وإذا ساغت الخيانة للوصول إلى الحق» فسيسوغها لنفسه من يريدها لذاتها؛ ويذلك يكون أمر الناس فوضى! والحرام لذاته لا يباح مطلقاء ولا فى أى حال إلا للضرورة.

1 ولا يسوغ ابن تيمية إلا نوعين من الصيلة: (أحدهما) الحيلة لطلب الحق بمعارض القول التى توهم غير المراد. (والثانى) أن يلهم الله الشخص طريقا حلالا للوصول إلى الأمر الحلال الذى يريده, فإن ذلك مباح باتفاق الفقهاء ما دام لا يعطل أمرا هن أوامر الشارع؛ أو حكما شرعيا من أحكامه أو شرطا من شروطه التى اشترطها فى العقود, وفى الحل والتحريم: وإن الذى يفعل ذلك يسلك المقاصد الشرعية من طرق شرعية, وابن تيمية لايعد ذلك هن الثحايل على دين الله: إنما هو لتحقيق ما طلب الله سبحانه وتعالى: أو أباحه؛ ولذا بقول فى ذلك؛ «وإن تحصيل المقاصد بالطرق المشروعة إليها ليس من جنس الحيلء سواء أسمى حيلة أم لم يسم»,

- هذا نظر ابن تيمية للحيل يحرمها؛ ولا يعد منها الوصول إلى المقصود بطريق شرعىء وإن لم يكن هو موضوعا له. ولقد اشتهر عن الحتفية الأخذ بالحيل والمخارج» حتى أنه يروى أن للإمام محمد من أصحاب أبى حنيفة وهو ناقل كتبه إلى الأخلاف- كتابا فى الحيل؛ وقد ذكره السرحسى فى كتابه المبسوط شرح الكافى؛ ولقد تكلم الناس فى نسبة الكتاب إلى محمد.

ومهما يكن مقدار نسبة ذلك الكتاب إلى راوية الفقه العراقى محمد ين الحسن فإن الحيل قد اشتهرت عند الحثفية, والخصاف كتاب يسمى الحيل والمقارج: ويعض هذه الحيل مروى عن أبى حنيقة, وإن الدارس لثلك الحيل المأثورة عن أثمة الفقه الحنفى يجد أنه لم يكن التصد منها هدم أحكام الشريعة: بل تحقيق أحكامهاء وتسهيل قبولها.ء والموافقة بين الأقيسة والقيود التى وضعوها فى العقود ومصالح الناس وحاجاتهم: بما لا يخالف مقصدا شرعيا؛ فكانت الحيل لا لتحليل محرمء ولكن لتقرير الشريعة على وجه قريب من مصالح الناس(),

)١(‏ عقدنا فى كثاب (أبع حنيفة) فصلافى الحيل, وازنا فيه بين المانعين للحيل وعلى رأسهم ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الذى حرر آراء شيخه. وبين نظر أبى حنيقة؛ وشسربنا الأمشال وبينا أوجه الاتفاق والاختلاف. فراجع الكتاب المذكور من ص١4‏ إلى 474

يفف

هذه نظرات ابن تيمية إلى الذرائع؛ ولم نتصد لأدلتهاء والأسس التى قامت عليهاء لأنا بينا ذلك فى كتاب ابن حنبل؛ قمن أراد الاطلاع على هذه الأدلة فليرجع إلى كتاب (مالك).

- هذه أصول ابن تيمية التى اختارها مسلكا للاستنباط؛ وإن دراسته له؛ وأوجه النظر التى أبداها فيها تدل على استقلال فى اختيارهاء فهو لم يكن فى اختيارها تابعاء كما لم يكن فيما وصل إليه منها تابعا؛ وكان له فضل تحرير بعضها؛ فالقياس على النحو الذى ذكره لم يكن مسبوقا بتحريره على هذا الوجه. وإن كان ينسبه إلى المذهب الحنبلى؛ وقد اتجه فيه إلى لب المعانى الفقهية» ولم يكتف بالأوصاف ال مجردة المنضبطة؛ بل قرب الفقه من وقائع الحياة ومصالح الناس: وخاض فى ذلك خوض الفقيه العارف بأدق أصول الاستنباط» وفقه الآثارء والعارف مع ذلك بمصالح الناس وحاجاتهم: فجاء قياسه منهجا سليما جعله فقها حيا ناميا.

وباب سد الذرائع» وما اتصل به من الحيل لم تعرف الاستفاضة فيه بالشرح والتبيين أكثر من استفاضة ابن تيمية, وكان فى هذا الغواص على المعانى الدينية والحقائق الشرعية العميقة.

وهكذا كل الأصول الفقهية التى درسهاء قد اتضح من دراسته لها أنه إن تلاقى فيها مع المذهب الحنبلى؛ فعن اختيار مستقلء لا عن اتباع تقليدى؛ وإن المذهب الحنبلى قد استفاد من هذه الدراسة, فأضيفت إلى النتائج التى وصل إليها المجتهدون فيه. سواء أكانوا منتسبين أم كانوا مخرجين, وبذلك أضاف ثروة فقهية إلى ذلك المذهب الجليل.

4-- ويهذا ننتهى إلى أن ابن تيمية كان فقيها مجتهدا منتسباء لأنه كان متحدا فى المناهج وهى الأصول التى اختارها طرقا للاستنباطء مع أصول المذهب الحنبلى وكان الاتحاد فى الأصول بدراسة حرة غير مقلدة فأدت به إلى ذات الأصول التى اختارها علماء المذهب الحنبلى وحرروها .

وإذا كان قد اختار فى بعض فتاويه من غير المذهب الحنبلى؛ فإن ذلك لا يخرجه عن أنه مجتهد منتسب للحنابلة؛ لأنه وافق الحنابلة فى الأصول وأكثر الفروع؛ كما لم يخرجه عن نطاق الحنابلة ما خالف فيه المذاهب الأربعة عن بينة. وهى مسائل الطلاق بلفظ الثلاث» وكونها لا تقع إلا واحدة, والطلاق البدعى كالطلاق فى الحيض وكونه لا يقع» وكون الطلاق

زفق

لايقع منه إلا واحدة: ولا تقع الثانية إلا بعد الرجعة أو العقدء إن كان قد تركها يعد الأولى حتى انقضت عدتهاء ثم عقد عليها بعد ذلك: وكذلك قوله أن الحلف بالطلاق لا يقع به شئ» وآن الطلاق المعلق إذا قٍصد به الحلف لا يقع به شئ؛ وغغير ذلك من المسائل التى هى دون هذه المسائل فى المخالقة.

لا تخرجه هذه وأشباهها عن نطاق الحنبليةء لأن الفقيه المنثتسب يقع منه مثل ذلك: كالشان بالمزنى مع الشافعيء ولا يمكن أن يعد يهذه المسائل وأشباهها مجتهدا مستقلاء لأنها كانت مدروسة عند أئمة آخرين قبله كالشيعة الاثنا عشرية: ولأن المناهفج متحدة مع مناهج أحمد» وحيث اتحدت المنافج بين متقدم ومتأخرء لا يعد المتأخر مستقلاء وإن الاستقلال فى الاجتهاد استقلالا مطلقا متعذر الوجود بعد القرن الرابع: لا لنقمن فى القوى» بل لكثرة الدراسات واتساع أفاقها فى المذاهب. حثى أنه لا يكاد فقيه يأثتى بمجموعة من الأصول لم يعتنقها إمام قبله, فكان لايد من الانتساب مع حرية البحث والاجتهاد.

آثاران تيمية

-٠‏ شغل ابن تيمية عصره بشخصه وفكره وقوله, وحيث حل كان حركة فكرية دائمة دائبة» ولم يمت إلا وقد كان لاسمه دوى فى شرق البلاد الإسلامية وفريهاء وتجاوب اسمه لافى مصر والشام وحدهماء بل فى ربوع البلاد الإسلامية كلها وكان له تلاميذ تخرجوا على رسائله, كما كان له تلاميذ تخرجوا على درسه؛ وقد ترك وديعة فكرية للأجيال من بعده؛ هى مجموع ما وصل إليه من آراء على مقتضى الهدى السلفى فى اعتقاده؛ وما آيد أراءه من أدلة» وما ساق من أثار وأخبار؛ وما استشهد به من شواهد العقل والبدهيات الفكرية, ثم أودعها المجادلات والمساجلات التى قامت بينه وبين خصومه الكثيرين من فقهاء ومتكلمين ومتصوفين وفرق» وام يترك طائفة هن هذه الطوائفء إلا ولقوله الحاد ندوب فى مذهيها.

