3 ذا 7 مد ١ 2‏ : ا 08 1 0 4 1 0 ا لاك 7 للح ب ته لالم حت ابي .بدي يدا 2 جرع سكين و ري لظم ب _- 2 ا ل اك أو 0 70 0 تملس يسع الى مه ىق 3و : 0 020 سل - 1- و اي ا 7 5-00 77017 11-2 1-1701 2. <2 2124 6 ٠ 9 1 ع‎ + ا 20 7ت 4 1 70 وك فود و ا رح 5 ص ف لإسا ابد 4 ُ إت ‏ -07 ا اياي .م محمد أبو زهرة. الجريمة والعقوبة فى الفقه الإسلامى: الجريمة/ محمد أبو زهرة. ‏ القاهرة : دار الفكر العربى» .١99/‏ 48 ص ؛ 4 اسم. يشتمل على إرجاعات ببليوجرافية. يشتمل على كشافات. ١-الجريمة‏ والمجرمون. ”-العقوبات (فقه إسلامى). *' الفقه الإسلامى. 1 العنوان. اسرست سم 8 المؤلت سخ ةالشعوديّة بمشر مطرئّة المتدبفي 8 شايع المباسية - القاهرة ات : امهاكد) د سوهت سد سم إن الحمد لله نحمده ونستعينه» ونستغفره» ونتوب إليهء ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالناء من يهد الله فلا مضل لهء ومن يضلل فلا هادى له» ونصلى ونسلم على سيدنا محمد النبى الأمى المسبعوث رحمة للعالمين» وعلى آله وصحبه أجمعين . -١‏ أما بعد: فإن كلية الحقوق بجامعة القاهرة قد أولت الشريعة الإسلامية عناية منذ كانت مدرسة للحقوق» واتسعت رحاب دراستها بعد أن صارت كلية جامعة وكان لها موضعها من دراسات الدكتوراهء فكانت مادة فى إحدى دبلوماتهاء ثم صارت لها ديلومة بذاتهاء ثم تحولت الدبلومة إلى معهد خاص بها يؤهل للدكتوراه فيهاء وهكذا استمرت الدراسات الشرعية فى قالبها الحديثء من غير أن يغض ذلك من مقام المعاهد التى حملت العبء عبر التاريخ منذ غابر الأزمنة. وإذا كانت كليات الجامعات المختلفة فى أوربا تتميزء فيكون لكل كلية طابع تختص به دون نظائرها فى الجامعات الأخرى» فطابع كلية الحقوق بالقاهرة هو فضل عنايتها بالشريعة» من غير أن يكون فى ذلك ما ينقص عن عمل الكليتين الأخريين فى هذا الموضوع فلكل فضله واتجاهه. ومن أجل ذلك قصد إليها الذين يريدون التعمق فى الدراسات الفقهية فى الشرق العربى خاصة» والشرق الإسلامى عامة» وقصد إليهاء وتتبع إنتاجها الذين يعنون بالفقه الإسلامى من علماء القانون فى البلاد الأوربية. وإن الفضل فى ذلك يرجع إلى ثلاثة أمور: أولها : ما امتاز به الذين تولوا تدريس هذه المادة منذ عهد المدرسة الأولى عند إنشائها إلى أن صارت كلية جامعية من علم غزير وفضل وجلال وتقى» واتساع أفق» وتذليل لصعاب الكتب الفقهية» مما جعل مسائل الفقه دانية القطوف. سهلة المأخذء قريبة المتناول» فقد فتح هؤلاء العلية ينابيع الفقه الإسلامى» فوردها الواردون» واستقى منها طالبو الحقيقة» والمتعرفون للمبادئ السامية التى اشتمل عليها الشرع المحمدى» والهدى النبوى الشريف»ء والتنظيم القرآنى العظيم . ثانيها: البيئة العلمية التى أظلت تلك الكلية منذ كانت مدرسة إلى هذه الأيام» فإنها كانت تتجه دائما إلى تعرف تراث الشرق الإسلامى» وعلاج فقهائه لمشاكل الحياة» ومعاملات الناس» حتى إنك لا تكاد تجد كتابا فى الفقه المدنى لكبار دارسيه المتعمقين فى دراسته إلا وتعرض لأحكام الشريعة فى الموضوع الذى يدرسه موازنا بين حلول الفقه ١و‎ الإسلامى» وحلول الفقه الغربى» والفقه الرومانى القديم. بل إن فرط العناية بالدراسات الشرعية جعلت بعض كبار القانونيين يتجه فى دراسته إلى تخصيص الشريعة الإسلامية ببحوث منفردة» عن غير أن تكون فيها تابعة لدراسات قانونية . ولم يقف الأمر عند الفقهاء المصريين» بل إن الفقهاء الأوربيين الذين كانوا يمدون ذلك المعهد الجليل بأرسال الفكر القانونى فى أقسام الليسانس والدراسات العالية كانوا يعنون بتعرف آراء الفقهاء المسلمين ما أسعفهم الإمكان. وكان مما راعهمء واسترعى ألبابهم أنهم كانوا كلما كشف لهم التفكير الأوربى عن فكرة جديدة وحسبوها بديئا من الرأى والنظر - وجدوا فقهاء المسلمين قد وصلوا إلى مثلها أو إلى قريب منهاء وإن اختلفت الصياغة واختلف العرض. حتى لقد كان من علماء القانون فى فرنسا من يوجه تلاميذه المصريين مشيرا بأصابعه إلى النور والعرفان فى الفقه الإسلامى . ' ثالئها : اتجاه طلبة الدراسات العليا المقارنة إلى الفقه الإسلامى بتوجيه أساتذتهم الشرقيين والغربيين. فكتبت رسائل فى موضوعات شرعية مقارنة بالفقه الأوربى نالوا بها درجة الدكتوراه» وكان من تلك الرسائل القيم الذى أضاف إلى المكتبة العربية ثمرات فكرية. ولم تكن مقصورة على ناحية واحدة. فبعضها فى العام» وبعضها فى الخاص . ؟- لكن من الحق علينا فى هذا المقام أن نقرر أن العناية فى الدراسة كانت متجهة إلى ما يقابل القانون الخاص من الفقه الإسلامى» فلم تكن ثمة عناية بما يقابل القسم العام» إذ لم تكن ثمة دراسات منظمة للقانون الجنائى الإسلامى» ولا دراسات منظمة للعلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم» مع أن الفقهاء المسلمين قد سبقوا فى هذين البابين من أبواب الفقه سبقا بعيداء وكتبوا فى هذا كتابة مستمدة من قانون العدل . الطبعى» ومن قواعد الأخلاق» ومن مبادئ الرحمة الإنسانية العالية فى ظل من كتاب اللّه تعالى وسنة رسوله الأمين» وتجارب السلف الصالح . '- وبمقتضى السير فى الطريق الذى عبده القائمون على الكلية منذ عهدها الأول كان لا بد من أن تكون هناك دراسات فى القانون العام» ولقد ردّد ذلك كبار الأساتذة فى مجلس الكلية» فسارع القسم الجنائى., واقترح أن يكون القانون الجنائى الإسلامى مادة من مواد المعهد الجنائى» وتمت الموافقة على ذلك . ولقد قرر قسم الشريعة أن يكون من بين الدراسات المقارنة فى المعهد دراسات خاصة بالقانون العام» كنظام الحسبة فى الإسلام» وكالعلاقات الدولية التى نظمها المسلمون. وهكذا تسير الدراسات الشرعية فى نموهاء فتتقدم مع الزمان ويبنى الحاضرون على الدعائم القوية التى وضعها السالفون. 5- وإن هذا الكتاب الذى نكتبه» إنما هو مجاوبة لتلك الروح العلمية المتطلعة» وفيه خلاصة الدروس التى ألقيناها فى هذه المادة على طلبة المعهد الجنائى» ولقد ع سارعنا إلى الكتابة مع ضيق وقتنا؛ لأن العقول مستشرفة متطلعة لما عساه يكون موضوعا لهذا الدرس» ولأن علمنا أن أبناءنا من وكلاء النائب العام ينتظرون أن يقرءوا فى هذا ما يجلى لهم الفكر الإسلامى فى معالجة الشذاب» ووضع الزواجبر الاجتماعية» والأسس التى يقوم عليها علم العقاب» والأسباب التى تكون من أجلها العقوبة . ولقد اتجهنا فيما نكتب إلى المعانى الكلية» دون الفروع الجزئية» وعسى أن ' يجدوا فيما نكتب ما ينقع غلتهم» وإنا نضرع إلى المولى العلى القدير أن يوفقناء وأن يهدينا إلى أقوم سبيل» فإنه لولا فضله وعونه ما اهتديناء وهو بكل شىء محيط . محمد أبو زهرة ميم الرحمة والعدل : -١‏ قال الله تعالى : وما أَرِسلْناكَ إلا رحمة للعالمين +29 2174 . فالرسالة الإلهية التى بعث الله بها نبيه محمدا عَلَِدِ هى الرحمة بالعالمين» وهى الرحمة التى تعم ولا تخصء» فهى رحمة بالناس أجمعينء لا بقبيل دون قبيل» ولا بجنس دون 7 وهى الرحمة التى من أجلها كانت الرسالات الإلهية فى هذه الأرضء فما من نبى ميعوث. إلا كانت بعثته لأجل هذه الرحمة» ولذلك كان قانون الرحمة قانونا عاما شاملا لكل الشرائع السماوية» والرسالات الإلهية» فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم من أولى العزم من الرسل جاءوا رحمة للعالمين. وليست الرحمة مرادفة لمعنى التسامح. أو معنى الشفقة والرفق» فقد يكون فى التسامح والرفق والشفقة ما يخفى فى ثناياه أشد أنواع القسوةء فالرفق فى معاملة الذين يصاولون الناس بالشرء ويستعيرون من أساد الغاب شرهها إلى الدماء» ويستبدلون بالظفر والناب السيف والتبل والرصاص - هو القسوة فى ذاتهاء لأنه إن كان رفقا بالذين أجرمواء فهو القسوة على فرائس هذا الإجرامء ولذلك قرر محمد يَكلْةِ فيما قرر من قوانين الرحمة أن من لا يرحم الناس لا يرحمه القانون الرادع الزاجرء فقد قال كله : «من لا يرحم لا يرحم». وتلك هى القاعدة المستقرة الثابتة التى يقوم عليها بناء المجتمعء فإن شذاب المجتمعات كالناتئ من الأبنية» لابد - لكى يكون النسق رائعا جميلاء» وقويا موثق الأركان - من أخذ هذا الناتئ بالمعول لتقوم عمد البناء» وكالأشجار المزهرة لا تثمر إلا إذا شذبت أطرافهاء من كل ما يتعلق بها من طفيل النبات. ؟- ولذلك كانت رحمة النبوة الأولى هى العدل». فالعدل ذاته هو الرحمة الشاملة» ولذلك صرح القرآن أن الرسالات الإلهية جاءت لإقامة القسط والميزان العادل بين الناس» ولا اختلاف بين القسط والرحمة» ابل المقصد من القسط هو ذات الرحمة؛ وقد قال تعالى فى هذا المعنى : :9 لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب وَالْميرانَ ليقُوم النَّاسَ بالْقسط وأَنرلَا الْحَديدَ فيه بَأسَ شَديد ومنافع للنّاس 94" . فإن هذا النص السامى يشير إلى أن القسط بين الناس أساس رسالات الرسل» كما أن الرحمة هى الأساس» وهما متلازمان» أحدهما لازم للآخرء فالرحمة لازم من 56 : الأنبياء : ل1 37 2. (0) الحديد‎ )١( /ا لوازم العدل. وثمرة من ثمراته» ولا يمكن أن تتحقق الرحمة مع الظلم» كما لا يمكن أن يكون العدل مخالفا للرحمة» ما دام الاعتبار هو رحمة الكافة. وقد قرن الله تعالى فى الآية الكريمة ذكر الحديد بجوار ذكر القسط؛ للإشارة إلى أن العدل الحقيقى لا يمكن أن يثبت ثبوتا مستقرا دائما إلا إذا كان معه الحديد يحميه بيأسه الشديد» ويستوى فى ذلك العدل بين الأحادء والعدل بين الدول؛ ولذلك قال تعالى : «ولولا دفع الله الثاس بعضهم ببعضٍ أفسدت الأرض ولكن اللّهَ ذو فضلٍ على الْعَالَمِينَ 2774 وقال تعالى: ظ ولَوْلا دع الله النَّاس بَعْضَهُم ببَعْض لَهُدَمَتْ صوامع وبي وصلوات ومَساجد يذَكَرٌ فيا اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لوي عَزِيزٌ 94 . ”- وكثيرا ما تجرى على ألسنة الناس هذه العبارة «الرحمة فوق العدل» والعدل فوق القانون» وإنى أوافقه كل الموافقة فى القضية الثانية بالنسبة للقوانين الوضعية الآن» فكثيرا ما يتخاذل القانون عن أن يحقق العدالة» ولكنى مع إجلالى للكاتب الكبير أخالفه فى القضية الأولى.» فالعدالة الحقيقية هى الرحمة الحقيقية» ولقد كان أبو بكر رضى الله عنه أرحم الناس وأعدلهم عندما قال: «القوى منكم ضعيف حتى آخذ الحق منه. والضعيف منكم قوى حتى آخذ الحق له» تلك هى الرحمة الحقيقية . فالرحمة الحق هى التى يقرها العدل. والتسامح الحق هو الذى لا يخفض حقاء ولا يقيم باطلاء فإن كان الباطل» فإن ذلك هو القسوة الحقيقية» ولقد كان خلق محمد ابن عبد الله تتجلى فيه الرحمةء والتسامحء. والعدل» فهو رحيم متسامح عادل» وهى أوصاف متلاقية غير متنافرة» ولقد وصفت أخلاقه زوجه أم المؤمنين السيدة عائشة رضى الله عنها فقالت: «ما ضرب رسول الله مله بيده خادما ولا امرأة ولا دابة» ولا شيئا قط إلا أن يجاهد فى سبيل الله ولا.نيل منه شىء فانتقم لنفسهء إلا أن تنتهك حرمات الله فإذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شىء حتى ينتقم للّه؛ . هذه أخلاق الرحماء حقا وصدقاء يتسامحون فى حقوق أنفسهم التى لا يترتب على التسامح فيها نصرة الباطل» ولا هدم لحق غيرهم»؛ ولعل هذا يفسر لنا قوله عليه الصلاة والسلام: «أنا نبى المرحمةء وأنا نبى الملحمة» فالملحمة والمرحمة من الأنبياء متلاقيان» كما يتلاقيان فى كل حاكم عادل. يسوس الناس بالقسطاس المستقيم» والملحمةء» وهى أخذ الباطل بما يستحقهء وأخذ المبطلين من معاطسهم ليحملوا على الجادة حملا - هى من قوانين المرحمة. 5- والحاكم الرحيم هو الذى تنبعث منه الرحمة بالعامة.ء لا بالشذاب منهمء وإذا كنا نقرأ ففى سيرة عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن كان يختار ولاته من الرحماءء لا 1 : الحج‎ )0( . 5861١ : البقرة‎ )١( القساةء فلأن الرحماء تنبع من قلوبهم ينابيع الرحمة العامة» ومن الرحمة الخاصة الشخصية تنيعث الرحمة العامة العادلة» فلن يكون عادلا بين الناس إلا من يحس بأحاسيس الناس ويشعر بشعورهمء» ويخفق قلبه مع خفقان قلوبهم» ويرفق بهم فى عامة أمورهم وخاصتهاء ولا يركب بهم متن الشطط. ولا يحملهم على ما لا يطيقون» وذلك هو الرفق المطلوب فى الحكم» والذى دعا إليه النبى كيه فى قوله: «اللهم من ولى من أمر أمتى شيئا فرفق بهم فارفق به» ومن ولى من أمتى شيئا فشق عليهم فاشقق عليه» . ه- وهذا رفق سياسة الأمورء وليس منه الرفق بالظالم» ولقد سمى القرآن الكريم الرفق بالظالم رأفة) ولم يسمه رحمة ولا رفقاء فقد قال تعالى فى عقوية الزانى والزانية : لإ الزانية والراني فَاجَلدوا كل واحد مَنهُمَا مائة جلدة ولا تأخدكم بهما رأقةَ في دين اللّه إن كنم تؤمنون باللّه واليوم الآخر وليشهد عذابهمًا ا طَائفَةَ مَنَ المؤمبين 228 »4 (21, وفرق بين الرحمة والرأفة» فالرحمة أكثر ما تكون انبعاثا إلى الخير العام والعدالة» أما الرأفة فإنها إحساس بالشفقة بالنسبة لمن يكون فى حال آلام. سواء أكان الألم عد لا أم كان غير عدل» ولذلك كان النهى عن الرأفة وآثارها ثابتا عندما يكون إنزال الألم عقوبة رادعة عن الشرء ومانعا للوثم العقوبة فى الأديان السماوية وفى الإسلام : 5- ومن أجل أن الأديان السماوية كانت الرحمة الحقيقية بالناس» وأن العدالة والرحمة متلازمتان» شرعت فى الإسلام العقوبات الرادعة للآثمين» وأساس العقوبات القرآن الكريم عن العقوبة بالمثلات» فقال تعالى فى شأن عقابه الذى أنزله بالأمم التى ا لحسنة وقد خلت من قبلهم المنلات 74" .أى العقوبات المماثلة للذنوب التى وقع فيها من سبقوهم » ومع ذلك لم يتعظوا ولم يعتبروا» وذلك هو الضلال البعيد. فالعقوبات الإسلامية بشكل عام أساسها المساواة بين بين الجرم وعقابه» ولذلك تسمى قصاصاء كما أشرناء ولوحظ فيها أن تكون النتيجة للقصاص هى الرحمة بالناس » وأن تكون الحياة هادئة مطمئنة سعيذة )» له يعكرها أذى» ولا تعبث فيها الآثام» ولذا قال سبحانه: © ولكم في القصاص حيَاة 270 أى حياة هادئة رافهة مطمئنة لا فساد فيها ولا بغى ولا عدوان. (١)النور‏ : 5 . (0) سورة الرعد : 5 . (”*) سورة البقرة : 4 لا- وإن الإسلام قد اتجهء كما اتجهت التوراة من قبله» إلى وضع عقويات رادعة لمن ينتهكون حرمات المجتمع التى هى حرمات الله ؛ وذلك لتوجيه الناس إلى العدالة الحقيقية» ما أمكنهم أن يقيموهاء وما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. وهنا نجد العقوبات السماوية واتجاهها إلى ناحية الفضيلة المجردة» وبهذا تفترق عن العقوبات التى يضعها البشرء ويتواضعون عليهاء ويحكمون الجماعة على مقتضاها؛ وذلك لأن العقوبات التى تضعها الحكومات المختلفة مشتقة من أوضاع الناس وما تعارفوه» وتعمل على حماية الحكومة لنفسها فى كثير من الأحيان كما كان يفعل الملوك السابقون» فقد كانت إرادات الملوك هى القوانين» ولا يشرعون إلا ما يكون أولا وبالذات حماية لأنفسهمء وثانيا ما يكون فيه مصلحة لقومهمء أو إعداد لحروبهم» وكان الناس يألفون ذلك عندما كانوا يعبدون ملوكهم.» ثم عندما نزلوا بهم من مرتبة العبادة إلى التقديس» ثم عندما ظنوا أن دولتهم مقدسةء وأن طينتهم ليست من طينة الناس» ولذلك كنا نجد فى عبارات القوانين حتى الحديثة أن ذات الملك مصونة لا تمس» وأحاطها - حتى القانونيون والقضاة - بهالات من الإجلال تجعلهم فوق المسئولية» وفوق الناس أجمعين. وفى البلاد التى زالت عنها الملكية المستبدة» فتحولت إلى جمهورية أو إلى ملكية مقيدة» يملك الملك فيها ولا يحكمء نجد العرف له أثره فى التقنين» وقد حل محل تقديس الملوك أو إجلالهم» غيرهم من القواد والزعماء. حتى لقد زالت الملكية فى بعض الأمم اسماء وبقى معناها كما رأينا فى بعض دول أوربا قبيل الحرب العالمية الأخيرة» وكما ترى بعدها. 4- هذه شريعة الناس فى العقوبات الزاجرة» أما شريعة اللّهء فإنها لا تتجه إلى أعراف الناس» وما تواضعوا عليه خيرا أو شراء بل تتجه إلى الحقيقة المجردة» تتجه إلى الفضائل تحميهاء وتذود عنهاء وإلى الرذائل تمنعها وتقضى عليها. وليس فيها ملك يحميه الملك إن ارتكب ظلماء وتحميه الأوضاع إن ارتكت إثماء بل الجميع أمام الله الحكم العدل سواء. فلا فاضل ولا مفضول عند ارتكاب الرذائل» إنما الفاضل والمفضول فى التحلى بالفضائل ومقدار الأخذ بها. فأول مزية من مزايا الشرع الإسلامى فى أحكام الجنايات أنه عام يعم الحاكم والمحكوم» وأنه يقيد الراعى كما يقيد الرعية» فلا ينطلق من حكمه الأقوياء» ويطبق على الضعقاء» ولقد صاح محمد بن عبد الله بهذه الحقيقة عندما دخلت قريش فى الإسلام وأرادوا أن يعفوا شريفة من حد من حدود الله لشرفهاء فصاح فيهم محمد يَككِة: «إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه» وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد» وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها». ٠ اتصال الشريعة بالأخلاق والضمير : 4- وليست ميزة الشريعة الإسلامية فى ذلك فقطء بل إنها تتفنق فى أحكامها مع قانون الأخلاق اتفاقا تاماء تجعل العقاب لما يخالف قانون الأخلاق» والثواب على ما يوافقهء فكل ما هو شر فى حكم الأخلاق تعاقب عليه الشريعة» بيد أن هذا العقاب نوعان: عقا أخروى» وعقاب دنيوى؛ وذلك أن الجرائم الخلقية نوعان: جرائم يجرى عليها الإثبات» ومن شأنها أن تفسد الجماعات» وهذه الجرائم وضعت لها العقوبات الزاجرة الرادعة فى الدنياء وهى التى يطبقها القضاة» فجرائم السرقة وقذف المحصنات والزنى وقطع الطريق» وسائر الاعتداء على الأموال والأنفس» كل هذه جراتم لها عقويات معررة فى الإسلام» ويطبقها القضاء فى الدنياء وينمذها الحكام . والحسدء وغير ذلك من الجرائم الخلقية التى لا يمكن أن تثبت بين يدى القضاءء فإن لها عقوبتها الأخروية. -٠‏ ومن هله الناحية وغيرها من النواحى تتصل الشريعة بالضمير الإنسانى المتدين» فإن المسلم المتدين يحس بأنه فى رقابة من الله سبحانه وتعالى وأنه محاسبه على ما يفعل» ومراقبه على ما ينوى أن يفعلء كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنياتء وإنما لكل امرئ ما نوى» فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله» ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتكحها فهجرته لما هاجر إليه» . وإن إيقاظ الضمير الدينى له فائدة جليلة تبدو فى أمور ثلاثة: أولها : أنه يكون وقاية يمنع الوقوع فى الجريمة» فإنه إذا استيقظ الضمير الدينى ذهب الحقد الذى يولد الجريمة» ذلك بأن الذين يقعون فى الجرائم سبب وقوعهم أنهم يحقدون على المجتمع. ولا يحسون برابطة من الرحمة تربطهم به فيندفعون فى إيذاء الناس» وليست كثرة الجرائم إلا أمارة واضحة دالة على انقطاع الصلة الرابطة بين المجتمع» وطائفة من الذين يعيشون فيه وقد سمى العرب فى القديم تلك الطائفة من الناس الشذاب» وفى تلك التسمية إشارة إلى معنى الانقطاع عن الناس فى مشاعرهم وإحساسهم. وإذا تربى الضمير الدينى قويت الألفة» واشتدت الصلةء وذهب الحقد الذى يدفع إلى الإجرام , وأصبح الشخص لا يحسد الناس على ما آتاهم اللّه من فضله لأنه يعلم أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين» وأن الصبر له جزاؤهء وأن الحقد عليه وزره» وأن هناك يوما آخر يوفى فيه الصابرون أجرهم بغير حساب» وذلك عزاء روحى يقتلع من النفس كل جراثيم الاعتداء أو الرغبة فيه» وبذلك يأتلف بالمجتمع أخذا بقول النبى كَلةِ: 1١١ «المؤمن إلف مألوف»» فلا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف. وإذا ائتلف مع المجتمع لا يؤذيه. الأمر الثانى : أن إيقاظ الضمير يسهل الإثباتء» لأن الجرائم لا تقع إلا فى كن من الظلام مستترة غير ظاهرة» فإذا أحس الذين عاينوا وشاهدوا يهم ا دينيا أن يبلغوا فإنهم يبلغون تنفيذا لحكم ربهمء وذلك لقوله تعالى: «يا أيه الذي آمنوا كونوا قَوامِين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ع إن يكن غَنيًا أو فقيرا الله أولي بهما فلا تتبعوا الهوئ أن تعدلوا وإن تَلْووا أو تُعرضوا إن اللّه كان بما تعملون خَبيرا 4 ١‏ ولقد بلغ من قوة الضمير أن الرجل كان يأخذ ولده إلى رسول الله يك فيقيم عليه الحد إذا وجب عليه الحدء فقد روى البخارى ومسلم «أن رجلين اخمصما إلى النبى يَللةِ فقال أحدهما: اقض بيئنا يا رسول الله. بكتاب اللهء فقال صاحبه: نعم يا رسول الله اقض بيئنا بكتاب اللّه وأذن لى» فقال الرسول عليه الصلاة والسلام : «قل»» فقال: إن ابنى كان عسيفا فى أهل هذا - أى أجيرا - فزنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة وخادم. وإن رجالا - من أهل العلم - أخبرونى أن على ابنى حلد مائة وتغريب عام. . فقال عليه الصلاة والسلام : «والذى نفسى بيده لأقضين بينكما بكتاب الله المائة والخادم رد عليك» وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام» . ذلك هو سلطان الضميرء وذلك هو الخضوع لحكم القرآن الكريم» يرضى بأن يأخد بيد ابنه ليقام عليه الحدء ويكوى ظهره بالسياط» ويغيب عنه أمدا طويلاء فهل يخضع الناس ذلك الخضوع لقانون يضعه البشر وهو مشتق من أوضاعهم الاجتماعية» سواء أكانت عادلة فى ذاتها أم ظالمة . الأمر الشالث : الذى يترتب على يقظة الضمير الدينى» وإحساس الجانى بأن العقوبة التى تفرض عليه هى من الله سبحانه لا من العبد - وهو أن الندم يعترى المرتكب» واحتمال التوبة يكون قريباء سواء أوقع تحت سلطان العقاب» أم فر منه» ذلك أنه يحس أن الله تعالى مراقبه ومحاسيه» إن لم يكن اليومٍ فغداء فإن هناك يوما آخر ستجزى فيه كل نفس بما كسبت» ٠‏ « فَمن يَعَمَل مثقال ذَرّة خيرا يره +( 4:0 ومن يعمل مثقال ذَرَة شرا يره +2 4( 0 وأنه إن أفلت من حكم السلطان فلن يفلت من حكم الديان. وإن الملاحظ فى تطبيقات القوانين البشرية أن المجرم إن أفلت من العقاب ازداد ضراوة» وإن عوقب بالسجن أمدا طال أو قصر فإنه يخرج منهء وقد اشتد كلبه» . 8 . النساء : 3776 . (0) سورة الزلرلة : لا‎ )١( 1١١ واستمرأ أموال الناس وكرامتهم» لأنه فى السجن تنهار آدميته» فينهار معها ضميره. إذ لا دين يردع» ولا خلق يمنع» ولا إلف يقربء ولا إيمان يهذب. ولذلك يكثر الإجرام بمقدار ابتعاد القوانين عن الدين» وبعد القلوب عن الإيمان» وقد استبحر العمران» واتسعت الحضارة» وتعددت معها أفانين الإجرام » واتسعت أبوابه» وصرفت ضروبه بمقدار اتساع الحضارة والعلوم ظ فإِنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور274 . -١‏ إن التجربة الاجتماعية التى طبقت فيها الشريعة تطبيقا كاملا تعطينا صورة حية لمقدار التفاوت بين شريعة الرحمن وشرائع الإنسان» وإن نظرة واحدة بين حال جماعة تطبق الشريعة ومقدار الأمن فى ربوعها وحال مدينة من مدن أوربا تموج بالناس وقد تقطعوا أوزاعاء وهم لا يؤمنون بقانون لأنه من صنع البشر ومما تواضع الناس عليه - ترينا مقدار فعل الإيمان فى القلوب. فإن هذه النظرة ترينا أن الإجرام يسير مع الحضارة سيرا مطرداء فحيثما اتسع العمران كثرت فنون الإجرام» بخلاف الجماعات التى تطبق قانون السماءء فإنه كلما اتسع العمران مع الإيمان ازدادت القلوب تهذيباء فقل مع ذلك الإجرام» ففى الحضارة الإسلامية فى عصر النبى يك وعصر الصحابة» كانت الجرائم تسير مع الحضارة الإسلامية سيرا عكسياء فكلما اتسعت الحضارة قل الإجرام. ولقد ضعف وازع القانون بسبب أنه مشتق مما تواضع الناس عليه» حتى لقد وجدنا من العلماء - بل العامة - من يثور عليه» ويحسب أنه من اتفاق الأقوياء على الضعفاء. أو من تحكم بعض الطبقات فى سائرها. ولئن تحررت النفوس بسبب الديمقراطية الظاهرية القائمة لتجدن بقايا الاستبدادية قائمة فى القوانين» إن لم يكن فى سنها ففى تطبيقها . ولقد وجدنا تلك الثورة على القوانين والتهوين من شأنها يجرى على أقلام كتاب الروايات» والكتاب الأحرارء مما يشجع الآثمين ويجرئ المجرمين, ولا يسهل التوبة» ولا يوجد الإلف بين المجرم والناس» ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى القدير. -١‏ وإن المسلمين كانوا يعملون دائما بوصايا النبى الكريم» وهدى القرآن العظيم» ولقد كان النبى يَلِْةٌ حريصا على تمكين الآثم من التوبة بعد أن ينال العقوبة التى استحقهاء ليكون الردع له» والاعتبار لغيره» ثم إخلاص النية لله تعالى» وقد روى أن النبى وكيد قال: «إن السارق إذا تاب سبقته يده إلى الجنة» وإن لم يتب سبقته يده إلى النار» . 35: سورة الحج‎ )١( 1 وكان النبى ذَلْةٌ يحث على عدم تعيير المجرم بجريمته» حتى لا تستمر نفسه فى ردغة الجريمة» لا تخرج منهاء ولا تسير إلا فى دائرتهاء» ويروى فى ذلك أن رجلا شرب الخمرء فأتى به إلى النبى يَلكِْةٌ فأقام عليه حد الشربء فقال بعض الحاضرين» وهو خارج: أخزاك الله فغضب النبى يله وقال: ١لا‏ تعينوا عليه الشيطان». وهذا معنى حكيم لاحظه ذلك النبى الأمى الأمينء فإن الآثم إن أحس بنفرة الناس منه» واحتقارهم لهء ونبذهم إياه» انتبذهم هو الآخر قصياء ومن ترك الجماعة تسلمه الشيطان» وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية. فنبذ الآثمين المعاقبين تمكين للإجرام» وإعانة للشيطان. ويروى أن النبى يلد قال: «إن الشيطان مع الفذء وهو عن الاثنين أبعد). فليس فى الإسلام منبوذ لا يرجى له الخير» بل فيه تأليف وتقريب» وإن نبذ الجانى فإنه يصير حرباء وإن ألف وقرب فتح باب التوبة» وفى فتح باب التوبة خير عظيم» ونة ارتكبها مستمرئا لها بذلك وتحريضه على التوبة» بل عملت على أن يحاط بكل ما يحمى الأخلاق ويدفع إلى الفضيلة دفعاء وذلك بثلاثة أمور: أولها : تكوين رأى عام مهذب لا يظهر فيه شىء من الشرء بل لا يظهر إلا الخير» فدعت إلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكرهء واعتبرت البرىء مسئولا عن السقيم إن وجد فيه اعوجاجاء ولم يقومه بلسانه وهدايته» ودعوته إلى الخير بالتى هى أحسن» كما قال تعالى 8 ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة : وَجَادلُهم بالّتي هي أحسن 2174, وكما قال تعالى : «١‏ ولتكن سم أَمه يعون إلى الْخير يمون بالمعروف وَيتهون عن الْمَكر وأولتك هم المقلحون 33 4 0 واعتبر القرآن الكريم أخص معانى الإسلام الأمر بالمعروف والنهى عن المنكرء كما قال تتعالى: « كنم خيرَ أَمّهَ أخرجت للنّاس تَأمرُون بالمعروف وتهون عن المكر و وتؤمنوت باللّه 4 والتعاون على دفع الشرء ٠‏ وملع الجرائم: وتأليف قلوب أولنك الذين لم يفوا مع المجتمع ولم يندمجوا فيه لكى يشعروا بشعوره ويقربوا منه. ثانيها : الدعوة إلى فضيلة الحياء » وتربيته فى النفوس» فإن الحياء خير كله ولقد قال عليه الصلاة والسلام: «لكل دين خحلق. وخلق الإسلام الحياء») وقد قال عليه الصلاة والسلام: «الحياء لا يأتى إلا بخير»ءولا شك أننا إذا عالجنا نفس المريض بالإجرام بإيقاظ 10 سورة آل عمران:‎ )*( .١١ 85 : سورة آل عمران‎ )60( ٠. ١56 : سورة النحل‎ )١( 1١5 الحياء فى نفسه. ومنع الظلهور بجرمهء اتجه إلى الطريق المحمدى. وعمل ليأتلف الثها : أن الإسلام اعتبر الجريمة المعلنة جريمتين» جريمة الارتكاب» وجريمة الإعلان» ولذلك كانت عقوبة بعض الجرائم على إعلانهاء فقد قال يَلِيِ: «أيها الناس من ارتكب شيئا من هذه القاذورات فاستتر فهو فى ستر الله»ء ومن أبدى صفحته أقمنا عليه الحد». ولقد قال النبى عله : إن من أبعد الناس منازل عن الله يوم القيامة المجاهرين»» قيل: ومن هم يا رسول الله ؟ قال : «ذلك الذى يعمل عملا بالليل» وقد ستره الله عليه فيصبح يقول فعلت كذا وكذا يكشف ستر الله تعالى». وإن ستر الجرائم يجعل الجو الذى يعيش فيه الناس جوا نقيا طاهرا عفيفاء وهذا من شأنه أن يجعل الأثيم ينزوى فلا يظهرء وقد يكون ذلك سبيلا لتهذيبه وتربية ضميره» ولقد وصف الله تعالى الذى يعلنون الجرائم ويكذبون على الناس. ديرموتهم ال يرود أن نشي الفاحدة في اد كوا هم عدب أب في اليا اضرم 130 هذه العناصر الثلاثة من شأنها أن تكون رأيا عاما مهذبا لائما داعيا إلى الفضيلة مستنكرا للرذيلة» تستتر فيه الجرائم فى ظلام دامس. فلا تظهر فى الجو العام. وإنا نعتقد أن النشرات التى تنشر أخبار الجرائم» وتكشف الأستار ومحاطة بالمبالغة والتكبير تدفع الشباب إلى الإجرام دفعاء وإن ذلك قد حاربه الإسلام بتكوين ذلك الرأى العام الفاضل المهذبء. وما أحوجنا فى عصرنا إلى أن نأخذ بذلك المبد الحكيم . 