وإن هذه الوديعة الفكرية التى تعد ذخيرة خلفها للمسلمين فى القرن السابع والثامن الهجرى؛ قد أودعت فى بطون كتب كتبهاء ورسائل دونهاء وقام على هذه الكتب والرسائل تلاميذ قد آمنوا بكل آراء شيخهمء وفيهم نشاطء ولهم مدارك ثم وجد فى الأجيال من اعتنق هذه الآراء. واتخذها مذهبا له. ء

وعلى ذلك تقول أن ابن تيمية خلف من بعده كتبا ورسائل حرر فيها آراءه وتلاميذه فسروها. ونظموأ أبوايهاء ورثيوا مسائلها؛ ودعوا إليها؛ وجماعات قد اعتئقت هذه الآراء؛ واختارتها تفسيرا لدينهم, ولتذكر كلمة موجزة عن كل واحد من هذه الأمور الثلاثة:

-١‏ الكتب

-١‏ كان ابن تيمية قوة فكرية رائعة؛ أدهش الناس بمواهبه؛ وقد توافرت له أدوات البيان الرائعء فكان له لسان مبين؛ وقلم محررء وكلاهما بتار يقطع الخصوم ويصرع المجادلين, لا لأنه كان دائما على الحقء ومخالفوه كانوا دائما على الباطلء فإن الحق مشترك بين العلماءء وفى كل عصر قوم يقومون بحجة الله فى الأرض» وأكن التاريخ مع ذلك يسجل أنه كان أكثز مواهب من مجادايه ومناظريه, فلم يكن فيهم بيانه ولا قلمه, ولعله يسترعى الأفهام بذلك أولاء ثم بحجته ثانيا.

وقد خلف طائفة من الكتب والرسائل فى عدة أبواب من العلم؛ بعضها فى التفسيرء وبعضها فى الفقه والأصولء ويعضها فى الكلام؛ وبعضها كان جدلا بينه وبين خصومه.

كتب فى التفسير:

- وإقد كتب ابن تيمية فى التفسير رسائل وكتباء ومما كتب من رسائل فى التفسير رسالة قيمة فى منهاج التفسيرء وكيف يكون: وقد قبسنا منها كثيرا عند كلامنا على منهاجه فى تفسير القرآن» واستخراج الأحكام الشرعية؛ وتفسير آيات الصفات وغيرها.

ولقد قال المؤرخون ناقلين عن تلاميذه أنه جمع قدرا كبيرا فى تفسير القرآن الكريم؛ وقالوا إنه بيقع فى أكثر من ثلاثين مجلدا؛ وقد بيض أصحابه بعضه: وكثير منه لم يكتبوه: ولعل الباحثين يعثرون على ذلك التفسير كاملاء فإن الذى أثر عنه هو نه “ذج جيدة للتفسير السلفى, قد اختلط بعمق النظرء وسلامة الذوق» من غير أن يطفى النظر على الأثرء ولا أن يختفى الفكر المستقيم بين مختلف الروايات. وشتى الثقول؛ بل إنك لترى عقله المتفكر المتدبر بلمح وراء الروايات: وفى مزدهم الآثار, ومن ذلك المأثور الذى نقرؤه فى تفسير سورة

هك

الصمدء وتفسير المعوذتين» وتفسير سورة النور؛ وكل هذا مطبوع فى مصر مقروء. واقد كان فى تفسيره يتجه بإخلاص طالب إلى الآية ومعناهاء مستعينا فى ذلك بالآثار السلفية, والمدلولات اللغوية» وأحيانا يقرأ كثيرا ولا يهتدى: ولقد روى عنه أنه كان يقول: «ريما طالعت على الآية الواحدة نحو مائة تفسيرء ثم أسال الله الفهمء وأقول: يا معلم آدم وإبراهيم علمنى: وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوهاء وأمرغ وجهى فى التراب: وأسأل الله تعالى وأقول: ديا معلم إبراهيم فهمني»!".

ويظهر من هذا القول مقدار عنايثه يفهم القرأن وتفسيره؛ وإدراك روحه ولبه من وراء الآثار الصحاح عن النبى عله والصحابة والتابعين. ولقد قال بعض تلاميذه أنه كتب نقول السلف مجردة عن الاستدلال على جميع القرآن: وكتب مقدارا كبيرا بالاستدلال.

أى أنه رضى الله عنه جمع النقول المفسرة للقرآن الكريم؛ لتكون مادته فى التفسيرء ثم ابتدأ بالتفسير على ضوء هذه النقول. ويظهر أنه كتبها للتفسير أولا ويالذات: ثم ليستفيد منه فى دراساته الدينية فى مسائل الصفات وغيرها هن المسائل الاعتقادية والفقهية؛ وإذا كتب على بعضها : «كتبته للتذكرة»!",

ولقد كان فى سجنه الأخير يذاكر القرآن» ويتلوه ويتفهمه؛ ولقد طلب منه أحد تلاميذه وهو فى السجن أن يكتب فى القرآن كله تفسيرا مرتباء بدل أن يكتفى بجمع نقول عن السلف فى غير ترتيب. أى من غير تطبيق له على الآيات» فكتب إليه يقول: «إن القرآن منه ما هو بين بنفسه؛ وفيه ما قد بينه المفسرون فى غير كتابء ولكن بعض الآيات أشكل تفسيرها على جماعة العلماءء فربما يطالع الإنسان فيها عدة كتبء ولا يتبين له تفسيرها وريما كتب المصنف الواحد فى آية تفسيراء ويفسر غيرها بنظيره: فقصدت تفسير تلك الآيات بالدليل, لأنه أهم من غيرهء وإذا تبين معني آية تبين معانى نظائرهاء وقال: «قد فتح الله على هذه المرة من معانى القرآن ومن أصول العلم بأشياء كان كثير من العلماء يتمنونهاء وندمت على تضييع أكثر أوقاتى فى غير معاتى القرآن أى نحى هذا»!", )١(‏ العقود الدرية ص5*. 22١١‏ (9) الكتابالمذكور ص/". (؟) الكتاب المذكور ص48/4

11 0- ومن هذا يتبين أن ابن تيمية كان معنيا بجمع نقول السلف فى التفسيرء ولعل ما جمعه هو ال مجلدات الثلاثون التى نقلنا خبرها أولاء واكنه عندما حرر وطبق هذه النقول على الآيات: لم يكتب كل التفسير. لأن بعض الآيات لا يحتاج إلى تفسير: إذ هى تفسر نفسهاء وبعضها قد فسره المفسرون وكتبت فيه الكتب؛ وأكنه عنى بما يشتبه أو يخفى» فعنى بمحاولة إدراكه, ودراسته والوصول إلى الحق فى تفسيره. وأثر عنه قوله فيه مكتوياء وتلقى تلاميذه بعضه مكتوبا عنه فى حياته؛ وأخذوه من الحكام بعد وفاته, ولذلك كان المأثور قليلا بالنسبة إلى المكتوب عن السلفء والمعروف الآن بين الناس منشورا أقل من ذلك ومن كتبه فى القرآن: فضائل القرآن؛ وأقسام القرآن» وأمثال القرآن.

كتب العقائد:

4- وكتب ابن تيمية فى العقائد كثيرة. بل لعلها أغزر هما كتب مادة: ومنها كتاب الإيمان» وقد استعرض فيه الفرق بين الإيمان والإسلام: وزيادة الإيمان ونقصه. ودخول العمل قى الإيمان وعدم دخوله. وغير ذلك: وقد استعرض فى ذلك أقوال السابقين وناقشهاء واستخلص الحق من بينها.

ومنها كتاب الاستقامة. ومنها كتاب اقتضاء الصراط المستقيم؛ وكتاب الفرقان, وشرح الأصبهانية,ورسائله: الحموية. والتدمرية, والواسطية. والكيلانية. والبغدادية, والبعلبكية. والأزهرية؛ والإكليل ورسالة مراتب الإرادة» ورسالة القضاء والقدر, وبيان الهدى من الضلال. ومعتقدات أهل الضلال. ومعارج الوصولء والسؤال عن العرشء وبيان الفرقة الناجية: وغير ذلك من الكتب والرسائل.

وله فى همناهج الاستدلال كتاب نقض المنطق؛ والرد على المنطقء. كما له فى الرد على الفلاسفة مجلدات,؛ ولانستطيع أن نحصى كتبه الخاصة بالعقائد فإنها قد شغلته مسائلها والمناقشة فيها أكش حياته: فانه من وقت أن كتب رسالته الحموية سنة 514 ه إلى أن توفاه الله سبحانه وتعالى.وهى يكتب مؤيداً آراءه فيها الكتب الطوال أحياناً وبالرسائل أحياناً وإن كان اشتغاله بعلوم العقائد قد زاحمه اشتغاله بالفقه والآثار,

وقد أخذت بعض كتابته فى العقاك مظهراً جدلياء وكانت مناقشته يتبع فيها منهاج المناقش المجادلء ومن هذا كتاب منهاج السنة, وكتاب موافقة صحيعح المنقول لصريح المعقول.

وذدًا

6 - وقد اختص من بين كتبه موضوع الجدل فى الدين والعقاك والحلال والحرام بكتاب سماه (تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل) وقد قال فى مقدمته بعد الإشارة إلى طريقة المتقدمين فى المجادلة بالتى هى أحسن: ثم صار المتأخرون بعد ذلك يتناظرون فى أنواع التأويل والقياس» بما يؤثر فى ظن بعض الناس؛ وإن كان عند التحقيق يول إلى الإفلاس؛ لكنهم لم يكونوا يقبلون من المناظرة إلا ما يقيدء ولى ظنا ضعيفاً تلناظر؛ واصطلحوا على شريعة من الجدل للتعاون على إظهار صواب القول والعمل؛ ضبطوا بها قوانين الاستدلال لتسلم عن الانتشار والانحلال» فطريقتهم وإن كانت بالنسبة إلى طرائق الأولين غير وافية بمقصود.ء لكنها غير خارجة عنه بالكلية: ولا مشتملة على ما يؤثر فى القضية. وريما كسوها من جودة العبارة» وتقريب الإشارة: وحسن الصياغة وصنوف البلاغة ما يحليها عند الناظرين وينفقها عند المتناظرين مع ما اشتملت عليه من الأدلة السمعية والمعانى الشرعية» وبنائها على الأصول الفقهية: والقواعد الشرعية والتحاكم فيها إلى حاكم الشرع الذى لايعزلء وشاهد العقل المربى المعدل,

«ثم إن بعض طلبة العلوم من أبناء فارس والروم صاروا مولعين بنوع من جدل المموهين: استحدثه طائفة من الشرقيين؛ وألحقوه بأصول الفقه فى الدين راوغوا فيه مرائغة الثعالب؛ وحادو) فيه عن المسلك اللاحب؛ وزخرفوه يعبارات موجودة فى كلام العلماء قد نطقوا بها؛ غير أنهم وضعوها فى غير مواضعها المستحقة لها وألفوا الأدلة تأليفاً غير مستقيم؛ عدلوا عن التركيب الناتج إلى العقيم؛ غير أنهم بإطالة العبارة وإبعاد الإشارة, واستعمال الألفاظ المشتركة والمجازية فى المقدمات. ووضع الظنيات موضع القطعيات؛ والاستدلال بالأدلة العامة حيث ليست لها دلالة على وجه - يستلزم كلامهم الجمع بين النقيضين مع الإحالة والإطالة؛ وذلك من فعل غالط ومغالط للمجادل»!!),

وترى من هذه المقدمة التى صدر بها كتابه. كيف يشتد فى نقد إدخال المنطق فى العلوم الإسلامية. ويشيرالى أول علم دخل فيه وهى أصول الفقه فى الدين: وهو بذلك يشير إلى حجة الإسلام الغزالى الذى جعل أول كتابه المستصفى مقدمة أوجز فيها علم المنطق بحدودهورسومه وأقيسته.

."4 العقود الدرية ص‎ )١( 54

- ومن بين الكتب ما جمع بين المناقشة الخصبة المنتجة؛ والعلم الصحيح العميق فهو من ناحية مرجع فى بابه» وحقائق علمية صادقة عميقة؛ ومن ناحية أخرى جدل ومناظرة جيدة محكمة عميقة» وأوضح مثل لذلك كتابان هما: منهاج السنة: وقد قبسنا منه كثيراً عند دراستنا لآرائه فى الخلافة والعقائد, ونزاعه مع الشيعة, والكتاب الثانى: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح. ْ كتاب الجواب الصحيح:

7 - وإنا نخص ذلك الكتاب ببعض القول الموجزء فهى أثر قيم خالد من آثار ابن تيمية» وهى يقع فى أربعة مجلدات ضخام.

وإن السبب الباعث لتاأليف هذا الكتاب يقوم على أسرين(أولهما) رغبة من شيخ الإسلام ابن تيمية فى إعلان الإسلام بين المسيحيين» وبيان حقائقه مقارنا بما عندهم ليتبين لهم الحق؛ وبيان حقيقة السيد المسيح عليه السلام ودعوته ويظهر أن الذى بعث ذلك فى نفسه الاحتكاك الذى كان بين المسلعين والنصارى فى الحروب أولاء ثم التتحريضات السياسية ضد المسلمين ثانياً. ثم تاليب أهل الذمة على المسلمين ثالثاء وإن لم يكن التاليب سهلا للعدل الذى كان ينعم به أوائك فكانت الموازنة بين الدينين مستمرة بالحق وبالباطل؛ فكان حقا على ابن تيمية أن يدلى بدلوه فى الدلاء وخصوصاً أنه الذى جاهد وناضل فى كل موضع رأى فيه ما يوجب الدفاع عن الإسلام.

(الأمر الشانى) وهى السبب المباشر أن كتاباً ورد من قبرص فيه بيان أن دين النصارى فى عصره هو ما جاء فى كتبهمء وفيه الاحتجاج له بما يحتج به دينهم وفضلاء ملتهم قديما وحديثاً من الحجج السمعية والعقلية: فتصدى ابن تيمية للردء وقال فى ذلك: «اقتضى هذا أن نذكر من الجواب مايحصل به فصل الخطاب, وبيان الخطأ من الصواب, لينتقع به أولى الألباب» ويظهر ما بعث الله به رسله من الميزان والكتاب»(",

وقد عنى فى دراسة كتابهم؛ والجواب عما جاء به يتتبع ما ذكروه بلفظه, وتتبع كل

فصل مثله يرد به: ولقد قال فى كلامهم, وقائليه وسببه: «وأنا أذكر ما ذكروه بألفاظهم

بأعياتها؛ فصلا فصلا وأتبع كل فصل بما يناسبه من الجواب فرعا وأصلاء وما ذكروه فر ع3

وإن كان قد يزيد بعضهم على بعض بحسب الأهوال. فإنا فى هذه الرسالة وجدناهم يعتمدون عليها قبل ذلك, ويتناقلها علمائهم بينهم: والنسخ بها موجودة قديمة؛ وهى مضافة

نصرالنصرانية»(!), وبواص هو صاحب الرسائل الأربع عشرة المشهورة التى تعد أصلا من أصول النصراتية الحاضرة,

4 - وآبن تيمية فى هذا الكتاب مدافع» وليس بمهاجم؛ ولكنه كدأبه فى الجدل يهدم حجة خصمه ويفل سيفه الذى يشهره عليه؛ ثم يغير عليه فى قوة وشدة؛ وإن كانت مناقشته فى هذا الكتاب هادئة فى جملتهاء ومهما يكن الباعث على الكتاب من رد هجومهم؛ فقد كان فى دفاعه أيضاً مهاجماً؛ لأن خير الدفاع ما كان هجوماً.

وإن فصول الكتاب تثيت أنه كان فى فصل رادا مدافعاً؛ ولكنه لايقتصر على رد الخصوم إلى ديارهم: بل يضربهم فى عقر دارهم:؛ حتى لايعاودوا بعد ذلك الهجوم.