4- اتجهت الشرائع الحديثة إلى اعتبار الجناية الواقعة ليست على المجنى عليه وحده» ولكنها على ١‏ لمجتمع باعتبارها خرقا للناموس » واعتداء على الأمن الاجتماعى العام الذى يكون من حق كل شيخص أن يعيش فى ظله آمنا مطمئناء وغلبت حق المجتمع على حق الفردء وجعلت حق الفرد مقصورا على المطالبة بالحق المدنى. والإسلام لاحظ هذا المعنى» واعتبر جناية القتل جناية على المجتمع كلهء لأن من اعتدى على حياة شخص فقد اعتدى على حق الحياة فى هذا الشخص»ء ٠‏ وهو حق مشترك ب بين الناس أجمعين ١‏ ولذا قال تعالى: من أجل ذلك كتبنا على بد بني إسرائيل أَنّه من 4 : سورة النور‎ )١( َل نَفْسا بغير نفس أو فساد في الأرض فَكَأَنمَا قَعَلَ الئّاس جميعا ومن أحيَاهًا فَكَأنمَا أحيا النّاس »2١(4‏ وإحياؤها بالقصاص لها. ولكن الإسلام مع ملاحظة هذا المعنى الاجتماعى العسام قد لاحظ الجانب الشخصى للمجنى عليه» ولذلك قال تعالى: «ل ومن قل مظَلُوما قد جعلنَا لوليّه سلْطانا فلا يُسرف في الْقثل إِنَّهُ كان منصورا 204 . ولهذه الملاحظة. وهى شفاء نفس المجنى عليه» وشفاء نفس ذويه كان القصاص هو العقوبة الأساسية فى الجرائم فى نظر الإسلام؛ وذلك لأن مفقوء العين لا يشفى قلبه مال مهما يكن قدرهء ولكن يشفى قلبه أن يجد الجانى مفقوء العين» ومن لطم فى مجتمع عام لا يشفى قلبه غرامة مهما يكن مقدارها ولا سجن مهما يطل أمدهء ولكن يشفى قليه أن يلطم وجه المعتدى عليه على ملا من الناس كما لطم وجهه. وهكذا فإن قانون المساواة يوجب أن تتساوى العقوية مع الجريمة» وأن يتساوى الأذى الذى نزل بالمجنى عليه مع الأذى الذى ينزل بالجانى عقوبة لهء والبادى بالشر أظلمء بل لا ظلم فى القصاصء والظلم كل الظلم فى أن يترك الجانى من غير قصاص. -١‏ ولا شك أن العناية بشفاء المجنى عليه وعلاجه لها أثرهاء فإنه لا يفكر فى الانتقامء فلا يسرف فى الاعتداء» ولا يسرف فى القتل كما جاء ف فى النص القرآنى الكريم الذى تلوناه. وإن لنا فى إحصاءات الجرائم التى تكون أخذا بالثأرء أو انتقاما من إهانة لحقت شخصا - لعبرة» فإن القوانين الحاضرة فى مصر بسبب قصورها عن شفاء نفس المجنى عليه» تسلسل يسببها الجرائم» فجريمة القتل يتبعها أخرى أحذا بالثأر» ثم يتبع الثانية ثالثة» حتى إن الثأر لتتوارثه الأعقاب والذرية» وما كان ذاك إلا لآن القوانين لم تعمل وإنه فى سبيل شفاء ذ: نفس المجنى عليه وذويه كان الفقه الإسلامى فى العقوبات يقوم على أساس تعويض المجنى عليه وذويه إن لم يمكن تنفيذ حكم القصاص» لأى سبب من الأسباب . ومن المقررات الشرعية التى من شأنها أن تطب لجروح المكلومين أنه لا يطل دم فى الإسلام» فلا تذهب جريمة قتل من غير عقوبة» أو بالأحرى من غير أن يقتص من الجانى» أو تعويض أسرة المجنى عليه» فالدية أمر ثابت مقرر لورثة كل من يقتل ولا يمكن القصاص من القاتل» إما لعدم توافر شروط القتصاص» وهو أن يكون القتل عمداء . ”#” : سورة المائدة : ”” . (؟) سورة الإسراء‎ )١( و سورة الوسر‎ وإما لعدم معرفة الجانى» فإذا كان القاتل لا يملك الدية ولا يستطيع أداءهاء وجب على عاقلته» وهم عصبته - أن يؤدوا عنه هذه الدية على تفصيل فى ذلك بينته إن شاء الله فإذا كانوا هم الآخرون لا يستطيعون أداءها» وجب على بيت المال أداؤها - وذلك لكيلا يذهب دم من غير عوضء وبالأحرى لكى يطب الإسلام لقلوب المجنى عليهم» ذلك تعاون فى التبعات والتكليفات» فمن قتل مسلما خطأء كان على من قتله تعويض أهله» لأنه أخطأ فتقوم عنه أسرته الصغرى بذلك الواجب» فإن عجزت أسرته الصغرى هى اللأخرى قامت أسرته الكبرى» وهى المجتمع ممثلا فى ولى أمرهء بهذا الواجب المفروضء وذلك تعاون عظيم» وفيه معنى آخرء وهو أن الدولة مسئولة عن تقصير آحادهاء وسنبين ذلك فضل بيان فى موضعه من دراستنا إن شاء الله تعالى. 5- ولا يوجد فى الفقه الإسلامى أن جناية قتل تقيد ضد مجهول» ويذهب الدم هدراء ويسكت القوامون على الحسبة» كأن لم يكن إنسان له حق الحياة قد ذهب». وكان له على المجتمع حق الحماية» وعلى الجماعة حق الرعاية» لم يكن فى الإسلام ذلك» فإن على القاضى والعاملين على الحسبة الإسلامية كالنيابة فى هذه الأيام أن يتحرواء وينقبوا ويبحثوا حتى يصلواء وإنهم لا بد واصلون. فإن عجزوا كانت القسامة: وهى أن يحلف خمسون رجلا من أهل القرية التى حدث حولها أو فى داخلها القتل على أنهم لا يعرفون له قاتلا فيحلف كل واحد أنه ما قتله.» ولا يعرف له قاتلا. وإنه لا بد فى هذه الأيمان المغلظة أن يوجد من يعرف القاتل» فإنه لا يحدث قتل فى قرية إلا إذا كان القاتل معلوما لأكثر أهلهاء ولكنهم يمتنعون عن التقدم للشهادة إما إيثارا للعاقبة» وإما خوفا من الجانى أو عصابته» وفى هذه الأيمان الإجبارية حمل لهم على النطق إن كانوا يعلمون» ولا يريدون أن ينطقوا. فإن حلف الخمسون كان لا بد من الدية حتى يشفى غيظ المكلومين. وإن دل هذا على شىء فإنما يدل على حرمة دم الإنسان سواء أكان مسلما أم كان غير مسلمء فإن ذلك يكون بالنسبة للمسلم والذمى على سواءء فلا يوجد من بين قضاة المسلمين من لا يهتم بدم مسفوك ظلماء ولا ينظر إلا إلى مقدار الأدلة المقدمة لديهء أهى مثبتة الإدانة قطعا أم لاء فإن كانت الأولى فالحكم» وإلا فليذهب الدم المسفوك بين أهله؛ وليأكل الناس بعضهم بعضاء ذلك هو منطق القوانين الجنائية الحاضرة» أما منطق الإسلام فلاء لأن عناية الإسلام أولا بشفاء غيظ المكلومين ما وسعه الحق والعدل؛ من غير شطط ولا إسراف» فلا يحكم على برىء» ولكن أيضا لا يذهب الدم هدرا. وسنفصل القول فى هذا تفصيلا فى موضعه من هذه الدراسة إن شاء الله تعالى فهو الموفق» وهو سبحانه هادى السبيل . العقوبات فى الإسلام من رعاية المصلحه العامة : -١7‏ إن العقوبات فى الإسلام قسم من شريعته» تتجه إلى ما تتجه إليه فى جملة غاياتهاء وهو حماية المصلحة العامة» والمحافظة على الضرورات الخمس» وذلك بيأن الشريعة الإسلامية جاءت للمحافظة على أمور خمسة هى مصالح الإسلام المعتبرة» وهى المحافظة على النفس» وعلى الدين» وعلى العقل» وعلى النسل» وعلى المال. والجريمة بلا شك هى اعتداء على واحد من هذه الأمور. فالزنى اعتداء على النسلء والسرقة اعتداء على المال» وشرب الخمر اعتداء على العقل. والردة اعتداء على الدين» وسب النبى يَكَلِْةّ اعتداء عليه أيضا. وهكذا. لحمايتهاء فلا بد من عقاب رادع. يمنع الآثم من أن يستمر فى إثمه وغيه. وإنك لتجد كل عقوبة مقررة فى الإسلام سواء أكانت عقوبة شديدة أم كانت غير ذلك. إنما هى لحماية الجماعة من أن تتعرض للفسادء وذلك بأن يكون أهل الدعارة والفساد هم الذين يظهرون فى السطحء. ويختفى أهل الطهر والعفاف» فيكون المظهر كله أثيماء وتتعرض بذلك المصالح العامة» والمصالح الخاصة للاعتداء. 4- وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد جاءت لحماية هذه المصالح. ولا يمكن أن تكون شريعة من الشرائع الوضعية لا تعمل على حماية هذه المصالح فى عمومها وفى خصوصهاء فهى تتلاقى مع الشريعة الإسلامية فى المقصد. وإن تخالفت عنها فى ولسنا نرتكب شططا إذا دعونا إلى الأخذ بعلاج الشريعة على أنه العلاج الحاسم» ‏ وكل مريض يداوى بعقاقير بلاده» كما قال أبو الطب القديم أبقراظ , ولكنا مع ذلك نجمل فى الطلب» ونقول: إن على طلابنا أن يدرسوا فقه الجنايات فى الإسلام» وإنهم لآ بد واجدون فيه ما يصلح لأن يؤخذ منه علاج لأسقامنا الاجتماعية» فإن لم يؤخذ الهند وغيرها من قواتين العالم» فإنه لاا يصح أن نستصغر ما عندناء» ونعجب بما عند غيرنا وإن كان لا يستحق الإعجاب» ولا يصح أن ينطبق علينا قول الشافعى: «العود فى أرضه نوع من الحطب» إن فى الأحكام الإسلامية بلا ريب ما يصلح للأخذ فى مواضع كثيرة» وإن الأمل معقود فى هذا على الرعيل من رجال القانون الذين يهمهم أن يتعرفوا مواضع الخير فى موارد بلادهم الفكرية» فلا يتكففوا الناسء وعندهم تلك الشروة المثرية. واللّه ولى التوفيق. 148 الجريمة تعريفها - أساسها تعريف الجريمة : 4- لا بد من تحرير معنى الجريمة وأخواتها من التعبيرات العربية من مثل الثم والخطيئة والمعصية» وإن هذه التعبيرات تتلاقى فى معانيها الشرعية مع المعانى اللغوية التى استقر عليها العرف اللغوى». فلا يكاد الناس يختلفون فى أن معنى الجريمة أنها الفعل الذى يسنوجب عقاياء» ويوجب ملاما. ولكن يجب أن نبين معنى ذلك» وأصل الاشتقاق اللغوى» وارتباطه بالمعنى الشرعى فى هذه الكلمات. أصل كلمة جريمة من جرم بمعنى كسب وقطع» ويظهر أن هذه الكلمة خصصت من القديم للكسب المكروه : غير المستحسن» ولذلك كانت كلمة جرم ويراد منها منها الحمل على فل حملا ألما ومن ذلك قوله تعالى : 0 بمن سبقوكم ممن شاقوا أنبياءهم. ومثل قوله تعالى را 0 شتآن 57 تعدلوا اعدلوا هو أَقْرب للتّقوئ 74" أى لا يحملنكم حملا آثما بغضكم لقوم على ألا تعدلوا ولذلك يصح أن نطلق كلمة الجريمة على ارتكاب كل ما هو مخالف للحق والعدل والطريق المستقيمء واشتق من ذلك المعنى إجرام وأجرمواء فمّد قال تعالى : ط إن الّذِينَ أَجرمُوا كَانوا من الّذِينَ آمَئُوا يَضحكون 200 74" » وقال تعالى : / كلوا وتَمتّعُوا ليلا إنَكُم مُجَرِمُونَ 550) 2474, وقال عز من قال: «إإِنْ المجرمين في ضلال,ٍ وصعر +2200 004 . ومن هذا البيان يتبين أن الجريمة فى معناها اللغوى تنتهى إلى أنها فعل الأمر الذى لا يستحسن» ويستهجن » وأن المجرم هو الذى يقع فى أمر غير مستحسن مصرا عليه مستمرا فيه لا يحاول تركه» بل لا يرضى بتركه» وذلك ليتحقق معنى الوصف. إذ إن معنى الوصف يقتضى الاستمرار» وإذا كانت كل أوامر الشريعة فى ذاتها مستحسنة بمقتضى حكم الشارع» وبمقتضى اتفاقها مع العقل السليم» فعصيان الله تعالى يعد . 59 هود : 896 . (0) المائدة : 48 . (") المطففين:‎ )١( . المرسلات : 45. (6) القمر : ا‎ )4( 14 جريمة. وكذلك ارتكاب ما نهى الله تبارك وتعالى عنه يعد جريمة؛ وذلك لأنه غير مستحسن بمقتضى حكم الشارع بالنهى» وبمقتضى حكم العقل» لأن العقل السليم تتفق قضاياه مع قضايا الشرع الإسلامى» ولذلك روى أن أعرابيا سئل: لماذا آمنت بمحمد؟ فقال: لأنى ما رأيت محمدا يقول فى أمر افعل» والعقل يقول لا تفغلء وما رأيت محمدا يقول فى أمر لا تفعل» والعقل يقول افعل. -٠‏ وعلى ذلك نستطيع أن نقول: إن الجريمة فعل ما نهى الله عنهء وعصيان ما أمر اللّه بهء أو بعبارة أعمء هى عصيان ما أمر الله به بحكم الشرع الشريف» وأن تعريف الجريمة على هذا النحو يكون مرادفا لتعريف الفقهاء لها بأنها إتيان فعل محرم معاقب على فعله. أو ترك فعل مأمور به معاقب على تركه؛ وذلك لأن الله تعالى قرر عقابا لكل من يخالف أوامره ونواهيه» وهو إما أن يكون عقابا دنيويا ينفذه الحكام»ء وإما أن يكون تكليفا دينيا يكفر به عما ارتكب فى جنب اللّه» وإما أن يكون عقابا أخرويا يتولى تنفيذه الحاكم الديان» وهو خير الفاصلين. فكل جريمة لها فى الشرع جزاء إما عاجل فى الدنياء وإما آجل فى الآخرة. ويتولى الآخرة رب العالمين» إلا أن يدوب توبة نصوحاء ويتغمده الله برحمته وغفرانه وهو الغفور التواب الرحيم. هذا تعريف عامء وليس بخاصء» فهو يعم كل معصية.ء وبذلك تكون الجريمة والإثم والخطيئة بمعنى واحد؛ لأنها جميعا تنتهى إلى أنها عصيان الله تعالى فيما أمر ونهى» وسواء أكان ذلك العصيان عقوبته دنيوية أم كانت عقوبته أخروية. ولكن لأن الفقهاء ينظرون إلى المعاصى من ناحية سلطان القضاء عليهاء وما قرره الشارع من عقوبات دنيوية - يخصصون اسم الجرائم بالمعاصى التى لها عقوبة ينفذها القضاءء فيقول الماوردى فى تعريفها: «إنها محظورات شرعية زجر الله تعالى عنها بحد أو تعزير). والمحد هو العقوبات المقدرة. ويدخل فى هذا القصاص والديات التى قدرها الشارع فى موضعها المنصوص عليها بكتاب أو سنة نبوية؛ وذلك لأن هذه العقوبات محدودة مقدورة. والتعزير هو العقوبات التى ترك لولى الأمر تقديرها بحسب ما يرى به دفع الفساد فى الأرض ومنع الشرء وسمى تعزيراء لأن به تقوية الجماعة» وبه حفظهاء إذ إن عزر "٠ وعزرتموهم وأفرضتم الله فضا حسنا لأَكفَرنَ عنكم سيئاتكم ولأدخلئكم جنات تجري من تحتها الأنهار 114 . -١‏ وإن تعريف الجريمة على هذا النحو ينتهى إلى ما يقارب تعريف علماء القانون الوضعى لهاء فإن الجريمة فى قانون العقوبات هى الفعل أو الترك الذى نص القانون على عقوبة مقررة له؛ فإنه بمقتضى ذلك القانون لا يعتبر الفعل جريمة إلا إذا كان ثمة نص على العقاب» ولا عقاب من غير نص. والتعريف الشرعى الذى ذكرناه قد يفترق فى ظاهره عن تعريف القانون الوضعى فى التعزير» فإنه عقوبة غير منصوص عليها فى الكتاب أو السنة بقدر محدودء ولكن عند النظرة الفاحصة نجد تعريفين متلاقيين فى الحملة؛ وذلك لأن التعزيرات كلها تنتهى إلى منع الفساد ودفع الضرر. وكل ذلك له أصل فى الكتاب أو السنة» من ذلك قوله تعالى: ف ولا تعقوا في الأرضٍ مفسدين 74" , وقول النبى كَْةْ: «لا ضرر ولا ضرار' ولأن هذه التعزيرات ترك تقديرها لولى الأمرء له بمقتضى ما خوله الله تعالى من سلطان فى الأرض أن يسن من العقوبات ما يراه رادعا للناس» ولذلك نستطيع أن نقرر أن أكثر ما فى قانون العقوبات من عقوبات رادعة مانعة للفساد من قبيل التعزيرات» وليس معنى ذلك أن هذا القانون شرعى من كل الوجوه فإنه سكت عن جرائم قدر لها القرآن الكريم عقايا شديداء وعاقب على جرائم أخرى عقوبات ليست هى المقدرة لها فى الكتاب والسنة. -١‏ وإن النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة تجرى فيها عبارات المعصية والإثم والخطيئة» فلنشر هنا إلى معانى هذه العبارات» وعلاقتها بمعنى الجرية . وإن كلمة معصية يلاحظ أنها تتلاقى فى معناها مع تعريف الجريمة بالمعنى العام؛ وذلك لأن كلمة معصية يراد بها كل أمر فيه مخالفة أمر الله ونهيه. وكذلك معنى إثم ومعنى خطيئة» فإنه يتلاقى أيضا مع معنى الجريمة بالتعريف الأعمء لآن هذه كلها فيها عصيان لله تعالى» ومخالفة للشرعء» وقد قرر الله تعالى عقابا أخرويا أو عقابا دنيوياء وأن العقاب الأخروى قد يغفره الله تعالى عند التوبة النصوح- فإن الله تعالى يقبل التوبة من عياده. وعلى ذلك تكون ألفاظ الجريمة والمعصية والخطيئة والإثم» ألفاظا متلاقية فى معناهاء وإن كان ثمة اختلاف فى إشارتها البيانية» فالجريمة لوحظ فيها ما يكتسبه المجرم من كسب خبيث» ومن أمر مكروه مستهجن فى العقول. والإثم لوحظ فيه أنه مبطئ عن الوصول إلى المعانى الإنسانية العالية» وذلك لآن الإثم اسم للأفعال المبطئة» . 50 : سورة البقرة‎ )6( . ١١ : سورة المائدة‎ )١( "5 والخطيئة يلاحظ فى معناها أن الشر يستغرق النفس ويستولى عليها حتى يصدر عنها من غير قصد إليهء ولذلك لا يجى,التعبير بالخطيئة إلا عندما يكون الشر قد استحكم فى قلب إنسان فى مثل قوله تعالى: لإ بلى من كسب سيقَة وأحَاطّت به حَطيئه ولك أصحَاب لَارِ هم فيهًا خَالدُونَ 2 104 . 7- وفى تعريف الجريمة بهذا المعنى الخاصء وهو الأمر المحظور الذى يكون فيه عقاب يقرره القضاءعء تكون الجريمة غير متلاقية مع معنى الشر الذى يقرره علماء الأخلاق» أما تعريفها بالمعنى العام فإنه يتلاقى مع تعريف علماء الأخلاق للشر. ذلك أن علماء الأخلاق يحكمون على الأفعال بأنها شر إذا كانت ضارة بالمجتمعء وعلى الأفعال بأنها خير إذا لم تكن ضارة بالمجتمع» وذلك على مقتضى قول علماء الأخلاق الذين اعتبروا مقياس الخير هو المنفعة بأكبر قدرء ولأكبر عدد بممكن» وأن المنافع ليست مادية فقط بل المراد كل المناقع المعنوية والمادية» ولا تقتصر على المنافع العاجلة» بل تشمل أيضا المنافع الآجلة(2) ودفع المضار أيضا من المنافع . وإن ذلك المقياس هو أوضح المقاييس. وأقربها إلى التنظيمات القانونية العادلة» وإلى التعاون الاجتماعى , واعتبار الإنسان حيوانا اجتماعياء يعيش فى بيئة ينتفع منها وينفع فيها. إلا إذا قصد إلى فعل الخير»ء وإن هذا يتلاقى تمام التلاقى مع الآداب والأخلاق الدينية الإسلامية. لأن النبى يَككلِ يقول: «إنما الأعمال بالنيات» وإنما لكل امرئ ما نوى». وقد أشرنا إلى ذلك الأثر النبوى الشريف من قبل. وكذلك الحكم بالشر فى الأخلاق يتناول الفعل والقصد إليه. فالشرير من يقصد الشر ويفعله. وكذلك الإسلامء فإنه ينظر إلى الإثم ذلك النظرء ولذك ورد فى الأثر: «الإثم ما حاك فى الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس» والبر ما اطمأن إليه القلب. فاستفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك». . 8١ : سورة البقرة‎ )١( (؟) اختلف علماء الأخلاق فى مقياس الخير والشرء أو بعبارة أدق فى مقياس الفضيلة والرذيلة» منذ عهد‎ فلاسفة اليونان الأقدمين. فسقراط اعتبر المقياس هو المعرفة» وأفلاطون رد أصول الفضائل إلى أربعة:‎ الحكمة» والشجاعةء والعفة» والعدالة» وأرسطو قرر نظرية الوسطء وهو أن الفضيلة وسط بين رذيلتين.‎ وأبيقور اعتبر المقياس هو المنفعة الشخصية» والرواقيون اعتبروا المقياس هو الكمال» وبعض العلماء اعتبر‎ المقياس العرف» وآخخرون قالوا: إن الفضيلة تعرف بالبداهة. وخخير المقاييس هوالمنفعة بأكبر قدر وأكبر‎ عددء وقد قرر هذا بنتام وجون استوارت ميل. "2 - هذا هو وجه الموافقة بين قانون الأأخلاق» والجريمة فى الشريعة بمعناها العام أما وجه المخالفة بين تعريف الجريمة بالمعنى الخاص وقانون الأخلاق فأساسه أن الشر فى قانون الأخلاق أعم مما قدر له عقاب» فهو يشمل الشر الذى قدر له عقاب يطبقه القانون» والشر الذى لا يدخل فى متناول القضاء؛ وذلك لأن كشيرا من الأمور لا تجرى عليها البينات والإثباتات» ولو تحرى القاضى الإثبات فيها لأدى ذلك إلى أن ينقب عن القلوب». وذلك فى ذاته لا يؤدى إلى خير» بل إن ما يقترن به من إيذاء يكون أكثر من الخير الذى يكون بترتيب العقابء فقانون الأخلاق نفسه يوجب ألا يكون هناك تكشف لأسرار الناس وتنقيب عن قلوبهم» وقد وضح الموازنة بين علم الأخلاق وعلم القانون بنتام فى كتابه أصول الشرائع » قال: «الأخلاق علم غايته تنظيم أعمال الإنسان للوصول إلى الدرجة الممكنة من السعادة» وهذه الغاية هى التى ينبغى أن تكون لعلم القانون» لكن هذين الفنين أو هذين العلمين يختلفان فى عموم الموضوع وخصوصه.ء فالأعمال كلها وبعمومها تدخل فى دائرة الأخلاق» فهو مرشد يأخذ بيد المرء فى جميع أحوال الحياة» وكل علاقات المرء مع غيره» وليس هذا من الممكنات فى علم القانون» وإن كان ممكنا وجب الابتعاد عنهء لأنه لا يجوز أن يكون للقانون سلطة مستمرة فى سير الأفراد الشخصىء فعلم الأخلاق يقضى على الإنسان بفعل كل ما فيه منفعة للأمة» ومنفعة للشخص . لكن كثيرا من الأعمال النافعة للأمة لا يمكن أن يأمر بها القانون. بل هناك أعمال ضارة لا يجب على علم القانون منعهاء وإن منعتها الأخلاق» وفى الجملة إن مركز العلمين واحد» ولكن محيط أحدهما أكبر من محيط الآخرء والسبب فى هذا الاختلاف بين العلمين أمران: أحدهما : أن علم القانون لا يمكن أن يؤثر مباشرة فى سير الأفراد الشخصى إلا بالعقوبة» ومعلوم أن العقوبة ضرر لا يجوز الحكم به إلا إذا نتج من إيقاعه خير منه» وإذا نظرنا إلى كثير من التصرفات الشخصية رأينا أن العقوبة عليها تنتج ضررا أكبر من الفعل الذى حكم من أجله على مرتكبه». لأن تنفيذ القوانين فى مثل هذه الحال يستلزم استعمال وسائل من شأنها الإزعاج وإلقاء الرعب فى النفوسء» وهو ضرر أشد مما جاء القانون لاجتنايه . ثانيهما : أن علم القانون محفوف دائما بالخوف من إصابة برىء فى الوقت الذى يراد فيه معاقبة الجانى» وهو فى المعاقبة على السيرة الشخصية يصل إلى درجة الخطر من الوقوع فى ذلك». ومنشأً هذا الخطر ما ينشأ من الصعوبة فى تعريف الجرائم النفسية وتوضيحهاء والوقوف على كنههاء فمثلا القسوة وكفران النعمة» والخيانة» وما شابهها من القبائح مرذولة عند الناس» ولكن لا تقع تحت سلطان القانون, لتعذر الوقوف عليها تماماء كالسرقة والقتل وشهادة الزور وغير ذلك» . ” ثم يوازن موازنة حكيمة استقرائية بين الأخلاق والقانون» ثم يقول فى تعذر الإثبات فى الجرائم الخلقية المتصلة بالسيرة الشخصية من غير أن تتصل بالمجتمع : إن إقامة الدليل على مثل هذه الأعمال من أصعب الأمورء ولا يمكن الحصول على الإثبات إلا باتخاذ الوشاق» واستعمال السعاية وتكثير عدد الرقباء. والالتجاء إلى التجسس فى ذاته قبيح ضار. . .» إذ يخاف على نفسه البرىء والجانى معاء وكذلك كل من يتصل بهء فيصير البقاء فى المجتمع خطرا لهذا الذعر العام» ولسريان النميمة» فيركن الناس إلى العزلة» وتقل الثقة بينهم. ويكون القانون قد حاول اجتناب رذيلة فأتى بأرذل منها37" . 6- وهذا النظر يتفق مع ما يقرره فقهاء المسلمين فى الجملة»ء وأن ما تدعو إليه الأخلاق هو ما يدعو إليه الدين» فما من أمر هو فى حكم المقياس الخلقى حسن إلا دعا إليه الإسلام» ولذا قال أكثم بن صيفى حكيم العرب» عندما بلغته دعوة النبى يكو وأرسل بنيه يتعرفون ما يدعو إليه وجاءوا يخبرونه بأمر دعوته: «إن هذا إن لم يكن دينا فهو فى أخلاق الناس أمر حسن» . وكذلك ما قرره الإسلام من جرائم يعاقب عليهاء قد قرر القانون الجنائى فى هذا العصر عقوبات على بعضهاء بيد أن الشريعة تختلف عن القوانين الوضعية القائمة» وخصوصا فى مصر من أربعة وجوه: () من كتاب أصول الشرائع لبنتام ترجمة المرحوم فتحى زغلول (باشا) ج١‏ ص258 6509 وقد لخص الأستاذ على بدوى الفارق بين قانون الأخلاق والقانون الجنائى فى ثلاثة أمور: أولها : أن صفة الجزاء فى القواعد الخلقية تختلف عنها فى القواعد الجنائية» ففى القواعد الخلقية الجزاء أدبى وهو خوف احتقار الناس وتأنيب الضميرء ونحو ذلك» بينما الجزاء فى القواعد الجنائية يصيب المجرم فى بدنه أو ماله أو حرمته أو كرامته أو حياته» وفى بعض الأحوال يكون الجزاء الخلقى ثابتا مثل الصدق والإحسان والمروءة» وأحيانا ينفرد عن الجزاء الجنائى مثل مخالفة المروءة ولوائح التنظيم . ثانيها : أن المقياس الخلقى يتصل بالضمير وما تحدث به النفس» بينما المقياس فى العلوم الجنائية يتجه إلى الأعمال التى لها مظهر خارجى» وعند حدوث الأعمال يتجه القانون إلى تعرف المقصد. ولكن لا يتجه أصلا إذا لم يصحب النية والمقصد عمل قط. الثها : أن القانون الخلقى يتجه إلى تربية النفس وتكوين الفضائل كالرحمة والوقار والصدق والبر بالأقارب فهو أوسع دائرة وأبعد مدى فى الأمر والنهى من القانون الجنائى» ومع أن القانون الجنائى وسع فى كل العصور كثيرا من مسبادئ الأخلاق وتولى حمايتها بالعقاب فإن ميدان الأخلاق مازال أوسع دائرة من القانون» يختار منها المشرع الجزئى الضرورى لحماية المجتمع من الفوضى؛ ويتدخل فى تأييدها بالجزاءء ثم يترك ما عدا ذلك لحكم الضمير» لأن الدولة لا تستطيع أن تتولى تنفيذ سائر المبادئ الخلقية على اختلاف أنواعها ودرجاتهاء إما لصعوبة الإثبات فى النيات والأمور النفسية» وإما لأن الدولة لا ترى فى مخالفتها أثرا كبير الخطر فى علاقات الناس الخارجية»؛ وإذا وصل الخطر إلى درجة تبرر تدخل الدولة أو تستلزمه؛ فحينئذ يتقدم القانون الجنائى مؤيدا مبادئ القانون الخلقى» ويجعل من انتهاكها جرائم وضعية كالنصب والتزوير فى الأوراق وأداء اليمين الكاذبة» وقذف الغير بطريق من الطرق . >33 أولها : أن الشريعة أعم شمولا فى الجرائم المعاقب عليهاء فجرية الزنى لها عقاب مقرر فى الشريعة» من غير أن تحرض الشريعة على التجسس وما يشبههء» وكذلك شرب الخمر» وكذلك رمى المحصنات بالزنى» وغير ذلك من الخرائم التى وضعت لها الشريعة عقابا فى صورة محدودة ضيقة . انيها : أن عقوبات الشريعة قامت على أساس المساواة بين الجريمة والعقوبة» ولاحظت أن تكون العقوبات من جنس الجريمة ما أمكن ذلك ليكون أشفى لصدور المجنى عليه وذويه» ولتكون العقوبة ممائلة للجريمة» لأن دفع الاعتداء يكون الثها : أن القوانين الحاضرة أرجحت حتق المجتمع فى العقاب» ولم تتجه إلى غيظ المجنى عليه» وقد نوهنا إلى ذلك من قبل. رابعها : أن أكثر العقوبات فى القوانين الحاضرة كانت بالحبس الذى يقطع المحبوس عن الحياة والأحياء وعن كل عمل» وفى ذلك تعطيل لقوى إنسانية » وبسث روح العداوة بين المجرمين والمجتمع إن لم تكن قد نبتت» وتنميتها إن كانت قد وضعت بذورها. وسيكون لذلك كله فضل بيان فى موضهه من القول إن شاء الله تعالى» ونضرع إليه جلت قدرته أن يمدنا بعونه. الأساس فى اعتبار الفعل جريمة | 5- الأساس - بلا شك - فى اعتبار الفعل جريمة فى نظر الإسلام هو مخالفة أوامر الدين» ذلك هو الأساس الواضح البين» بيد أنه يلاحظ أمران: أولهما : أن أوامر الإسلام كلية لاجزئية » فالقرآن الكريم قد نص على عقوبة عدة جرائم تبلغ ستا: هى البغى وقطع الطريق » والسرقة» والزنى» وقذف المحصنات» والقصاص بكل شعبه. وزادت السنة عقوبة شرب المخمر والردة وغيرهماء وبقيت عقوبات لجرائم كثيرة لم يتناولها الكتاب أو السنة بالتفصيل» وقد ترك ذلك لولى الأمر يقدر له عقوبات بما يتناسب مع المجرم» وبما يكون به إصلاح العامة» وسيادة الأمن بين الكافة» وذلك بالتعزير الذى هو الأصل الثانى من أصول العقاب فى الإسلام. الإسلامية» ومعنى كونه جامعا أنه يرجع إليه فى كل عقوبة تقرر بحكم التعزير؛ وذلك لأن التعزير تنفيذ لأمر دينى هو العمل على إصلاح الجماعة ومنع العبث والفسادء فلا بد أن يكون ثمة أساس ضابطء لا يعتير جرية وما لا يعتبرء وذلك الأساس لا بد أن يكون مشتقا من مصادر الشريعة ومواردها وغاياتها ومراميها واتجاهاتها. >” وأنه من المقررات الشرعية أن الشريعة جاءت لرحمة العالمين كما نوهنا» ولإسعاد الناس فى معاشهم» وهدايتهم إلى الخير فى مآلهم» ٠‏ كما قال الله تعالى : يا أيه الّاس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشقاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمبين +20 2(4, فارحمة بالإنسان هى المعنى الذى جاء به الإسلام. وأنه بالاستقراء ثبت أنه ما من أمر فى الشريعة إلا وقد كانت فيه المصلحة الإنسانية لأكبر عدد. ولذلك قرر الفقهاء أن ل جاءت لحماية المصالح الإنسانية المعتبرة » التى هى جديرة بأن تسمى مصلحة» وليست هوى جامحاء ولا لذة عاجلة» ولا شهوة منحرفة » وإن ذلك يتقاضانا أن نتكلم فى المصالح التى اعتبرتها الشريعة وجاءت لحمايتها واعتبرت الاعتداء عليها إجراما يستحق عقوبة مقدرة بحكم القرآن الكريم أو عقوبة يفرضها ولى الأمر العادل الذى لا يكون ممن قال تعالى فيهم: ومن النّاس من بع يعجبك قله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو أََّدُ الخصام +739 4 وإذا تولى سعئ في الأرض ليقسد فيها ويهلك الحرث والتّسل واللّه لا يحب الْفساد د 23> وإذا قيل لَه ان اللّه أَحَذَنه الْعرّة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد تج 204 . /1"- وإذا كانت المنفعة أقرب المذاهب الخلقية لتكون أساسا للقوانين الوضعية» كما قرر الفيلسوف بنتام» وقد جعلها أساسا للقوانين كلها فكذلك المصلحة الحقيقية هى الأساس فى الشريعة الإسلامية» فكل ما شرعه الإسلام من نظم وأحكام أساسه المصلحةء» وهى تحقق فى كل مراميه ومقاصده» وما جاء به النص فهو يشمل المصلحة. ولا مصلحة سواه فى موضوعه» وما يخالفه مما يسمى منافع أو مصالح إن هو إلا انحرافات نفسية» أو منافع كمنافع الخمر والميسر إثمهما أكبر من نفعهما كما قال تعالى : «يسألوتك عن الْحَمر والميسر قل فيهما إِنْمْ كبير ومتافع للنّاس وإِنْمَهمَا أكبر من نُفعهما 274 وما لا نص فيه يجب أن يضع ولى الأمر عند تقرير عقوبة عليه أساس المصلحة المعتبرة التى تعد مخالفتها والاعتداء عليها - إيذاء يعد جريعة توجب عقايا . وإن الذين بنوا القوانين على أساس مذهب المنفعة حرروا معنى المنفعة المعتيرة تحريرا علميا دقيقاء كما فعل بنتام وكما فعل جون استوارت ميل» ولذلك يحق علينا أن نحرر معنى المصلحة فى الإسلام ليتبين المقياس الدقيق الذى يقوم عليه التعزير» وليتحرر معنى الجريمة تحريرا لا يكون ثمة إبهام معه. لآنه إذا كانت المصلحة هى المطلوبة فالاعتداء عليها جريعة» فإن كان الاعتداء منصوصا على عقوبتم أذعنا له وخضعن» ولا نكون ممن قال الله تعالى فيهم: وإذا دعوا إِلَى الله ورسوله ليحكم بن: بيتهم إذا فريق منهم 55١9 : سورة يونس : /61 . (؟) سورة البقرة : 5 508 50508 . (5) سورة البقرة‎ )١( 35 معرضون <زيع) 04, وإن كانت المصلحة لم يرد فى الاعتداء عليها نص نظرنا فيما قرره فقهاء المسلمين لها من عقوبات» ومقدار الجدوى فى علاجهم غير مقيدين بهذا العلاج» على أنا نتقيد بالمعنى الأساسى فى العقوبات الإسلامية» وهو المساواة بين العقوبة والجريمة» وأن تكون من جنسها ما أمكن تنفيذ ذلك.2 وغير مقيدين أيضا بواقعة المصلحة ذاتهاء فإن الواقعة قد يكون فيها اعتداء على مصالح معتبرة فى عصر وحال» ولا يعتبر فيها اعتداء على مصلحة فى حال وفى عصرء فإن الناس يجد لهم من القضاء بمقدار ما يحدثون من أحداث» وهكذا. والآن نبين المصلحة المعتبرة التى جعلها الإسلام أساساء أو ثبت بالاستقراء لأحكام القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة أنها الأساس. المصلحة المعتبرة فى الإسلام : - إن الاستقراء أثيت - كما قلنا - أن الأحكام فى الشريعة الإسلامية كلها تشتمل على مصالح العباد» فما من أمر شرعه الإسلام بالكتاب أو السنة إلا كانت فيه مصلحة حقيقية» وإن اختلفت تلك المصلحة على بعض الأنظار» أو اختلف فيها أهل النظرء فمنشأ ذلك استيلاء تفكير آخر على عقل أحد الناظرين غشى عليه» فلم يدرك حقيقة المصلحة الثابتة فى الشرع الإسلامى» كما يدعى بعض الناس فى هذه الأيام أن المصلحة فى إباحة الفائدة» ومحاولة جعلها غير داخلة فى عموم الرباء» وما يحسبه بعض الناس من أنه لا مصلحة فى تقرير عقوبة الجلد على الزنى وعقوبة الجلد على القذف» وغير ذلك مما يكون السبب فى خفاء المصلحة أمام أنظارهم هو تأثرهم بتفكير آخرء أو وجود شبهات من التقليد عندهم. كانت عثاية الغيم الذى يحجب الشمس فى رائعة النهار. ومن الأمثلة الواضحة فى ذلك تحريم الخمر» فإن المصلحة فيه واضحة بينة لكل ذى عقل سليم» حتى إن بعض العرب فى الجاهلية قدمت إليه الخمر فردها قائلا: لا أريد أن آخحذ ضلالى بيدى. ومع ذلك يتحدث بعض الناس فى خفاء وجه المصلحة فى تحريم الخمرء ومنهم علماء. وما هى إلا غاشية من غواشى التأثر ببعض العادات لأقوام تحللوا من كل حريجة دينية» وأصبحوا وقد أصاب تفكيرهم رق موضعى» نرجو أن يتحرروا منه قريبا بفضل الله تعالى. 