- والكتاب سنة فصول؛ كل فصل منها رد لفصل من هجومهم؛ وهجوم فى باب هذا الفصلء والفصل الأول دعواهم أن محمداً عله لم يبعث إليهم؛ بل إلى أهل الجاهلية من العرب؛ وأن فى القرآن الكريم ما يدل على ذلك ويرد عليهم ابن تيمية حجتهم؛ ويأخذ مما ساقوا دليلا على عموم الرسالة المحمدية, ويسوق الحجج والأدلة المثبتة لذلك العموم غير ماساقوا هم مدا يحسبونه لهم وهى حجة عليهم, ثم هو فى هذه الأثناء يغير على كتبهم التى بأيديهم؛ وعلى استحلالهم للخنزير: وامتناعهم عن الختان: وتقديسهم للصليب وغير ذلك وفى الجملة هو فى هذا الفصل يثبت صدق محمد لَه وعموم رسالته, ويهاجم من فأجموة. '

- والفصل الثانى دعواهم أن محمداً عله أثنى فى القرآن على دينهم الذى هم عليهء ومدحه بما أوجب أن يثبتوا عليه, لا أن يتركوه ويبدلوا دينهم الذى ارتضواء وفى رد هذا الفصل يبين ابن تيمية حقيقة المسيحية التى زكاها القرآن» وما اعتراها هن تفيير .تبديل؛ ويثبت أن كل ما عندهم من شعائر دينية ليس هى الذى جاء به المسيح عليه السلام:

4

فالقرآن أثنى على الشريعة التى جاء بها المسيح؛ وليست هى التى كان يدعيها المسيحيون فى عصره؛ فإذا ذكر القرآن الإنجيل فى مقام الثناءء فليس هى الإنجيل الذى يقرأون؛ وإن ذكر الشريعة التى أتى بها الإنجيل فى احترام» فليست هى الشريعة التى يعتنقون, ثم يكر عليهم فى تفييرهم وتبديلهم» وبيان السبب فى انحرافهمء وتحريقهم الكلم عن مواضعه؛ وهو فى كل ذلك يفسر آيات القرآن التى يسوقونها لأنفسهم محتجين بهاء مبينا الحق فيهاء وبطلان حجتهم: فهو تارة يلبس درع المدافع؛ وأحياناً يحمل سيف المهاجم؛ وهو فى الموقفين يصول ويجول.

١‏ - والفصل الثالث دعواهم أن نبوات الأنبياء المتقدمين. وكتبهم كالتوراة والزبور, تشهد لدينهم الذى هم عليه من الأقانيم والتثليث. والاتحاد!') وغير ذلك بأنه حق وصواب؛ فيجب التمسك به؛ ولايجوز العدول عنه؛ إذ لم يعارضه شرع يرفعه ولاعقل يدفعه. وهثا نجد ابن تيمية يتقصى نقولهم التى نقلوها نصا نصاء وكيف حاولوا أن يحملوها معنى التثليث, ومعنى الحلول الإلهى فى الجسم الإنسانى؛ ولايترك نصصا ذكروه إلا ساقه؛ ووازن فيه المعنيينء المعنى الذى ساقوه. وحملو) الألفاظ من المعانى من غير تعمل ولاتكلف؛ وبعض العبارات يثبت أنها غير صحيحة السند وأنها لاتعول على نقلها؛ ثم لايكتفى بذلك النقضص لمقدمات الاستدلال التى يسوقونها ليثبتوا التيث والحلول. بل يكر على النتيجة:؛ ويثبت منافاتها للعقول. ويهاجمها هجوما هادئا عقليا؛ مستعيناً فى ذلك ببعض نصوص قرآنية؛ مثل قوله تعالى: «إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون»!),

- والقصل الرابع قد ذكروا أن المعقول يثبت ماهم عليه من التثليث؛ ويقولون إنه ثابت بالنظر المعقول. والشرع المنقول؛ وهو موافق للأصول؛ وهنا نجد ابن تيمية يتعم ما ذكره فى الفصل الذى سبقه. ويبين بعد هذه الآراء عن معانى التوحيد التى جاءت بها الديانة. ويخوض ابن تيمية فى هذا المقام فى العقليات خوض العارف المستمكن؛ ويكون رده هجوماء ودفاعه نقضا؛ لأنه فى هذه المساألة لافجوم على القرآن: فيدافع, بل هى هجوم على ما هى مقرر فى البدائه فيبين أحكام العقل وبدائه العقول. ويفسر الإلهيات تفسير الخبير الفاهمء ويبين مقالة أريوسء ومناقضته. ودخول قسطنطين ملك الرومان فى النصرانية, واضطهاد النصارى لمن يتنصرء وكيف أخذ التحريف للعقيدة يسير إلى أقصى الطريق. )١(‏ هذا تعبير ابن تيمية ويقصد به الحلوله أى حلول اللاهوت فى الناسوت. (؟) آل عمران:

الا

07 - والفصل الخامس ؛ موضوعه مناقشة دعواهم أنهم موحدون, والاعتذار عما يقولونه من ألفاظ يظهر منها تعدد الآلهة كألفاظ الأقانيم بأن ذلك من جنس ماعند المسلمين من النصوص التى يظهر منها التشبيه والتجسيم؛ ويناقش ابن تيمية هذاء ويبين التناقض بين الدعويين: ومدم إمكان التوفيق؛ وتعذر تلاقى التثليث مع التوحيدء لأنهما حقيقتان متناقضتان» ويرد تشبيه ابن البطريق لحلول اللافوث فى الناسوت بفيضان شعاع الشمس على الأرض؛ فى أنه ليس لنورها حلول؛ ويسترسل فى مناقشة هذا التشبيه وغيره من التشبيهات التى يضريها علماء النصارى فى جدلهم مع المسلمين ليثبتوا أن تثليثهم توحيدء ثم يناقش ادعاءهم أن الأقانيم الثلاثة تشبه قول هن يدعون أن لله يداء وإن لله عينا إلى آخره؛ وكأنهم يهاجمون يبهذا بعض الحنابلة ومن ينهجون نهجهم, ويهاجمون ابن تيمية الذى يثبت ذلك من غير تشببه ولاتجسيمء فيتقدم ابن تيمية للرد مبينا الفارق بين قولهم وقوله؛ وأنه لايمكن أن يكون الثلاثة واحداً؛ ولكن يمكن أن يكون الواحد له عدة صفات وخواص الختص بها لا يشاركه أحد فيها().

- والفصل السادس من الكتاب كلامه فى دعواهم أن المسيح عليه السلام جاء بعد موسى عليه السلام بغاية الكمال. فلا حاجة بعد النهاية إلى شرع مزيد على الفاية: بل يكون ما بعد ذلك شرعا غير مقبوله ويقواون فى ذلك «إن الشريعة عدل وفضلء وإن شريعة العدل جاء بها موسى عليه السلام؛ وفى التوراة تنظيم أحكامهاء فلما استقرت؛ واطمأن الناس إلى أحكامها جاءتهم شريعة الفضل وشريعة الكسالء فجاء عيسى بهذا الكمال والفضل رحمة بالعالمين: فقد تم الأمر بالعدل المنظم, والفضل المكمل».

ويرد ابن تيمية رضى الله عنه فى هذا الباب رد! محكما؛ فيسير على مقتكضس منطقهم: فيقول إن الشرائع ثلاثة لا اثنتان: شريعة عدل» وشريعة فضلء وشريعة جمعت بين العدل والفضلء أى بين التنظيم الاجتماعى فى كل صوره؛ وفروهه الجزئية التى تهختلف باختلاف العصورء والكمال الإنسانىء والنزوع الروحى؛ فالشريعة التى جمعت هذين العنصرين هى أكمل الشرائع؛ وهى شريعة الإسلام؛ ويبين رضى الله عنه كيف جمع الإسلام بين العدل والتسامح فى أسلوب محكم دقيق عميق. يصح أن يكون قائما بذاته فى بيان )١(‏ راجع هذا الجزء الثالث ص ١١١‏ وما يليها.

إخرة

معنى الإسلام فى الجمع بين عنامسر الكمالء وطرائق التهذيب والتثقيف, وإقامة العدل والقسطاس المستقيم؛ ويوازن بين ما جاء فى الإسلام: وما جاء فى التوراة موازنة دقيقة محكمة: ويوازن بين ما جاء فى الإنجيل من الكمال الإنساني وبين ما جاء فى القرآن.

ولايكتفى بذكر هذه الحقائقء بل يتجاوز ذلك إلى إثبات البشارات بالشرع المحمدى؛ والإشارة إلى الشرع الكاملء والطريق الأمثلء وأن الشرائع التى سبقته تمهيد, وهو النهاية, وطريق وهى الغاية» وجزئى وهو الكلى,

ويعقب ذلك بالكمال فى شخص الرسول عليه الصلاة والسلام؛ وشريعته. ومعجزتها, وأدلتهاء ويتناول ذلك فى الجزء الرابع من الكتاب؛ وهى مسك الختام.

وإن هذا الكتاب أهدأ ما كتبه ابن تيمية فى الجدال: وهو وحده جدير بأن يكتب ابن تيمية فى سجل العلماء العاملينء والأئمة المجاهدين» والمفكرين الخالدين.

كتب فى الفقه:

0 - والققه أخصب جزء من إنتاج ابن تيمية, وإن لم يكن أكثر إنتاجه ضجة وظهوراً فإنه أنتج فى الفقه إنتاجا عظيماء ومعاييره الفقهية التى درس بها الفقه دراسة مقارنة عميقة تعد من أدق المعايير» وأضبطهاء وإن مداركه الفقهية تعد أثمر وانضج من مداركه فى العقيدة, وإن كانت الأخيرة قد أخذت الشطر الأكبر من حياته. ولعل السيب فى ذلك علمه العظيم بالآثار السلفية: وهى تمد الفقيه بعناصر جيدة عظيمة فى أبواب الفقه وأثرها فى تكوين الفقه أكبر من أثرها فى تكوين الباحث فى العقيدة: لأن عباراتهم فيها أكثرها مجازى يحتاج إلى تأويل وإسنادها من حيث القوة لاتكفى لتكوين جزم ويقين: هذا ومن خواص العقيدة وأدلتها أنه لابد أن تكون منتجة جزما أو يقينا؛ أما بالنسبة للأحكام العملية؛ فإنها تجعل الفقيه المجتهد يعيش فى عصر الصحابة والتابعين: ويتسامى إلى مداركهم الفقهية, فيقول فيه القول الذى يتفق مع لب الفقه الإسلامى العميق.

01 - وقد ترك ابن تيمية آثاراً فقهية جليلة منها فتاويه المختلفة التى كان بعضها فى مصرء ويعضها فى الشام؛ وقد جمعت منها المجلدات الضخام؛ وله قواعد جليلة فى مسائل تتشعب فيها الأنظارء وتختلف حولها أوجه التفكيرء فوضع فيها ضرابط يلثقى عندها المختلفون:» ومن هذه القواعد قواعد فى الوقف والوصايا وقاعدة فى الاجتهاد

نذا

والتقليد وقاعدة تفضيل مذهب أهل المدينة: وهى فى رسالة تسمى المالكية: وقاعدة شمول النصوص وقاعدة القياسء وقاعدة فى لعب الشطرنج» وقواعد فى السفرء وقواعد فى أحكام الكنائس» وقاعدة رجوع ا مغرور على من غره؛ وقاعدة الضمان, وقاعدة فى طهارة سؤر ما يؤكل لحمه وبوله, وقاعدة الجهاد والترغيب فيه؛ وغير ذلك من قواعد ضمنها كتبه وفتاويه, ومن رجع إلى فتاويه وجد من ذلك الكثير الذى لايحصى عدداً ,

وله رسائل جليلة محكمة منها رسالة القياس. ومنها رسالة الحسبة: ورسالة وضع الجوائح: والكتاب فى النكاح المحلل, وكتاب العقود, وغير ذلك من كتب ورسائل فى الفقه والأحكام؛ وله فوق ذلك أعمال علمية موضوعها الفقه أتم بها عمل أبيه وجده؛ فله تعليق على كتاب المحرر فى الفقه لجده الشيخ مجد الدين: فى عدة مجلدات: وله كتاب شرح فيه قطعة من كتاب العمدة فى الفقه. للشيخ موفق الدين فى مجلدات أيضاً.

وفى الحق أن رسائله وقواعده وكتبه فى الفقه بلغت عدداً عظيماً» وبعضه منشور بين الناس؛ وبعضه غير منشورء وهى أكشر,ء وقد نقلنا لك نماذج فقهية فى أبواب مختلفة» ومناح مختلفة؛ وكلها كان فيه نسيج وحده قى التحرى والاستقصاء والتتبع والإحاطة,

وصف عام لكتب ابن تيمية:

7 - اختصت كتب ابن تيمية بصفات تجدها بارزة فيهاء حتى أنك إن مارست قراءتهاء ثم قرأت كتابا له من غير أن تعرف نسبته إليه تنسبه إليه. ولاتكاد تخطئ» وأوضح تلك الخواص التى اختصت بها كتابته: ش

(أ) الوضوح؛ فإنها واضحة مشرقة نيرة لا تعقيد فيها ولا إبهام؛ ولعل السر فى هذا الوضوح أنها كانت فى كثير من الأحوال ردوداً فى مجالات؛ أو نقداً لبعض المناحى والآراء أو توضيحا لفكرة شرعية استبهمت على العقولء أو ردا لفكرة إلى المحرر من الاصولء وكل ذلك من شأنه أن يجعل الفكرة جلية؛ والعبارات بينة فى الدلالة عليها.

(ب) الإكثار من الاستشهاد بالأحاديث النبوية؛ والآثار السلفية من أقوال الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة المجتهدين على اختلاف مناهجهم؛ حتى كأنك إن تقرؤه تقرأ علم السلف قد نقله إليك, وإذا استغرقتك قراعته نقل فكرك وعقلك إلى حيث كان السلف الصالح يعيشون ويفكرونء فهى ينقل إليك آثارهم لينقل عقلك إليهم: ويسمى بقكرك إلى مناهجهم.

ل

(ج) وتختص كتابته فوق ذلك بإشراق الديباجة وطلاوة العبارة, وسلامة المنهاج العربى» ووضع الألفاظ فى مواضعها من حيث السبك العربى الجيد من غير أن يكون ذلك على حساب المعثى؛ أى يخرج بالقارئ من نطاق الكتابة العلمية إلى حيث الكتاية الأدبية التى تشبع الخيالء وتوجهه من غير أن تثير العقل العلمى وتنبهه, فهى الكاتب العلمى المجود لألفاظه وأسلويه.

(د) وتختص كتابة ابن تيمية بعمق التفكير عمقا كبيرا؛ حتى لتذهب به تأملاته الفكرية إلى درجة العمق الفلسفىء ولولا موقفه فى آيات الصفات. والأخبار التى تتصل بالذات العلية» وأخذه هذه الآيات على ظاهرها من غير أى محاولة لإخراج الألفاظ حتى إلى المجاز القريبء لولا حملته على الفلاسفة والمناهج الفلسفية لعددناه من فلاسفة الإسلام؛ وإذا كان بعض العلماء الأقدمين سمى الشافعى فيلسوف الفقهاء عندما كتب رسالة الأصول؛ ووضع أسس الاستنباط» فإن من حق العلم أن يسمى ابن تيمية فيلسوف الفقهاء؛ بدراساته الفقهية المقارنة؛ وأنه حتى فى محاربته الفلسقية كان يجادلهم بمنهاج فلسفى عميق.

4 - وإذا كانت هذه الأوصاف التى ذكرناها مزايا لكتابته. وله غيرها فإن فى كتابته أى تصنيفاته فى كثير من الأحوال عيبا واضحاء وهو كثرة الاستطراد حتى أنه أحياناً يتكلم فى العقاك؛ فيستطرد ويشرح مسالة فى الحديث؛ وأحيانا يكتب فى مسألة فقهية فيستطرد استطرادة طويلة يوضح معها مسالة أصولية: ثم يعود بعد رحلة طويلة إلى المسألة الفقهية التى هى من أصل الموضوع, ويبتدئ فيقول: والمقصود وإن ذلك يتكرر فى كثير من بحوثه الفقهية, وكثيرا ما يقرر قواعد أصولية محكمة فى أثناء شرح جزئية فقهية والاستدلال لها وربما كانت القاعدة التى ذكرها استطرادا أدق وأحكم وأكثر إنتاجا من ذات ا موضوع نفسه.واعتير ذلك بالبحث الذى كتيه فى إيطال نكاح المحلل؛ ففى أثناء الاسثدلال للبطلان بالأدلة التى ذكرها ذكر قاعدتين عظيمتين من قواعد الفقه وذكرهما باستفاضة, بحيث لاتجد توضيحا لهما لأحد غيره أكثر مما ذكره؛ بل لاتجد توضيحا يماثله إلا إذا استقى منه. وهاتان القاعدتان هما قاعدة سد الذرائع؛ وقاعدة الحيل الشرعية؛ فلاتجد أحدا قد أفاض فى بحث هذين البابين أكثر مما أفاض أو يماثله إلا تلميذه ابن القيم؛ فإنه قد أفاض فيهما فى كتابه إعلام الموقعين؛ وهى فى هذه الاستفاضة قد اعتمد على شيخه فى كتابته, كما يبدو بادى الرأى لمن اطلع على الورد والصدر.