4- ومع أن الاستقراء أثبت أن الأحكام الشرعية كلها قد جاءت لمصالح العباد» لا يشك فى ذلك شاك إلا إذا كان مئوف التفكير - أو غير عالم بمقاصد الإسلام - تجد العلماء قد اختلفوا فى جواز تعليل الأحكام على أساس المصالح على ثلاث طوائف . )000( سورة النور مم يف فطائفة أنكرت التعليل للأحكام جملة مع اعترافها بأن شرع الإسلام كان للمصلحة» ولكن يقتصر على مورد النص لا يتجاوزهء وهؤلاء هم نفاة القياس» وعلى رأسهم داود الظاهرى المنشئ الأول لمذهب أهل الظاهرء وابن حزم الأندلسى المنشئ الثانى . والطائفة الثانية أنكروا تعليل الأحكام باعتبار أن العلل هى بواعث التشريع والمؤثرة فيه بالإيجاد. وعلى رأس هؤلاء الإمام فخر الدين الرازى» ومع أنه من مقررى القياس فقد قال ذلك القول» ولكنه قال فى علة القياس» إنها أمارة على الحكم وليست أمرا باعثا على الحكم ولا مؤثرة فيه بالإيجادء لأن الحكم الشرعى هو حكم الله تعالى» وحكم الله تعالى لا يكون بتأثير مؤثر أيا كانء سواء أكان ذلك المؤثر مصلحة العباد أم غيرها. فهو خالق العباد. وخالق مصالح العباد «إلا يسأل عما يفعل وهم يُسأَنُونَ +2 274, وإن هذا القول يقرر أن مقاصد الشريعة وحكمها التى يدركها الناس هى المصلحة» وهى فى ذاتها تنتهى إلى ذلك» ولكن لا يصح أن تسمى بواعث ودوافع إلى الأحكام. لأن أفعال الله تعالى لا تعلل» وكذلك أحكامه. والطائفة الثالثة» وأكثرهم من المالكيةء يقررون أن المصالح علل للأحكام وأن أحكام الشرع الشريف تعلل بالمصالح؛ على ألا يكون التعليل مؤديا إلى هدم النص أو عدم الأخحل به. وإن هذا الرأى فى نهايته يتلاقى مع رأى الرازى وغيرهء وهو أن المصالح أمارات لوجود الأحكام الشرعية» ولا يمكن أن تكون هى العلل المؤثرة التى أثرت فى إرادة الله تعالى فجعلته يقرر تلك الأحكام». فإن ذلك محال لا يليق أن يكون بالذات العلية» تعالى الله سبحانه عن ذلك علوا كبيرا. - ولقد قلنا: إن المصلحة المعتبرة هى المصلحة الحقيقية» وإن كانت أحيانا تكون إضافية كما أشرناء والمصالح التى لاحظها الإسلام ترجع إلى أمور خمسةء وهى ما فيه حفظ الدين وما فيه حفظ النفس وما فيه حفظ العقل. وما فيه حفظ النسل وما فيه حفظ المال؛ وذلك لأن الدنيا التى يعيش فيها الإنسان تقوم على هذه المعانى التى لا تتوافر الحياة الإنسانية إلا بها؛ وإن الله سبحانه وتعالى قد كرم الإنسان فى هذا الوجودء فقال تعالى: «( ولقد كرمنا بني آدم وَحملناهم في الْبَر وَالبَحْرِ ورزَقنَاهم من الطَّبّات وفضلناهم على كثير َس خلقنا تفضيلا 0 16" . . سورة الأنبياء : 5# . (؟) سورة الإسراء : 0لا‎ )١( 384 ١‏ وإن هذا التكريم يقتضى توافر هذه الأمور الخمسة. والمحافظة عليهاء ومنع أى اعتداء عليهاء فالدين لا بد منه» لأن التدين خاصة الإنسان من بين سائر الحيوان فلا بد أن يسلم له اعتقاده» وأن تتوافر له حرية الاعتقاد» كما قال تعالى: «إلا إكراه في الدين قد بين الرشد من الغ فَمَن ,2١74‏ واعتبرت الفتنة فى الدين» ومحاربة الاعتقاد السليم أشد من القتل» كما قال تعالى : 92 والفتنة أَشَد من الْقَْل 4(" . والمحافظة على النفس هى المحافظة على حق الحياة العزيزة الكريمة. والمحافظة على النفس يدخل فى عمومها المحافظة على الحياة. والمحافظة على الأطراف» والمحافظة على الكرامة الإنسانية والابتعاد بها عن مواطن الإهانة» ومنع من يريد الاعتداء على أى أمر يتعلق بهاء ومن ذلك حرية العمل وحرية الفكرء وحرية الإقامة» وغير ذلك مما تعد الحرية فيه من مقومات الحسياة الإنسانية الحرة التى تزاول نشاطها فى دائرة المجتمع الفاضلء من غير أن تعتدى على أحد. والمحافظة على العقل - هى المحافظة عليه من أن تناله آفة تجعل صاحبه عبئا على المجتمع » ومصدر شر وأذى للنامن» فالمحافظة على العقل تتجه إلى ثلاث نواح: الناحية الأولى : أن يكون كل عضو من أعضاء المجتمع سليما يمده بعناصر الخير والنفع فإن عقل كل إنسان يعيش فى المجتمع ليس حقا خالصا له» بل هو باعتباره لبنة فى صرح ذلك المجتمع الفاضل - يتولى سداد خلل فيه» فمن حق المجتمع أن يلاحظ سلامته . الناحية الثانية : أن من يعرض عقله للآفات فوق أنه يفقد الجماعة قوة كانت عاملة يكون عبئا على الجماعة لا بد أن تحملهء فإذا كان عليها عبؤه عند آفته» فعليه أن يخضع للأحكام الرادعة التى تمنعه من أن يعرض عقله للآفات. والناحية الثالثة : أن من يئوف عقله آفة من الآفات يكون شرا على الجماعة» ينالها بالأذى والاعتداءء فكان من حق الشرع أن يعمل على المحافظه على عقله بسبب من نفسه وبسبب من غيره» فإن ذلك يكون وقاية من الشرور والآثام» والشرائع تعمل على الوقاية» كما تعمل على العلاج» ومن أجل ذلك عاقبت الشريعة من يشرب الخمر وعاقبت القوانين المصرية من يتناول الحشيش ونحوهء وكلاهما شر وبيل على الأخلاق» بيد أن الإسلام كان منطقيا فعاقب على النوعين» والشرائع الحاضرة عاقبت على واحد. وتركت الناس يعبون فى الأول عبا. ا والمحافظة على النسل - هى المحافظة على النوع الإنسانى» بحيث يكون كل و يتربى بين أبويه. ويكون لكل ولد كالئ يحميهء وإن ذلك اقتضى تنظيم الزواجء ١ : سورة البقرة : 1565 , (5؟) سورة البقرة‎ )١( >38 واقتضى منع الاعتداء على الحياة الزوجية» واقتضى منع الاعتداء على الأعراض سواء أكان بالقذف أم كان بالفاحشةء فإن ذلك اعتداء على الأمانة الإنسانية التى أودعها الله جسم الرجل والمرأة» ليكون منهما النسل والتوالد الذى يمنع فناء الجنس البشرى ويجعله يعيش عيشة هنيئة سهلة. فيكثر اللسل ويقوى. ولا يكون ذلك إذا كان الذى يسود العلاقة بين الرجل والمرأة هى علاقة المسافدة» كما يكون الحيوان المتأبد الذى يعيش فى الفيافى والقفارء ومن أجل ذلك كانت عقوبة الزنى» وعقوية القذف وغير ذلك من العقوبات التى وضعت لجرائم فيها اعتداء على النسل بأى طريق من طرق الاعتداء. والمحافظة على المال تكون بمنع الاعتداء عليه بالسرقة أو الغصب أو نحوهماء وبالعمل على تنميته ووضعه فى الأيدى التى تصونه وتحفظه. وتقوم على رعايته والقيام بحقهء فالمال فى أيدى الآحاد قوة للأمة كلها. ولذا وجبت المحافظة عليه بتوزيعه بالقسطاس المستقيم» وبالمحافظة على إنتاج المنتجين» وتنمية الموارد العامة ومنع أن يؤكل بين الناس بالباطل» وبغير الحق الذى أحله الله تعالى لعباده. 5- وإن هذه الأمور الخمسة هى التى جاءت من أجلها كل الشرائع» وبنيت على المحافظة عليها كل العقوبات فى الإسلام» ولقد قال فى ذلك حجة الإسلام الغزالى فى كتابه المستصفى : «إن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق» وصلاح الخلق فى تحصيل مقاصدهمء لكنا نعنى بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع ومقصود الشرع من الخلق خمسةء .وهو أن يحفظ عليهم دينهم» وأنفسهمء وعقلهمء ونسلهمء ومالهمء فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة. وكل ما يفوت هذه الأصولء فهو مفسدة» ودفعها مصلحة. وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع فى رتبة الضرورات» فهى أقوى المراتب فى المصالح» ومثاله قضاء الشرع بقتل الكافر المضل» وعقوبة المبتدع الداعى إلى بدعتهء فإن هذا يفوت على الخلق دينهم» وقضاؤه بإيجاب القصاص» إذ به حفظ النفوسء. وإيجاب حد الشربء إذ به حفظ العقول التى هى ملاك التكليف» وإيجاب حد الزنى» إذ به حفظ النسب والأنساب» وزجر الغصاب والسراق» إذ به يحصل حفظ الأموال التى هى معايش الخلق وهم مضطرون إليهاء وتحريم تفويت هذه الأمور الخمسةء والزجر عنها يستحيل ألا تشتمل عليه ملة من الملل» وشريعة من الشرائع التى. أريد بها إصلاح الخلق. ولذا لم تختلف الشرائع فى محريم الكفر والقتل والزنى والسرقة وشرب المسكر»17 . 2220 المستصفهى جآا ص/17م78 لخمى؟ . ونرى من هذا أن اعتبار الفعل جريمة فى نظر الغزالى أساسه الاعتداء على هذه المصالح الخمسة التى هى فى أصلها ضرورات إنسانية» وهذا متفق عليه بين جماهير المسلمين» بل إن المحافظة على هذه الأمور تعد من البدهيات العقلية التى لا تختلف فيها العقولء ولا تختلف فيها الأديان» وهى كأصول الأخلاق لا تختلف فيها البيئات كالصدق والعدالة» فإنهما تتفق العقول على كونهما فضيلة» ومخالفتهما رذيلة» وهما فى ذاتهما يرجعان إلى المحافظة على هذه الأصول الخمسة. *- ولما كانت مراعاة هذه المصالح أمرا مقررا ثابتاء فالمحافظة عليها أمر قطعى ثابت كما يقول الغزالى» ويقرر الغزالى أن هذه الأمور الخمسة ثابت أنها كلية أى أنها فى مجموعها ثابتة باعتبارها عامة للجموع وهى قطعية لتضافر النصوص عليهاء وأصلها ضرورى لأنها لا يمكن بقاء الإنسان بوصف كونه حيا له كرامة الإنسان إلا بالمحافظة على هذه الأمور. بيد أنه عند النظر إلى الجزئيات من حيث تحقق هذه المصالح بالنسبة لشخص معين» أو لطائفة معينة» قد يحصل تعارض» فقد يكون ما هو مصلحة مؤكدة لبعض الأشخاص مضرة مؤكدة لآخرين» بل قد يكون مضرة مؤكدة لهذا الشخص نفسه» فبقاء الرجل يسير على قدمين اثنتين مصلحة مؤكدة له» ولكن إذا أصابت إحدى رجليه أكلة فإنه هذه المصلحة تنقلب مضرة ويكون من مصلحة الجسم كله إزالة ذلك العضوء وإن مثل الرجل أو الذراع فى الجسم كمثل الواحد فى الجماعة» من مصلحة الجماعة المؤكدة سلامة كل واحد من أعضائها وبقاؤه فيهاء ولكن إذا فسد ذلك الفرد» وأصبحت سلامة المجتمع فى قطعه يكون من الواجب قطعه» وتكون المصلحة التى أوجبت بقاءه فى حال سلامته هى التى توجب فناءه فى حال آفته . وبهذا يتبين أنه قد تتنازع المصالح والمضارء ويكون الفعل الواحد أحيانا نفعاء وأحيانا يكون ضرراء وعند تنازع النفع والضرر يقدم العمل الذى يكون أكثر نفعا على غيره» والعبرة تكون بمصلحة أكبر عدد بمكن وإن الضرر الكثير يدفع بالضرر القليل» وإن دفع المضار مقدم على جلب المصالح لأن دفع المضار فى ذاته هو مصلحة السلامة. 5- وعلى ذلك نستطيع أن نقرر أن مصالح الجماعة نسبية إضافية لا حقيقية ذاتية» عند النظر لكل فعل بمفرده» وإن كانت ذاتية قطعية فى كليتها فى جملة المجموع. ولذلك يقرر الشاطبى فى الموافقات ما يأتى: أولا: إن المنافع والمضار عامتها أن تكون إضافية لا حقيقية» ومعنى كونها إضافية أنها منافع أو مضار فى حال دون حال» وبالنسبة لشضخص دون شخص أو وقت دون وقت» فالأكل والشراب مثلا منفعة للإنسان ظاهرة» ولكن عند وجود داعية الأكل» وكون المتناول لذيذا طيبا لا كريها ولا مراء وكونه لا يولد ضرا عاجلاء ولا آجلاء *١ وجهة اكتسابه لا بلحقة فيها ضرر عاجل ولا أجل» ولا يلحق غيره بسببه أيضا ضرر عاجل أو آجل. وهذه الأمور قلما تجتمعء فكثير من المنافع تكون ضررا على قوم لا منافع» أو تكون ضررا فى وقت أو حالء. ولا تكون ضررا فى آخرء وهذا كله بين فى كون المصالح والمفاسد مشروعة أو ممنوعة لإقامة هذه الحياة لا لنيل الشهوات» ولو كانت موضوعة لذلك لم يحصل ضرر مع متابعة الأهواء» ولكن ذلك لا يكونء فدل على أن المصالح والمفاسد لا تتبع الأهواء . ويذكر الشاطبى ثانيا - أن الأغراض فى الآمر الواحد تختلف» بحيث إذا نفذ غرض بعض وهو متتفع به» تضرر آخر لمخالفة غرضه. فحصول الاختلاف فى الأكثر يمنع من أن يكون وضع الشريعة على وفق الغرضء وإنما يستتب وضعها على وفق المصالح مطلقاء وافقت الأغراض أو خالفتها. وإن هذا الكلام يستفاد منه أمور أربعة: أولها : أن المصالح المعتبرة هى المصالح الحقيقية التى أساسها النفع المعتبر الذى يعود إلى المحافظة على الأمور الخمسة التى اتفقت العقول على ملاحظتها فى الشرائع الإلهية والوضعية» بل هى من بدهيات الناس . ثانيها : أن المنافع إضافية فقد تكون منافع قوم فيها ضرر بآخرين» وقد تكون منفعة حاضرة تدفع منفعة آجلة» ويجب عند تقدير الأمور من ناحية إباحتها ومن ناحية حصرها ملاحظة ما يتبع الفعل من حاجات» ومايترتب عليه من مضار عاجلة» أو آجلة» فشرب الدواء بلا شك فيه ضرر عاجل» وهو آلام المرارة التى يذوقها المريض» ولكن فيه نفع آجل وهو السلامة» والجراحة فى الجسم الإنسانى فيها ألم عاجل ولكنها فى جملتها يترتب عليها نفع عاجل» ولذلك كان الدواء أمرا مصلحياء وإن كان مؤلماء والجحراحة مصلحة ظاهرة وإن كانت مؤلمة» وهكذاء والعبرة ة حينئة بتقدير أكبر قدر من المنافع ‏ وأدومهاء وأعمها وأكثرها شمولا للناس. وبهذا الاعتبار تكون المصالح حقائق ثابتة» وإن كان تحققها فى أمر معين من أعمال الناس» وما تتعلق به أمورهم معانى إضافية» فالمصلحة فى ذاتها أمر متحقق ثابت» ولكن كون هذا الأمر نافعا أو ضاراء وتحقق هذا الوصف يختلف باختلاف الأشخاص واختلاف الأوضاعء وباختلاف الأحوال» وباختلاف الأقاليم» فالثلج بلا شك شىء نافع فى البلاد الحارة» وفى وقت الصيف وليس له هذا القدر من التفع فى البلاد الباردة وليس له هذا القدر من النفع فى البلاد الحارة نفسها فى وقت الشتاء. ثالثها : أن المصلحة ليست مرادفة للَّذة والشهوة» فإن الشهوات والأهواء أمور شخصية وقتية» وقد تكون انحرافاء وقد تتعلق بأمور لا تنفع ولا تجدى بل إن هذه تتعلق بالهوىء والهوى فى أكثر الأحيان يدفع إلى الفساد؛ لأنه انحراف فى الفكرء» ضفن وانحراف فى النفسء٠‏ وهو يؤدى إلى الجرائم التى هى ضد المصالح» وليس متلاقيا مع المصالح فيما يتجه إليهء وإنه عندما تسود الأهواء تذهب المصالح» وعندما تتحكم الشهوات يكون الفساد. رابعها : أن أغراض الناس وغايتهم ليست دائما متجهة إلى المصالح التى يحميها الإسلام» ونتحميها أحكامه. إنما يحمى الإسلام من الأغراض والمقاصد الشخصية ما يكون متفقا مع المصلحة العامة التى يدعو إليها ويحميها ويحققها ويثبتهاء وهذا هو الذى يرمى إليه الحديث النبوى الشريف الذى يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» أى تكون مقاصده وغاياته ورغباته تابعة لما يدعو إليه الإسلام من مصالح ويحميهاء ويعتبر الاعتداء عليها جرعة. 0“ا- وإن هذا التفكير وهو بطلان جعل الهوى حكما مرضى الحكومة وبطلان اعتباره من قبيل المصلحة يتفق تمام الاتفاق مع ما يقرره بنتام فى كتابه أصول الشرائع» فهو لا يعتبر النفور سببا للحكمء وأن حمايته تكون بعقوبات مقررة» ويعد العقاب المترتب على النفور ظلماء ويقول فى ذلك: وإنا نعجب كل العجب من حال قوم سخفقاء ء العقول يريدون أن يجمعلوا من إحساسهم قانونا للناس. ويدعون أنهم من الخطأ معصومونء لأن أصلهم الذى ركنوا إليه» وسموه الوجدان ليس عقلياء بل العقل يأباه كل الإباء. . والذى نراه أنه لا يصح مطلقا الاعتماد على الميل والنفورء لأن المسترشد بهما مخطئ فى كثير من الأحوال» لأنه قد يكون مبطلا فى ميله أو نفوره» كما يقع ذلك من المتشددين» والمتعصبين لطائفة من الطوائف» لكون أعمالهم هذه لا أساس لها سوى الميل والنفور. وما التاريخ إلا حكاية ما وقع فى الأزمان الغابرة من المنازعات والمخاصمات التى لا أصل لهاء ولا فائدة» فمن الأمراء من كره قوما من رعيته لكونهم يلفظون ببعض كلمات لا تأثير لها فى الحقيقة» وما حمله على ذلك سوى أخذهم بغير المذهب الذى يأخذ به هوء فهو ثوليكى مثلا» وهم إنيليون» أو محمديون» وكان يعد لهم النيران» ويرمى بهم فيها ثم يجعل يوم إعدامهم عيدا عاما... نعم إن النفور تارة يجتمع مع المنفعة. لكن لا يحسن جعله السبب فى العمل» وإن كان حسنا فى ذاته. كإقامة الدعوى على السارق أمام المحاكم» فإنها مما يستحسنء» لكن لا يصح أن يكون بناؤها على أن السارق مكروه تنفر منه التفس » فإن ذلك ما لا يحمد أثره» بل مما يعظم ضرره» إن جاء بخير مرة» فقد يجلب الشر مرارا. وإن أضمن الطرق لصحة الأعمال» وجعلها للخير دائما أن تبنى على مراعاة المنفعة التى تحد السيرء وهى معقد النظامء ولا خوف من المغالاة فى مراعاتها. لسهولة الوقوف على مقدارهاء ويجب أن يكون كل من الميل والنفور خاضعا رذن شك لها" . ويذلك يتلاقى مع ما وصل إليه الفقيه العظيم الشاطبى ما يقرره العلماء فى العصر الحديث. وللسابق فضل السبق» وقد استنبطوه من كتاب الله وسنة رسوله عله . 75- وإن جعل الأساس فى العقوبات هو النفع الحقيقى - هو الحكم المستقيم مع ملاحظة أن المؤاخذة على الفعل لمن هو أهل للمؤاخذة بمعنى أنه يعتبر جريمة كل فعل يكون اعتداء على هذه المصالح المقررة ويكون على من وقع منه الاعتداء عقاب بمقدار ما يستطيع أن يتحمل من تبعات لفعله على ما تبين فى شروط العقاب فى الشريعة الإسلامية» وبذلك تكون القوانين لحماية المصالح المعتبرة فى المجتمع من غير أن يكون للهوى الشخصى أثر فى تقدير العقوبة» إنما يكون تقديرها بمقدار ما فوت على المجتمع أو المجنى عليه من خيرء وبمقدار ما يتحمل هو من تبعة» وإن هذا بلا ريب أساس سليم» واتجاه مستقيم» لأن القوانين الجنائية» سواء أكانت تستمد أصلها من السماء أم كانت من وضع أهل الأرض يجب أن يكون المقصود بها تنظيم لمصالح الناسء وحمايتهم من الفساد. لا"- هذا أمر مقرر ثابت» وبناء الأخلاق قائم عليه» والقانون يجب أن يلاحظ سواء أكان خاصا بالتعامل الإنسانى» أم كان للزواجر والحرص الاجتماعى على المنفعة - فهو أمر يتفق مع العقل المستقيم . والمنفعة بالمعنى الإسلامى الذى ذكرناه تشمل المنافع المادية والمعنوية» وليس من المنافع الهوى أو الميل أو النفور» وغير ذلك من الأمور غير المنضبطة التى تدخل ' فى حدود مرسومة» ولا ترسم طريقا مستقيما كما أشرناء ولكن وجدنا كبار الأساتذة الذين يكتبون فى القانون الجنائى يعتبرون النظر إلى المنفعة كأصل للأخلاق ولعلم العقاب دورا من أدوار التفكير فى العقاب» وليس هو أعلى الأدوار ولا أوفاها على الغاية» بل يقولون إنه بعد ذلك جاء دور آخرء وهو اعتبار أصل العقاب هو العدالة فى ذاتها من غير نظر إلى منفعة قريبة أو بعيدة» وذلك عندما قرر (كَانْت) الألمانى مذهبه فى الأخلاق وأفعال الإنسان. لقد قرر أن أساس أفعال الإنسان الخيرة هو الواجب» وهذا الواجب هو فى معناه العدالة» وهو أن يفرض أن ما يفعله قانون سائر على كل الناس» فإن ترتب على فعله خير الناس وصلاح الجماعة كان خيراء وإن ترتب عليه فساد واضطراب الأمور كان شراء وأساس التعامل هو هذا المبدأء وأساس القوانين هى هذه العدالة. . وتعريب فتحى زغلول (باشا)‎ 77 ٠ 5١5 » 7١ص أصول الشرائع لبنتام جا‎ )١( ان 8"- والقانون الجنائى بأجزيته يبنى على هذه العدالة» فما يبرر العقوبة ليس هو ما فيها من منفعة للمجتمع من حيث حمايته من الذنب. وردعه وجعله عبرة لغيره» وإنما العقوبة عمل تقتضيه العدالة المجردة الخالصة من كل اتجاه نفعى 217 . وعلى ذلك يكون العقاب من قبيل الواجب الخلقى الذى يحقق العدالة بين الناسء وفى هذا العقاب إرضاء للعدالة فى ذاتها. 4- وإن هذا النظر له مقامه فى الأخلاق بلا شك» ولكن تجريد العقوبات من معنى :النفع بالنسبة للمجتمع» تجريد اللازم من ملزومه» فإن البناء الاجتماعى يقوم على أساس تشابك المصالح» وارتباط المنافع» وبهذه الخلطة الإنسانية قد يبغى بعض الخلطاء على بعضء فكان من حماية هذه المصالح أن يكون القانون حاميا للمصالح الثابتة» ومنع الشططء. ومجاوزة الحد. والعقوبة تقوم بهذه الحماية إذا كانت تلك العقوبة ليس فيها مجاوزة للحدء أى كانت عادلة» فتجريد العدالة عن معنى النفع تجريد للازم من ملزومه. والعقوبة يلاحظ فيها بلا ريب معنى العدالة» بالمساواة بين الجريمة والعقاب» ومقدار ما يتحمل الجانى من تبعات» والعدالة بهذا الاعتبار معنى نسبى إضافى». وبذلك نستطيع أن نقرر أن العدالة والعقوبة التى لا شطط فيها والمنفعةء معان متلازمة متتابعة» يتصل بعضها ببعض بروابط فكرية لا تقبل القطع. ولا الانفصال. وإنا لا نهد أن المنفعة بالمعنى الإسلامى الذى قررتاه» وما فيه من شمول للمعانى الروحية والعقلية والأسباب المادية يكون الأخذ به طغيانا بأى نوع كان من الطغيان» بل هو العدالة الحقيقية الممكنة ودفع الفساد فى هذه الأرضص. ٠‏ 4- ولهذه المعانى نرى أن المذهب الذى يقيم العقاب على أساس حماية المصالح الإنسانية المقررة هو المذهب العملى السليم» وهو الذى يتحقق مع المبادئ المقررة فى الإسلام مع قيام العدالة, ووضع حدود لمنع الإسراف» وحد المناسبة بين الجناية والعقوبة . وإن هذا هو المنهاج المستقيم» وهو اعتبار العدالة فى العقوبة مع التناسق بينها وبين الجريمة هو الذى انتهى إليه الفكر الحديث» فقد قال فقهاء القانون الجنائى بعد استعراضهم لنظرية المنفعة كأساس للعقاب». ونظرية العدالة قالوا: (إنه قد برز مذهب فلسفى جديد يمزج بين فكرة التفكير والعدالة التى دعا إليها (كانت) وفكرة المصلحة الاجتماعية التى نادى بها (بنتام)» بمعنى أن القانون لا يعاقب على الجريمة التى تقضى الضرورة بمنعها إلا لسلامة المجتمع» ولكنه من جهة أخرى يجب ألا يعاقب عليها إلا إذا . ١5 الأحكام العامة فى قانون العقوبات للأستاذ الدكتور السعيد مصطفى السعيد ص‎ )١( هه قضى العدل بالعقاب» على أن يكون فى حدود العدل». فكان هناك حدان هما الضرورة الاجتماعية والعدالة217 . -١‏ وفى الحق أننا لا نجد خلافا حقيقيا فى هذه النظريات الثلاث» وإن كنا نقرر أن هذه النظرية الأخيرة هى منطوق الحكم الإسلامى. نعم نقول إنه لا فرق فى الواقع والعمل بين النظريات الثلاث» فنظرية المنفعة كما قررها بنتام» وكما جاءت فى كتابه أصول الشرائع لم تجرد العقوبة لحماية المنفعة من معنى العدالة» بل قررها وأوجبهاء فهو يقرر وجوب التناسب بين العقوبة والجريمة» فيقول إنه يجب أن يكون العقاب موافقا للجريمة» لأن وجود المناسبة بينهما يجعل العقاب حاضرا فى ذهن من يريد الجناية مؤثرا فى تفكيره. والقصاص أعظم عقوبة تتوافر فيها هذه الصفةء فالعين بالعين والسن بالسن» وهذا من أعظم ما يكون فى المطابقة» لأن مريد الجناية يتذكر العقوبة» مهما قصر عقله. إلا أن القصاص صعب التطبيق لما يلزم فيه من الدقةء للتأثرء وفى الغالب يكون باهظاء وهناك طرق مطابقة أخرى نجدها إذا نظرنا للسبب الذى بعث المتهم على ارتكاب الجريمة فتعاقبه من حيث أخطأء لأن فى السبب بانا لميله الطبيعى؛ فإن دلنا ذلك على أنه شره حريص على المال عاقبناه بالتكريهو7" . ٠‏ ولقد ردد (بنتام) كلمات (مونتسكيو) فى هذا المقام» فقد قال فى روح الشرائع : (إذا أخذ المقنن عقوبة من طبيعة الجريمة» فقد انتصرت العدالة» وارتفع الهوى في العقاب» وصار العقاب غير آت من الواضع» بل من الجناية نفسهاء فلا يكون المرء معاقبا من عند أخيه» . وفوق ذلك يلاحظ فى العقوبة أن تكون من حيث تأثيرها متناسبة مع حال المعاقب لكيلا تكون فى نتائجها أكثر إيلاما له ما أجرم به فى شأن المجتمع» ويقول فى ذلك : إن العقاب وإن كان واحدا فى الاسم يختلف فى الحقيقة باختلاف النوع والسن والمنزلة والثروة وغير ذلك من الأحوال التى لا تحصىء مثلا لو عوقب على الضرب بغرامة لكانت العقوبة بالنسبة للغنى عبثاء وبالنسبة للفقير تكون ظلماء وكذلك العقاب إن كان مخلا بالكرامة بطبيعته يكون قاسيا بالنسبة لذى المكانة» ولا يصيب الطبقة التى دون ذلك من الناس بشىء» والحبس خراب لذى متجرء وإعدام لشيخ هرم وعار أبدى للنساءء ولا يكون فيه شىء من ذلك كله بالنسبة لقوم آخرين. )١(‏ الأحكام العامة فى القانون الجنائى للأستاذ الدكتور السعيد مصطفى السعيد. (؟) أصول الشرائع لبنتام ص 19 . فل 7 - وبهذا يتبين أن مذهب المنفعة الذى قرره (بتتام) أصلا ثابتا لعلم العقاب. واعتبر أن الجرائم فى ذانها اعتداء عليه - لم يترك النظر إلى العدالةء وبذلك يكون ما انتهت إليه الأدوار للقانون الجنائى متفقا تمام الاتفاق مع رأى (بنتام)ء لأنه لاحظ مصلحة المجتمع وتحقيق العدالة فى ذاتهاء ويكون مطويا فى حقيقته ما قرره (كانت) الآلمانى من أن العدالة المجردة جزء من الواجب الذى يطلب» والغرق بين نظر بنتام ومن كان قبلهء ومن جاء بعده ممن يقررون اعتبار المنفعة أصلا للأخلاق والقانون» ومذهب (كانت») الذى يجرد الواجب والعدالة غير ملاحظ فيها معنى المنفعة - فلسفى يتحقق فى النظر العلمى المجرد. والواقع لا يتحقق فيه فارق بينهماء بل هما يتلاقيان فى الواقع» فحيث أدى الواجب فى ذاتهء وقامت العدالة فى ذاتها كان النفع العام الحقيقى» وحيث لوحظت المنفعة واحترمت». وكانت على الوجه الذى يقره العقل والدين كانت العدالة لا محالة» سواء ألاحظنا أن الباعث على القانون العدالة المجردة كما يقول (كانت) أم لاحظنا أن يكون الباعث عليها المنفعة لأكبر عدد. كما يقول (بنتام) . 57 - وقد انتهينا بهذا أيضا إلى أن الشريعة الإسلامية لاحظت فى الحكم على فعل بأنه جريمة أن يكون فيه اعتداء على المصالح المقررة الثابتة بحكم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة» وأن العقوبة على الجرائم لوحظ فيها أن تكون حامية لهذه المصالح المقررة الثابتة» وأن العدالة الحقيقية الممكنة فى هذه الدنيا تتحقق فى العقوبات الإسلامية» وأنها بهذا تنتهى إلى أقصى ما وصل إليه التفكير فى علم العقاب. وهو أن يحقق العدالة مع حماية المصائع الاجتماعية الثابتة» وفى الحقيقة أن الشريعة الغراء قد قررت ذلك من قبل القوانين الحاضرة بأكثر من اثنى عشر قرناء ولكن العود فى أرضه نوع من الحطب. وقد يقول قائل: إن الشريعة بلا شك فى عقوبتها تحمى المجتمع من الآفات الضارة. ولكن يلاحظ أمران: أولهما : أن العقوبات بعضها غليظ شديد لا يتناسب مع الجريمة فى ذاتهاء كقطع اليد فى السرقة» وكالجلد مائة جلدة فى الزنى» والجلد ثعانين فى القذفء ولو كان القذف لم يكن غاية» بل كان فى شهادة بالزنى التى لم تستكمل النصاب. فإذا كانوا ثلاثة شهود. ولم يكن رابعء جلد الثلاثة» مع أن قصدهم أداء الشهادة. وإن هذا قد يسوغ لبعض الناس أن يقول: إن أحكام الشريعة الغراء غير متناسبة لأنها لا تساوى الجريمة» وإن كانت مع ذلك نافعة رادعة بلا شك» فجانب الردع فيها أوضح من جانب التناسب بين الجريمة والعقاب. ثانيهما : أنها لم تلاحظ المجرمء ولم تعن بالملابسات التى أحاطت به حتى حملته على الجريمة حملاء كما انتهى إليه علم النفس الجنائى» حتى إنه ليعتبر المجرم ذا مريضاء يجب علاجه» وبالتالى يجب أن يلاحظ ذلك عند تقرير العقوبة عليه» ولم نجد الفقهاء المسلمين قد تعرضوا لذلك» ولا نجد الكتاب والسنة قد أشارا إليه» ودراسة المجرم» والعمل على علاجه هو بلا شك أمر أساسى لعلم العقاب» ويجب أن يكون القاضى العادل بالنسبة للمريض حاملا الدواء الشافى» لا أن يكون ممسكا بسوط الجلاد» ويرسله فيكوى الظهور كياء فإن ذلك قد يزيد سقيم النفس سقاما. 