كل

وإن هذا الاستطراد يلاشك عيب فى التاليف. يشعب القراءة ويؤثر فى الاستفادة. فإن من أراد الاطلاع على الموضوع الأصلى يجد نفسه مضطرا ليقرأً غير ما يطلبء ويطلع على إكراه منه على غير ما يريد؛ لأنه لامحالة سيقرؤه؛ حتى يعرف فى أى مكان يعود إلى الموضسوع الأصلى, وإن قراعته الكارهة لايستقيد منهاء لأنه لايطلبها فلايمعن فيها؛ بل يعبرها عبرا سريعا إلى مقصوده ومطلويه, ويمر عليها كأتها من اللغى, لأنها غير ما يريدء مع أنها علم قيم مفيد.

وا مسائل الاستطرادية لايستفيد منها طاليها بيسر وسهولة؛ لأنه إن طليها فسيبحث عنها فى مظانهاء فلايجدهاء وقد يهتدى إليها إن كان متمرسا بكتابة ابن تيمية مستوعبا لكثير منهاء إذ يجدها فى موضع استطرادها.

5 - وكتب أبن تيمية فيها تكرار للموضوعات والمعلومات: فثراه يكتب الموضوع الواحد فى عدة من كتبه. فترى فى كتاب منهاج السنة كثيرا من آرائه فى الوحدانية والصفات؛ كما ترى فى كتابه تقض المنطق بعض كلام فى ذلك. وفى المتشابه والتويل: وترى فى التدمرية ذلك كثيراًء كما تراه فى الحموية؛ وهو لبهاء وكما تراه فى رسالة الفارق: وهكذا تجد الموضوع الواحد قد ذكر فى عدة من كتبه وربسائله؛ فليس كل كتاب من كتبه أو كل رسالة من رسائله قد اختص بطائفة من المعلومات لاترجد فى غيرهء إلا إذا اقتضت ذلك ضرورة التنسيق والترتيب والتبويب؛ وتكميل الموضوعات وإيفاؤها.

والسيب فى هذا التكرار أمران: أولهما استطراده الكثير, فإن استطراده فى بعض المسائل قد يدفعه إلى شرحها فى عدة كتب؛ لأنه كلما جاءت مناسبة لبيانها بينها من غير أن يحيل على ما كتب من قبل,

أما الأمر الثانى: وهى أظهر من الأول وأوضحء فهى أن كثيرا من كتبه كان جدلا بينه وبين غيرهء وبعض رسائل يرسلها إجابة عن مسائل يسألها فيكتب الموضوع مستوفى إما إجابة للسائل المستفهم أو المجادل المنازلء فما كان ثمة فرصة للاحالة على ما كتب من قيلء وما كان من المناسب أن يسكت عن الإجابة وهى مطلوبة: أو يسكت عن المناظر» وهو ادر على إفحامه قى الحال. قرف

لأجل هذين السببين تعدد بيان موضوعات كثيرة مما خاض فيه؛ وإن تعدد هذا البيان واتحاد المعانى فيه مع اتحاد الألفاظ أحيانا يدل على أنه كان مؤمنا أشد الإيمان بما يقول؛ وهى مثاب باجتهاده سواء أخطأ أم أصاب؛ فحسبه أنه مؤمن بما يقول مخلص فى طلبه, مجتهد فيه والله سبحانه ولى التوفيق.

؟ - تلاميط الشيخ

- لعل الجيل الذى عاش فيه ابن تيمية لم يعرف شيخا كثر تلاميذه ومريدوه, كما كثر تلاميذ الشيخ تقى الدين رضى الله عنه. ولقد كان تنقله بين مصر والشامء وتنقله فى مصر بين الإسكندرية والقاهرة مع عكوفه الدائم على الدرس والفحص والجدال والخطابة, سببا فى أن كثر تلاميذه كثرة عظيمة:؛ فكان له تلاميذ فى مصر؛ وتلاميذ فى الشامء وتلاميذ مصر بين القاهرة والإسكندرية,

بيد أنه بلاحظ أن تلاميذه نوعانء لأن دروسه كانت نوعين: فالنوع الأول من دروسه دروس عامة يلقيها على العامة فى المسجد الجامع يرشدهم بها ويبين لهم الاتباع وحقيقته, ويجنيهم الابتداع كما كان الشأن فى كثير من دروسه بمصر؛ وببعض دروسه العامة فى الشام وحيثها حل كما فعل بغزة عندما مر بهاء وهى مقبل إلى مصر؛ وقد كان له تلاميذ فى هذه الدروس العامة يلازمونهاء وإن كان الأحرى أن يسمى أكثرهم مريدين؛ لأنهم لاطاقة لهم بأن يدركوا كل مدارك الشيخ: حتى يكونوا له تلاميذ بالمعنى الخاص الذين يرثون فيه علمه.

والقسم الثانى من دروسه؛ دروس خاصة كان يلقيها على تلاميذه الذين اخخصوا بعظم المدارك وصلحوا لأن يكونوا ورثته فى علمه من بعده؛ والقائمين على تركته الفكرية وخلفاءه فيهاء وهؤلاء هم الذين كان يلقى عليهم كل تفكيره ومنهاجه فى مدارس الشام» ويعض الاجتماعات الخاصة:؛ فى مصر والشام.

"١‏ - وإن هذا القسم من التلاميذ هم الذين قاموا على تركته الفكرية من بعده وأكثرهم من الحنايلة» وكثير منهم من الشافعية:؛ وإن عددهم لايحصىء فقد كانوا كثيرين لطول المدة التى ألقى دروسه فيهاء فقد ألقى دروسه نحوا من ستة وأريعين عاما دائيا لاينى ولايمل ولايكل» أى من وقت أن توفى أبوه وهى فى الحادية والعشرين إلى أن قبضه الله سبحانه وتعالى إليه. وقد بلغ السابعة والستين.

وخر

ولقد كان أولئك الخاصة من تلاميذه ينالهم الاضطهادء إذا اعتقل؛ فقد كانوا معه فى البلاء, كما كانوا فى الدرس.

ونا سجن الشيخ السجن الأخير بسبب فتياه فى الطلاق والكلام على شسد الرحال أوذى أوائك التلاميذ وعزر بعضهم. وفر بعضهم؛ وألقى بعضهم فى غيابة السجن مدة» ومن بينهم شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبى بكر إمام الجوزية الشهير بابن القيم؛ وقد أطلق من بعد سراحهم إلا ابن القيمء فإنه بقى بعدهم, فاختص بزيادة من البلاء؛ لزيادة اختصاصهبالشيخ.

ابن القيم

"0 - وإذا كنا لانستطيع أن نخص كل هؤلاء التلاميذ فإنا لانستطيع أن تغقل ذكر ابن القيم؛ فإنه كان القائم على تركة شيخه من بعده من حيث التحرير والتأليف والمجادلةوالمناظرة: ولقد واد سنة إحدى وتسعين وستمائة. ومات سنة إحدى وخمسين وسبعمائة؛ فهى أصغر من ابن تيمية بنحو ثلاثين سنة؛ فكان ابن تيمية منه بمنزلة الوالد الشفيقء وقد ولد ابن القيم فى بيت علم وفضل كشيخه ابن تيمية, فقد كان أبوه قيم الجوزية؛ ومن أجل ذلك قيل له ابن قيم الجوزية ثم أطلق القول عن الإضافة فقيل ابن القيم؛ وقد نشاً حنيليا كشيخه.

وقد تلقى علم ابن تيمية: واقتنع به, ونشره ودعا إليه وجادل عنه وحامى عليه؛ وقد كان أخص ما نشره ودعا إليه فقهه؛ فقد ناصصرا آراءه فى الطلاق؛ وحرر العبارات فى فتاويه؛ وجمع الكثير من أصوله وكتاباه إعلام الموقعين. وزاد المعاد وغيرهما قد ذكر فيهما هن تلك التركة المثرية التى تركها ابن تيمية فى الفقه شيئا كثيراء وكان مع ما تلقاه عن شيخه من روح قوية وأراء حرة: واتجاه سلفى قد برع فى علوم متعددة: وقد قال فيه صديقه ورفيقه فى التلمذة على ابن تيمية ابن كثير صاحب التاريخ: «سمع الحديث واشتغل بالعلم» ويرع قى علوم متعددة ولاسيما علم التفسير والحديث والأصلين»!").