4 - هذان اعتراضان يذكرهما بعض الذين يريدون أن يتخذوا تكأة للتحلل من أحكام الفقه الإسلامى» أو بعبارة أدق لتبرير التحلل من أحكامهء وإنا ندفع الاعتراضين بعدم الإيراد» فالشريعة لاحظت نفسية المجرمء ولكنها مع ذلك لاحظت نفسية المجنى عليه» وسنبين ذلك عندما نتكلم على المجرم. ومقدار تبعاته فى الأعمال المنسوبة إليه» ومقدار قواه النفسية والعقلية فى تحمل هذه التبعات. ولنتكلم الآن إجمالا فى الاعتراض الأول» وقد قررنا أنا ندفعه بعدم الإيراد» وذلك لآننا نمنع أن تكون العقوبة الإسلامية غير عادلة أو غير متكافئة مع الجريمة» والنظر السطحى غير العميق هو الذى يفرض أنها أكثر أو أشدء ونعترف بأنها غليظة. ولكنها عادلة ومصلحة» وتتفق مع منافع الناس» وإن النظر العميق لا يعتبر عقوبة السرقة غير متكافئة مع الجريمة» فليست الجريمة فى السرقة هى ضياع عشرة دراهم» أو ما يساوى مجناء أو وزن نواة من ذهبء أو ربع مشقال دينار» كما يفهم من ظواهر العبارات الفقهية» ليست الجريمة هى انتهاب هذه المقادير» أو أكثر منها فى حدود مقاييسهاء إنما الجريمة الآثمة هى إزعاج الآمنين وتهديد المطمئنين» إن روع بيت بسرقة فكم من السكان أفزع» وكم من الجيران أزعج» وكم من الناس يعيشون فى بلبال مستمر»ء ويتكلفون من المال فى تحصين مساكنهم» وإعداد المفاتيح والمزاليج لحماية أموالهم» وقد يكون السارق مسلحاء فيأخذون الأهبة» وتضطرب منهم النساء والذرية» فهذه العقوبة الغليظة حقاء هى جزاء وفاق لتلك الجريمة المفزعة التى ترتكب فى جنح الليل البهيم» أو فى النهار على خفية من الأعين» وكل جريمة من هذا الصنف يستمر الناس منها فى فزع أمدا غير قصيرء ولو كانت العقوبة لوجب قطع يد الغاصب أيضا ولكن الشارع قطع يد السارق وعزر الغاصب,» ولو كان ما اغتصبه «قناطير مقنطرة من الذهب والفضة» ولأن الغاصب إن روع فإنه يروع فرداء أما السارق فيروع حيا أو بلداء فلا يطمئنون حيث يكون الاطمئنان واجباء ولا يستريحون حيث تجب الراحة. وكذلك الزانى - عقوبته عادلة مع جريمته» فهو يفسد النسل» ويحمل خبائث الأمراض إلى البرآء إن انتشر هذا الوباء» وتغشى الجماعة الإسلامية الفاضلةء فإن الأجسام تسكنها الأمراض الخبيثة والنسل يجىء مئوفا شائهاء والأبناء لا يعرفون آباءهم» والآباء يشكون فى ذرياتهم» وينحل المجتمع وتنحل معه الأسرة» والأم وهى التى تحمل 38 الوديعة الإلهية كم نسب تضيعهء وكم مرض تحملهء وكم خيانة تخونها بالنسبة لأمانة الله التى اتتمنها عليها وأودعها إياهاء لتكون الحفيظة القوامة عليها إلى أن تسلمها إلى الوجود الإنسانى مصونة محفوظة من عبث العابثين» ولهو اللاهين. فالعقاب الذى قرره الله تعالى فى كتابه الحكيم هو جزاء وفاق أيضا لتلك الجريمة التى تهتز لهولها السماوات والأرض. وهذا القذف الذى يرمى فيه الرجل عفيفا تقياء أو عفيفة حصانا رزانا بالزنى» هو جريمة تتشعب منها عدة جرائم» فإن المرأة تفقد اعتبارها فى المجتمع العفيف المتصونء وإذا فقدت اعتبارها هانت فى نفسها وفى أعين ذويها وأعين الناس» وسمعة المرأة هى الزاد الروحى الذى لا يغنى عنه بالنسبة لها شىء فى هذه الدنياء وكذلك الرجلء» وإن كانت الجناية عليه أقل من الجناية على المرأة» ووراء القذف تشيع الفاحشة فى اين آمنواء لأنه إذا اتهم بالزنى الأبرياء الفضلاء ء سهل على من ليس لهم مثل اعستبارهم يرتكبوا ما يرمى .به هؤلاء. ولقد قال تعالى فى شأن الذين تحدثوا : أم الؤمنين اليدة عائشة رضى اللّه عنها: إن الّذين يحون أن تشيع القاحشة في الّذين آمنوا لهم عَدَابْ أليم في الدنيا والآخرة واللّه يعلم وأنشم لا تعلمون 5ه 274 . والقذف ذاته من رفث القول ولا ينطق به كامل» ولا يروج فى مجتمع فاضل . بهذه الإشارات يتبين أن الشريعة فى حدودها التى حمت بها المصلحة المعتبرة لجموع الأمة لم تتجاوز حد العدالة» ولم تخرج عن نطاقهاء وعلى ذلك لا يكون اعتبار الشريعة الأصل فى الأحكام الرادعة هو المصلحة منافيا لمبدأ العدالة فى ذاتهاء لأن العدالة والمصلحة متلاقيان» ولا يتناقضان؛ حتى فى العقوبات التى تكون من قبيل السياسة الشرعية» كقتل الزنادقة ونحو هؤلاءء لأن جنايتهم على عقيدة الناس» وانخداع الأغرار بهم» والفساد المترتب على استمرارهم فى غيهم - يجعل كل عقاب جزاء وفاقا لإجرامهم . ولو كان القتل. أقسام الجرائم من حيث المصلحة المعتبرة 05- تقرر فيما سبق أن الجرائم فى أصل معناها اعتداء على المصالح التى اعتبرها الشارع مصالح معتيرة») وعرف ذلك بنص قرآنى» أو حديث نبوى شريفء أو قياس » أو استحسانء أو كانت فى أصل معناها تنتهى إلى أمر فيه ضرر بمصلحة, وهو ما يسمى سد الذرائع» وتقرر أن المصالح المعتبرة فى الإسلام هى ما يتعلق بحفظ النفس وما يتعلق بحفظ المال وما يتعلق بحفظ النسل» وما يتعلق بحفظ العقل وما يتعلق بحفظ الدين. )١(‏ سورة النور : 94 8 وعلى ذلك تنقسم الجرائم من هذه الناحية إلى خمسة أقسام: جرائم فيها اعتداء على النفس. وجرائم فيها اعتداء على الأموال» وجرائم فيها اعتداء على النسل» وجرائم فيها اعتداء على العقل» وجرائم فيها اعتداء على الدين. وإن كل نوع من هذه الجرائم يختلف قوة وضعفا باختلاف قوة الاعتداء فيه على موضوعه من المصالح»ء ويصح أن نقول: إن كل نوع من هذه المصالح التى أوجب الشارع المحافظة عليها ينقسم إلى مصالح ضرورية لا يمكن قيام موضوع الأمر من غير هذه المصلحةء فما يكون به حفظ الحياة يكون ضرورياء وما يكون به حفظ الحياة من غير ضيق وحرج يكون حاجياء وما يكون به حفظ الحياة» غير مهينة ولا مشينة يسمى وبذلك نستطيع أن نقسم الجرائم ذلك التقسيم من حيث مراتب قوة المصلحة» فالاعتداء على أمر ضرورى للحياة كالاعتداء على النفس بالقتل» أو قطع الأطراف أقوى الجرائم فى هذا الباب» وما يكون اعتداء على أمر تتحقق به الحياة» ولكن تكون فى ضيق كالاعتداء على حرية الفكر والرأى فإنه يكون دون الأول» وما يكون فيه اعتداء على الكرامة» ويشين الشخص يكون من قبيل الثالثء» وبهذا تتفاوت جرائم الاعتداء على النفس فى قوة الإجرام ومقدارهء فالقتل أقوى من قطع الأطراف. وقطع الأطراف أقوى من الضربء وأقوى من منع حرية القول والعمل بالحبس ونحو ذلكء» فإن الأول يمس ضروريا من ضروريات النفس» والآخر يمس حاجيا من حاجياتهاء وما يشين كالدعاوى الباطلة والسب ونحو ذلك مما لا يمس الحياة فى أصلهاء ولا حاجيا من حاجياتهاء ولكن يمس كمالها ويشينهاء فإنه دون المرتبتين السالفتين. 47- كذلك الشأن بالنسبة للأموال» إن سلب ما هو ضرورى بالنسبة للأموال بحيث لا يتحقق الأمن على المال مع وجوده يمس أمرا ضرورياء فالسرقة اعتداء على أصل وجود المال» لأنه يتعرض بها المال كله للضياعء وضياع المال كله بالنسبة للمال يعد مناقضا لأصل ثبوت المحافظة عليه» ولا يعد ذلك مثل اغتصاب المال علنا لأن اغتصاب جزء من المال علنا يمكن إثباته بالبينات» ويمكن استرداده بسلطان القضاءء وعلى ذلك يكون الاعتداء بالسرقة اعتداء على أمر ضرورىء لأنه يتعرض المال معه للضياع» ويتعرض لضياع لا يمكن معه إثبات» إذ هى تكون خفية ومن غير إعلان» ولأنه يتعرض الأمن كله للخلل والاضطرابء أما الاغتصاب وأخواته من النهب وغيره» فإن الاسترداد بسلطان القضاء نمكن وقريب» وفى الأول غير ممكن إن تمت الجريمة من غير أن يتمكن المجنى عليه من القبض على الجانى» والتمكن من القبض عليه ليس بسهل» وفيه تتعرض حياة المسروق منه للتلف». والسراق الذين يفرون وينجون أضعاف الذين يقبيض عليهمء ودون الجريمتين السابقتين النصب والخداع» فإنه يمس كمالياء إذ هو يمس إرادة 5: التصرف فى المال عن بينة ومعرفة وإدراك صحيح لوجود الكسب والخسارةء وهكذا نجد أيضا الجرائم فى هذا الباب تتفاوت بمقدار قوة المصلحة» فالجريمة التى تمس المال وتضيعه أقوى اعتبارا من الجريمة التى تمسه ويمكن معها استرداده» ودون الاثنتين ما يمس المال وتكون الإرادة لها دخل وإن كانت مخدوعة» ومن هذا القسم الأخير مطل الغنى وقد قال فيه النبى عَللِهِ: «مطل الغنى ظلم». 41- وعلى الترتيب جرائم الاعتداء على النسل فالزنى أقواهاء وهو من المتزوج والمتزوجة أشدها لأنه اعتداء على النسل من غير شك فيه» وهو لا سبيل إلى الاعتذار عنهء فكان فى منزلة الاعتداء على أمر ضرورى» ودون ذلك الزنى من غير المتزوج» وغير المتزوجة» وإن كان فيه اعتداء على النسل وفى منزلة الاعتداء على أمر ضرورى» لما فيه من إفساد النسل وضياع ماء الرجل» ودون هذا تقبيل المرأة ومعانقتهاء لأنه قد يؤدى إلى ارتكاب الفحشاء .» فهو محرم لأنه قد يؤدى إلى محرمء وهو ملابسة شىء لا يجوز» وحرمه الشارع تحريما لا شك فيه» ودون هذين رؤية عورة المرأة فإنه تكون فيه دون الأولين» وهو يعد فى مرتبة الاعتداء على أمر تحسينى» وليس اعتداء على أمر ضرورى. 4- ومثل هذا الترتيب يجىء فى الاعتداء على العقل» وإن الاعتداء هنا على حق الله وحق المجتمع» فمن يشرب الخمر ويسكر منها أقوى إجراما ممن يشرب قدرا قليلا منها ولا يسكرء لأن تحريم القليل من السكر بقوله عليه الصلاة والسلام: «وما أسكر كثيره فقليله حرام» فالسبب فى تحريمه لأنه يؤدى إلى تناول الكثير» وبلا شك فإن شارب الخمر فى الإجرام لا يعد مثله ساقيهاء ولا بائعها. وتحريم الأمور المشتبه فى أنها مسكرة هو بلا ريب دون الأنواع الأخرى السابقة. وهكذا تفاوتت مراتب هذه الجرائم بحسب تفاوتها فى مرتبة المصلحة وتأكدها. 4- ومثل هذا التفاوت يكون بالنسبة للاعتداء على الدينء» فالكافر المضل والزنديق الداعى إلى الضلال كلاهما يمس الضرورى من الدين الذى تجب المحافظة عليه. ولذلك قالوا بقتل الزنديق ما دام يدعو إلى الضلال» وقال الإمام مالك: إن كل مرتد يستتاب إلا الزنديق الذى يدعو إلى فساد الدين» فإنه لا يستتاب لأنه جريمته ليست فى ضلاله بعد هداية» وكفره بعد إيمان» وإنما جريمته فى أنه اتجه إلى إفساد العقيدة الإسلامية بترهات وأباطيل يثيرها. ولو استتيب لأعلن التوبة» ليتمكن من الإفساد ويحكمه. وجرائم هؤلاء تمس بلا ريب الناحية الضرورية للمحافظة على الدين» ودون هؤلاء إجراما من ينشر الأحاديث المكذوبة على الرسول كدي فى الحكم والمواعظ» وفى مرتبته من يدعو إلى بدع وينسبها إلى الدين» أو يضيف إلى الدين ما ليس فيه من غير أن يمس جوهره» أو يفسد حقيقته» ودون هؤلاء فى مرتبة الإجرام من لا يؤدى الصلاة 1:١ ويجاهر بعدم أدائها فإنه يعزرء» ولكن جريمته لا تتجاوز شخصه. ولذلك كانت دون جريمة السابقين. وقد أشار الغزالى إلى هذه المراتب فى الاعتداء على المصالح فيما أسلفنا من نقل تقلناه عنه . 0- وإن ترتيب الجرائم بحسب ما تعتدى عليهء فما يبلغ تفويت أمر مقصود لذاته يماثل الضرورى هو أعلى المراتب فى الإجرام وله أشد العقوباتء» ويليه ما يكون اعتداء على أمر غير مقصود لذاته فى باب المصالح. وهذا يكون اعتداء على حاجى» وما يكون اعتداء على أمر يمس الكرامة فإنه يكون فى مرتبة التحسينى» ولكل درجة من العقاب فى نظر الشارع الإسلامى. تقسيم الجرائم من حيث مقدار الاعتداء فيها ونوعه -0١‏ وإن الجرائم ما دامت تختلف 'قوة وضعفا بحسب ما فوتت من مصلحة وما روعت به الآمنين» فإنه بلا شك تختلف الجرائم فى الفقه الإسلامى قوة وضعفا تبعا لهذا الاعتداء» ومقدار أثره فى المجنى عليه وأثره فى المجتمع . وإن هذا النظر له ما يشابهه فى قوانين العقوبات فى العهد الحاضرء فإن قوانين العقوبات الحاضرة تقسم الجرائم إلى جنايات وإلى جنح» وقبل أن نخوض فى تقسيم الفقه الإسلامى للجرائم من حيث مقدار الاعتداء فيها. ومنهاج تقسيم الكتب الفقهية» لابد أن نتعرض بكلمة موجزة فى القانون لتكشف من المقارنة مدى القرب أو البعد بين الاصطلاحين. 1- «تنص المادة التاسعة وما يليها من قانون العقوبات المصرى على أن الجرائم ثلاثة أنواع - أولها الجنايات» وهى الجرائم التى عقوبتها الإعدام» أو الأشغال الشاقة المؤبدة» أو الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن. ثانيها الجنح وهى الجرائم المعاقب عليها بالحبس الذى يزيد أقصى مدته على أسبوعء والغرامة التى يزيد أقصى مقدارها على جنيه مصرى. وثالثها المخالفات» وهى الجرائم المعاقب عليها بالحبس الذى لا يزيد أقصى مدته على أسبوع» والغرامة التى لا يزيد أقصى مقدارها على جنيه مصرى2"!6. . ونلاحظ أن هذا التقسيم قد بنى على مقدار العقوبة» لا على ماهية الجريمة» وإن العقوبة وضعفها مبنى على قوة الاعتداء فى الجريمة وضعفهء وأن المناسبة التى يوجبها العدل بين العقوبة والجريمة تجعل بلا شك أثر جسامة الجريمة واضحا فى عقوبتهاء ولذلك كان ضبط الجريمة الجسيمة ببيان عقوبتهاء وضبط ما دونها بذكر عقوبتها هو )١(‏ نص على ذلك فى المواد 9 » ١١ 801١١ 3٠١‏ ص ”١‏ من كتاب الأحكام العامة لقانون العقوبات للدكتور السعيد مصطفى السعيد. 1 ا ضبط سليم» وإن لم يكن فيه ذكر الماهية وهو من قبيل التعريف بالرسم. لا التعريف بالحد. إذ إن التعريف باللحد يكون ببيان الماهية كقولنا الإنسان حيوان ناطق» والتعريف بالرسم يكون ببيان الأوصاف القاصة التى لم تكن من ذات الماهية» ولكنها لا تكون إلا فى هذه الماهية «كقولنا : الإنسان حيوان ضاحك» فإن الضحك ليس بجزء من ماهية الإنسان» فقد يضحك وقد يبكى» وقد يسكن مطمئنا أو متألما من غير ضحك ولا بكاء. ولكن الضحك لا يكون من غير الإنسان من أفراد الحيوان. 07- وإنه بلا شك بمقدار قوة الجريمة يكون مقدار العقاب ونوعه». وبمقدار ضعفها يكون أيضا نوع العقاب ومقداره. وإن فقهاء الشريعة قد نهجوا ذلك المنهاج. فقد قسموا الجرائم من حيث عقوبتها أيضاء وهم فى تعريف العقوبة يشيرون إلى نوع الجريمة فى ذاتهاء ولا يضنون ببيان عقوبتهاء كما فعل القانون فى المواد التاسعة والعاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة. يقسم الفقهاء الجرائم إلى جرائم حدود» وإلى جرائم التعزير» وهذه كلها عقويات» ولكل عقوبة من هذه العقوبات جرائم هى جزاء لها. والحدود فى اللغة جمع حد. والحد يطلق فى اللغة على المنع» فيقال حده أى منعهد والحد بين العقارين هو ما يمنع اختلاطهماء ومن الحد بمعنى المنع قول الشاعر: يقول لى الحداد 2١7‏ وهو يقودنى إلى السجن لا تجزع فمالك من بأس هذا بيان معنى الحد فى اللغةء أما معناه فى الاصطلاح فهو العقوبة المقدرة حقا لله تعالى» فلا يسمى القصاص حدا لأنه حق العبدء ولا التعزير حدا لأنه غير مقدر من قبل الشارع» وإن كان مقدرا من قبل ولى الأمر. وعلى ذلك يجب أن يتوافر فى جرائم الحدود معنيان إن تخلف أحدهما لا تكون الجريمة جريمة حد. المعنى الأول : هو أن يكون فى الجريمة اعتداء على حق الله تعالى» لأن الجريمة تمس حدا من حدود اللّه رسمها وعينهال ومنع الناس من ارتكابهاء وحدود الله تعالى محارمه. وحماه الذى مئع الناس أن يجتازوهما. والتفسير الدقيق لما هو حق الله تعالى وحق العبد»ء أن حق الله تعالى ما يمس المجتمع» والحناية الشخصية قد تكون مطوية فى جانب المعنى الاجتماعى العام» وربما لا يكون اعتداء على الشخص كزنى رجل غير متزوج بامرأة غير متزوجة. فإننا إن نظرنا )00 الحداد هنا السجان . وف إلى الناحية الشخصية لا نجد معنى الاعتداء واضحاء ولكن إن تجاوزنا ذلك الإطار الضيق» واتجهنا إلى محيط أوسع مدى» وأعلى أفقال نجد أن هذه ا لجريمة تشيع الفاحشة. وهى اعتداء على النسلء وهى مخالفة للناموس الاجتماعى » والسكوت عنها الذين يتفقون فيما بينهم على ارتكاب جرائم القتل والسرقة. ويعتصمون فى مكان لا تقوى فيه سطوة الدولة لتنفيذ جرائمهمء فإن هذه الجريمة فيها اعتداء على المجتمع مباشرة من غير أى تعليل فتكون اعتداء على حق الله تعالى مباشرة ويترتب عليها الاعتداء على الأشخاص. والإفزاعء وهو معنى لاحظته كل القوانين» ولذلك لم تجعل عقوبة الاغتصاب كعقوية السرقة»ء ولهذا المعنى الاجتماعى العام كانت اعتداء على حق الله تعالى» وكذلك القذفء ففيه ناحية شخصية» وأخرى اجتماعية» وهى ما يترتب على هذه الجريمة من إشاعة الفاحشة فى الذين آمنواء والاستهانة بجرية الزنى» التى هى أفسق جرية تهتز لها السماوات والأرضء إذ يرمى بها البرىء والمتهمء ولا شىء يشيع الإجرام أكثر من اتهام البرآء بالإجرام من غير بينة» ولا سلطان من الحق مبين» فإذا قلت: فلان الكبير زان فقد هونت الزنى فى أنفس من تسول لهم نفوسهم الإقدام عليه» وإن قلت فلانة ذات المنزلة الاجتماعية زانية» فقد سهلت دخول الفسق على قلوب كل من يكون عنده استعذاد المعنى الثانى : الذى يلاحظ فى الجريمة التى تعد عقوبتها حدا هو فى العقوبة لا فى الجريمة» وهو أن تكون العقوبة مقدرة من الشارع لم يترك لولى الأمر تقديرها. 4- هذا نظر بعض الكتب فى تفسير الحدء فهم لا يدخلون فى جريمة الحد القصاصء إذ لا يعدون القصاص من الحدء ولكن هناك اصطلاح آخر يدخل القصاص فى ضمن الحدودء فيقولون فى الحد إنه العقوبة التى قدرها الشارع ولم يذكروا فيها أن تكون حقا لله تعالى» فالقصاص ولو أنه حق للعبدء بدليل أنه يجوز العفو عنه لقوله تعالى بعد ذكر وجوب القصاص وفرضيته: «( قمن عفي له من أخيه شيء قاتباع بالمعروف وَأَداء ليه يإحسَان 2204 . والفرق بين الاصطلاح الأول» والاصطلاح الثانى - أن الأول يعتبر فى جريمة الحد معنى الحق الاجتماعى فينظر إليه مقترنا بالتقدير» أما التعريف الثانى فلا ينظر إلا . ١ سورة البقرة :84لا‎ )١( 5 إلى معنى التقدير» فما دام مقدرا من الشارع فهو حدء سواء أكان يقبل العفو أم لا يقبل العفو. 1 فعلى الاصطلاح الثانى تكون جرائم الحدود قسمين: جرائم تقبل العفو. وجرائم لا تقبله. الأولى جرائم قطع الطريق والزنى والسرقة والشرب والقذف والردة» واللأخرى جرائم تقبل العفو وهى الاعتداء على النفس أو الأطراف. والجروح التى قدر لها الشرع عقابا محدود(!' , 0- والتعريف الأول لجرائم الحدود أكثر دورانا على أقلام الفقهاء من التعريف الثاني؛ حتى إنه قيل: إن التعريف الثانى هو لكمال الدين بن الهمام من فقهاء الفقه الحنفى دون غيره» وعلى هذا التعريف لا يدخل فى جريمة الحد أنواع القصاص وما يقوم مقامه من الديات وأرش الجسرائم» أى العقوبات المالية التى تكون على الجروح أو نحوها. 1 وهذا القسم وهو الجروح والقتل وقطع الأطراف يسمى الجنايات» فالحناية فى عرف الفقهاء هى الفعل الذى يكون فيه اعتداء على النفس أو الأطراف57 2 ويدخل فى هذا جرائم القصاص والديات» وغير ذلك» بل يدخل فى هذا أيضا الجرائم التى يكون فيها تعزير» ولكن يصح أن نقول: إن الجنايات التى تدخل تحت هذا الاسم هى التى تكون اعتداء على النفس أو الأطراف وتكون عقوبة مقررة بحكم الشارع ولا يترك تقديرها لولى الأمر أو القاضى» حتى لا يدخل التعزير فى عمومهاء وإن كتب الفقه» وإن لم يذكر كثير منها ذلك القيدء هو ملاحظ فى تعريفها؛ وذلك لأنهم يضعون للتعزير بابا مستقّلا قائما بذاته» ويقررون أنه يكون فى الجرائم التى ليست لها عقوبة مقدرة بتقدير الشارع الإسلامى» وهو ما يكون مأخوذا من الكتاب والسنة» أو مأخوذا من حكم استنباطى قرره الفقهاء بالنص على أنه عقوبة مستنبطة من أحكام الشارعء أما التعزير فإنه العقوبة التى تكون لجرائم ليس فيها عقوبة مقررة من الشارع سواء أكانت هذه الجرائم واقعة على النفس أم الأطراف» وقد فسرنا معنى الاعتداء على النفس بما يشمل الدخول فى الجراتم التى لها عقوبة مقدرة. وقد جرى على أقلام بعض الفقهاء ما يفيد أن الجناية قد تطلق على كل فعل فيه اعتداء سواء أكان داخلا فى دائرة العقوبات فيما هو حق الله وحق العبد» فقد جاء فى عام إلا أنه خص بما يحرم من الفعل» وأصله من جنى الشمرء وهو أخذ ما فوق الشجر» وهى فى الشرع اسم لفعل محرم سواء أكان فى مال أم كان فى نفس90' . .44 فتح القدير ج؛ة ص7١١ . (0) الكتاب المذكور. (©) التبيين جا ص‎ )١( 1: فهذا التعريف الشرعى يجعل الجناية اسما لكل جريمة» لأنها اسم لكل فعل محرم سواء أتعلق بالمال أم بالنفس أم بغيرهماء فتشمل كلمة الجناية جرائم الحدود» وجرائم القصاص بأنواعه» وجرائم الديات. وتشمل أيضا جرائم التعزيرء وهذا التعريف العام يتجه إليه ابن قدامة فى المغنى فيقول: «كل فعل فيه عدوان على نفس أو مال» لكنها فى العرف (أى عرف الكتاب فى الفقه) مخصوصة بما يحصل منه التعدى على الأبدان» وسموا الجناية على الأموال غصباء ونهبا وسرقة» وخيانة وإتلافا(1" . وإنه حتى على التعريف المخصوص الذى خصه العرف فى نظر ابن قدامة نهد الحدود تدخل فى معناه» وإن كان يخرج من جرائم الحدود السرقة. 7- والحق هو تميز هذه الأقسام الشلاثة.» فجرائم الحدود قد حددت وبينت» وجرائم القصاص والديات قد بينها الشارع» وبقيت جرائم ترك أمر تقدير عقوبتها لولى الأمر. وهنا يتساءل القارئ: لماذا لم يترك الشارع بيان كل العقوبات لولى الأمر بما يراهء أو لماذا لم يبين التقدير لكل العقوبات. والجواب عن الجزء الثانى من السؤال أن الناس يحدث لهم من الأقضية بمقدار ما يحدثون من أحداث. فإبليس الذى اختبر الله به النفوس له تسلط شديد على نفوس الأشرارء يفتح لهم من الشر أبواباء ويفتح من مغاليق الفضيلة ما يصعب على النفوس الطيبة فتحه واقتحام حمى الفضيلة» فلا يمكن لشريعة من الشرائع أن تحصى كل الجرائم التى يسول بها إبليس» وتدفع إليها الشهوات الجامحة» ولكن من الممكن أن تنص شريعة من الشرائع على أمهات الرذائل التى تدخل فى دائرة الإثبات فى القضاءء ويترك لولى الأمر العادل الذى يناط به حفظ الشريعة وحفظ الأخلاق وحماية النفوس والأموال والأديان والأعراض والعقول أن يسن من النظم ما يكون حماية لما حمته الشريعة» وما يكون تنفيذا للعدالة بين الناس» ومنعا للفسادء فإن الله لا يحب الفسادء وإذا كان الفقهاء يقررون أن الحوادث لا تتناهى» والنصوص تتناهى فلابد من الاجتهاد لمعرفة مالم ينص عليه. فكذلك فى شئون الجرائم وعلاج النفوس بالعقوبات مالم ينص على عقوبته يعالجه ولى الأمر مسترشدا بهدى الشريعة وبمعناهاء بحيث لآ يخرج عن روحها ومقاصد العامة والخاصة» لأن المفروض أن ولى الأمر فى الإسلام لا يخرج عن أوامر الشارع» ولا يتجانف لإثم فى تطبيق أحكام الشارع» ولا يتصور أن يكون هو معتديا على الخريات والأنفس والأموال والأعراض والنسل والعقل بدعوى أنه يريد حمايتهاء فتلك هى شريعة الرحمن الرحيم» وهى شريعة المنتقم الجبار. فلابد أن يكون ما يسنه ولى الأمر من عقوبات فى التعزير مقيدا بثلاثة أمور: . المغنى جلا ص570‎ )١( ك5 أولها : أن يكون الباعث حماية المصالح الإسلامية المقررة الشابتة» لا حماية الأهواء والشهوات» باسم حماية المصالح . ثانيها : أن تكون ناجحة فى القضاء على الفسادء وألا يترتب على العقوبة فساد أشد وأفتكء وأضيع لمعنى الآدمية» والكرامة الإنسانية . ثالثها : أن تكون هناك مناسبة بين الجريمة والعقات». وألا يكون هناك إسراف فى العقاب ولا إهمال واستهانة . ويصح أن نضيف أمرا رابعا وهو المساواة العادلة» وإن كانت مفروضة بطبيعتها فى كل قانون» ولذا لم نذكرها. ولكن احتمال الشر ووقوعه باسم التعزير فى العصور الإسلامية المختلفة أوجب علينا أن نذكره» وإن كان فى ذاته لا يحتاج إلى ذكرء لأن ولى الأمر تفرض فيه العدالة فى كل ما يتولاه من أعمال» سواء أكان عقوبات زاجرة يسنهاء أم كان عطاء يوزعه. أو فى أعمال يعهد بها إلى ولاتهء فإنه قد ورد فى الأثر الصحيح بأن من ولى فى أمر الأمة أحدا وفيهم من هو أصلح منه كبّه الله تعالى فى النار. كما أن العدل أمر مفروض فى كل من يتولى حكما بين الناس ويكون ذا سلطان فيه» فإن الله سبحانه وتعالى يقول: إن الله يمر بالْعدل والإحسان 2274 . 7ه- وأما الجواب عن السؤال الأول» وهو النص على عقوبة جرائم دون غيرهاء وعدم تركها لولى الأمرء فنقول فيه: إن الشارع الإسلامى جاء لإيجاد مجتمع فاضل يمنع الاعتداء فى كل مظاهره» وينشر الفضيلة» ويأخذ بيد الناس إليهاء فكان لابد من وضع زواجر مانعة دون هذه الفضائل» حتى لا تنتهك حرماتهاء فجاء إلى الأمور التى يعد من الضرورات الاجتماعية أن يحمى المجتمع منهاء لأن فيها خرابه ودمارهء ولأن فيها انتهاكا للحرمات» وأى أمة فاضلة تلك التى يشيع فيها الزنى» وتضيع فيها الأنساب» ولا يأمن فيها الرجل على عرضه ولا عرض ذويه» فلابد أن تكون محاربة تلك الرذيلة بسلطان الله الذى هو فوق كل سلطان وبأحكامه الرادعة المانعة» ولا يمكن أن تتحقق فضيلة اجتماعية إذا تهدمت الأسرة» ولا يقضى على الأسرة إلا شيوع الزنى: وشيوع الاتهام به» فلابد من حماية المجتمع من الرذيلتين» ولذلك كان حد القذف لحماية النسل ولحماية الأمة من الأمراض» ولحماية الكرامات» ولحماية الجماعات من أن يتغشاها الشر والرفث والفسوق فى القول» فتكون قوما بورا. وكذلك السرقة تجعل الناس فى فزع مستمر واضطراب. وبلبال دائم» وذعر قائم» ومن الحق على الدولة أن تحميهم وأموالهم وأستارهمء فلا يتهجم هؤلاء عليهم» فكان لابد من عقوية رادعةء وهى إن كانت قاسية على المجرم فإن فيها رحمة بالناس» وإلقاء . 90 : سورة النحل‎ )١( /وع روح الأمن والاطمئنان على أنفسهم وأموالهم وديارهم. وقانون الرحمة يوجب اختيار الرحمة الأعم والأشملء فإذا تردد المقنن بين رحمة المجموع من القسوة على الجانى» والرفق بالجانى وتركه يفترس كالذئب المنطلق. فإنه بلا ريب يختار رحمة الناس» لأنها رحمة الفضلاءء والأخرى رفق بالأشرارهء ولأنها أعم شمولا. والأخرى فى دائرة شخصية. وهكذا باقى الحدود. أما القصاص فقد أولاه الإسلام عناية بتقديره» لأن القتل وقطع الأطراف كان يسير بين الناس على قانون الثأرء وعدم تكافو الدماءء فالأشراف الذين يجرى فيهم دم أزرق لا يكافئه دم الضعفاءء والأمراء يجرى فى عروقهم دم لا يجرى فى دم السوقة. فإذا كان المقتول كبير قوم» أو زعيم قبيلة» أو من قبيلة تعد فى سنام العرب لا يقتل رأس برأس» بل لا تكفى رءوس برأسء. وإذا كان المقتول ضعيفا طل دمه ولم يوجد من يطالب به» وإن طالب لا يقوى على الانتصار له. فجاء الإسلام يقرر أن الأساس هو القصاصء أى المساواة بين الجريمة والعقاب» وأنه لا عقاب إلا تحت سلطان ولى الأمرء وبحكم القضاءء ويستمد التنفيذ منهء وأنه لا فرق بين قوى وضعيفء ولا أمير وسوقة» فالنفس بالنفس إن هلكت» والإسراف فى الانتقام ليس من أدب الإسلام» إنما المؤمنون إخوةء وهم متساوون فى الحقوق والواجبات» وكما قال يلكي «المسلمون تتكافاً دماؤهم» فكان القصاص عقوبة رادعة للجناة» شافية لقلب المجنى عليه مذهبة لحقده» وليس فيها إسراف فى الانتقام» بل فيها عدالة» وحماية وخيرء ولذلك قال تعالى: « ولكُم في القصاص حياة يا أولي الألباب » 217 , ْ 8- من أجل هذه المعانى كانت تلك العقوبات مقدرة بحدود هى الأساس لقيام دولة عادلة فاضلة. إذ إن الجرائم التى تقام الحدود من أجلها هى خبث تجهب إزالته» وشر تجب تنقية الجماعة منه» ولا بد من استعمال العنف لإزالة هذه الأدران من جسم الجماعة. ليكون نقيا سليماء وإذا كان الإسلام قد جاء لإيجاد مدينة فاضلة» فلا بد أن تحمى الفضيلة فيهاء وأن يحمى كل ما به قوام الجماعة واطمئنانهاء والغاية كما يقول بعض الكتاب - تبرر الوسيلة» على أن الغاية فاضلة والوسيلة عادلة» ولا يصح أن يذهب فرط الشفقة بالجناة إلى حد نسيان جريمتهمء فإن كل شفقة تمنع إنزال العقاب الرادع بهم تمكين لشرهم. وتعريض المجتمع لعبشهم» وليس من العدل فى شىء» لأن العدل أن من ارتكب شيئًا استحق عقابه» وأن يتساوى الناس فى العقوبات إذا ارتكبوا ما يوجبها. . ١/8 : سورة البقرة‎ )١( 1204 والقصاص كان لتحقيق المساواة بين آحاد الأمة. 4- هذا هو تقسيم الجريمة من حيث مقدار ما فيها من اعتداء على الجريمة. وهو يتلاقى فى الجملة مع تقسيم الجرائم فى القانون إلى جنايات وجنح ومخالفات» والتفسيمان يتلاقيان فى أن التقسيم أساسه مقدار الجريمة» ومقدار العقاب المستمد من مقدارهاء ولكنهما يختلفان فى التسمية» ويختلفان فى المدلول فى الجملة. ‏ - وإذا كان التعزير متروكا تقديره لولى الأمرء فإنه يستطيع أن ينشئ فى ظل التعزير تلك الأنواع الثلاثة, فيكون فى ظل التعزير الحنايات القانونية» وهى التى تكون عقوبتها السطزيرية فرية من الاشخال الشاقة المؤقتة أو الؤيدة أو السجن , بل القتل» وتكون فى وكلمة جنح قد وجدنا بعض الفقهاء يستعملها فى الجرائم التعزيرية» كما جاء فى كلام ابن تيمية فى الحسبة والسياسة الشرعسية .وأصل الجنحة من جنح بمعنى مال» ومن تلك قوله تعالى: «إ وإن جتحوا للسَلم فَاجتح لَهَا وتوكل على اللّه 4 ((©. والجناح هو الإثمء لأنه يميل بالإنسان عن الحق. ومن ذلك قوله تعالى: افلا جتاح عَليْهمَا فيمًا افْعَدتَ به 274 . ومن ذلك إطلاق الجنحة على الجريمة لأنها ميل ناحية الإثم» وعلى هذا المعنى ذكرت فى القانون» وبهذا المعنى جاءت فى عبارة بعض كتاب الفقه. ولابد من أن نتكلم فى خواص كل قسم من الأقسام الشرعية؛ ليتميز من غيره» ونوع الاعتداء على المصلحة فيهء ولتبدأ بالحدود. -١‏ جرام الحدود 3 - قررنا فى التقسيم السابق أن الحدود إنما تكون فى الجرائم التى اعتبر فيها اعتداء على حق الله تعالى» وقسد فسرنا فى الماضى معنى حق الله تعالى بما يقابل ما نسميه حق المجتمعء وربما يكون من تفسيره أيضا أن نقول: إن حقوق الله تعالى بالنسبة للعقوبة» والجرائم التى تستوجيها - يتصل بما يكون من شأنه أن يجعل السماعة تعيش فى طهر دينى» وفى فضيلة سائدة. فإن الفضيلة كما هى حماية للمجتمع من جرائيم الانحلال التى تحل عراه عروة عروة - هى من أمر الدين» وحكم الشرائع السماوية كلها ولذلك شرفها الله سبحانه وتعالى بأن تولى العقاب على مخالفتهاء » ولم يترك لإمام أو من دونه أن يتولى هو العقاب» ثم شرفها الشرع الإسلامى تشريفا أعلى من كل اعتبار. فسمى حماية الفضائل والأمن حقا لله سبحانه وتعالى» وأن من يعتدى على هذه الفضائل فكأنما يعتدى على الله سبحانه وتعالى. وحسب ذلك الاعتداء قدسية للنفس 8 : سورة البقرة‎ )( . 03١ : سورة الأنفال‎ )١( 22 : فى حمأة تتوق كل نفس مخلصة أن تجانبها وأن تجعل بينها وبينها حجابا مستوراء وحاجزا حصينا من أوامر اللّه تعالى ونواهيه. -١‏ وإن هذه الحدود تتفاوت من ناحية قوة حق العبد بجوار حق الله تعالى» فبعضها هى حت لله تعالى خالص» وبعضها للعبد فيها حق بجوار حق الله وإن الأساس فى هذا هو ملاحظة الجانب الشخصى فى الجريمة بجوار الجانب الاجتماعى» وقوة أثر الجريمة فى المجتمع وضعفهء فإذا كان جانب المجتمع أقوى من الجانب الشخصى فإن الحد يكون حقا لله تعالى» لأنه هوالذى أوجد الشرع لحماية الفضيلة فيه» وإن كان الاعتداء على الشخص واضحا فى الجريمة ولكن مع ذلك مست الفضيلة فى المجتمع فكان حق العبد بجوار حق الله كلاهما ثابت ثبوتا متناسباء كجريمة القذف فإن الحد يكون حقاء والعبد فى الحق موضع . وإن وجود حق العبد بجوار حق الله تعالى له أثره فى أمور أربعة : أولها : الخصومة فى إثبات هذه الحدود. ثانيها : التقادم وأثره. ثالثها : طرق الإثبات لجرائم الحدود. رابعا : إسقاط هذه الحدود بعد ثبوت الجرائم المتعلقة بها. 7- وقبل أن نخوض فى بيان الحدود من حيث حق العبد فيها وبيان هذه الأمور الأربعة - نقول: إن الحدود التى قالوا إنها خالصة لله وليس للعبد فيها حق هى جريمة الزنى» وجريمة شرب الخمر والردة» ويجب أن نضيف إليها جريمة قطع الطريق من حيث ماهية هذه الجريمة واستحقاقها للحد أو للقصاص وللسرقة» كما سنبين فى موضعها إن شاء الله تعالى. وإنك ترى أن الجانب الشخصى غير ملاحظ فى عقوبة هذه الجرائم» فالشارب لم يلاحظ فى جريمته الجانب الشخصى» لأن الشارب قد يستمتع بشربه» ولا يعتدى على أحد قطء وإذا كان ثمة احتمال الاعتداء فالعقوبة لا تكون على الأمور المتوقعة» بل تكون على الأمور الواقعة» وإن اعتدى فعلا فالاعتداء ذاته جريمة أخرى لها عقاب» إما أن يدخل فى باب القذف أو باب القصاص أو باب التعزير» فتكون العقوبة على ذات الشرب» لما فيه من انتهاك للفضيلة الإسلامية والاعتداء على العقل الذى شرف الله به بنى الإنسان على غيرهم من الحيوان» وإن حماية الفطرة الإنسانية فى أعضاء المجتمع الإسلامى حق الشارع الذى يظل هذا المجتمع بهدايته وحكمته. وكذلك الأمر فى الزنى بين الرجل والمرأة» فإن الاعتداء الشخصى بين الرجل والمرأة غير واضح»ء ولكن ثمة اعتداء آخرء هو الاعتداء على الأسرة» والاعتداء على ْم النسل» والاعتداء على النظام الاجتماعى الذى نظم الله فيه العلاقة بين الرجل والمرأة بعلاقة قدسها الله بكلمته» وهى الزواج كما قال يوَكهٌ: «اتقوا الله فى النساء فإنهن عوان عندكم ء استحللتم فروجهن بكلمة الله4 فكلمة الله تعالى هى المنظمة لتلك العلاقة الإنسانية» فمن أوجد علاقة بغير هذا الذى أحله الله تعالى» فقد اعستدى على النظام الذى قرره شرع الله تعالى . والنوع الثالث الذى يكون حق الله فيه خالصا من الحدود هو حد قطاع الطريق» وهم العصابات التى تجتمع وتتفق على السلب» وترويع الناس» ويكون لها من القوة ما تستطيع به تنفيذ ما تم الاتفاق عليهء وتعتصم بمكان تستطيع به التنفيذ أو يسهل لها التنفيذ على اختلاف بين الفقهاء فى بعض هذه العناصرء فإن هذه جريمة قد جعل الله تعالى لها عقوبة تخييرية» وجعل لولى الأمر فيها أن يختار ما يرى فيه الردع ويراه متناسبا مع الجريمة» على أن التخيير ليس مطلقاء ٠‏ بل بين أمور عينها الشارع بقوله تعالى: طإِنَمَا جزاء الذي يُحارِبون الله وسُوله يعون في الأرض قَسادا أن يقُا أو يوا أو قط أيديهم ورجلهم من خلاف أو ينقرا من الأْض ذلك لَهُم خزي في اليا ولّهم في الآخرة عذاب عظيم +20 + إل الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله عَفُور رحيم انه يا وهذه الجريمة مزدوجة. إذ فيها أمران: الخروج بهذه القوة التى تهدد الآمنين» وتفزع المطمئنين» والجريمة الثانية الاعتداء بالفعل بالقتل والسرقة»ء أما الأولى ففيها الحد بأحد هذه الاأمور الأربعة التتى ذكرناهاء وقد تسقط هذه العقوبة» إذا تابوا قبل القدرة عليهم. وأما الثانية ففيها حد السرقة أو القصاصء. وتنفرد الثانية عن الأولى فى حالة التوبة قبل القدرة» أما إذا لم تحصل التوبة فإن الثانية تدخل فى الأولى. لأن الجرائم إذا تعددت دخلت العقوبة الأخف فى العقوبة الأشد ما داما من جنس واحد. والجريمة الأولى عقوبتها حق خالص لله تعالى» لأن النظر فيها لم يتجه إلى الجانب الشخصىء بل اتجه إلى الجمانب الذى يتصل بالمجتمع» ولذلك كانت العقوبة مقررة بما يتناسب والجحرم. ولو لم يحصل فى اعتداء بالفعل»على خلاف فى ذلك؟لآن ذات الخروج على هذا النحو فيه ترويع شديد للناس. وحسبهم ذلك ليست حقوا أغلظ العقوبات» أو على الأقل العقوبة التى تتناسب مع ما ترتب عليها. 17- والجرائم التى للعبد فيها حق بجانب حق الله تعالى هى جريمة السرقة والقذف» وإن كانتا قد اختلفتا من حيث قوة حق العبد فيهماء فإن السرقة اعتداء على المال» والمال لا بد له من مالك» فجانب الملكية المحترمة المصونة المحرزة فى حرز مثلها . 3”5 » سورة المائدة : “ا”‎ )١( اه جزء من ماهية الجريمة» وحدها لا يثبت إلا إذا تحققت الملكية المحترمة التى هى فى حرز مثلهاء فالجانب الشخصى متحقق ثابت فى الجريمة» والحد أيضا ملاحظ فى إثباته ذلك الجانب الشخصىء ولذلك قالوا: إن حق العبد ثابت فى السرقة فى الابتداء» وإن كان حق الله تعالى» ثابتا وحده فى الانتهاء» بل قال بعض الفقهاء: إن حد السرقة الحق فيه حالص لله تعالى وإن لذلك موضعه من الحق». وذلك لأنه بعد أن يحصل الادعاء والإثبات تصبح إقامة الحد خالصة لله تعالى ليس للعبد أن ينزل عنه» ولا عبرة بإسقاطه لمن أسقطه. ولكن لأن النظر فى إثبات ذلك لا يتحقق إلا بعد تحريك الدعوى من المسروق منه» والخصومة وطلب الحدء كان للعبد نوع حق» وإن لم يكن غالباء ولذلك قال يلخ «إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع». والقذف جانب الحق الشخصى فيه أوضح منه فى جانب السرقة» وإن كان المقرر أن الحد إذا بلغ السلطان فلا يسع أحدا أن يسقط حقا ثبت لولى الأمر بحكم القرآن الكريم لا بحكم الإنسان» على نظر فى حد القذف». وخلاف فيه. هذا استعراض للجرائم التى للعبد فيها حق» والتى ليس للعبد فيها حق» ولنتكلم فى أثار هذا التقسيم من ناحية الأمور الأربعة التى ذكرناها آنفاء وهى الخصومة والإثبات وأثر التقادم» وإسقاط الجريمة بالعفوء فإن حد السرقة وحد القذف لا بد فيه من الخصومة - وجريمة القذف لا يسقطها التقادم» وكل الجرائم لا يسقطها العفو على خلاف فى ذلك سنذكره فى موضعه إن شاء الله»ء وجرائم الزنى والشرب لا يشترط فيها خصومة بالاتفاق» وكذلك لا تشترط الخصومة فى حد قطاع الطريق» لأن العمل على بث روح الطمأنينة فى النفوس عمل الإمام لا يحتاج إلى من يدعوه إليهء وإن هذا الإجمال لا يغنى عن التفصيل فى هذه الأمور الأربعة» ولنبتدئ بالخصومة. الخصومة فى جراتم الحدود 4- الخصومة ليست شرطا بالاتفاق فى الحدود التى هى خالصة لله تعالى» فلا يتوقف الإثبات فيها على الدعوى» بل الشاهد فيها مدع وتسمى هذه دعوى الحسبة» لآن سماع الشهادة فى الفقه الإسلامى كما هو الشأن فى كل وسائل الإثبات لا بد أن تسبقها الدعوى إلا فى الحدود التى تكون خالصة لله تعالى» فإن الشهادة تسمع» ولو لم تسبق الدعوى» فالزنى إذا رآه أربعة يصح أن يذهبوا إلى القاضى» ويشهدوا أمامه بواقعة الزنى» ويترتب على شهادتهم عقوبتهاء وإن لم تسبقها دعوى» وتسمى الشهادة نفسها شهادة حسبة» وتقوم مقام الدعوى. كما أشرنا من قبل . وكذلك حد الشرب تسمع فيه الشهادة من غير سابق دعوى. وتكون الشهادة فيها شهادة حسبّة قائمة مقام الدعوى» ولقد قال فى ذلك الكاسانى: «لا خلاف فى أن ,هه الخصومة ليست بشرط فى حد الزنى أو الشربء لأنه خالص حق الله تعالى» والخصومة ليست بشرط فى الحدود الخالصة لله تعالى: لأنها تقام حسبة لله تعالى فلا يتوقف ظهورها على دعوى العبد) . 5- أما بالنسبة للسرقة» فإنه من المقرر أن للعبد حما فيهاء وإن كان الكاسانى وبعض الكتاب فى الفقه يرون أن حد السرقة حق لله تعالى خالص فيهء وقد علمت أن ذلك يكون بعد أن يدعى الشخصء وكأن حق العبد فى جريمة السرقة مقصور على الدعوىء» فإن رفعت الدعوى وثبتت انتهى حق العبد فيها أو صار العقاب خالصا لله تعالى» فلا يستطيع أن يسقطه العبدء ويروى فى ذلك أن جماعة شكوا لصا ليرفعوه إلى عثمان رضى الله عنهى فتلقاهم الزبير فشفع فيه؟ فقالوا: إذا م إلى عثمان فاشفع فيه» فقال: «إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع » والمشفع» وبهذا يتبين أنه قبل رفع الدعوى كان يسع المسروق منه ألا يرفع وأن يعفو عن أخيه؛ ولكن بعد أن رفع الدعوىء صار الأمر إلى الله سبحانه ينفذ أمره ولى الأمر فى المسلمين. والسبب فى اشتراط الخصومة فى سماع الشهادة فى السرقة هو أن ركن السرقة لا يتحقق إلا بعد إثبات أن المال مملوكء ولا تتحقق تلك الملكية إلا بالخصوصة؛ وذلك سواء أكانت السرقة ثابتة بالبينة أم كانت ثابتة بالإقرار» وهذا رأى الحنفية والشافعية وأكثر الحنابلةء وقال مالك وأبو ثور وبعض الحتابلة: لا حاجة إلى الدعوى من المسروق منه؛ وذلك لعموم النص إذ يقول سبحانه وتعالى: © والسارق والسّارقة فَاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبًا نكَالاً من اللّه 274 . وحجة الجمهور فى ضرورة الادعاء والخصومة؛ سواء أكانت السرقة طريق ثبوتها الإقرار أم كان طريق ثبوتها البينة - أنه لابد لتحقيق السرقة من كون المال مملوكاء وكونه لم يبحه لهء وكونه موجودا فى حرزه» وكل هذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا ادعى المسروق منه» إذ عساه يكون قد أباحه له أو مكنه منه» أو لم يكن فى حرز مثله» وغير ذلك من الاحتمالات» ومع هذه الاحتماللات لا يقام الحدء لأنه مع الاحتمال يسقط الاستدلاله وفوق ذلك فإن النبى عَلِْدٌ يقول: «ادرءوا الحدود بالشبهات» ومع هذه الاحتمالات يتحقق ما هو أقوى من الشبهة» وإن هذه المعانى تتحقق فى حال ثبوت السرقة بالإقرار أو البينة» ويروى أن عمرو بن سمرة بن حبيب بن عبد شمسء» جاء إلى رسول الله يَكْهِ فقال: سرقت حملا لبنى فلان فطهرنىء فأرسل النبى كد إليهم فقالوا: إنا افتقدنا حملا لناء فأمر به النبى يَكلهّ فقطعت يده2©0. ويقول الكاسانى فى التعليق . 780 السياسة الشرعية لابن تيمية ص59 . (؟) المائدة : 8لا . (9) المغنى ج /ا ص‎ )١( امن على هذا الحديث: «لولا أن المطالبة شرط ظهور السرقة بالإقرار لم يكن ليسألهم» بل كان يقطع يد السارق». ولأن كل من فى يده شىء» فالظاهر أنه ملكه» . 5- هذه هى الخصومة بالنسبة لحد السرقة» أما الخصومة بالنسبة لحد القذف» فإن التشدد فى اشتراطها أقوى من التشدد فى اشتراطها فى حد السرقة؛ وذلك لأن بعض الفقهاء لا يعتبر حد القذف حقا لله تعالى؛ بل يعتبره حقا خالصا للعبد؛ فالمتفق عليه بين الفقهاء على أن الخصومة شرط فى ثبوت حد القذف؛ إذا لم يكن أساس القذف اتهاما بالزنى فى مجلس القضاء؛ ولكن موضع الخلاف: هل تستمر الخصومة إلى وقت إقامة الحد» بمعنى أنه إذا أسقط الحد قبل إقامته» ولو بعد إثبات القذف يسقط أم لا؛ قال الشافعى وأحمد وطائفة كبيرة من الفقهاء: إن المطالبة شرط لإقامة الحد؛ والاستمرار فى المطالبة شرط حتى يقام؛ بحيث لو أبرأ القاذف أو أسقط حقه فى المطالبة لا يقام الحد؛ وحجتهم فى ذلك أنه لا يستوفى إلا بعد مطالبة الآدمى باستيفائه؛ فسقط بعفوه كالقصاص . وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يسقط بالعفو. فالاستمرار على المطالبة إلى إقامة الحد ليس بشرط عند هؤلاء» وكأنهم فى هذا يدعون أمرين: أحدهما : أنه لابد من الخنصومة إذا لم يكن فى اتهام بالزنى لإقامة الحد. والثانى أنه لا يشترط استمرارهاء أما إثبات أصل الخصومة فى غير شهادة الزنى» فلأن للعبد فيه حقاء وهو صيانة عرضه عن الهتك. وأما عدم اشتراط الاستمرار فلأن الحدود كلها حق الله فيها غالب أو خالصء فبعد الترافع لا يصح أن تكون الحدود موضع تسامح أو تساهل؛ لأنه إذا رفعت الحدود إلى السلطان فلعن الله الشافع والمشفع . والحق أن جوهر الخلاف بين الحنفية وغيرهم فى هذا المقام أن الحنفية يرون أن حد القذف لا يتمحض حقا خالصا للعبد» بل ما زال حق الله فيه ثابتاء وغير الحنفية يرى أن حد القذف كالقصاص شرع حقا للعبدء ولقد قال فى ذلك الكاسانى: على أصل الشافعى حد القذف حالص حق العبد» فتشترط الدعوى كما فى سائر حقوق العباد» وعندنا حق الله عز شأنه» وإن كان هو المغلب فيه لكن للعبد فيه حقء لأنه ينتفع به بصيانة عرضه عن الهتك» فيشترط فيه الدعوى من هذه الجهة(" . لا - ومع أن فقهاء الحنفية يشترطون الدعوى يقررون أن الأفضل للمقذوف أن يعفوء فيقول الكاسانى بعد أن قال ما قال: الأفضل للمقذوف أن يترك الخصومةء. لأن فيها إشاعة الفاحشة» والعفو عن الخصومة ولمطالبة التى هى حقها من الفضل والكرامة . وقد قال تعالى: 8 وأن تعفوا أَْرَب للتَقُوَى 74". وقال عز من قائل: « ولا تسا الْفَضْلَ )١(‏ البدائع جلا ص57 . (؟) سورة البقرة : /771 . ان يكم 2174 وإذا رفع الأمر إلى القاضى يستحسن للقاضى أن يقول قبل الإتيان بالبينة : أعرض عن هذا؛ لأنه ندب إلى الستر والعفو. وكلام الكاسانى مستقيم إذا كان القذف على غير ملأ من الناس بأن كان لا يعلم به إلا الشاهدان» وهما من أهل الصلاح والتقوى» وقد استذكر القول» فحينئذ يكون الأفضل الترك» ولا يتنازع هذا مع كون الحد حق الله فإن المجتمع لم ينله أذى واضح بالقذف عند القول» وخصوصا إذا كان القاذف قد اعتراه الندم وفى إعلان الموضوع بين يدى القضاء وسماعه بين الناس تكون الإشاعة للفحشاء أشد وأشنع» وأما إذا كان القذف على ملا من الناس» وقد سمعه البر والفاجر» وسيكون عرض المقذوف سبب ذلك مضغة فى الأفواه فإن الحد حينئذ يكون متعيناءويكون حق الله تعالى واجب الإقامة»ء وعرض المسلم واجب الصيانة. ش وهنا مسألة أخرى متفرعة عن أن حق العبد خالص له فى القذف أم غير خالص كما فى السرقة من حيث إنه لا يجوز العفو يلا خلاف» ويجوز فيه العفو عند جمهور الفقهاء . ؟- الاثبات 4- وذلك الحق المتفرع من الخصومات خاص بالإثبات, فالاتفاق على أن السرقة كغيرها من الحدود غير القذف. لا يثبت إلا بالإقرار أو البينة» ولا يجرى فيها توجيه اليمين» أما القذف فقد جرى فيه الخلاف بين الفقهاءء فطائفة ومنهم الحنفية قرروا أن حد القذف لا توجه فيه اليمين» لأنه إذا تكل عن اليمين لا يقضى عليه» وقال بعضص الفقهاء ومنهم الشافعية: توجه اليمين» فإن نكل أقيم عليه الحدء وقد روى فى المذهب الحنفى ما يتفق مع رأى الشافعى» وقد ذكر الخلاف فى هذه القضية الكاسانى قال: «إذا لم يترك الخصومة» وادعى القذف على القاذف فأنكر ولا بينة للمدعى» فأراد استحلافه بالله تعالى ما قذفه هل يحلف؟ ذكر الكرخى أنه لا يحلف عند أصحابنا خلافا للشافعى رحمه الله» وذكر فى أدب القاضى أنه يحلف فى ظاهر الرواية عندهمء وإذا نكل يقضى عليه بالحد. وقال بعضهم: يحتمل أن يحلف» » فإذا نكل يقضى عليه بالتعزير لا بالحد» وهذه الأقاويل تر جع إلى أصل . وهو أنه عند الشافعى رحمه اللّه حد القذف خالص حتق العبد فيجرى فيه الاستحلاف كما فى سائر حقوق العباد» وأما على أصل أصحابنا ففيه حق الله تعالى عز وجل وحق العبدء فمن قال منهم: إنه يحلف ويقضى عليه بالحد عند التكول اعتبر ما فيه من حق العبد فألحقه فى التحليف بالتعزير» ومن قال منهم: إنه لا يحلف أصلا اعتبر حق الله سبحانه وتعالى فيهء لأنه الغالب )١(‏ سورة البقرة : /ا"ا7. 66 فألحقه بسائر حقوق الله تعالى الخالصة» والجامع أن المقصود من الاستحلاف هو التكول» وإنه على أصل أبى حنيفة - عليه الرحمة - بذل» والحد لا يحتمل اليذل» وعلى أصلهما إقرار فيه شبهة, لأنه ليس بصريح الإقرارء بل هو إقرار بطريق السكوت» فكان فيه شبهة» والحد لا يثبت بدليل فيه شبهة» ومن قال منهم: إنه يحلف ويقضى عليه بالتعزير عند التكول دون الحد» اعتبر حق العبد فيه للاستحلاف كالتعزير» واعتبر حق الله سبحانه وتعالى من إقامة الحد عند التكول كسائر الحدود» ومثل هذا جائز كحد السرقة إنه يجزى فيه الاستحلاف» ولا يقضى عند التكول بالحدء ولكن يقضى بالمال» وكما قال أبو يوسف ومحمد عليهما الرحمة فى القصاص: إنه يحلف ولكن عند النكول لا يقضى بالقصاص بل بالدية»17 . 8- هذا ما قاله الكاسانى مبينا به خلاف الفقهاء» وإنه يدل على أربعة أمور: أولها : إجماع الفقهاء على أن حد السرقة لا يثبت بالتكول عن اليمين إذا وجه للمدعى عليه» فلا يثبت الحد بهذا النكول» وإن كان قد قال بعض الفقهاء: إن التكول عن اليمين إذا وجهت إليه لا يثبت بها استحقاق الحد» وإنما يثبت بها حق رد المال المسروقء أو قيمته إن كان قيمياء ومثله إن كان مثلياء وبهذا يتبين أن حق الله تعالى فى السرقة غالب» أو بالأحرى إنه بعد التخاصم لا يكون للعبد بعد ذلك أى حق. ثانيها : أن حد القذف دون حد السرقة من حيث قوة حق الله تعالى فيه وبالأحرى إن الحق الشخصى فى القذف» أقوى من الحقّ الشخصى فى السرقة» والحق الاجتماعى فيها أقوى من الحق الاجتماعى فيه»ء وإن الشافعى رضى الله عنه قال: إنه حق خالص للعبدء ولذلك يجرى فيه الإثبات بكل طرائق الإثبات فى حقوق العباد المالية» فتوجه اليمين» ويثبت بالنكول عنهاء وبذلك يثبت أن جانب الحق الشخصى فيه هو الأوضح.ء بل هو المقرر الثابت» وإن أكثر فقهاء الحنفية مع الجمهور يخالفونه فى إثبات حد القذف بالتكول» على أن منهم من قال: إنه يثبت به. ثالثها : أن أبا حنيفة يعتبر التكول عن اليمين ليس إقراراء ولكنه بذل» ولذلك لا توجه اليمين إلا فيما يجرى فيه البذل. وهو الأموال وما يشبههاء ولا توجه فى النكاح والطلاق ونحوهماء كما لا توجه فى جرائم الحدود والقصاص, لأن الحدود والقصاص لا يجرى فيها البذل والتبرع» وأن الصاحبين يريان أن التكول إقرار» ولكن فيه شبهة. لأنه سكوت» ولا ينسب لساكت قولء. ولكن اعتبر إقرارا لأنه سكوت فى موضع البيان» فهو بيان» ولا يخلو من شبهة» والحدود والقصاص تدرأ بالشبهات داتماء ولذا لا توجه اليمين فى الحدودء وإذا توجهت فى جرائم القصاصء فليست لإثباته عندهماء وإنما هى لإثبات الدية» وهى حق مالى يثبت بالتكول عن اليمين. . البدائع ج /ا ص05‎ )١( كه رابعها : أن بعض الروايات فى المذهب الحنفى أنه يحلف فى جرعية القذف» وقد اختلف التخريج فى هذاء فقال بعض المخرجين: إن توجيهه أن النكول يؤدى إلى حد القذف. وذلك مراعاة لحق العبد؛ وذلك لأن حد القذف تعلق به حقان - أحدهما - حق الله والثاني: حق العبد فكان القضاء بمقتضى النكول يكون لمراعاة حق الله تعالى» وعلى هذا النظر لا يعتبر التكول فيه شبهة» إذ هو سكوت حيث يطالب حتما بالبيان. والتخريج الثانى : أن فائدة توجيه اليمين ثم التكول ليست فى إثبات الحد وإنما فى التعزيرء فتكون ثمة شبهة أسقطت الحد. ولكن مراعاة لحق العبد كان لابد من التعزير. - هذا مظهر من مظاهر قوة حق الله تعالى بالنسبة لإثبات الحد بعد الخصومة فيه إن كانت متقررة» وهناك مظهر آخر فى قوة إثبات الحق إذا كان لله تعالى خالصاء وهو متعلق بالبينة المثبتة» وبالنسبة للإقرار المثبت. فقد قرر الفقهاء بالإجماع أن حد الزنى يثبت إلا بالإقرار أو ببينة هى أربعة شهودء وأن الشهود دهم المدعون» كما ذكرناء وتسمى شهادة الحسبة» وإذا لم يتكامل العدد أربعة.» وأصر ثلاثة أو اثنان أو واحد على قولم اعتبر من أصر قاذفا. ويحد حد القذف. وذلك لقوله تعالى: «( والّذدين يرمون المحصنات ثم لم يأثوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثَمَانينَ جلدة ولا تقبلُوا لهم شهادة أبدا وأولنك هم الْقاسقُون 422 ) 217 فدل هذا على أن الشهادة فى الزنى لا تقبل بأقل من أربعةء وإذا لم يكن أربعة حد من قال حد القذف» وكذلك فعل الفاروق عمر بن الخطاب عندما اتهم المغيرة بن شعبة بالزنى» فجلد الشهود لانهسم لم يكونواأربعة قد صرحوا بأه يرتكب الفاحشة - ولقد جاء فى المغنى إنه يشترط فى شهادة الزنى أن يكون أربعة» وهذا إجماع لا خلاف فيه بين أهل العلم - لقوله تعالى: « واللأتي يأتين الفاحشّة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة مم74" وقال تعالى: «( نولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فَإِذْ لم يَأنُوا بالشهداء فأويك عند اله هم الكابون 52 204 . وقال سعد بن عبادة لرسول لذ كلة: أرأيت - لو وجدت مع امرأتى رجلا أمهله حتى آتى بأربعة شهداء؛ فقال النبى يَككهِ: «نعم». رواه مالك فى الموطأ وأبو داوود فى سنته7؟؟ . ١ا-‏ هذا فيما يتعلق بالإثبات بالبينة» أما الإثبات بالإقرار»ء فقد قررت طائفة كبيرة من الفقهاء؛ أنه لابد من أن يقر أربع مرات» وأن يراجع فى كل مرة ليتمكن من الرجوع فى إقراره» ولا تصح إقامة الحد عليه إلا إذا أصر على الإقرار إصرارا بعد مراجعته. وهؤلاء هم الحنابلة» والحنفية يروون فى هذا عن أبى هريرة أنه قال: أتى 6 : زهق4 سورة النساء‎ ٠. 5: سورة النور‎ )١( 5 طبعة المنار الثانية‎ ١ زفرف سورة النور: أو © () المغنى ج م ص ة‎ لاه رجل من الأسلميين» فقال: يا رسول الله إنى زئيت » فأعرض عنه ليل حتى ثنى ذلك أربع مرات فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه كَللِيْدِّهِ فقال له: «أبك جنون؟»2 قال: لاء ثم أمر فأقيم عليه الحد(!. وقال الشافعى وأكثر المالكية: لا حاجة إلى التكرار ما دامت القرائن تدل على الإصرار» والتكرار يستحسن» وليس بمطلوب طلبا حتمياء بحيث لا تصح إقامة الحد إلا بعد تكراره أربع مرات» وكون الشهادة لا تكون إلا بأربعة لا يقتتضى أن يكون الإقرار أيضا أربع مرات» فإن الشهادة فى الأموال برجلين أو رجل وامرأتين» ومع ذلك تثبت بالإقرار من غير حاجة إلى التكرار» وقد وردت الآثار بأن النبى يَلِْةٌ قد اكتفى فى بعض الأحوال بالإقرار مرة واحدة» وما كرر فى الأحوال التى كرر فيها إلا ليستوثق من ؟/ا- ونريد أن نقف هنا وقفة قصيرة: لماذا اشترط فى الشهادة على الزنى أربعة شهود وهددوا بأنه إذا لم يتم العدد أربعة حد أولتك الذين قالوا ولو ثلاثة حد القذف» اشترطوا أن يقر أربع مرات مصرا فى كل مرة على أن ما كان يفعله هو حقيقة الزنى» موضحا ذلك فى إقراره حتى لا يكون هناك مجال للتأويل» أو التشكك فى الإقرار» حتى إن النبى كَللِْهٌ يقول لمن أقر بين يديه بالزنى بعد إقراره: «لعلك قبلت» لعلك لامست»» حتى تجىء على لسانه العبارة الصريحة التى لا تقبل أى احتمال» ولو كان احتمالا غير ناشئْ عن دليل. السبب الذى يبدو لنا من مراجعتنا لمصادر الشريعة ومواردها ومقاصدها- يرجع إلى ثلاثة : أولها : أن هذه الجريمة جريمة خفية من شأنها أن تصدر من صاحبها فى كن مستور لا يعلم به أحد من الناس» ويندر أن يطلع أحد على واقعة هذه الجريمة كما وقعت» والجرائم التى تكون على هذه الشاكلة إذا لم يكن التحرى كاملا عن حقيقة وقوعها ترامى الناس بالقول بها فرمى بها الير والفاجر» وصارت البيئة يظللها الرفث والفسوق» وترتب على ذلك أن يصير عرضة للعقاب البرىء والسقيم» وكان لا بد من التشدد عند الاعتراف» لأن الجريمة لا تبلغ أقصى شناعتها إلا عندما تكون علنية» والإقرار وتكراره إعلان للجريمة وكشف لهاء وفى ذلك إفساد للجو الخلقى العام فكان لابد من الردع ولابد من العقاب الصارمء فخفاء الجريمة وشدة العقاب أوجبا ذلك الاحتياط. الثانى : أن مقصد الشارع هو حماية الجما-عة من أن يظهر فيها الشر والفساد وألا . المغنى ج 8 ص57١ طبعة المنار الثانية.‎ )١( مه يكون فى الحياة العامة إلا الفضيلة» فالأفعال الفاضحة كما يعبر القانونيون فى العصر الحاضر يجب أن تنزوى فى كن مستورء حتى يقتلها الظلام» ولا تظهر إلا البراءة والفضيلة» فإن خرجت تلك الجريمة من الظلام تمشى بين الناس بالفساد» لتعكر الصافى» أنزل العقاب الصارم الرادع» وكون الجريمة يراها أربعة رأى العين أو ينطق بها صاحبها أربع مرات فى مجلس القضاء - معناه أن ما كان مستورا خفياء صار ظاهرا مكشوفاء فحق عليه العقوبات ليتطهر الجو الخلقى من جرائيم الشر وإشاعة الفاحشة» ولذلك قال النبى يَلكلةٌ فيما رويناه من قبل -: «أيها الناس من ارتكب شيئا من هذه القاذورات فاستتر فهو فى ستر الله» ومن أبدى صفحته أقمنا عليه الحد» فإبداء الصفحة هو السبب فى إقامة الحدء وإبداؤها بمعاينة أربعة أو إقراره» فإن معاينة أربعة كشف ليس وراءه كشفء والإقرار بلا شك إبداء الصفحة. الشالث : أن للوسلام شرائع يطبقها القضاءء وهو فوق ذلك دين يعمل على إصلاح النفوس وتربية الوجدان» وتمكين النفس الآثئمة إذا انحرفت من أن تتوب» وخصوصا إذا كانت الجريمة لم تبلغ حد الذيوع والمجاهرة» وأن تكون عملا فاضحا تضر رؤيته الناموس الخلقى العام» ولذلك سهل للمجرم التوبة والرجوع عن الجريمة ما دامت لم تكشف ولم تعلن» ولم تصر دعوة صارخة إلى الرذيلة» وإذا كانت الدراسات العلمية الحديئة قد قررت أن المجرم مريض يجب أن يعالج» فإن الشريعة فى هذه الجريمة المستترة تركت للمجرم فرصة التوبة والتكفير عن هذه الخطيئة» وخصوصا أنها خطيئة قريبة الوقوع فى غفوة الإيمان» وأن التوبة منها سريعة قريبة أيضا إذا كان مهددا بالعقاب» والعقوبة فى أكثر الأحوال لا تنطبق شروط إثباتها إلا على المصر المستمر عليها الذى تكررت منه؛ حتى أمكن أن تقع منه علنا بحيث يعاين ذات الواقعة أربعة من الشهود يرونها رأى العين. '”/ا- هذه جريمة الزنى وطرق إثباتهاء والحكمة من التشديد فى طريق الإثبات» وحدها أول حد من حدود الله يتجلى فيها حق الله تعالى كاملا. والحد الثانى من حدود الله التى يتجلى فيها حق الله كاملا هو حد الشرب» وهو يثبت بالإقرار وبشهادة اثنين» وتكرار الإقرار فيه ليس بشرط عند أبى حنيفة والشافعى» وتكرار الإقرار شرط عند من شرط التكرار من الحنابلة» وعند أبى يوسف» وذلك لأن كليهما حق الله تعالى» وفى كليهما لابد من الإصرار على القول» كما هو الشأن فى كل حقوق الله سبحانه وتعالى. والسرقة مثل الشرب فى ذلك فلا بد من شهادة اثنين والإقرار» قال بعض الفقهاء: لابد من تكراره مرتين بمقدار الشهادة» وبعضهم قال: لا حاجة إلى التكرار 68 أيضاء والحنفية الذين قرروا ضرورة التكرار فى الزنى اختلفوا فى السرقة والشرب» فأبو حنيفة قال: لا يشترط التكرار. وهناك قاعدة قررها الفقهاء الذين اشترطوا تكرار الإقرار فى السرقة والشرب كالزنى» وهى أن الحدود التى فيها حق للّه: تعالى خالص أو غالب كالسرقة على نظر فى ذلك لابد من تكرار الإقرار فيهاء بمقدار عدد الشهود. وقد قال فى ذلك الكاسانى: إن كل ما يسقط بالرجوع من الوقرار فعلد الإقرار فيه كعدد الشهود, وذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله أنه عند أبى يوسف يشترط الإقرار مرتين فى مكانين” '' ونرى من هذا أن الإصرار على الإقرار شرط عند الأكثرين حتى يقام الحد فى الحدود الخالصة حقا لله تعالى» أو حق الله غالب» وهى حدود الزنى والشرب والسرقة» ولذلك إذا رجع قبل إقامة الحد اعتبر الإقرار ملغى. وإنه لا بد إذن من تعرف الإصرار»ء وإن تعرف ذلك الإصرار يكون بتكرار الإقرار» وقد سن النبى كَل ذلك الطريق» فيراجع المقر أربع مراتء لأن ذلك كان مناسبا للإثبات فى الزنى» وما فيه من خفاء» فكان المناسب أيضا فى الشرب والسرقة التكرار لمعرفة مقدار الإصرار بما يناسب عدد الشهادة'" . وحجة أبى حنيفة ومحمد أن تكرار الإقرار عرف فى الزنى على خلاف القياس» ما يثبت على خلاف القياس لا يقاس عليه غيره» أما كونه ثبت على خلاف القياس فلأن الإقرار إخبار عن فعل النفس» ولا مكان للتهمة» والشبهة فى الإخبار عن حال النفس ما دام الشخص عاقلا مسئولا عما يقول وعما يفعل» وليس لأحد عليه سبيل» وقد خلا من كل مظنة للحمل أو التعزيرء فلا معنى إذن لتكرار الإقرار» فالإقرار بذاته حجة معلنة كاشفة عما كان. 4- وجريمة القذف بالاتفاق تثبت بشهادة اثنين» أو بالإقرار بعد الدعوي» وشهادة الحسبة لا تتأتى فيهاء ولا يعتبر المدعى أحد الشهودء لأن له مصلحة فى الدعوى» وهى الدفاع عن عرضه ونفى التهمة عن نفسه. ولا يتعدد الإقرار» لأن الإصرار عليه ليس بشرطء بدليل أنه لو رجع عن إقراره قبل إقامة الحد عليه فلا عبرة . البدائع ج4؛ ص00‎ )١( (؟) ولقد جاء فى تأييد رأى أبى يوسف فى فتح القدير ما نصه: : «روى أبو داوود أن رسول الله يَكَكَهِ أتى بلص قد اعترف» ولم يوجد معه متاع» فقال: وما إخالك سرقته» فقال: بلى» قأعادها رسول الله كلد مرتين أو ثلاثا» . وأسند الطحاوى إلى على رضى الله عنه أن رجلا أقر عنده بالسرقة مرتين» فقال: قد شهدت على نفسهك شهادتين» 5 ثم أقام عليه الحد. وأما المعنى فإلحاق الإقرار بها بالشهادتين عليها فى العدد. . نظيره إلحاق الإقرار فى حد الزنى فى العدد بالشهادة» واستدل لأبى حنيفة بأن النبى وَل جىء إليه برجل قالوا إنه سرق فقال عليه الصلاة والسلام: «ما إخاله سرق» فقال: بلى يا رسول الله فأقام عليه الحد» والمعنى فيه إلحاقه بالقصاص . هو إن لم يكن حدا ففى المعنى» وكذلك إلحاقه بحد القذف (جة ص14؟