وإن تلقيه عن ابن تيمية كان بعد أن عاد الشيخ من مصر سنة ؟١١/‏ - فإنه كان قبل ذلك لم ينضجء وإذا كان جل أعمال ابن تيمية فى تلك الفترة فى الحياة كانت فى الفقه

1م23

والفتاوى: وتأكيد ها قرره من قبل فى العقائد» فأخذ فقهه وتلقى منهاجه؛ ولازمه؛ وإقد قال فى ذلك ابن كثير أيضا: «لما هاد الشيخ تقى الدين بن تيمية من الديار المصرية فى سنة اثنتى عشرة وسبعمائة لازمه إلى أن مات الشيخ فأخذ عنه علماً جماً؛ مع ما سلف من الاشتفالء قصار فريدا فى بابه فى فنون كثيرة؛ مع كشرة الطلب ليلا ونهاراء وكثرة الايتهال».

“اله - وإن ابن القيم كان هادئ الطبع قوى الخلق أخذ من شيخه علمه وإخلاصه وإيمانه» ولم يأخذ عته حدته؛ وقد وصقه ابن كثير الذى كان له صديقا بقوله: «كان حسن القراءة والخلق: كثير التودد لايحسد أحدا ولايؤذيه, ولايستعيبه ولايحقد على أحد؛ وكنت من أصحب الناس له؛ وأحب الناس إليه ولا أعرف فى هذا العالم فى زماننا أكش عبادة منه, وكانت له طريقة فى الصلاة يطيلها جداء ويمد ركوعها وسجودها ويلزمه كثير من أصحابه فى بعض الأحيان فلايرجع ولاينزع عن ذلك رحمه الله("

ويظهر أنه كان له منزع فى التصوف ليس هى الذى حمل عليه شيخه؛ بل كان منصرفا للعبادة: ومتجها للزهادة» مدركا لب الدين فى معنى الورع؛ وقد أودع ذلك كتايه (مدارج السالكين فى مقام إياك نعبد وإياك نستعين) ففيه فى علم الحقيقة وعلم اأشريعة وقد تلاقيا فكونا تدينا مستقيماء وفكرا حكيما وخلقا قويماء وهى كتاب يفيد قارئه فى الدين والخلق والحكمة, وفلسفة التدين القويم.

4 - وقد ترك ابن القيم ثروة علمية كبيرة كان فيها خلاصة علم شيخه؛ وزاد فيها ثمرات دراسته, وتضمنت نوع اتجاهاته؛ ومن كتبه إعلام الموقعين: والكلم الطيب» ومدارج السالكين: ومراحل السائرين: وزاد المسافرين: وزاد المعادء وبدائع الفوائد, وحادى الأرواح» وروضة المحبين, وكتاب الداءوالدواء. وكتاب مفتاح السعادة؛ والطرق الحكمية: وعدة الصابرين؛ واجتماع الجيوش الإسلامية فى الرد على المعطلة والجهمية؛ وكتاب إغائة اللهذان: وكتاب الصراط المستقيمء والفتح القدسىء والتحفة المكية.

هله - ولم تكن كتابته فى حومة الجدل كأكثر كتابات شيخه: يل كانت كنابته فى هدأة وأطمئنان, ولذلك جاءت هادئة, وإن كانت عميقة الفكرة, قوية المنصى؛ شديدة المنزع» وكانت حسنة الترتيب؛ منسقة التبويب؛ متساوقة الأفكار, طلية العبارة: لأنه كتبها فى

لذ

اطمئنان. وتجمع كتابته جمعا متناسبا بين عمق التفكير ويعد غوره؛ ونصوع العبارة وحسن استقامة الأسلوب؛ من غير ضجة ألفاظ: ولعل أوضح مثل لذلك كتابه مدارج السالكين: وكتابه عدة الصابرينء وكتابه مفتاح دار السعادة؛ فهى الفلسفة المحكمة العميقة, والجمال الفنى فى التعبير المحكم المستقيم.

وكانت كتابته مع كل هذا فيها نور السلف؛ وحكمة السابقين فهو كثير الاستشهاد بأقوال السلف الصالح من الصحابة والتابعين؛ وإن كان فى ذلك دون شيخه. ولكنه على أى حال نزح من معينه واستقى من العين الثرة التى فتحها هو وغيره؛ رضى الله عنهم أجمعين.

؟ ‏ المعتنقوق [آراء ابن تيمية

- أحدث ابن تيمية دوياً فى عصره؛ وتردد صداه فى الأجيال من يعدهء فانقسم الناس فى شأنه ما بين مكبر معظم يحوطه بالتقدير والإعجاب بشخصه وعلمه وفكره واتجافهوفريق أصغر شأنه فرماه بالتجسيم والتشبيه, ثم أفرط فرماه بالزندقة والانخلاع من الربقة؛ وبين الفريقين مقتصد لم يخلعه عن الإسلام؛ ولم يرمه بالزندقه والتشبيه أو التجسيم وإن أوهم بعض كلامه ذلك أى أفاده ولم يجعل كل كلامه صوابا لايحتمل الخطاء بل كان بين ذلك قواماء وقد ظهر ذلك الفريق المعتدل فى عصره. كما ظهر الفريقان فيه, غير أن ضجة الجدل وحدة الالتحام لم تجعل لهذا الفريق فى حياته صوتا مسموعا؛ بل كانت المعركة شديدة بين الفريقين المتنازلين» وعلى رأس الأول ابن تيمية يجادل ويناضل.

ويعد وفاته استمر بين الفريقين أمدا قصيرا؛ وأكنه أخذ يضعف شيئا فشيئاء وكثر المعتدلون وقل المغالون؛ حتى هدأ التعصب له. والتعصب عليه. وتوارث الناس جميعا علومه, وتفهموه فقيها مستقل المدارك. وباحثا منقبا محييا للسنة, عاملا على نصرة الدينء والتقى المختلفون على تقديره وحسن أثره فى الإسلام؛ وعظيم قيامه على أمره؛ ويوافقه فى جملة آرائه كثيرون من الحنابلة وغيرهم: ويخالفه فى آرائه فى العقيدة الأكثرون؛ ولكن الموافق والمخالف قد اتققا على أنه جدير بالتقدير» وأنه احتسب النية فى طلب الحقيقة والدفاع عن الدين؛ وأن كل امرئ يخطئ ويصيب وأنه من المثابين فى خطئهم وصوابهم.

الوهابية:

0 - واستمرت موجات التاريخ تسير بذكر ابن تيمية؛ وآثاره وعلومه فى ريح رخاء

17

سهلة غير مضطرية حتى ظهر فى القرن الثانى عشر الهجرى أو القرن الثامن عشر الميلادى» فى بلاد نجد من البلاد العربية محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة 14/1 ميلادية, فقد عكف على دراسة كتب ابن تيمية فى الاعتقاد والفقه. وأمعن فى فهمها وأمن بما جاءت به. وتحمس لهاء بل تعصب واشتد فى تعصبه؛ ودعا من حوله إلى اعتناق هذه الآراء؛ فوجد آذانا تسمع وقلوبا تعى وتتأشء فتعصب ناس كثيرون لهذه الآراء وصاروا أنصارا أقوياء؛ بل تكون من هؤلاء الأنصار دولة صغيرة؛ ذلك بأن محمد بن عبد الوهاب كان من أشد أنصاره صهره محمد بن سعود جد الأسرة الملكية السعودية: وكان فارسا مغواراء فقام بمغامرات حربية لنشر مذهب ابن تيمية وحمايته؛ لأنه فيما يعتقد السنة ولعله قد التقى المطمح السياسي بنصرة المذهب الدينى, وعاون أحدهما الآخرء وقامت بذاك تلك الدولة الصغيرة وفيها التحقيق العملى لآراء ابن تيمية فيما يتعلق بزيارة الأضرحة؛ وقبور الصالحينء بل قبر النبى مله ولقد شنوا غارة على البدع قى نظرهم وحاريوها بكل قوة وأحيوا فى نظرهم السنة بأعمالهم, وخربوا مساجد الشيعة التى كانوا يخصونها بالتقديس. ومنعوا إلحاق المئذن بالمساجد واستعمال المسابح وحاولوا أن يعيدوا كل شىء إلى حال السذاجة الأولى التى كان عليها الإسلام فى عصره الأولء وتسامع الناس بحركاتهم فى كل اليلاد الإسلامية القريبة من البلاد العربية, فآمن ناس بها وناصروهاء ودعوا إليهاء وبذلك اتسعت رقعة الأتباع لابن تيمية, وإن اختلفوا في البلاد الإسلامية قلة وكثرة.

مه - ولقد كان تشددهم في معاملة مخالفيهم: وتشددهم فى عقائدهم؛ ومحارية لما أخذت قواتهم المسلحة تدمر كل شىء فى طريقها يخالف ما عليه الوهابيون.