51). برجوعهء لأن إعلان الإقرار فى ذاته لا يخلو من قذف أو على الأقل تأكيده بذكره فى محل القضاءء فإذا اقترن بدعوى المدعى لم يكن ثمة مساغ للرجوع, ولأن إقراره تضمن إثبات حق للغيرء وهو حد القذف,» إذ للعبد حق فيه» فالرجوع حينئذ يكون رجوعا عن أمر قد تعلق به حق العبد» وحقوق العياد اللازمة لا تقبل الرجوع ممن التزمهاء ولذلك قال فى البدائع مانصه: «وأما العدد فى الإقرار بالقذف؛ فليس بشرط الإجماع»"9 . 5م هذه كلمات موجزة فى بيان إثبات الخصومة فى الحدودء وقوة اتصالها بحق المجتمعء وظهور ذلك فى طرق إثباتهاء وإن مقدار قوة هذه الحقوق فى ارتباطها بالمجتمع يتبعه مقدار قوة الإثبات». فكلما كثرت صلة الحد بمصلحة الجماعة. واختفى حق العبد كان التشديد فى الإثبات» وكلما قوى حق الش خص لم يكن ثمة تشديد فى الإثبات. وقد أشرنا إلى بيان السيب فى ذلك» ونضيف هنا إلى ما سبق أن الشارع الإسلامى لا يريد فى سبيل حماية المجتمع من هذه الآفات أن يفتح باب آفات أخرى»ء وهى التجسس والتفتيش عن القلوب» والبحث عن خفايا النفوس» فإن هذه المسالك إذا اتجه إليها القضاء ء فتح باب الكذب واتهام الأبرياء» والغش والتدليس وحب الانتقام وملق الحكام. وبذلك يفتح بايا من المظالم» وأبوابا من الشر يكون إثمهاأكبر من أى نفع يتحقق بعقاب المرتكبين الآثمين» ألا ترى أنه لو فتح باب الإثبات على مصراعيه فى جريمة الزنى لساغ لكل حاقد على آخر أن يدعيه» ولا يعدم أن يجد شهودا يتقولون الأقاويل: ولكن الشارع حمى الأبرياء بتشديده فى الإثبات» وبوضع العقوبات الرادعة التى تنفذ فورا فى كل من يشهد بالزنى» ولا يتكامل العدد أربعةء فإن الثلاثة الآخرين يحدون حد القذف. وكذلك الشأن فى كل حد يثبت فيه كذب الشهودء فإن ولى الأمر يبادر بتعزيرهم » وذلك حفظا لأفراد الناس» ولكيلا يؤدى الحرص على حماية المجتمع من آقات إلى أن يعرضه لآفات أشد وأخطرء وأقوى أثرا فى الجماعة ووحدتهاء وسيادة رذائل أخحرى أقوى فعلا فى فك عرا الجماعة من الرذيلة التى يحاربها الحد من حدود الله تعالى» وإنه من أجل هذا ورد الأثر الصحيح : «ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم». وإن ما بيناه هنا ليس هو ما ينبغى بيانه فى طرق الإثبات للحدود» فذلك باب قائم بذاته عندما نتكلم فى العقوبة فى الجرائم الخاصة من دراستنا هذه. ولكنا عرضنا لهذا الجزء فى هذا الموضع من حيث ارتباط الإثبات بقوة الاعتداء فى الجريمة وبيان أنه كلما قوى الاعتداء والعقاب كان حرص الشارع على التشديد فى الإثبات» وذلك لكيلا يؤدى القضاء على نوع من الفساد إلى فساد أقوى». وأشد وأفعل. 5١ ؟- التقادم وأثره فى الجريمة التى توجب حدا 57- قلنا: إن الشارع الإسلامى لا ينقب عن الجرائم تنقيباء ولا يتجسس عليها تجسساء فإن هذه معان تفتك بالمجتمع» ولذلك يقول الله تعالى : «إيا يها األذين آمنوا اجتنبوا كيرا من ال إن بض الظَن نم ولا تَجَسَسُوا ولا يغتب يُعْضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكُلَ لَحْمْ أخيه متا فَكَرهحْمُوه واد َقُوا الله 237 ولذلك لا يلتفت إلى الظن» فيجعل أساسا للحكم» ولذلك قال تعالى: إن ال لا يغني من الحق شيًا 4(" . على ضوء هذا المعنى السامى سار فقهاء المسلمين فى تطبيق الحدود. وهى العقوبات التى يتولاها الشارع» فقد حد مقاديرهاء ورسم منهاجهاء وقد كانت هذه العقوبات بعضها مما يتولى الناس فيه الدعاوى» فيتولاها الناس باعتبار أنها تعود على المجتمع بالنفع» لأنها عقوبات لجرائم كانت اعتداء عليه» وانتهاكا لحرمات الفضيلة والأخلاق فيهء فكان لابد أن يحتاط فيها من أن تتخذ ذرائع للنكاية والأذى» لالحماية الفضائل والغيرة عليها. ولذلك كان من الحدود ما يسقط بمضى مدة معلومة. وقرر الفقهاء أن الشهادة لا تسمع إذا حدث فيها تقادم» بأن مضت مدة كان يمكن للمدعى حسبة أو الشاهد حسبة أن يتقدم فيها للقضاء ولم يتقدم» وقد اختلفت أقوال الفقهاء فى هذا الأمر اختلافا كبيراء وقد لخص خلافهم كمال الدين بن الهمام فى فتح القديرء فقال: الحاصل أن فى الشهادة بالحدود القديمة والإقرار بها أربعة مذاهب: الأول : رد الشهادة بها وقبول الإقرار بما سوى الشربء وهو قول أبى حنيفة وأبى يوسف . الثانى : ردها وقبول الإقرار حتى بالشرب القديم» كالزنى والسرقةء وهو قول محمد بن الحسن. الثالث : قبولهماء وهو قول الشافعى ومالك وأحمد. الرابع : ردهماء ونقل هذا عن ابن أبى ليلى7" . وبهذا يتبين أن قول الشافعى وهو قول أحمد والالكية أن التقادم لا أثر له فى الشهادة» والإقرار به» وأن الشهادة على الجريمة القديمة كالشهادة على الجريمة الحديثة لا فرق بينهماء وحجة هذا الرأى تقوم على أمرين. أحدهما : أن الشهادة على ما يوجب الحدء كالشهادة على غيره من حقوق )١(‏ سورة الحجرات : ١7‏ . (6) سورة النجم : 58 . (7) فتح القدير جة ص؟7١١‏ . 5 العبادء سواء أكانت أموالا أم كانت دماءء وبما أن التقادم لا يسقط العقوبة فى هذه الجرائم ويمنع سماع الشهادة فكذلك التقادم هنا. ْ الأمر الشانى : أن أساس قبول الشهادة هو الصدق» وأن كون الشهادة صادقة لا يتأثر بالتأخير ما دام الشهود عدولا لم تعلق بعدالتهم ريبة» ولا يصح أن ترد شهادتهم لفرض الضغن أو التهمةء فإن رد شهادة العدل يجب أن يكون مبنيا على أمور مستيقنة تقدح فى العدالة» ولا يبنى على أمور مفروضة» وليست حتى مظنونة.. ونرى أن هذا المذهب مادى لم يتجه إلى البواعث النفسيةء بل اتجه فقط إلى المظاهر الواقعية» وقرر الحكم بناء على الوقائع المادية» لا الأمور التى تظن أو تفرض» فهولم يلتفت إلى الباعث على السكوت ثم الكلام» إنما التفت إلى وقائع الشهادة» ووصف الشهود»ء واتجه إلى آثار حماية المجتمع على التظنن لمصلحة المتهم الظنين. /اا- هذا نظر أصحاب القول الأول الذى منع إسقاط الشهادة أو الدعوى لتقادم الجريمة» أما القول الآخر الذى منع سماع الشهادة عن جريمة قديمة» ولم يمنع سماع الإقرار بها والقضاء بمقتضاه.ء فهو يقوم على شطرين» شطر يمنع سماع الشهادة» والشطر الثانى جواز سماع الإقرارء أما الشطر الأول» وهو الذى منع سماع الشهادة. فإنه مقصور على منعها فى الزنى والشرب والسرقة» بخلاف القذف» لأنه حق العبد وإن كان مع ذلك حق الله تعالى» وحجة هذا الشطر أن التأخير جعل الشاهد متهماء وشهادة المتهم مردودة» أما الدليل على أن التأخير جعل الشاهد متهماء فلأن الشاهد مأمور أمرا فوريا بأحد أمرين» كلاهما حسبة لله تعالى عليه: أولهما : أداء الشهادة لإقامة حد الله تعالى» ومنع الفساد فى الأرض وتثبيت دعائم الفضيلة . وثانيهما : الستر عملا بقوله يََِةِّدِ «من ستر على مسلم ستره الله تعالى فى الدنيا والآخرة» ولمنع أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا بإعلان المقاضاة والخصومة, لقوله تعالى: إن الّذين يُحبُونَ أن تشيع الْفَاحشَةٌ في الّذين آمنوا لهم عَدَاب أليم في الدنيا والآخرة .2١74‏ وإن عليه أن يوازن بين أكثر الواجبين نفعا فى الشهادة التى سيؤديهاء أيكون الستر أفضل فورا لأن المرتكب ذو منزلة مشهورة بين الناس» وقد عثر فحقت إقالة عثرته» وإعلان فسقه ضياع للثقة». وتسهيل لارتكاب الجريمة لمن تسول له نفسه أن يرتكبها وهو بمنعة من العقابء أم يكون الأولى كشف الجريمة وإعلانها؛ ذلك لأن المرتكب ممن يعيثون فى الأرض فضساداء وأنه طالما فر من وجه العدالة» وأن الأولى . 5١9: سورة النور‎ )١( 1 اقتناصه بعد أن طال فراره» فالقبض على ناصيته حماية للمجتمع من شروره. هو مخير بين هذين النظرين» وهو أمين على حق الله تعالى والمجتمع فيهماء فإن أحجم فلإيثار إقالة العثرة لمن كان معروفا بالاستقامة وعثرء وإن أقدم فلحماية المجتمع من شرير أثيم» مادام انتهك الحرمات» والواجب أن يختار فوراء فإن تأخر مدة لم يكن له فيها عذر حتى تقادمت الجريمة ثم أقدم بعد ذلك كان إقدامه مظنة لإثارة عداوة أو حقد طارئ» ولآن سكوته عن أداء الواجب الفورى فى حينه قد جعله متهماء وقد صرح بذلك الفاروق عمر رضى الله عنهء فقد قال فيما رواه الإمام محمد عنه: «أيما شهود شهدوا على حد لم يشهدوا عند حضرته؛» فإنما شهدوا على ضغن فلا شهادة لهم» ولا تخلو فى الحقيقة حالهم من فسق بالتأخيرء وضغن حركهم. وإذا كانوا متهمين على هذا النحوء فإن شهادتهم مردودة» وذلك لأن النبى ككل قال: (لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين» أى متهم . وبهذا ثبتت مقدمة القياس المنطقى» وعلى ذلك تثبت النتيجةء وهى أن التقادم يمنع سماع الشهادة فى الحدود. /- بقى أن ينظر فيما سبق للشافعى رضى الله عنه من حجةء ومقدار ما فيها من قوة» حتى لقد قال: إن العدالة التتى هى أساس الشهادة أمر ثابت لا يلغى أثرها بالتهمة إلا بأمر قائم مادى ثابت» ولم يوجد التأخير ذلك الأمرء ولقد أجيب عن ذلك بأن الحدود تقام على أساس نفى أى تهمة. والتهمة هنا فى هذا المقام أثر خفى نفسى»ء والأمور الخفية النفسية لا يلغى اعتبارها فى الحدودء ويكتفى فى الدلالة على هذه الأمور النفسية بأمور ثابتة تكون مظنة وجودهاء وقد أقيمت المدة التى تقادم بها عهد الجريمة مقام ذلك الأمر النفسى فى الدلالة» وقال فى ذلك الزيلعى: والحكم يدار على كونه حقا لله تعالى؛ فلا تعتبر التهمة فى كل فرد من أفراده» إذ التهمة أمر باطن لا يوقف عليه» فيكتفى بالصورة». لأن الحد يسقط بصورة الشبهة. كما يسقط بمعناه. وبقى أيضا النظر فى القياس الذى سبق للإمام مالك والإمام الشافعى ومن قال مقالتهماء وهو أن سماع الشهادة فى حقوق العباد لا يمنع بتأخيرهاء فكذلك لا يمنع هنا بتأخيرهاء وقد أجيب عن ذلك بالمنع» فإنه لو أخر الشهادة فى حقوق العباد بعد طلب المدعى بلا عذر يعد فاسقا فلا تقبل شهادته من بعدء وبعد التسليم» فإن حقوق العباد لا تسقطها الشبهاتء بينما الحدود تدرأ بالشبهات عملا بقول النبى كلل : «ادزءوا الخدود بالشبهات ما استطعتم» ولذلك إذا تأخرت الشهادة فى السرقة سمعت لإثبات المال» لا لإقامة الحد. فإذا كانت الشهادة لم تقبل فى حق الحد بإثبات السرقة المتقادمة» لأنه حق الله تعالى» فإنها تقبل فى حق المال. ويضمنه» إذ إن التقادم يمنع الشهادة بالحد للتهمةء "4 ولا يمنع بالمال لعدم التهمةء إذ المال يثبت مع الشبهة» وكل هذا بشرط ألا يدعى الشهود ويتأخروا من غير عذرء وإلا فإنهم لا شهادة لهم . 74- بهذا نقرر أن التقادم يسقط الشهادة فى الحدود الثلاثة: الزنى والشرب والسرقة» أما الإقرار فى هذه الجرائم فإنه يثبت ويقام به الحد؛ وذلك لأن الإقرار تنتفى فيه تهمة الضغن إذ إنه يخبر عن نفسه. والمخبر عن نفسه لا يتهم فى قولهء خصوصا إذا كان يؤدى إلى تلك العقوبة القاسية. فمظنة إثارة الأمر للتهمة منتف». ويستوى فى ذلك الإقرار بالزنى أو السرقة» أو الشرب» وذلك عند الشيخين أبى حنيفة وأبى يوسف» وقال محمد: إن الشرب لا يقبل الإقرار فيه عند التقادم؟ وذلك لأن حد الشرب ليس موضع إجماع من الفقهاء إلا إذا كانت رائحة الخمرء فهو ليس منصوصا عليه فى الكتاب والسنة الصحيحة. وإنما بإجماع الصحابة» وما كان إجماعهم لينعقد وفيه خلاف عبد الله بن مسعودء وقد كان إجماعهم على شارب أتى وأثر الخمر ما زال فى فيه» أما إذا كانت آثار الخمر قد ذهبت فإنه لا يكون إجماع على إقامة الحدء. لأن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه اشترط لإقامة الحد أن يؤتى بالشارب وأثر الخمر ما زال فى فيه» وعلى ذلك يكون التقادم مانعا لإقامة الحد سواء أكان طريق ثبوته البينة أم كان طريق ثبوته الإقرارء لأن التقادم يذهب بأثر الشرب من كل الوجوه» سواء أكان الأثر رائحة أم كان الأثر سكرا( . 8- هذاء ولا يصح لنا أن نترك الكلام فى هذا الخلاف من غير أن نعرج بالتوجيه لرأى القاضى العظيم» ابن أبى ليلى؛ فإن ذلك القاضى الفقيه رأى أن الحدود تسقط بالتقادم» سواء أكان طريق ثبوتها هو البينة أم كان طريق ثبوتها هو الإقرار: وذلك لأن هذه العقوبات للانزجار» والردع» وترويع المجرمين» وذلك يكون إبان وقوعهاء وتأخيرها يذهب بمعنى الردع فيهاء ولأن المجرم مظنة أن يكون قد تاب» وإقراره لتطهير نفسه مظنة توبته» ومظنة التوبة فى ذاتها تجعل العقاب قد صادف نفسا طهرت من الذنوب» وتابت إلى الله سبحانه وتعالى توبة نصوحا. وإن ذلك القول له مكانته من الفقه. فمن المقرر أن الحد إذا تأخرت إقامته عن وقت الحكم الثابت بالشهادة فى جرائم الزنى والسرقة والشرب لا تبوز إقامته» فإذا كان التقادم فى هذه الجرائم يسقط الحد بعد وجوبه مؤكدا بالحكم» فأولى أن يسقطه قبل الحكم فى كل الأحوال» لأن الإقرار مهما تكن قوته لا يصل إلى مرتبة الحكم بعد سماع الإثبات من كل وجوهه. 20355 -١١75ص هذه الآدلة ومناقشتها استخلصناها من البدائع جلا ص57 ء. 01 » وفتح القدير ج7ا‎ )١( والتبيين ج ص188 وما يليها. 0 516 -١‏ وإن سقوط الحق بالتقادم بعد الحكم به بمقتضى الشهادة هو مذهب أبى حنيفة والصاحبين» وخالف فيه زفر ومعه الآئمة الثلاثة مالك والشافعى وأحمد رضى الله عنهم» فقد جاء فى فتح القدير والهداية ما نصه: ”ثم التقادم كما يمنع قبل الشهادة فى الابتداء يمنع الإقامة بعد القضاء عندنا خلافا لزفرء حتى لو هرب بعدما ضرب بعض الحد». ثم أخذ بعد ما تقادم الزمان لا يقام عليه الحدء وقول زفر هو قول الأئمة الثلاثة20. ففى الفقه الإسلامى إذن رأيان فى سقوط حكم الحد بعد صدوره إذا تقادم فى جرائم الزنى والشرب والسرقة. فرأى الأئمة الثلاثة ومعهم زفر أن الحد لا يسقط بتأخير إقامته مدة تعد تقادماء وحجة ذلك الرأى أن الحد إذا صدر الحكم به قد تقرر وثبت» فليس لأحد أن يؤخر أداءه» وتأخيره يعد تعطيلا لحد من حدود الله تعالى» وتجب المبادرة بوقف هذا التعطيل مهما يتقادم الزمن» فإذا جاء ولى الأمر وأمر بإقامة حد تعطل زمناء فقد أدى واجباء وما كان التعطيل وقتا - وهو إثم إذا لم يكن بعذر - مبررا للتعطيل التام» وهرب الحانى لا يعد عذرا بعد القبض عليه» وإلا لانصرفت أذهان الجناة إلى إيجاد الحيل المختلفة للفرار من غير عودة» ولسهل على الولاة الظالمين أن يسقطوا الحدود بحكم الفقهاء إذا أخروا الإقامة أمدا طال أو قصر. هذه حجة ذلك الرأى؛ أما الرأى الآخر وهو قول أبى حنيفة والصاحبين فحجته أن القضاء إمضاء للشهادة» فهو حكم مقتضاهاء أو هو فى حقيقته تنفيذ لمضمونهاء ولكن لا يتولى الشهود التنفيذ فى هذه الحدود وغيرهاء» إنما يتولاها ولى الأمرء كأن هناك إنابتين من المجتمع» أو من الله تعالى على حد تعبير الفقهاء - إنابة الشهود فى رفع الدعوى وهى شهادة الحسبة» والقيام بأدائها بين يدى القضاء. وإنابة ولى الأمر فى تنفيذ هذه الشهادة المحتسبة لوجه الله تعالى العزيز القدير» ولمصلحة المجتمع ودرء الفساد عنه» وهاتان الإنابتان متلازمتان لا تنفصل إحداهما عن الأخرى» إذ الثانية متممة للأولى» أو هى تنفيذ لهاء لذلك كان ارتباطهما وثيقا. وكما أن الشهادة لا تقبل إذا تقادم زمن الجريمة» فكذلك إقامة الحد الذى هو متمم أو منفذ لهاء فلا يقام إذا تقادمت الجريمة» والدليل على أن الصلة ما زالت مستمرة بين الشهادة والحكم أنه إذا خرج الشهود قبل إقامة الحد عن الصلاحية لأداء الشهادة لا يقام الحدء فإذا تبين فسقهم لا يقام الحدء وإذا عرض لهم ما يجعل شهادتهم فى المستقبل غير مقبولة لا يقام المحدء فلو عمى أحدهم بعد إبصار لا يقام الحد» ولو ارتد أحدهم بعد إيمان لا يقامالحدء فدل هذا على 22 فتح القدير ج 4 ص١١‏ 8 55 الارتباط الوثيق بين الشهادة وإقامة الحدء وأنه مستمر لا ينتقطعء وإذا كان تقادم الجريمة يمنع سماع الشهادة فيهاء ثم يمنع الحكم» فهو أيضا يمنع إقامة الحد لهذه الصلة التى تربط الحكم بالشهادة . وخلاصة الدليل أن التقادم كما منع سماع الشهادة يمنع تنفيذ أثرهاء وهو إقامة الحد. ولقد قال فى نقد هذا الدليل كمال الدين بن الهمام ما نصه: «قد يقال: لو سلم ترجيح هذا لقلنا: إن التقادم إنما يبطل فى ابتداء الأداء للتهمة» وقد وجدت الشهادة بلا تقادم» ووقعت صحيحة موجبة» فاتفاق تقادم المسبب بلا توان منهما لا يبطل الأمر الواقع صحيحا(". هذا اعتراض ابن الهمام على هذا الدليل. وأساسه أن التقادم منع سماع الشهادة لتهمة التأخير من الشهودء وبأدائهم فى الميقات قد زال موجب المنع ولا تقادم بعد الإثبات», فكيف يلتفت إليه بعد الثبوت» وقد زالت علة المنع» وهى التهمة» فلا معنى لأن يثبت التقادم فى موضع لا علة فيه تجعل له الصحيح غير صحاحيح ٠‏ وعندى أن هذا الاعتراض وارد على ما استدل فقهاء الحنفية» ولعل الأولى أن نقول: إن التأخير عن التنفيذ يكون مظنة توبة المرتكب» والحكم فى ذاته فيه زجر. والناس ينزجرون بصدوره» وما يريد الله تعالى عذاب عبيده» ولكن إصلاح قلوبهم وتطهير ممجتمعه» وتكوين رأى عام فاضل » ولعلهم قاسوا حال التقادم فى التنفيذ بحال رجوع المقر عن إقراره بعد الحكم عليه» فإنه من المقرر أن المقر إذا رجع فى إقراره قبل التنفيذ لا ينفذ. وقد روى أن ماعزا عندما أريد تنفيذ الحكم عليه أراد أن يهرب فقبضوا عليه لينفذواء فبلغ ذلك النبى كي فلامهم أن لم يمكنوه من الفرار لأن هربه معناه الرجوع. وأنه لا فرق بين من يفر من جريمة ثبتت بشهود» ومن يفر من جرية ثبتت بإقرار. 87- والتقادم المعتبر لم يذكر أبو حنيفة له مدة بل ترك تقديره للحاكم يقدره بالقدر الذى يراه معتبرا فى تقدير الأعذار ومدى تأثيرها فى المدة التى تعتبر فيها الجريمة قد تقادمت» ولا تسمع معها الشهادة فى الجرائم الثلاث السابقة» ولقد قال أبو يوسف عن شيخه: جهدنا بأبى حنيفة أن يقدره لناء فلم يقبل» وفوضه إلى رأى القاضى فى كل عصرء فما يراه بعد مجانبة الهوى تفريطا تقادم. ومالا يعد تفريطا لا يعد تقادماء وأحوال الشهود والناس والعرف تختلف فى ذلك» فيوقف )١(‏ الكتاب المذكور. 51/ الأمر على نظر كل واقعة فيها تأخير» والوقائع تختلف» والبلدان تختلف أعرافها وأحوالهاء فكان التقدير متعذراء فيترك الأمر للقاضى » ولآن التأخير قد يكون لعذرء والأعذار مختلفة» والقاضى هو الذى يقدر الأعذار. فهو الذى يقدر التقادم. هذه رواية عن أبى حنيفة عليه الرحمة» وكون أبى حنيفة على هذه الرواية لم يقدر المدة فقها لا يمنع ولى الأمر أن يقدرها نظاماء فالفقه لا يقدر المقادير إلا ما يكون فيها نصء أو قياس على نصء ولا نص فى الموضوعء أما الأمور التى تبنى على العرف فإن أمر التقدير فيها يوكل إلى القاضى ولولى الأمر. أن يعين القاضى المدة التى يراهاء ملاحظا فى تقديرها ملابسات الأحوال وشئون الزمان» وأعراف الناس . القول الثانى : أن مدة التقادم تكون ستة أشهر. وقد ذكر ذلك القول الكمال فى الفتح» فقد جاء فيه عن الهداية: اختلفوا فى حد التقادم» وأشار محمد فى الجامع الصغير إلى أنه ستة أشهرء حيث قال: شهدوا بعد حين» وقد جعلوه عند عدم النية ستة أشهر على ما تقدم فى الأيمان20. ويستفاد من هذا النص أن المدة التى يسقط بها الحدء هى ستة أشهرء ولكنها عرفت من كتب المذهب بالإشارة لا بالنص» لأن كلمة حين تطلق فى عبارتهم على ستة أشهرء وأخحذوا ذلك من أن الحالف إذا حلف على الامتناع من الأمر حينا من الزمن انصرف إلى ستة أشهر فقط ونحن قد نخالف صاحب الهداية وكمال الدين بن الهمام فى هذا الفهم ؛ وذلك لذن الحين فى ذاته كلمة مبهمة يفسرها غرض الحالف الذى يدل عليه اللفظ إذا كان له غرض واضح بين» وإن لم يكن له غرض واضح بين فسرت بستة أشهرء وهنا يوجد دليل على الغرض الواضح البين» وهو تصريحه بعد ذلك بمذة أخرى فى الكتب التى كتبهاء وروى بها المذهب الحنفى رواية صادقة, وتلك المدة هى ما سنبينه فى القول الثالثك. وسواء أصحت نسبة هذا القول إلى محمد بهذا التعبير الذى ذكر فى الجامع الصغير أم لم تصح» فمن المؤكد أن هذا قول فى المذهبء» وأنه قول يعتبر له وجه أشار إليه الطحاوى فى مختصره. وعبارة الزيلعى تفيد أنه صحيح فى ذاته . القول الشالث : أن المدة التى يعتبر مرورها تقادما هى شهرء فما دونه عاجل » وقالوا: إن هذا القول روى عن محمد وأنه قول أبى يوسف » ورواية عن أبى حنيفة غير الرواية التى ذكرناها آنفاء وحجته أن الشهر هو فرق ما بين العاجل . فتح القدير ج؛ ص74١ طبع الأميرية‎ )١( 54 والآجل» ولذا لو حلف الشخص أن يؤدى دينه عاجلاء وجب أن يؤديه فى أقل من شهرء وهذا القول هو الأصح فى المذهب» ونسبته إلى أبى حنيفة مذكورة معروفة» فقد روى عن أبى حنيفة قال: «لو سأل القاضى الشهود متى زنى فقالوا: منذ أقل من شهر أقيم الحد» وإن قالوا: منذ شهر درئ عنه الحد» قال أبو العباس الناطفى : فقدره على هذه الرواية بشهر وهو قول أبى يوسف ومحمدل7١".‏ - وهذا التقادم الذى اختلف فيه ذلك الاختلاف هو التقادم الخاص بحد الزنى» وحد السرقة» أما التقادم الخاص بحد الشرب فقد اختلف فيه أئمة المذهمب الحنفى فقال الإمام محمد إنه مضى شهر كالحدين الآخرين» لأن سبب السقوط بالتقادم فيه هو السبب فى السقوط فيهما. وهو مظنة الضغن فى الشهادة بعد المدة الطويلة» فيكون له ؤلهما واحدا. وقال الشيخان أبو حنيفة وأبو يوسف: إن التقادم فى حد الشرب يثبت بذهاب الرائحة؛ وذلك لأنه لم يشبت بالكتاب» وإنما ثبت بالإجماعء والإجماع الذى ثبت فيه هو فى حال ما إذا أخذ الشارب وهو سكران أو رائحة الخمر تنبعث من فيه» فإن لم يكن فى هذه الحال فإن الحد يسقط. أو بالأحرى لا يثبت. وفى الحق» إن مؤدى هذا الكلام أن الحد لا يوجد موجبهء لأن موجبه الذى ثبت مقترنا به مصاحبا له هو أن يساق إلى مجلس الحكم والرائحة منبعثة منه. وبذلك لا يتأتى تعجيل أو تأجيل بالنسبة لحد الشرب» بل هو بطبيعته لا يوجب حدا إلا إذا كان فور الارتكاب لا يتأخر عنه. 5- هذاء ويلاحظ أن القول الذى يجعل التقادم بشهر أو نحوه» يسقط مدة الأعذارء يقرر أنه إذا كان تأخير الشهادة لمرض أو سفر طويل أو نحو ذلك فإن التأخير لا يعد مسوغا لمنع سماع الدعوى» فإذا كانت الواقعة التى ارتكيت فيها الجريمة ناتية عن المصر الذى يكون فيه القضاء» ولم يستطيعوا الوصول إليه إلا بعد أمد لا تحتسب فيه مدة السفر من ملة التقادم» وكذلك إن كان لمرتكبى الحد قوة منعت الشهود من أداء شهادة الحسبة مدة طالت أو قصرت؛». فإن هذا يعد عذرا ويقدره القضاء فهو الذى يقدر هذه الأعذار» ويعرف أكان هذا التأخير بعذر أم بغير عذر. وإن التأخير بعذر لا يمنع”التقادم لأن السبب هو مظنة التهمة» والحدود تدرا بالشبهات» ومع قيام العذر قد انتفت التهمة انتفاء تاماء فييقى الإثبات سليماء والدعوى واضحة. . ١56 الكتاب المذكور ص‎ )١( 54 85- هذلكء والتقادم لا أثر له فى حد القذف» وذلك لأنه حق العبد» أو للعبد فيه حق واضحء على مذهب أبى حنيفة وجمهور الفقهاء خلافا للشافعى الذى قرر أنه حق خالص للعبد» وإن التقادم فى حقوق العباد لا يسقط الدعوى» كما رأينا فى حد السرقة من حيث إن سقوط الدعوى كان بالنسبة للعقوبة» ولم يكن بالنسبة للمال» ولذا تسمع الشهادة مع التقادم بالنسبة للمال. وبالنسبة للقذف ليس حق العبد فى المال» وإنما حقه فى سلامة عرضه. ونفى التهمة عن نفسه» وإن ذلك لا يؤثر فيه التقادم» ولأنه لابد -فيه من الد_عوى» وتأخير الشهود يكون لتأدخير الدعوى فلا يتهمون» فالإثبات يكون سليما مع التأخير» وما دام الإثبات سليما فقيام الحد واجب» إذا انتفت كل الشبهات» وإذا تأخر الشهود بعد الدعوى بأن دعوا لسماع شهادتهم فلم يستجيبوا من غير عذر مقبولء» ثم بعد ذلك حضروا ليؤدوا الشهادة» فإنه حينئذ تكون مظنة التتهمة» وأن الذى حركهم هو الضغنء» وتلك شبهة يسقط بها الحدء أو بالأحرى لا يثبت معها الحد. /41- ويلاحظ أن تأخير إقامة الحد فى السرقة والزنى والشرب يسقطهاء ولو بعد ثبوتها؛ وذلك لأن هذه الحدود _عقوبات زاجرة رادمعة» ولا يكون لها أثرها إلا فور وقوعهاء وكل تأخير ينسى الناس أمرهاء ولا يصح أن يذكروا بهاء ولأن المرتكب تكون عنده مظنة التوبة» وباب التوبة مفتوح لكل مؤمن» وخير للمجتمع أن يصلح المجرم من أن يعاقب» ويستمر أعسوجء ولأآن الستر الذى يصحب عام إقامة الحد قد يجديه» ولما ذكر أن النبى مَللِْةِ قد لام الذين لم يتركوا من قرر عليه الحد أن يفرء ولأنه إذا كان الرجوع فى الإقرار مسقطا للحدء فأولى له أن يكون التقادم مسقطا له أيضا. وهذا كله لا يستقيم فى حد القذف لما فيه من حق ثابت للعبد تعلق بذات إقامة الحد لا بشىء آخر» فلم يكن حد القذف كحد السرقة من حيث تعلق حق العبد به إذ السرقة حق العبد فيها تعلق بالمال» وحق الله أو المجتمع تعلق بالحد ذاته. أما حد القذف فكلا الحقين تعلق بحد القذف نفسه.ء فلا يمكن انفصال حق العبد عن حد القذف فتعلق به» فكان غير قابل للمنع بتقادم الإثبات ولا للإسقاط لتقادم التنفيذ بعد الحكم. التقادم فى القوانين الوضعية : 64 للتقادم أثر فى الدعوى بالنسية للجرائم من حيث الادعاء ومن حيث السقوط بعد الإثبات» فهو يؤثر فى دعوى الجريمة ويؤثر فى عقوبتهاء ويسندون سقوط دعوى الجريمة إلى النسيان» أى نسيان الناس لهاء ويلاحظون أن المحاكمة وما تثيره من شأنه أن يذكر الناس بهاء وليست أمرا مستحسنا يجوز التذكير به. ولذلك ١0 قررت مدة تسقط بعدها الدعوى بالتقادم» وقد نصت المادة الخامسة عشرة من قانون الإجراءات الجنائية على أنه تنقضى مدة الدعوى فى مواد الجنايات بمضى عشر سنين من يوم وقوع امجريمة؛ وفى مواد الجنح بمضى ثلاث سنين» وفى مواد المخالفات بمضى سنة7١)‏ وهنا نجد تلاقيا ونجد افتراقا بين القانون الوضعى وشريعة القرآن الكريم. أما التلاقى فينحصر فى أن شريعة القرآن الكريم اعتبرت مدة يتقادم فيها الحد بالنسبة لحق الله تعالى» أو بالتعبير العصرى لحق المجتمع» وأن شهادة الحسبة التى تقوم مقام الدعوى العامة لا تسمع بعد تلك المدة. ولكنهما يفترقان فى ثلاثة أمور: أولها : أن القانون الوضعى يعتبر التقادم مسقطا للجريمة فى كل الجرائم سواء أكانت جرائم اعتداء على المجتمع أم كانت اعتداء على الاحاد من الناس» والسقوط بالتقادم كما رأيت فى الحدود التى لا يتصل بإقامة الحد فيها حق العبد» ولذلك لا أثر للتقادم فى حد القذف» إنما التقادم له أثره فى جريمة السرقة والزنى والشرب. ثانيها : أن عبارات القانونيين تفيد أنه تعتبر الجريمة ساقطة بالتقادم» فلا توجد جريمة قط ولا دعوى ولا حساب ولا عقابء» ولكن الشريعة لا تسقط الجريمة ذاتهاء ولكن لا تسمع الدعوى لإقامة الحدء ولذلك لو جاء شهود أربعة» وشهدوا على رجل بالزنى» ثم تبين أن المدة المقررة للتقادم قد مضت لا يحدون حد القذف» وهذا دليل على أن الجريمة لم تسقطء وإنما لم يترتب عليها آثارهاء إذ لو كانت قد سقطت وكان الشخص بريئا لحدوا حد القذف باعتبارهم رموا بريئا محصنا. وفوق ذلك فإن عدم ترتب الحد فى الجريمة التى توجب حدذا لا يسقط العقاب نهائيا. بل قد يحل محل الحد تعزير. وفى الحقء إن الشريعة - لأنها قانون ودين - نظرت إلى سقوط العقوية الشديدة ولم تن تنظر إلى ذات الجريمة» وكان الحساب عسيرا يوم القيامة» أما القانون الوضعى فلأنه قانون لا صلة له بالدين» فقد اعتبر الجريمة والعقوية والدعوى بها أمورا ثلاثة متلازمة فإذا سقطت الدعوى فإن الجريمة تسقط معها لا محالة» إذ لآ معنى لجريمة لا تسمع الدعوى بالعقوبة فيهاء إذ الجزاء جزء من اعتبار الفعل جريمة فى حكم القانون. )١(‏ شرح قانون العقوبات للأستاذ الدكتور محمود مصطفى ص 574 والأحكام العامة فى قانون العقوبات للأستاذ الدكتور السعيد مصطفى السعيد ص ل/ا"لا . الا الثها : أن المدد فى القانون طويلة عنها فى الشريعة» فالقانون اعتبرها فى الجنايات عشر سنين» وفى الجنح ثلاثاء وفى المخالفة واحدة» ولم يصل أى تقدير للفقهاء إلى هذا الحدء فأقصى تقدير للتقادم هو ستة أشهر على ما نسب إلى الإمام محمد من أنه أشار إليه فى الجامع كما ذكر من قبل . والسيب فى ذلك أن الجرائم التى يمنع التقادم فيها سماع الدعوى أو الشهادة فيها فى الشريعة جرائم محدودة ثلاثة تتعلق كلها بالنظام العام» وقد استثناها الفقهاء الذين استثنوها لما فيها من شدة واضحةء أو لأنها تسقط بالشبهات» ولخلوها عن حقوق العباد التى تجهب صيانتها . أما القانون فلأنه عمم السقوط بالتقادم أطال المددء وجعلها تابعة لمقدار الجريمة فالأشد مدة التقادم فيه أطول» وما دونه مدة التقادم فيه أقل» فكان سائرا مع منطقه . 4- هذا ما يتعلق بأثر التقادم فى الدعوى أو بالجريمة» أما أثرها فى العقوبة بعد ثبوتها فقد أثبته القانون فى كل أنواع العقوبات كما أسلفنا. وجعل مدة التقادم أطول من التقادم المانع من إقامة الدعوى» فجعل المدة المسقطة لعقوبة الإعدام ثلاثين سنة» والمسقطة لعقوبة سائر الجنايات عشرين سنة» والمسقطة لعقوبة الجنحة خمس سنين. والمسقطة لعقوية المخالفة سنتين» وفى تقدير إسقاط عقوية الإعدام بمضى ثلاثين عاما معنى جيدء إذ بذلك يكون النسيان التام بذهاب الجيل الذى حدثت فيه الجريمة غالباء فيكون قد نسى القاتل والمقتول عند الناس» وإن كان غيظ أهله وأسرته لا يذهب فى كثير من الأحوال» بل يكون الألم مذكرا دائما. ونجد التلاقى أيضا بين الثلاثة حدود الزنى والسرقة والشرب بالتقادم بعد ثبوتهاء ولكن يفترق الأمر بالنسبة لمقدار المدة» وبالنسبة لعموم العقاب فى القانون المدة» وليس كل عقاب فى الشريعة قابلا للسقوط بمضى المدة» بل لا يسقط إلا عقاب محدود فى أضيق دائرة. 6- هذا ما قرره الفقهاء بالنسبة للجرائم التى كانت عقوبتها حدا مقدرا فى الشريعة الإسلامية» وتفاوتها من حيث اتصالها بالمجتمع وثبوت الحق الشخصى فيهاء وقد ظهر ذلك فى الخصومة فى الدعوى وإثبات الدعوىء» وأثر التقادم فى الجريمة والعقاب» وقد اضطررنا أن نتجاوز الكلام فى الجريمة. ونمس مسا خحميفا العقوبة بمقدار ما يوضح قوة الجريمة» وقوة الحق الشخصى بالنسبة للحق العام وإن ما دفعنا إلى ذلك هو ما بين العقوبة والجريمة من تلازم فى هذه المعانى التى تصدينا لبيانها بالإجمال. وإن لم يكن ذلك بالتفصيل» فالفصل بين المتلازمين عند البيان عسير» مهما تكن قوة التقسيم والإفراد. فى #- أثر عفو المجنى عليه فى الحدود -0١‏ قلنا: إن الحدود مهما يكن للعيد من حق شخصى فيهاء ففى جرائمها اعتداء على حق الله تعالى» أو حق المجتمع كما نعبر فى عصرناء وإنه لهذا المعنى 2 سبحانه بيان العقاب فى كتابه الحكيمء أو على لسان رسوله الأمين» وبمقدار هو الشأن م فى جريمة الزنى» وجريمة الشرب» فإن لمجنى عليه فيهما هو المجتمع» ولا مجنى عليه فى الحقيقة سوا إلا إذا كان إكراه» أو مأ يشبهه. وتكون هناك عقوبة على الإكراه فوق الحدء وعقوبة الإكراه من باب التعزير الذى ترك لولى الأمر تقديره» ولذلك نترك الكلام فى هذا الجزء إلى التعزير» فإن لذلك موضعه. الأول اعتدى على ماله والثانى اعتدى على سمعته وكرامته» واعتباره بين الناس» فهاتان الجريمتان يتصور فيهما العفو. والعفو قبل الترافع إلى القضاء يجوز بالاتفاق بالنسبة للسرقة» وإذا كان الشفاعة لدى , المجنى عليه قبل الترافع فيهاء » ليكون العفو منه؛ عملا بقوله تعالى : (خد الْعَفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين +433 "١74‏ ولأنه من قبيل الستر» وستر الجرائم مستحسن دائماً فى الإسلام» لأن الجريمة المعلنة تدعو فى ثناياها إلى الجريمة وسبب لإشاعة نوعهاء ولأن التسامح مع الجانى قد يؤدى إلى توبته» وتأليف نفسه وإذا كان ممن تعودوا السرقة» وهو كالكلب المسعور» تركه قد يزيده سعاراء يفعل ذلك» وأن يسن عقابا لهؤلاء الذين لا يأمن معهم الناس على أموالهم أو تعودوا أن يلوكوا الأعراض بألسنتهم . وعلى ذلك نقول: إن العفو فى جرية السرقة قبل الترافع لا يزيل الخريمة» ولكن يمنع إقامة الحد فقطء وربما لا ينجو الجانى من عقوبة التعزير إذا سن ولى الأمر عقوبة لمن اعتادوا السرقة» ومثل السرقة القذف فى الحملة. ؟4- هذا هو العفو قبل الترافع. أما العفو بعد الترافع» وقبل الإثبات )23 سورة الأعراف .١158:‏ قف فكذلك أيضاء وموضع النظر هو العفو بعد حكم القاضى وقبل إقامة الحدء أله أثر فى العقوبة أم ليس له أثر من حيث الجانب الشخصىء لقد قرر الفقهاء أنه لا أثر للعفو فى جرية الزنى والشرب والسرقة» على أرجح الأقوال» وذلك لأن حد الزنى والشرب حق خالص لله تعالى» والسرقة وإن كان للعبد حق فهو فى المال لا يتجاوزه» وبعد ثبوت السرقة والخصومة يصبح الحد حقا خالصا لله تعالى» فلا يملك أحد إسقاطه. ويمكن إسقاط الحدء لا بالعفوء ولكن من جانب امال بأن بملّكه المال الذى وجب الحد من أجله. وهذا رأى الحنفية» ورأى غيرهم أن التمليك لا يسقط الحد» وقد شرح ذلك المغنى فقال: إن السارق إذا ملك العين المسروقة بهبة أو بيع أو غيرهما من أسباب الملك لم يخل من أن يملكها قبل رفعه إلى الحاكم والمطالبة بها عنده» أو بعد ذلك» فإن ملكها قبله لم يجب القطع» لأن من شروطه المطالبة بالمسروق» وبعد زوال ملكه له لا تصح المطالبة» وإن ملكها بعده.لم يسقط القطع. وبهذا قال مالك والشافعى» وإسحاق» وقال أصحاب الرأي: يسقطء لأنها صارت ملكهء فلا يقطع فى عين هى ملكهء كما لو ملكها قبل المطالبة بهاء ولآن المطالبة شرط» والشروط يعتبر دوامهاء ولم يبق لهذا العين مطالب. ولنا ما روى الزهرى عن ابن صفوان عن أبيه أنه نام فى المسجدء وتوسد رداءه. فأخذ من تحت رأسه. فجاء بسارقه إلى النبى وَكِْةٌ فأمر به النبى يَكِ أن يقطع. فقال صفوان: يا رسول الله لم أرد هذاء ردائى عليه صدقةء فقال رسول الله كلكِّ: «فهلا قبل أن تأتينى) . ونرى من هذا أن هبة المسروق أو بيعه يسقط الحد عند الحنفية» ولا يسقطه عند جمهور الفسقهاء. ومثل هبة العين أو تمليكها بشكل عامء الإقرار من المسروق منه للسارق بملكية العين» وهذا يسقط الحد باتفاق الفقهاءء ونرى من هذا أن المسروق منه لا يستطيع أن يعفو عن الحد» ولكنه يستطيع إسقاط الحد من ناحية حقه فى المال» بأن يملك السارق ما سرقء أو يقر له بالمسروق» ويكون فى هذا قد استعمل حقه الشخصى . ولكن أهذا التمليك يسقط الجريمة ذاتهاء أم يسقط الحد لقيام الشبهة» إنه بلا شك فى حال الإقرار يجب بحكم منطق الإقرار وصدقهء وعدم قيام دليل على كذبه تسقط الجريعة. لأن ركن ا جريعة لم يتم فانهار الأساس الذى قامت عليه» وهو أخذ مال الغير» ولكن يرد على ذلك أنه سبق أن طالب بإقامة الحد» بناء على وقوع الجريمة» فنقول: إنه تناقض من المسروق منه يمكن التوفيق فيه بأن لم يكن يعلم ثم علم كأن يكون قد اشترى هذا المسروق من شخص ثم تبين أن من باعه له قد اغتصبه من الشخص الذى اتهم بالسرقة. :/”ى وأما الهبة والتمليك بشكل عام فقد قالوا إنه لا يسقط الجريمة» ولكنه قد فقد شرط الترافع» لأن الترافع كما هو شرط للابتداء فهو شرط بقاءء وإن التمليك يمنع من المطالبة» وكذلك الضمان. وإنه بمقتضى هذا المنطق كان يجب اعتبار العفوء لأن العفو فى ذاته ليس إلا امتناعا عن المطالبة بإقامة الحد. 77 - هذا بالنسبة لجريمة السرقة,أما جريمة القذف فقد قرر فقهاء الحنفية أنه لا يجوز العفو بعد ثبوته بالحجة وصدور الحكم بهء» وكذلك لا يجوز العفو قبل الحكم إذا كان العفو على مال» لأنه رشوة فى الحدود فلا تجوز. وخالف الشافعى فى الحالين» فقرر جواز العفو فيه قبل الحكم بإطلاق» وبعد الحكمء والأساس عند الشافعى أن حد القذف حق خالص للعبد. أو احق العبد فيه غالب» وحجته أن سبب وجوب هذا الحد هو القذفء والقذف جناية على عرض المقذوف بالتعرض له» وعرضه حقه. والحد بدل حقهء وله أن يعفو عنهء بدليل أن بدل نفسه يقبل العفو وهو القصاص فى العمدء والدية فى الخطأل ويرشح لذلك أن حد القذف لا ب* يثبت إلا بالدعوى». والدعوى لا تشترط فى حقوق الله تعالى» هذه وجهة نظر الشافعى» وقد وضح الكاسانى فى البدائع وجهة نظر الحنفية فى كلام قيم نلقلهء لأنه يبين فى الجملة مقاصد الشارع الإسلامى فى الحدود. «إن الحدود وجبت للمصالح العامة» وهى دفع فساد يرجع إليهمء ويقع حصول الصيانة لهم» فحد الزنى وجب لصيانة الأبضاع عن التعرض. وحد السرقة وقطع الطريق وجب لصيانة الأموال والأنفس» وحد الشرب وجب لصيانة الأنفس والأموال والأبضاع فى الحقيقة بصيانة العقول عن الزوال والاستتار بالسكرء وكل جناية يرجع فسادها إلى العامة» ومنفعة جزائها يعود إلى العامةء يكون الجزاء الواجب فيها حق الله تعالى عز شأنه على الخلوصء تأكيدا للنفع والدفع كيلا يسقط بإسقاط العبد» وهو معنى نسبة هذه الحقوق إلى اللّه تبارك وتعالى» وهذا المعنى موجود فى حد القذف» لأن مصلحة الصيانة ودفع الفساد تحصل للعامة بإقامة هذا الحد فكان حق الله تعالى عز شأنه على الخلوص كسائر الحدودء إلا أن الشرع شرط فيه الدعوى من المقذوف» وهذا لا ينفى كونه حقا لله عز شأنه على الخلوص كحد السرقة. لا ينفى أنه خالص حق الله تعالى عز شأنه اشتراط الدعوى فيهء ولأن المقذوف يطالب القاذف ظاهرا وغالبا دفعا للعار عن نفسه. فيحصل ما هو المقصود من شرع الحدء ولآن حقوق العباد تجب بطريق المماثلة» إما صورة ومعنىء, وإما معنى لا صورة» لأنها تجب بمقابلة المحل جبراء 73” والجبر لا يحصل إلا بالمثل» ولا مماثلة بين الحد والقذف لا صورة ولا معنى» فلا يكون حقه.ء وأما حقوق الله سبحانه وتعالى فلا تعتبر فيها المماثلة» لأنها تجب جزاء للفعل كسائر الحدود». 4- هذه عبارات قيمة نقلناها مع طولهاء لأنها تشير إلى معنى كون العقوبة حقا لله تعالى» وأن الملاحظ فيها هو أن تكون غير قابلة للدفع» وممحضة للنفع» وأن تكون فيها حماية للمصلحة بدفع الفساد الذى يكون فى جرائم الحدودء وأن تمحضها للنفع» وعدم قابليتها للدفع يوجبان ألا يكون للعبد فيها حق العفو. والعبارات تشير إلى فلسفة العقوبة فى الإسلام» وهى أن العقوبة بالنسبة لحقوق العبادء أو بالتعبير الأدق بالنسبة للجرائم التى يكون فيها الاعتداء شخصيا تكون العقوبة ملاحظا فيها المماثلة بين الجريمة وجزائها لأنها بطريق المقابلة» بين أثر الجريمة على الشخصء وأثر العقاب على الجانى» وتعويض محل الجريمة» أما العقوبة التى يكون فيها الاعتداء عاما فإن محل العقاب جزاء على الفعل نفسههء وينظر فى الفعل إلى مقدار أثره على نفوس العامة» وأموالهم وأعراضهم وعقولهم» هذه إشارة» ولها موضوعها من البيان عند الكلام فى نظرية العقاب فى الفقه الإسلامى . قطع الطريق 0 5- هذه إحدى الجرائم التى تكون عقوبتها حدا من حدود الله سبحانه وتعالى» وهى فى حقيقتها تتلاقى فيها جرائم ثلاث مزدوجة» يبنى بعضها على بعض » فهى تتضمن فى جملتها معنى من معانى التمرد على الولاية العامة والمجاهمرة بالإجرام » وتتضمن جريمة ثأنية» وهى الاتفاق الجنائى ) فهى عمل مشترك مبنى على اتفاق وتعاون على الإثم والعدوان. فذات الاتفاق الآثم جريمة منفردة ما دام قد اقترن به ما يدل على التنفيذ» وإن فات التنفيذ بأمر لم يكن فى حسبانهم» كما نظر إلى ذلك الإمام مالك رضى الله عنه» وفيها جرائم أخرى ثلاث فوق هاتين الجريمتين المحدودتين» وهى جرائم القتل وسلب الأموال» وقد يكون فيها هتك للأعراض. وإن هذا التعددء والتشعب فى هذه الجريمة التى جعل الشارع الإسلامى عقوبتها حدا من حدود الله هو أقصى الحدودء وأعنفها وأزجرها - كان لها “"خطرهاء ولابد من عقد باب خاص بهاء ولكن شرح الجريمة فى ذاتها لا ينفصل عن شرح عقوبتها؛ فهما متلازمتان» ولذلك نؤجل الكلام فى هذه الجريمة إلى موضع آخر من القول إن شاء الله . كلا 7- ولكن يجب أن نقرر هنا أمرين - لابد من بيانهما فى هذا المقام»؛ وهو بيان مقدار اتصال الجريمة بالاعتداء على العامةء ونحن لا نشرح فى هذا الموضع إلا هذا الجزء. أحدهما : أن هذه الجرائم لا تثبت بترافع» لآنها قوة تناهض قوة السلطان» فالسلطان هو الذى يتولى القبض عليهمء وتسليمهم إلى القضاءء والقضاء يتولى الإثبات» ويعاونه صاحب الحسبة ومتوليها الذى يعمل على منع الجرائم قبل وقوعها مستعينا فى ذلك بصاحب الشرطة» والقاضى يتحرى ويستمع إلى الشهود والمجنى عليهم: ثم يقضىء ولا تجرى فيها خصومة؛ كما لا يسوغ فيها عفو إلا فى موضعه وفى حال معيئة. الأمر الثانى : أن هذه الجريمة لأنها تتضمن الاتفاق على الإجرام» وقد يقع الإجرام بالفعل» ولذلك فتح الشارع فيها باب التوبة قبل القدرة عليهم» فإن تابوا ونقضوا ما بينهم من اتفاق قبل أن يتغلب ولى الأمر عليهم فإن الجريمة الخاصة بالاتفاق تنتهى؛ وذلك لأنها جريمة مستمرة» تنتهى بالنقضء والاستقالة من هذا الاتفاق الآثم المحرمء ولكن قد يكون الإجرام قد وقع بالفعل» » فيكونون قد قتلواء أو يكونون قد سرقوا أو اغتصبوا فهل تَجب التوبة هذه الجرا كم؟ هنا يفصل الفقهاء بين حق الشرع أو الحق العام» والحق الشخصىء أو الحق العام الذى لم يصل فى عمومه وقوته مثل قطع الطريق» فإذا تابوا من غير أن يرتكبوا أى جرهة مما اتفقوا عليه» فإن الحد الذى قرره الشارع لهذه الجريمة لا ب؟ يثبت» لأن الله تعالى استثنى من إقامة الحد حال التوية» ولا جريمة إلا فى الاتفاق أو الخروج» لا ارتكاب ما ارتكبواء» وذلك قد انتهىء فا جريمة فى الحقيقة قد انتهت». لأنه من المقررات الشرعية أن من هم بسيئة فلم يفعلها لم يكتب له شىء. وهؤلاء من هذا الصنف قد هموا بسيئة فلم يفعلوهاء فلا يكتب لهم شىء . ولا يحاسبون على شىء. وإذا كانوا قد ارتكبوا , بعض الجرائم» كقتل أو جرح أو سرقة فإنهم يعاقبون على ما ارتكبواء وحد قطع الطريق يسقط عنهمء فإن كانوا قد قتلوا فالقصاص» أو الدية إذا لم تكن شروط القصاص قد استوفيت» وإن كانوا قد سرقواء أقيم حد السرقة إن استوفيت شروطه» وقامت أركان جريمة السرقة الموجبة له. . وهكذا تنتقل العقوبة من عقوبة على قطع الطريق إلى عقوبة على جرائم فردية» ١‏ جرائم اتفاقية . وستفرد بابا خخاصا لهذه الجريمة عندما نتكلم عن الجرائم التى لها صفة العموم, بالجرائم الآحادية» ولها فى بابها فضل بيان إن شاء أ الله تعالى» فإن 572 الإسلام قد سلك فيها طريقاء وسن فيها عقاباء» لو أخذ به لقضى على عصابات اللصوص الذين يهددون الحكومات فى أرقى البلاد عمراناء وأقواها فى الأرض سلطانا . جراتم القصاص /ا- هذه هى الجرائم التى قدر فيها قصاص» وإن شثت الدقة فإن كل العقوبات الإسلامية غير الحدود - القصاص ملاحظ فيهاء بيد أن ثمة قصاصا قدره الشارع بالنص» وقصاصا آخر لم يقدره الشارع. بل ترك تقديره لولى الأمرء وإن ذلك موضعه الكلام فى العقوبة بعون الله تعالى وتوفيقه عز شأنه» وجلت حكمته. والقصاص الذى نقصده ليس هو القصاص المادى بأن يكون بالقود فى القتل» وبالمماثلة العامة فى الاعتداء على الأطراف» إنما الذى نقصده من القصاص هو ما يكون أعم من ذلكء. فإن القصاص فى العقوبات على الجرائم كضمان المتلفات» فكما أن ضمان المتلفات قد يكون بمثلها فى الأسواق» قد يكون بقيمتهاء وهى المثل المعنوى للمال» إذ هو مقدار ماليته» فهى تعويض بالمثل معنى . كذلك القصاص قد قسمه الفقهاء إلى قسمين؛: قصاص صورة ومعنى وقصاص معنى فقط» فالقصاص صورة ومعنى» هو أن ينزل بالجانى من العقوبة المادية مثل ما أنزل بالمجنى عليه وهذا هو المعنى الواضح الظاهر من النصوص الأصلية للكتاب والسنة» وهو اللأصل فى القتصاصء. وهو الذى يتبادر إلى الذهن عند ذكر كلمة القصاص . والقصاص معنى : هو دية ما أتلف بالجناية» وأرش الجناية» وهو العقوبة المالية على الاعتداء على الجسم بالجرح والشجء وذلك قصاص معنوى» ولا يتجه إليه إلا إذا تعذر القصاص الأصلىء إما لأنه غير ممكن فى ذاته كجرح لا يمكن المماثلة فيه» وإما لعدم استيفاء شروط القصاص الحقيقى على النحو الذى سنبينه لك فى شروط القصاصء. ولأن هذا القصاص عقوبة خطيرة كان يدرأ بالشبهات كالحدود» وحيث سقط القصاص صورة ومعنى وهو الأصلى . وجب القصاص الذى يحل محله. - ويلاحظ أن الجرائم التى يتعلق بها القصاص هى جرائم الاعتداء على النفس» وهى جرائم الدماء بالقتل أو قطع الأطراف أو الجراح» وهى الجرائم التى وردت النصوص الدينية فى التوراة والإنجيل والقرآن الكريم بعقوبتهاء وقد ذكرها سبحانه وتعالى بقوله: ف وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفْس والعين بالعين والأنف بالأنف 2,22 وَالأذن بالأذن والسَن باس والْجرُوح قصاص فَمن قَصدق به فهو كقَاة لَه ومن َم يحم ما أنزل الله اولك هم الظالمون 27 204 . وهذه الدماء مصونة محترمة» فكل اعتذاء عليها إلا بحقها يوجب عقابا 0 زاجراء فقد قال تعالى: ف( فمن اعتدئ علّيكم فَاعمَدوا عليه بمثل ما اعتدئ عَليكُم واتَقُوا الله 74" . وقال تعالى : « ولا تفتلوا النفس التي حَرم الله إلا باْحق 74" . وقال تعالى: «إوما كَانَ لمؤمن أن يقعْل مؤمنا إلا حَطَنًا ومن قل مُوْمنًا خَطًَا فَحرِير رقبَة مُؤمنة ودية مُسلَمَة إلى أهله 474 » وقال تعالى : « ومن يقل مؤمنا متَعمّدا فَجرَاوةُ جهنم خَالدا فيها 00# . وقال النبى عله : : "كل المسلم على المسلم حرام» دمه وماله وعرضه». فكل اعتداء على هذه الأمور فهو اعتداء يوجب عقابا دنيويا. والقصاص هو عقوبة الدماء بشكل عام سواء أكانت دماء» موضوع الاعتداء فيها النفس أم كان اعتداء موضوعه طرف من الأطراف» أم كان اعتداء موضوعه جرح من الجروح . 4- ولماذا خص الله سبحانه وتعالى الدماء» سواء أكان الاعتداء فيها على النفس» أم على طرف أم كان جراحا؛ بأن قدر لها عقوبة مقدرة ولم يتركها لتقدير ولى الأمرء كما نرى فى غيرها من الجرائم» وفى بعضها من قوة الاعتداء ما ليس فى بعض الدماء» ولها من الأثر فى نفس المجنى عليه ما ليس فى بعض الجراح . والجواب عن ذلك يتخلص فى أن الدماء كان لها من الشأن فى الماضى والحاضر ما ليس لغيرهاء والناس لا يشفى غيظهم فيها السهل اللين من العقاب» وقد يسرفون إن كانوا أقوياء» وقد يضعفون إن لم يكن فيهم بأس شديدء وإنه لوحظ فى جرائم الدماء أمور ثلاثة لم تلاحظ فى غيرها من الجرائم أول هذه الأمور : أن الاعتداء فيها اعتداء على أمر لا تختلف فيه مراتب الناس ولا أقدارهم. بل هم فيه سواء. وهم فى دمائهم ونفوسهم على قدم المساواة» فليس فيهم دم شريف» ودم غير شريف» بل إن الاعتداء يرخص دم المعتدى مهما تكن منزلته» ويغلى دم المجنى عليه مهما يكن هوانه» ولذلك قال النبى ككللهِ: «المسلمون تتكافاً دماؤهم» ويسعى بذمتهم أدناهم» فكان من مقتضى فرض هذه المساواة أن يتولى الشارع تقديرهاء حتى لا يشتط الناس فى أمرهاء فيعتدى القوى ويستخذى الضعيف. . 16١ : سورة المائدة : 8؟ . (؟) البقرة : 195 . (") الأنعام‎ )١( 0" : النساء 945 . (65) النساء‎ )5( 21 الأمر الثانى : أن الدماء جنايات واضحة بينة لا تختلفء. ويمكن تقديرهاء وتقدير عقوبة فيها. ويصح أن يجرى عليها القياس فى غيرها فيقاس ما ليس بمقدر عليهاء والشارع الإسلامى فى بيان الأحكام بينهاء إما بالنص عليها عيناء وإما ببيان حكم ما يمكن معرفة علته» ليقاس عليه غيره» ويتعرف حكم غيره منهء ولذلك قال الشافعى: «الشرع إما نص على عين قائمة» أو حمل على عين قائمة» فلما كانت جرائم الجراحات واضحة التعليل بينة» وضع الشارع عقويتهاء ليعرف الناس عن طريقها عقوبة غيرهاء أو على الأقل ما يمكن أن يهتدوا به فى معرفة عقوبة غيرهاء فلا يكون الأمر إلى ولى الأمر فرطا من غير ضابط يضبطهء ولا حكمة تحكمههء فكان تولى الشارع الحكيم هذا العقاب إعلانا لفن العقاب جملة» وعلى الفقهاء أن يتعرفوا الباقى تفصيلا. الأمر الثالث : أن الاعتداء على الدماء يولد غيظا شديدا فى النفس» فيكفى أن يرى الدم يسيل لتذهب الرؤية من المجنى عليه ومن أوليائه فيكون الإسراف فى الانتقام والإيذاءء وتجاوز الحد والاعتداء» والضعيف يستكين ونفسه تغلى بمراجل الحقد والانتقام من غير أن يكون له حول ولا طولء فيحنق على الحياة وما فيها ومن فيهاء وفى هذه النفوس الحاقدة الحانقة التى لا تجد من المجتمع ما يشفى غيظهاء ويذهب بأسقامهاء تتولد روح الإجرام. فلهذه الأحقاد» ولحمل الناس على المساواة المطلقة كان الشارع هو الذى يتولى العقاب». ليعرف القوى حدهء ويرفع القانون خسيسة الضعيف» فتذهب أحقادهء وأسقام نفسهء ولا يجد الإجرام فى قلوب الضعفاء وأحقادها وأسقامها مباءة لآثامه . 3-3 من أجل هذا تولى الشارع وضع عقوبة الدماءء وعظم أمرها فى الدنيا والآخرة. فقد روى مسلم والبخارى أن النبى له قال: «أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة فى الدماء» وقد قال يليلد «من أصيب بدم أو خبل (والخبل الجراح) فهو بالخيار بين إحدى ثلاثء فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه: أن يقتصء أو يعفوء أو يأخذ الدية». والرابعة التى حذر منها النبى كَللٌ ولم يذكرهاء هى أن يسرف فى القتل باسم الجاهلية والعصبية. ولقد قال ابن تيمية فى هذا المقام ما نصه: «قال العلماء إن أولياء المقتول تغلى قلوبهم بالغيظ حتى يؤثروا أن يقتلوا القاتل وأولياءه» وربما لا يرضون بقتل القاتلء بل يقتلون كثيرا من أصحاب القاتل» كسيد القبيلة ومقدم الطائفة» فيكون القاتل قد اعتدى فى الابتداء وتعدى هؤلاء فى الاستيفاء. كما كان يفعله أهل الجاهلية الخارجون عن الشريعة فى هذه الأوقات من الأعراب والحاضرة وغيرهم. وقد يستعظمون قتل القاتل لكونه عظيما أشرف من المقتول» فيفضى ذلك إلى أن أولياء المقتول يقتلون من قدروا عليه من أولياء القاتل» وربما حالف هؤلاء قوماء واستعانوا بهمء وهؤلاء قوما آخرين» م القتصاص» فكتب اللّه علينا القصاص» وهو المساواة العادلة» , -١‏ والجرائم التى توجب القصاص صورة ومعنى أو معنى فقطء يكون لها ناحيتان: ناحية المجتمعء وناحية الفردء أما ناحية المجتمعء فلأن الشارع اعتبر الاعتداء فيها اعتداء على الناس أجمعين؛ وذلك لأن الحرمات الإنسانية مرعية الجانب فى حكم الشارعء والمجتمع الفاضل ظل واق من هذه الجرائم» فكل جريمة ترتكب فى دم يكون المعتدى قد اعتدى على على المجتمع كله. ولذلك قال تعالى فى جريمة القتل: «إمن قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فَكَأَنمَا قعل الئاس جميعا ومن أَحيَاهًا فَكَأنَما أحيا الناس جَميعًا 2104 ولذلك أيضا أوجب الإسلام على كل مسلم يرى مسلما يعتدى على دمه أن يرد اعتداءه» وقد دعا إلى ذلك النبى كلد «من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا كشف الله عنه كربة من كرب القيامة» ولقد قال يل «ما من امرئ مسلم يخذل امرءا مسلما فى موضع ينتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله تعالى فى موطن يحب فيه نصرته» وما من امرئ مسلم ينصر مسلما فى موطن ينتقص من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره ه الله فى موطن يحب فيه نصرته» وقال عليه الصلاة والسلام: «لزوال الدنيا أهون على الله تعالى من قتل امرئ مسلم». -٠١‏ هذه ناحية المجتمع فى جرائم الدماءء.أما ناحية الشخص فهى أن المجنى عليه هو الذى وقعت عليه الجريمة رأساء ويجب أن ينال من التعويض بما يساوى ما وقع عليه من أذى» وأن تشفى نفسه» وليس هذا التعويض مالا يعود إليه فقط. بل شفاء غيظه» وذهاب أسقام قلبه» بحيث لا يحس فيه بمباغضة للمجتمع الذى يعيش فيه. ولذلك كانت عقوبة القصاص لابد فيها من طلبه. وإذا كانت الحدود فى ذاتها حقا خالصا لله تعالى» وفى بعض الجرائم التى أوجبتها ما يجعل للعبد حقاء فإن القصاص ذاته هو حق للعبد» وللّه فيه حق» وحق الله لله فيه حق وإن كان حق العبد غالبا. ولذلك كان لابد فى القصاص بكل أنواعه» ومنه القصاص معنى لا صورة من أن يطلبه المجنى عليه» وأن يستمر فى المخاصمة إلى وقت الحكم» وإن تنازل فى أى وقت من الأوقات» فليس كالحدود لا يقبل فيها العفوء فالمطالبة لابد أن تستمر إلى وقت إنزال العقوبة ؛ لأن جانب العبد فيه غالب» والعفو فى أى من مراتب المخاصمة جائز» . سورة المائدة : ؟:”3‎ )١( اله لق وبعد الحكم يسقط القصاصء ولذلك قال الله سبحانه وتعالى : يا أيها الذين آمنوا كتب عليْكُم القصاص في القتلى الحر باحر والْعبد بالعبد والأنتى بالأنتئ فمن عفي لَه من أخيه شيء فَاتبَاع بالمعروف وأداء إِلَيّه يإحسان ذلك تخفيف من رَبَكُم ورحمةٌ فمن اعتدئ بعد ذلك فَلَه عاب أليم :027 ولكم في القصاص حياة يا أولي الألبَاب لَعلّكم تتَفَرنَ 29+ 2174 . وقد ذكر الحديث الذى رويناه من قبل أن من وقعت عليه الجناية يخير بين أمور ثلاثة: القصاصء أو العفوء أو الدية. -٠١*‏ وهنا يرد سؤال: لماذا كان جانب العبد فى جرائم الدماء أكثر تغليبا؟ ونقول فى الجواب عن ذلك: إن حق العبد إنما هو غالب فى ذات القصاص فقطء فإن كان القصاص فلا عقوبة سواهء وإن اختار العبد العفو» فليس معنى ذلك ألا يكون لولى الأمر أى عقاب» فإن الاعتداء فساد فى الأرضء وولى الأمر منوط به منع الإفسادء وإذا كان القاتل أو فاقئ العين قد نال العفو من المجنى عليه بأى طريق كان العفوء فإن حق المجتمع باق بيد ولى الأمر وله أن يضع من العقوبات الرادعة المانعة للفساد ما يراه أحفظ لحقوق المجتمع» وأمنع للفساد فى الأرض . ولذلك قال العلماء متفقين على ذلك أنه إذا سقطت عقوية القصاص لشبهة بأن كان القتل بغير آلة من شأنها أن تقتل» فإنه يجب التعزير» ويجب أن يكون التعزير بأشد أنواعه مع وجوب الدية لأولياء الدم. وبذلك يتبين أن وجود العفو لا يمنع العقاب منعا باتاء ولكنه يملع العقوبة بالقصاص فقط» فلم يسقط العفو أصل العقاب. إنما أسقط فقط نوعا غليظا من العقاب شديدا قاسيا. وإنما شرعه الله تعالى مع غ غلظته وشدتهء ليشفى غيظ المجنى عليه» وذلك أن الجريمة فى الدماء قاسية جافة شديدة» وأثرها فى المجتمع خطيرء » وأثرها فى زه نفس المجنى عليه أشدء فكان لابد أن تعالج الشريعة نفسهء وأن يطب الشارع لأسقامهء وإنه إذا كانت الرأفة بالجانى تجعل القصاص غليظاء يجب أن تكون الرحمة بالمجنى عليه بشفاء غيظه أقوى تأثيرا. وإن شفاء الغيظ لا يكون بذات القصاصء» فقد يكون التمكين من القصاص كافيا لشفاء الغيظ. ولذلك مكن الشارع المجنى عليه من القصاص وسهل له. وقرب منه رقبة الجانى إن كانت الجناية جناية قتلء والمجنى عليه فيها ولى الدم» وقرب منه عين الجانى إن كانت فقء عين» وسنه إن كانت خلع سن» وأخذه بيده ووضعها على موضع الجناية من نفس الجحانى» وقد يكون فى ذلك ما يكفى لذهاب أسقام قلبه» وحقد نفسهء وحثه مع ذلك فى هذه الحال على العفوء وسماه أخاه فقال سبحانه: )١(‏ البقرة : 4لا1ط2 6لا ١‏ . ,م «(فَمن عفي لَه من أخيه شيء فَاتَبَاعَ بالمعروف وأداء إِلَيه يإحسان 2204. وقال يَكِ: دما زاد عبد بعفو إلا عزا». : 4-- وكثيرا ما كنا نرى ولى الدم أو المجنى عليه بمجرد التمكين من القصاص وإحساسه بسهولته عليه يعود عافياء لأنه أحس بكمال القدرة ببحكم الشرع الشريف» فإن عفا فعن عزة ومقدرة» لا عن ضعف وذلة. ولقد قال أنس بن مالك خادم رسول الله كَلِيهِ: «وما رفع إلى رسول الله لَه أمر فيه قصاصء إلا طلب فيه العفو»ء وإنه ليدل على أن التمكين من القصاص كاف لإطفاء نيران الحقد عند بعض الناس ذوى النفوس السمحة - ما روى عن أنس بن مالك رضى الله عنه أن عمته الربيع لطمت جارية» فكسرت ثنيتهاء فطلبوا إليهم العفو فأبواء والأرش فأبوا إلا القصاصء. فاختصموا إلى رسول الله كَللِيِ فأمر رسول الله يِل بالقصاصء فقالوا لرسول الله يَكيِ: أتكسر ثنية الربيع؟! والذى بعثك بالحق نبيا لا تكسر ثنيتهاء فقال رسول الله يكل مصمما على القصاص: «يا أنس». كتاب الله القصاص» فرضى القومء فعفواء فقال رسول الله كَكَِ: «إن من عباد الله تعالى من لو أقسم على الله لأبره»7" . فهذا النص يستفاد منه أمران: أحدهما : أن إصرار النبى كلك على القصاص وقوله فى حزم قاطع: «كتاب الله القصاص» وإحساس المجنى عليهم بأن الحق صار فى أيديهم كاملاء كان هذا كافيا لأن يحرك فيهم عنصر السماح والعفوء وإلا ما تحرك». ولبقى غيظ القلوب فى طيات الصدورء ويكون من بعده ما وراءه إن لم يشف شفاء كاملا. ثانيهما : رغبة النبى مَكِيّ فى العفو رغبة كاملة» ولكنه لم يبدهاء وقد تململ أولياء الجانية بالقصاصء بل أعلن الإصرار عليه إصرارا كاملاء حتى إذا كان العفو أشار إلى أنه صادف رضا فى نفسه. ويروى فى هذا أيضا أن عمر بن النطاب وقف خطييا بين الناس فى حضرة عماله وولاتهء فقال فيهم تلك الخطبة التى تنبئ عن رغبة فى المساواة العادلة: «ألا إنى واللّه ما أرسل عمالى إليكم ليضربوا أبشاركمء ولا ليأخذوا أموالكمء ولكن أرسلهم ليعلموكم دينكم وسننكمء فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلى» فوالذى نفسى بيده لأقصنه منه» أى لأمكننه من القصاصء فوئب عمرو بن العاص» فقال: يا أمير المؤمنين «إن كان رجل من المسلمين على رعية فأدب رعيته أئنك لتقصنه منهء قال: أى والذى نفس عمر بيده إذن لأقصنه منهء أنّى0" لا أقصه وقد رأيت رسول الله يه يقص من نفسهء ألا لا تضربوا أبشار المسلمين فتذلوهم» ولا منعوهم حقوقهم فتكفروهم». . «أنى» هنا بمعنى «كيف؟‎ ) .٠١ (؟) التبيين جا ص5‎ .