وقد قاموا فى وجه الدولة العشانية التى كانت البلاد العربية بنجدها وسهولها ولاية من ولاياتهاء وحاريوها واشتدوا فى حربها حتى أنها لم تقدر على صدهم؛ فاستعائت بمحمد على الذى كان واليا على مصر. وعنده العدة والعتاد, والقوة المصرية القوية, فخرجت الجنود المصرية إليهم؛ وصدتهم وأنزلت بهم الخسائر الشديدة فى الرجال وأبوا إلى مثابتهم من حيث خرجوا . ١‏

- واستمروا قوة كامنة فى داخل البلاد العربية: يتشددون فى اتباع آراء ابن تيمية فيما يتعلق بزيارة القبور وغيرهاء ولا يتجاوزون نجدهم إلا قليلا وفى أوقات متفرقة حتى كانت الحرب العالمية الأولى ورفعت يد الدولة العثمانية عن البلاد العربية. وائحلت الإمبراطورية العثانية: وعندئذ وجدها الملك عبد العزيز آل سعود رحمة الله عليه فرصة قد لاحت؛ فانقض على الآسرة الهاشمية فى الحرمين الشريفين. وانتزعهماء وتولى سدانة البيت الحرام؛ وصار أكثر الجزيرة العربية تحت سلطانه. وهم الآن متمسكون يآراء اين تيمية فى العقائد وزيارة الاضرحة والمساجد, وإن كانوا قد لطفوا من شدة يعضهم لآرائهم: بسبب اتصالهم بالناس في موسم الحج واختلاطهم بهم ولعل اضطرارهم للتساهل يسبب سدانتهم للبيت الحرام. وقيامهم بالحكم في حرم الله الأمين؛ قد جعلهم يتسامحون مع مخالفيهم؛ ولا يتشددون تشديدهم الأول.

- وإنه من الحق علينا أن نقول كلمة حق. وهى أن تعلق هؤلاء بآراء ابن تيمية وتشددهم فيها وحرص علمائهم على بثها فى نفوسهم كان سببا فى أن أوجد فيهم ثقافة مع أميتهم؛ ولم تكن هذه الثقافة لغيرهم من سكان الجزيرة العربية» ولما أن صار لهم السلطان فى أكثر أهصقاعها نشروا هذه الثقافة فى سكان الحجاز؛ وقد كان الجهل بكل شىء مسيطرا عليهم؛ حتى إذا تفتحت العقول واستيقظت الأفهام: اتجهت الهنم لإنشاء المدارس, ونشر الثقافة فى البلاد العربية,

وإذا كان السعوديون حنابلة: فإنهم يعتبرون ابن تيمية الإهام بعد أحمد. ونضرع إلى الله أن يأخذ أمراؤهم بسنة العدل وأن يكونوا مظهرا حيا للإسلام فى تفواه واستقامته؛ وأن يوفقهم الله لإحياء سنة العدلء فإنها أوثق السنن وخيرهاء ومن أشد ما دعا إليه أين عبد الله والله ولى التوفيق.

تم يحمد الله )

1

محتويات الكناب الموضووع التعريف بالشيخ أبى زهرة ٠١‏ المقدمة

١ تمهلك‎

القسم الأول حياة ابن تيمية

ولادتهوأسرته

نشأته

توليه التدريس

من محراب العلم إلى ميدن القتال القارس والعالم

المحنة الأولى .

درس الشيخ بمصر .

المحنة الثانية

العودة إلى الدرس فى القاهرة الرجوع إلى الشام المحنةالثالثة

العودة إلى الدرس

المحنة الأخيرة

علمه ‏ ومصادرة.

صفاته

الصفحة

7

ا موضوع من تلقى العلم عليهم انصرافه إلى العلم عصرهة الحالة السياسية الحالة الاجتماعية الحالة الفكرية الدراساتالعلمية. الفرق الإسلامية الشيعة الفرق الاعتقادية الجبرية المعتزلة الأشاعرة التصوف فى عصر ابن نيميّة- خاتمة عن عصر ابن تيمية-

القسم الثانى آراؤه وفقهه المذهاج العام منهجه فى فهم القرآن منهجة فى معرفة العقيدة الفرق بينه وبين الغزالى نقده للفلاسفة

ءءء

الصفحة

154 ٠. ل‎ الل‎ 1 رن‎ ١ 8 1 1١44 ١44 ٠6١ ١65 وكا‎ ا١ا/و‎

ابا ١‏ 145

نكن

الموضوع مناهج العلماء فى نقد العقائد نقضهللمنطق <به رأينا فى كلامه العقاك - الوحدانية والصفات معنى الوحدانية اختلاف الفرق فى معنى توحيد الذات مذهب السلف فى الوحدانية عندة ٠‏ نقدنا لابن تيمية © ابن تيمية واين الجوزى + الحقيقة والمجان فى أوصاف الله نظر ابن تيمية إلى كلام السلف المتشابهوالتأؤيل رأى المتكلمين فى التأويل رأى الغزالى فى التأويل مابين الغزالى وابن نيمية- مسالة خلق القرآن وحدة الخلق والتكوين التوحيد وإرادة الإنسان تفنيد أبن تيمية لرأى الجبرية رأيه فى الأشاعرة رأيه فى المعتزلة مذهب السلف فى نظويهص تعليل أفعال الله الوحدانية فى العبادة

الصفحة

هءء

كن امك دف 1" ينذن 14 زفف لفلا ف رذرن ع كرف "١‏ رذن امن كنا 0" 0" 32> الما يدن انا نذا 511

ا موضوع إقرار ابن تيمية بكرامة الأولياء لا تلازم بين الكرامة والولاية التقرب بالأولياء منع الاستفاثة يغير الله زيارة قبور الصالحين الوحدانية والتصوف الحلول - وحدة الوجود - الاتحاد الإيمان الإمامةالعظمي تقديره للأئمة كلهم ترك المذهب للحديث فتاوى فى مذهب أحمد طلاق المكرهوالسكران اختلاط الحلال بالحرام دراسات فقهية مقارنة القاعدة فى القتال علاقة المسلمين بغيرهم حكم المعاهدات العقودوالشروط وضع الجوائح معنى الجائحة - العقود التى توضع فى الجوائح اختيارات ابن تيميّةسر اجتهاده فى الطلاقي”

لاق

الصفحة وذ ف 1" و" تفن يفنا مفذ اه 54 6" 554 نان 4 5" امسن ينف 14" مان فس ارفس لضن احرف دن بخان

الموضوع الطلاق البدعى والطلاق السنة الطلاق الثلاث الحلف بالطلاق مرتبة ابن تيمية الفقهية. مراتب الاجتهاد أصول ابن تيمية النصوص الإجماع القياس بقية الأصول الحنبلية المصالح المرسلة آثار ابن كيميه- الكتب كتب العقائد كتاب الجواب الصحيح كتب الفقه وصف عام لكتب ابن تيمية تلاميذ ابن تيمية , ا 2 المعتنقون لآراء اين تيمية الوهابية الفهرست

الصفحة

/'ء

تال لدان لكان انا نفس فل انا تلان انا ١‏ رد 2 ف يف أغرق انق 2 لاع كلق ءءء ١‏ ع

دار الفكر العربىي مؤسسة مصرية للطباعة والنشر والتوزيع تأسست 116 ها - 19545 م مؤسس الدار وصاحيها : محمد محمود الخضرى الإدارة : ١١‏ ش جواد حسنى - القاهرة ص :0015.0 الرمز البريدى ١١0١١‏ فاكس اا ا 1 0) 3 انض كيني نشاط المؤسسة : -١‏ طبع ونشر وتوزيع جميع الكتب العربية فى شتى مجالات المعرفة والعلوم,

1- استيراد وتصدير الكتب من وإلى جميع الدول العربية والأجنبية

تطلب جميع هنشوراتنا هن فروعنا بجمهورية مصر العربية الفرع الرئيسىي :"1 شارع جواد حسنى القاهرة تلط لوم فرع الدقى : لا" شارع عبد العظيم راشد المتفرع من شارع محمد شاهين - بالعجوزة ددغ اللا فرع هديئة نص : 14 شارع عباس العقاد - المنطقة السادسة وإدارة التسويق -مهديئة نصرت 44 5-0 1445 فاكس 115:15؟ وكذلك تطلب جميع منشوراتنا من الكويت من مؤسسة دار الكتاب الحديث ص ,. ب08 ١‏ السالمية ١/1.؟؟‏ ت:6االالاه فاكس الاممالاه

ليك