١98 سورة البقرة:‎ )١( الذذا وقد حدث من بعد هذه الخطبة أن أبا موسى اللأشعرى ضرب رجلا أربعة وعشرين سوطاء فذهب إلى عمر فأرسل عمر إلى أبى موسى : «سلام عليك» أما بعد - فإن فلانا أخحبرنى بكذا وكذاء فإن كنت فعلت ذلك فى ملا من الناس» فعزمت لما قعدت فى ملا من الناس حتى يقتص منك» وإن كنت فعلت ذلك فى خلاء من الناس» فاقعد له فى خلاء من الناس حتى يقتص منك»». فقدم الرجل . فقال الناس: اعف عنه. فقال: والله لا أدعه لأحد من الناس. فلما قعد أبو موسى ليقتص منه رفع الرجل رأسه إلى السماءء ثم قال: «اللهم قد عفوت عنه» . وروى مثل هذه الواقعة لعمرو بن العاصء فقد قال لرجل من المسلمين كان معه بمصر: يا منافق» فقال الرجل: ما نافقت منذ أسلمت» ولا أغسل لى رأساء حتى آتى عمر بن الخطاب». فأتى عمرء فقال: إن عمرا نفقنى» ولا والله ما نافقت منذ أسلمت» فكتب عمر إلى عمرو: وكان إذا غضب كتب إليه : «إلى العاصى بن العاصى . أما بعد فإن فلانا ذكر أنك نفقتهء وإ نى أمرته إن أقام عليك شاهدين أن يضربك أربعين» فقَام الرجل فقال: : أنشد الله رجلا سمع عمرا نفقنى إلا قامء فقام عامة أهل المسجدء. فقال له حشم عفرو: أتريد أن تضرب الأمير» قال وعرض عليه الأرش» فرفض» فقال حشمه: أتريد أن تضرب الأميرء فقال: ما أرى لعمرو هاهنا طاعة» فقال عمرو لهم: اتركوه» وأمكنه من السوط وجلس بين يديه فقال الرجل: أتقدر أن تمنع منى بسلطانك». قال: لا. قال: فامض لما أمرت به فإنى أدعك لله)20 . 6- ما سقنا هذه القصة لبيان عدالة الإسلام إذا نفذت كل أحكامه بمعانيها ولبهاء وكيف يكون مجتمعا فاضلا يتلاقى فيه الحاكم والمحكوم على قلوب تجمعها المودة والرحمة والعدالة التى هى ميزان الجماعات» ولا سقناها لبيان عدالة عمرء وعمله على أن يكون أميرا لشعب عزيز غير ذليل» ولكن سقناها لبيان أن الإسلام عندما جعل للمجنى عليه وأوليائه سلطاناء فإنما قصد إلى شفاء القلوب المكلومة» وفتح الباب للعفو. ليكون التخفيف. ولتكون الرحمة مع العدالة» وإن فتح باب القصاص هو فى ذاته رادع» وإن لم يكن عفو من المجنى عليه فإن أخذ الظالم بجريرة ظلمه خير من أن يترك المجنى عليه يتلظى فيئورء وتكون العصبية الجاهلية بين الفريقين» كما هو واقع الآن فى ريف مصر وصعيدهاء فإن كثرة ة جرائم القتل فيها وتوارثها فى الذرية وتحويل غير المجرمين إلى مجرمين سببه العقوبات غير الرادعة؛ وللتطويل فى التقاضى» وفتح الباب فى الترافع للنيل أحيانا من المجنى عليه - ويتبع ذلك عدم شفاء غيظ المجنى عليهم» بل تزداد كلومهم آلاما بسبب فتح الصدور للنيل من المجنى عليه فلم يمزق لحمه فقط. بل مزقت مع ذلك كرامته وعرضه. وكل ذلك لخلق جو ملطف للإجرام» . القصتان مأخوذتان من مناقب عمر بن الخطاب لابن الجوزى ص 45 طبع التجارية‎ )١( 85م وإن كان ملوثا مضاعفا للأذى الواقع على المجنى عليه فتكون العقوبة غير شافية أولاء ويكون التقاضى أذى ثانيا. ' القصاص فى المعنى : 57- ذكرنا أن القصاص قد يكون فى صورة ومعنى» وقد يكون معنى فقط». وقد أشرنا إلى القصاص فى الصورة والمعنى فى قولنا السابق» وهو أن يؤخذ الجانى بمثل جريمته أخذا مادياء فيقتل إن كانت الجريمة جريمة قتل» وتفقأ عينه إن كانت الجريمة فقء عين» وتخلع سنه إن كانت الجريمة خلع سنء ويشترط فى الجريمة التى تكون١مستحقة‏ لهذا النوع من العقاب أن تكون الجريمة من عاقل بالغ» وأن يكون قد قصد العدوانء وكان متعمد الجريمة» وكان يمكن تحقيق المساواة التامة بين العقوبة والجريمةء فإذا كان كذلك استوفيت العقوبة(!2» وإن فقد شرط من هذه الشروط» بأن كانت الجريمة غير مقصودة وغير متعمدة» أو كانت بآلة يدل استعمالها على أنه ما أراد التتيجة التى انتهت إليهاء وإن كانت نية الاعتداء فى ذاتها ثابتة كالضرب الذى يفضى إلى الموت» فإن نية الاعتداء ثابتة» ولكنها لم تكن متجهة إلى هذه النتيجة التى انتهت بها الجريمة» وهى الموت. والفقهاء - لأن الشريعة ظاهرية لا تتجه إلى المقاصد والنيات وتعتبر الأساس فى القضاء - جعلوا آلة القتل مقياسا يدل على القصد إلى القتل» أو لا يدل» فإن كانت الآلة قاتلة لا محالة كالسيف والرصاص والسهام كانت دليلا على التعمد إلى القتل وإرادته. وإن كانت الآلة لا تقتل فى الجملة أو لم توضع للقتل كان القتل غير موجب للقصاص بالصورة والمعنى» وإن قامت قرائن على إرادة القتل بهذه الآلة» وهى فى ذاتها تقتل» وإن لم تستعمل للقتل عادة» على خلاف بين الفقهاء ونظر فى هذا المقام؛ سنتكلم فيه عند الكلام فى العقوبة. ومع أنهم اعتبروا القتل فى هذه الحال موجبا للدية لم يمنعوا التعزير بأشد أنواع التعزير» فأبو حنيفة شدد فى تقييد جرية القتل التى توجب القصاض» وأوجب أن تكون بمحدد ينفذ فى الجسمء ومنع القصاص فى القتل بآلة ثقيلة من شأنها أن تقتل ولا يمكن أن يقصد بها غير القتل» ولهذا التشدد أوجب تعزير القاتل على هذا الشكل بأشد أنواع التعزيرء فهو لم يعفه من العقاب بالدية» ولكن الدية أعفت رقبته فقطء ولم تعف بقية جسمه من السياط تكوى بها. )١(‏ هذه الشروط سنذكرها بالتفصيل» وما يجرى فيها من خلاف عند الكلام فى العقوبة» فالمقام مقام تقسيم فى الجرائم من. حيث قوتهاء وذلك لا يتم إلا إذا لامست العقوبة كما هو الشأن فى تقسيم الجرائم إلى جنايات وجنح ومخالفات» فقد كان التقسيم متصلا بالعقوبة . هم -١١‏ والقتل خطأ جريمة بلا شك» ولكنه جريمة من خيث الواقع لا من حيث القصد. فنفس الحانى بريئة سليمة. إذا كان لا يقصد قتلا قطء ولكن فى الواقع قد أضاع نفسا من نفوس المسلمين» أو غير المسلمين» فكان لابد من تعويض لأسرة المجنى عليه الصغرى وهى أقاربه وورثتهء ولابد من تعويض أسرته الكبرى» وهى جماعة المسلمين» ولقد كان التعويض للفريقين عدلاء فأما تعويض الأسرة فبالدية» وأما تعويض المسلمين فيكون بتحرير رقبة مؤمنة» وذلك لقوله تعالى: «( ومن قل مؤمنا حَطَنا قتحرير رقبة مؤمنة ودية مسَلَمَةٌ إلى أَهْله 2074 وإنما اعتبر هذا تفويضا لجماعة المسلمين» لأنه قتل مؤمناء فإعتاق مؤمن هو إحياء لنفس مؤمنة» إذ من المقررات البدهية أن الحرية هى معنى الحياة» وهى معنى الشخصية. فالمؤمن الرقيق فى معنى المعدوم حتى ترد حريته إليه» وإن هذا واضح بالنسبة للمجنى عليه المسلم» ولذلك لا يجب عتق الرقبة فى قتل غير المسلم خطأ. ولم يؤخذ القاتل خطأ بجريرة القتل وعقابه الأصلى وهو القصاص صورة ومعنى- لأنه ليس بمجرم على التحقيق» ولأن غيظ أولياء الدم فى الجناية ليس عادلاء وكان يجب عليهم أن يفرضوا المعذرة» بدل أن يفرضوا القصاص. وذلك لأن الله تعالى رفع إثم الخطأء إذ قال عليه الصلاة والسلام: «رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» . ولكن لأنه لا جريمة تقع على من هو فى ظل الإسلام من غير تعويض للمجنى عليه أو أسرته - أوجب الشارع الدية» لأن الأسرة فقدت عائلهاء وفقد المسلمون عضوا منهم . 4-- ولأنه لابد من تعويض لأسرة المجنى عليه كان ما يشبه الخطأ فيه الدية» وما يشبه الخطأء أو كما يقول الفقهاء يجرّى مجرى الخطأء وهى الجريمة التى تقع من غير مسئول». أو على حد التعبير الشرعى غير مكلف كالصغيرء والمجنون» فإن التعويض بالدية يثبت مع أن ركن الجريمة غير ثابت» إذ إن الجانى غير مسكول إذ لا تكليف عليه» لأنه لم يؤت العقل الذى نيط به التكليف وهو مناط تحمل المسئولية» والأساس الذى تبنى عليه التكليفات الشرعية. والفقهاء قرروا على خلاف بينهم فى مدى تطبيقه - أن قاصر الأهلية أو فاقد الأهلية لا يستطيع إنشاء تصرفات توجب عليه التزامات أيا كان نوع هذه الالتزامات» ولكنهم مع ذلك قرروا أنه مسئول مسئولية مالية عن أفعاله» فإذا أتلف مالا ضمن فى ماله» وإن ترتب على فعل له أذى إنسان كان الضمان فى مالهء وإذا كان منه ما ترتب عليه الموت» أو فقد عضو من أعضاء المجنى عليه وجبت الدية فى ماله. 000 سورة النساء ؟ كم وإذا لم يكن له مال حال الجناية على النفس وجبت الدية على عصبته. فإن لم يكن فيهم قادرون وجبت الدية فى بيت المال» هذا ما يقرره الفقهاء على خلاف بينهم فى تفصيله سنبينه فى موضعه عند الكلام فى العقوبة . ويلاحظ أن الخطأ الذى يترتب عليه فقد عضو من الأعضاء كان يمكن أن يجرى فيه القصاص: لو كان عمدا - يجب فيه التعويض المالى» ومثل هذا أيضا الجارى مجرى الخطأء وهو ما يقع من غير مسئولين» أو على حد التعبيسر الشرعى غير مكلفين يكون الواجب فيه هو الدية على النحو الذى ستبين فى العقوبات عندما نتصدى لبيانها إن شاء الله تعالى. 4- هذا كله إذا كان الفعل غير مقصود.ء وترتب عليه أذى فى النفس أو الجسم أو المال» سواء أكان الفاعل له قصدء ولكنه أخطأ أم كان الجانى لا يتصور منه القصد الصحيح ويعتبر فعله جاريا مجرى الخطأء ونرى فيه أن شرط القصاص فى الصورة والمعنى غير متوافرء فينتقل القصاص إلى المعنى دون الصورة. وقد تكون الجريمة لا تمحكن فيها المماثلة» سواء أكانت ارثكبت بقصد صحيح أم ارتكبت من غير قصد مطلقا أو بقصد غير صحيح» وعدم إمكان المماثلة فى القتصاص ينقله كما قلنا من الصورة والمعنى إلى المعنى فقط. وعدم إمكان القصاص بالممائلة» يكون فى الأطراف والجسروح» ولا يكون فى النفس؛ لأن الاعتداء على النفس بالقتل تكون الممائلة بقتل النفس المعتدية من غير نظر إلى المساواة فى آلة القتل على خلاف ونظر فى ذلك؟؛ وذلك لأآن المماثلة هى فى النتيجة لا فى الوسيلة» فإذا كان قد أزال نفسا من هذا الوجودء فالمماثلة بين الجريمة والعقوبة تكون بإزالة نفسه من الوجود. أما الأطراف والجروح فهى التى يتصور فيها عدم إمكان المماثلة» فلو ضرب المعتدى ضربة ترتب عليها شلل فى يد المجنى عليه» فإن القصاص فى الصورة والمعنى يقتضى أن يحدث بالجانى شلل فى يده بمقدار الشلل الذى أصاب المجنى عليه؛ ولكن ذلك غير عكنء إذ إن الضربة ربما تحدث الشلل وربما لا تحدثه: وإن أحدثته قد يكون مساويا للأول» وربما لا يكون مساوياء وهكذا فكان القصاص بال مماثلة صورة ومعنى غير ممكن» وكان لابد أن ينتقل التقدير فى هذه الحال إلى تقدير آخرء وهو القصاص فى المعنى» وذلك بالدية» وقد قدر الشارع أنواع الديات الختلفة فى هذا المقامء ونؤجل بيانها إلى موضوعها من دراستنا . -١٠‏ وفى كثير من الأحوالء أو بالأحرى فى أكثر الأحوال لا يمكن تقدير الممائلة تقديرا تاما فى الاعتداء على الأطرافء» ولذلك شاعت بين الفقهاء هذه الجملة» إن الاعتداء على الأطراف عمده كخطئه فى كثير من الأحوال. ام وذلك حق إذا نظرنا إلى العقوبة المقدرة» فإنه فى أكثر الأحوال تكون العقوبة فى الحالتين هى الدية» ولكن إذا تجاوزنا هذا الأفق الملحصور فى العقوبة المقدرة نجد هذه الجريمة فى حال العمد يصح أن تكون مزدوجة العقابء. وذلك بتنفيذ هذه العقوبة المقدرة» وهى الديات التى قدرها الشارع» وعقوبة أخرى» وهى التعزير بالقدر الذى يراه القاضى أو ولى الأمرء ويصح أن يسن لذلك عقوبات يقررها بقانون يخضع له الناس» ويطبقه القضاة أجمعونء وهو أمر واجب فى هذه العصور؛ لأن القضاة مقلدون ولو نسبياء» والقاضى الذى يترك له التقدير هو القاضى المجتهد المطلق دون غيره» ولآنه لا يصح أن نترك الأمور لكل قاض يحكم بمقتضى رأيه فتتخالف الأحكام فى الإقليم الواحد. بل فى البلد الواحد. هذا فى حال العمدء أما فى حال الخطأ وما يجرى مجراه فإنه فى الحقيقة لا يوجد مجرم يعالج إجرامهء ولكن توجد واقعة أذى يجب تعويض المجنى عليه بما يتناسب مع ما وقع عليه من أذى. -١‏ والجروح لا يمكن أن يجرى فيها القصاصء وإن وقعت مقصودة فى نتائجها بالوسائل التى تستخدم فى مثلهاء ولكن قرر الفقهاء أنه لا يكن القصاص بالصورة والمعنى إلا فى جريمة واحدة» وهى الموضحة» وهى الجرح الذى ينفذ حتى يرى فيه العظمء فقد قالوا إن القصاص الذى يقتضى التماثل فى الصورة والمعنى فيه لا يمكن تحققه إلا فى الموضحة على نظر فى ذلك». وخلاف بين الفقهاء. وإذا كان لا يمكن تحققه فإنه يتتقل إلى التماثل فى المعنى» ويكون عمدها كخطتئهاء ومع ملاحظة المعنى الذى ذكرناه» وهو أن العمد يوجب تعزيرا مع العقوبة المقدرة» إذ إن إقدامه على الجريمة يفتح باب التعزيرء وخصوصاممن يكونون قد اعتادوا الاعستداء على الناس والاستهانة بحقوقهم» ويكون من الواجب ردعهم. وجعلهم عبرة لينزجر غيرهم . 5- ولكن قد يرد سؤال وهو خاص بكلمة قصاص فى قوله تعالى: «إ وكتبنا عليهم فيها أَنّ النفس بالئفس والْعين بالعين والأنف بالأنف والأذْن بالأذن والسَن بالسَن والجروح قصاص 174" . فقد قرر الشارع بالنص أن الجروح قصاصء. مع أن القضية الفقهية انتهت إلى أن الجروح فيها تعويضات مالية وليست قصاصا مع النص الصريح فى ذلك» والقصاص إذا أطلق أريد الكامل منهء وهو القصاص صورة ومعنى» والجواب عن ذلك من وجهين: أولهما : أن الفقهاء اعتبروا أن الأصل فى القصاص أن يكون بالصورة والمعنى ما دام ممكناء فإذا كان غير ممكن انتقل إلى المعنى» فالنص صرح بالأصل ما دام فى . 56 سورة المائدة:‎ )١( قم الإمكان. وقد نهى نهيا مؤكدا عن الظلمء والأخذ به مع عدم إمكانه ظلم» فهو فى موضع النهى» فكان من التوفيق الأخذ فى القصاص بالجزء الضرورى . انيهما : أن الآية الكريمة فى الجروح المتعمدة المقصودةء وإنه فى الحقيقة بإضافة التعزير إلى التعويض يتحقق فى الجملة القصاص صورة ومعنىء» إذ إن المجرم فى هذه الحال ينتتهى أمره إلى أنه نزل به من الآلام ما يقارب ما أنزله بغيره» إذ إن التعزير فى مثل هذا المقام يكون عادة بالضرب,. فالتقى الألم المادى ينال جسمه بالخسارة المالية. -١7‏ هذه هى العقوبات المقدرة» وتلك هى جرائمهاء وكنا مضطرين أن نذكر هذه الجرائم مقرونة بالإشارة إلى عقوبتهاء وذلك لأن هذه الجرائم من حيث نوعهاء ومن حيث المجنى عليه فيها - لا يمكن تمييزها إلا بعقوبتها. كما أنه لم يكن من الممكن تمييز الجناية عن الجنحة والمخالفة إلا بالإشارة إلى عقوبتهاء فإن العقوبة هى الخاصة التى بينت مقدار قوة الجريمة» وأن العقوبة فى الإسلام لا تبين مقدار قوة الجريمة فقط. بل تبين المعتدى عليه أيضاء فعقوبة الحدود بينت أن المجنى عليه فيها هو المجتمع» وعقوبة القصاص يتبين منها أنها جرائم تتصل بالدماء. وإن التقدير التشريعى فى هذه الجرائم التى تتصل بالدماء كان أصلا لقياس العقوبات التى يفرضها ولى الأمر فى الجرائم التى لا نص فيهاء وترك أمر تقديرها إلى ولى الأمرء وهى التعزيرات. جرائم التعزير 4 الجرائم التعزيرية هى التى لم ينص الشارع على عقوبة مقدرة لها بنص قرآنى» أو حديث نبوى» مع ثبوت نهى الشارع عنها لأنها فساد فى الأرض أو تؤدى إلى فساد فيهاء وإنها لكثيرة بكثرة ما يبتكر ابن آدم من فنون الإجرام» وما يوسوس به إبليس فى نفسه من ضروب الإيذاء» وقد ساق ابن تيمية طائفة منهاء فقال: «المعاصى التى ليس فيها حد مقدر ولا كفارة» كالذى يقبل الصبيان (أى بشهوة) ويقبل المرأة الأجنبية». أو يباشر بلا جماعء أو يأكل ما لا يحل كالدم والميتة» أو يقذف فى الناس بغير الزنى» أو يسرق من غير حرزهء أو شيئا يسيراء أو يخون أمانته» كولاة أموال بيت المالء أو الوقوفء ومال اليتيم » ونحو ذلك إذا حانواء وكالوكلاء والشركاء إذا خانواء أو يغش فى معاملته» كالذين يغشون فى الأطعمة والثياب ونحو ذلكء» أو يطفف المكيال والميزان» أو يشهد الزور أو يلقن شهادة الزورء أو يرتشى فى حكمهء أو يحكم بغير ما أنرل الله أو يعتدى على رعيته» أو يتعزى بعزاء الجاهلية» أو يلبى داعى الجاهلية» إلى غير ذلك من أنواع المحرمات» فهؤلاء يعاقبون تعزيرا وتنكيلا وتأديبا بقدر ما يراه /14 الوالى»ء على حسب كثرة ذلك الذنب فى الناس وقلته» فإذا كان كثيرا زاد فى العقوبة بخلاف ما إذا كان قليلا» وعلى حسب حال المذنب» فإذا كان من المدمنين على الفجور زيد فى عقوبته» بخلاف المقل من ذلك» وعلى حسب كثرة الذنب وصغره» فيعاقب من يتعرض لنساء الناس وأولادهم بما لا يعاقب به من لم يتعرض إلا لامرأة واحدة»(1' . 65- فى هذا الكلام تصوير جيد للجرائم التعزيرية» ومنه يتبين أن هذه الجرائم تختص بأنها معاص منهى عنها فى الدين والأخلاق» ويترتب عليها إفساد» ويمكن أن تجرى عليها بينات الإثبات فى مجلس القضاءء ولم يبين الشارع عقوبتهاء ويتبين منه أيضا أن هذه الجرائم غير محصورةء وأنها متقاربة فى ذاتهاء وأن العقوبات التى يتولاها ولى الأمر بالنسبة لهذه الجرائم متقاربة فى ذاتهاء وبعض هذه الجرائم هى معاص فى ذاتها كشهادة الزور والغش» والرشوة» وبعضها معاص لأنها وسيلة لمعاص أكبرء كتقبيل 4 الأجنبية . وإن هذا النص الذى ذكره ابن تيمية يوجه الأنظار إلى الجرائم التى تقع من الحكام» وتدخل فى دائرة التعزير. فإن ولى الأمر عليه أن يضع العقوبات الرادعة لمن يأخذ الرشوة» أو يحكم بغير ما أنزل الله» أو يعتدى على الرعية» فإن هذه كلها جرائم من الولاة يجب على ولى الأمر أن يردعها بالتعزير» وأن يشن من أساليب التعزير ما يراه أزجر لهم وأدععى إلى الاعتبار من غيرهم . 7- وهنا يتساءل القارئ: لماذا لم ينص الشارع على تقدير العقوبة فى كل الجرائم؟ والحواب عن ذلك من ناحيتين: الأولى : أن الشارع لم يدرك أمر الإنسان سدىء فقد بين كل شىء من شئون الشرائع» وأن النبى يَللةِ ما ترك أمته إلا وقد بين كل ما تحتاج إليه من بيان. فما من شىء أمر الله به إلا ذكره» وما من أمر نهى الله عنه إلا بين نهيهء فهو كله قد تركنا على المحجة البيضاء التى لا نضل إن اتبعناهاء وترك فينا كتاب الله وسنته فيهما بيان كل 3 شىء . ولكن ذلك البيان قد يكون صريحاء وقد يكون بالإشارة إلى المعنى» فيمكن الحمل عليه والقياسء» ولذلك يقول الشافعى: إن فى هذه الشريعة إما نصا وإما حملا على النص؛ فإذا كان الشارع قد قدر بعض العقوبات لبعض الجرائم فهو بهذا قد أشار إلى المنهاج الذى يتبع بشكل عام فى علم العقاب» وهو أن تكون العقوبة مانعة للإجرام داعية إلى الانزجار باعثة على الاعتبار» وبين العقوبات التى يجب أن يتحقق فيها معنى .١١١ السياسة الشرعية لابن تيمية ص‎ )١( القصاص من المجرم» بأن يكون ثمة تناسب بين العقوبة والجريمة ما أمكن التناسب» لأن الشارع اعتبر القصاص هو الأصل فى كل العقوبات ما أمكن علاج الجريمة بعقوبة تساويهاء وإلا انتقل العقاب إلى غيره» كما تنتقل العقوبة من القتل إلى الدية» أو من فقء العين إلى ديتهاء وهكذا. وعلى ذلك نقول: إن العقوبات المقدرة هى السبيل للتعريف بغير المقدرء فالحاكم إذا ترك له تقدير العقوبة المقدرة لم يكن غير مقدر فى بيانهاء بل هو مقيد بالعدالة أولاء وبالتناسب بين العقوبة والجرائم» وبأن يتعرف حكم الله سبحانه فى القريب منهاء وإن لم يكن مماثلا لما نص عليه تمام المماثلة . الناحية الثانية : فى بيان السبب فى أن الشارع الحكيم لم يذكر عقوبات الجرائم كلها بالعبارة» بل ذكر بعضها بالعبارة والآخر بالإشارة» إذ إن الجرائم لا تناه فلا تحصى عصلدا. . وإث العقل البشرى إذا انحرفت معه النفس يخترع من أنواع الجرائم كل يوم نوعاء فلا بد له من عقوبات رادعة» وعلى ضوء القرآن الكريم والسنة الشريفة وما نص فيهما من عقوبات يقتبس ولى الأمر علاجا لهذا الذى جدء وإنه كما قال الإمام مالك: يجد للناس من الأقضية بمقدار ما يجد لهم من الأحداث» وقد ذكرنا السبب بشكل أوضح من قبل . -١7‏ وإن ولى الأمر فى تقسديره العقوبات الزاجرة للجرائم التعزيرية ليست إرادته مطلقة كما أشرناء بل إنه مقيد بقواعد العدالة والتناسب بين الجريمة والعقاب كما قررناء» ومقيد باللأخذ بأقل قدر يكفى للزجر فلا يبغى ولا يشتط فى العقاب» ولا يجعل هواه مسيطرا عليه» ولا يجعل العنف هو الذى يسود بحيث تكون الأمة كلها فى مشقة» وبحيث يخاف البرىء مع السقيم» ويجب عليه ألا ينشر التجسسء» وتتبع العورات» فإن الجرائم المعلنة هى التى يكون عليها العقاب. ولقد قال يَلِْ: «إن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبهاء ولكن إذا ظهرت فلم تنكر ضرت العامة». وضرر العامة يجب على ولى الأمر دفعه. وإن عمل ولى الأمر هو دفع الفساد. ورعاية المصالح. ولا د يصح أن يكون الفساد مؤديا إلى فساد أشدء ولا رعاية مصلحة مانعة لمصالح أكثر» ون ترويع الآمنين؛ وخوف البرىء مع السقيم ة قد يكون فيه من الضرر أكثر مما فى عقاب الجانى فعلا من مصلحة . - والجرائم التعزيرية أنواع مختلفة متباينة» وذلك لأنها تشتمل على أمر منهى عنه» أو فيه مخالفة لأمر مطلوب» وتقصير فى واجب. ولذا يقسمها ابن تيمية من ناحية أصل التكليف إلى قسمين: أحدهما : ما يكون عقابا على أمر وقع وقد نهى الشارع عنه. وذلك مثل الغش والتزوير» وشهادة الزورء وتقبيل الأجنبية. وتطفيف الكيل ولميزان» وخيانة الأمانة» 04 والتدليس فى البياعات» والادعاء على الناس بالباطل» وغير ذلك من ارتكاب ما نهى الله عنه» وهو يؤدى إلى الفساد لا محالة. ويجرى على هذه الجرائم وأشباهها الإجراءات القضائية التى تثبت هذه الجرائم . ثانيهما : ما تكون العقوبة فيه عقوبة على ترك واجب أو الامتناع عن أداء حق» والعقوبة فيه للحمل على الواجبء» أما ما فات فهو وإن كان جريمة فى ذاته بيد أن العقاب ليس عليه» إنما القصد الحمل على الفعل» ولذا لو أدى الواجب لم يكن ثمة موجب للعقاب» وذلك كعقوبة تارك الزكاة؛ فإنها ليست للترك للسابق» وإن كان جريمة فى ذاته» وإنما العقوبة للحمل على الأداءء» فإذا أدى فإنه لا ينزل به عقابء وكذلك حبس المرتد ليس العقاب فيها على ذات الارتداد» وإنما العقوبة للحمل على التوبة» وكذلك حبس المدين القادر المماطل» فهو ليس عقوبة على ذات المطل» وإن كان المطل فى ذاته ظلما؛ لقوله كلد «مطل الغنى ظلم» وإنما العقوبة للحمل على الأداء. وهكذا نجد الجرائم منها ما هو إيجابى بارتكاب منهى عنهء ومنها ما هو سلبى بالامتناع عن الواجب عليهء والعقوية فى الأولى لذات الجريمة» وفى الثانية لمنع استمرارهاء فعقوبة مانع الزكاة لمنع استمرار تلك الجريمة السلبية» ولقد قال ابن تيمية فى العقوبات على الجرائم الإيجابية والسلبية : إن العقوبة نوعان - أحدهما : على ذنب ماض جزاء بما كسب تكالا من الله كجلد الشارب وقطع المحارب والسارق. والثانى: العقوبة لتأدية حق واجب وترك محرم فى المستقبل» كما يستتاب المرتدء فإن تاب وإلا قتل» وكما يعاقب تارك الصلاة والزكاة وحقوق الآدميين حتى يؤدوها». ولذلك تكرر هذه العقوبة ما دامت الجريمة مستمرة» فإن المماطل الغنى يستمر عقابه حتى يؤدى» ومانع الزكاة يعاقب حتى يؤدى. 48- وإن من الجرائم ما يكون كبيرة بسبب شيوعه وتضافر الناس بينما هو إذا وقع من الآحاد لا يكون جرية فى ذاته» ولنضرب لذلك مثلا بالأذان فإن تركه ليس بجريمة لأنه سنة وليس بفرض» ولكن إن تضافرت مدينة على إهماله» كان ما ارتكب جريمةء ولذلك قاتل أبو بكر من تركوا الأذان» لأنه أمارة ترك الصلاة» وكذلك قد يكون الفعل إذا وقع من الآحاد جريمة لها عقاب محدودهء فإن تضافرت الجماعة كان جريمة أشدء وعقابا أحدء وقد تكون العقوبة إذا وقعت الجريمة من الأحاد حدا من الحدود الشرعية المقدرة» فإن تضافرت الجماعة على ارتكابها كانت عقوبتها تعزيرا أكبر من الحد. ولقد روى الإمام أحمد فى مسنده عن ديلم ا لحميرى رضى الله عنه أنه قال: سألت رسول الله كله فقلت: يا رسول الله إنا بأرض نعالج بها عملا شديداء وإنا نتخذ شرابا من القمح نتقوى به على أعمالناء وعلى برد بلادناء فقال: «هل يسكر؟» 13 قلت: نعمء قال: «فاجتنبوه»». قلت: إن الناس غير تاركين»ء قال: «فإن لم يتركوا فاقتلوهم». فهذا الحديث يدل على أمرين: أحدهما : أن الجريمة تكبر بكثرة فاعليها ولا تضعف بكثرة المرتكبين» وذلك غير ما عليه الفكر القانونى الحالى» فإن الجرائم التى تشيع يخفف تطبيق العقاب عليها؛ وذلك لأن هذه القوانين تشتق مما تواضع عليه الناس» وشيوع الجريمة وكثرة فاعليها لا يجعل العقاب متفقا مع ما تواضع عليه الناس» بخلاف الشريعة, فإنها قانون خلقى دينى فاضل لا يشتق قوته من اتفاق الناس» وتواضعهم عليه» إنما يشتقها من الفضيلة والتقوى والدين» وإن كثرة المرتكبين توجب أن يضاعف القانون الشرعى مقاومتهاء حتى يأخذها من ناصيتهاء إذ كلما عظم الشر عظمت المقاومة» والعقوبات فى أصل وضعها هى مقاومة للشرهء ولا يهون من الشر كثرة فاعليه» بل ذلك يزيده خطرا وجسامةء فوجب أن تكون المقاومة بما يناسبه. ثانيهما : الذى يدل عليه الحديث أن العقوبة بالتعزير قد تكون أكبر من العقوبة المقدرة فى موضعهاء إذا تجاوزت الآحاد وصارت عمل الجماعةء لأنها حينئذ يكون الفساد فيها أعمء فيجب أن يكون المنع بطريق أشد وأقوى» وقد تبين ذلك من الحديث السابق بوضوح. لأن قتل الإمام الجناة فى هذه الحال يكون تعزيرا لمنع الفسادء فلو كان فى طاقته المنع بما دون ذلك لاكتفى بهء ولو كان الوعظ والإرشاد والأمر بالملعروف والنهى عن المنكر كافيا لاكتفى الإمام بذلك» وعاقب على الأحوال الفردية دون أن يتجه إلى هذه العقوبة الشديدة وهى القتل. ولا نريد أن نطيل فى هذا المقام» وكون القتل تعزيرا يجوز أو لا يجوزء فلذلك موضعه من القول عند الكلام فى العقوبة. 3-٠٠‏ والحرائ ثم التعزيرية قد تكون جرمة فيها اعتداء مباشر على المجتمع» أو على أوامر الله ونواهيه من غير أن يكون ثمة اعتداء على شخص معين. كجريعة ترك الزكاة» فإنها جناية على المجتمع أو اعتداء على حق الله تعالى» وكذلك ترك الصلاةء وترك الأذان من الجميع » والاتفاق على تركهء إن هذه الجرائم فيها اعتداء مباشر على الدين وعلى الجماعة» فهى اعتداء على حقوق الله تعالى» والعقاب عليها يكون حقا لله تعالى» ولذلك لا تقبل السقوط أو العفو إلا أن يتوبواء لأن العقاب كما ذكرنا للحمل على الواجب . وقد تكون الحناية على الأ شسخاص كالاتهام بالباطل» والدعاوى الباطلة وكمطل الغنى» ونحو القذف بمثل يا فاسقء يا آكل الرباء يا شارب الخمرء وهكذا.والعقاب على هذه الجرائم لحفظ حرمات المستظلين بظل الإسلام وأعراضهمء ولااشك أن ول العقوبة ليست حقا خالصا لله تعالى» بل يكون للعبد الحق فى أن يطلب العقاب أو لا يطلبه. وأن يسقطه أو لا يسقطه بعد وجوبه. -١‏ وإن الجراتم التعزيرية متفاوتة تفاوتا بيناء ومنوعة تنويعا كثيرا. حتى إنه لمن الممكن أن نقسمها كما قسم قانون العقوبات الجرائم. فنقسمها إلى جناية وجنحة ومخالفة.» فتعتبر الجرائم الصغيرة التى تقع على الكافة مخالفات مثل إقامة أبنية أو نحوها فى الطريق العام يصعب المرور فيه من قبيل المخالفات» وتعتبر الجرائم التى تكون باعتداء على الأشخاص بالسب أو الاتهام الباطل أو الادعاء الباطل من قبيل الجنح» وما زاد على ذلك يعد من قبيل الجنايات» وعلى هذا يجوز أن تحصى الجرائم التى قررها الفقهاء؛ وعلى ضوئها يقرر ولى الأمر العقوبات فى كل جريمة» ويجعل التقسيم تابعا لشدة العقوبة وضعفهاء كما فعل القانون المصرى فى وضعه الحالى. وإنك لترى التعزير يبلغ أقصى العقوبات المقررة أحياناء وينزل إلى حد التوبيخ» بل بمجرد الإحضار إلى مجلس القضاء أحيانا أخرى» وبين الحدين مراتب للعقاب كثيرة» فقد قرر الأكثرون من الفقهاء أنه يجوز التعزير بالقتل إذا لم يجد سواهء وذلك إذا عم الفساد من رجل» ولم ينقطع شره» وتكررت منه الجرائم فإنه يصح أن تكون عقوبته القتلء وعن الإمام مالك أن من الجرائم ما تكون عقوبته القتل» وروى مثل ذلك عن أكثر الأئمة. وإن لذلك أصلا من السئة» فإنه يروى فى صحيح مسلم أن رسول الله كَلدْ قال: «ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهى جميع» فاضربوه بالسيف كائنا من كان». 5- وجرائم التعزير قد تكون من نوع الجرائم المقدرة» ولكنها لم تستوف شروطهاء وقد تكون جرائم أخرى ليست لها صلة بجرائم العقوبات المقدرة» ككترك الزكاة» وكالغش فى الكيل والميزان» وكالادعاء الباطل. فإن هذه الجرائم ليس من جنسها عقوبة مقدرة» وهذا النوع من الجرائم يقدر له ولى الأمر عقابا بمقدار ما يمنع المفسد من الفسادء ويمنع غيره أن يقع فيه من غير قيد يقيد به ولى الأمر إلا العدالة فى ذاتها هى قيد للحاكم فى كل أحواله وأعماله. أما النوع الأول وهو الذى يكون من جنسه حد أو قصاص إما لأن الجريمة فى ذاتها جريمة حد أو قصاص تدرأ بالشبهات,. فإن هذا يسير ولى الأمر فى تعزيره على أساس الحدء ولكن لا يصل إليه» وإلا كان مصادما لإرادة الشارع» بيد أن أبا حنيفة قرر أن الذى يكثر منه القتل» ولكن لا تنطبق عليه شروط القصاص فإنه يقتل دفعا لفساده ومنعا لشره» ويكون القتل فى هذه الحال تعزيراء» فإن تكررت الجرائم التى يكون جنسها يوجب القصاص بالقتل» لكن سقط لشبهة - يعزر بالقتل. 45 -١77‏ والجرائم التعزيرية يصح لولى الأمر أن يضعها فى مراتب» ويقسمها أقساماء ويضع أمام كل قسم عقويبة رادعة له» لها حد أعلى وحد أدنى. ويكون للقاضى تقدير حال كل جرمء وما يستحق من عقاب فى دائرة العقوبة المقدرة بحديها الأدنى والأعلى. ويكون اجتهاده فى هذه الدائرة» وعلى ذلك نستطيع أن نقول: إن قانون العقوبات المصرى قانون تعزيرى» ويكاد يكون شرعيا لولا أنه لا ينص فيه على الحدود الشرعية الثابتة. ولولا أنه لا يعتبر بعض الأعمال جرائم» وهى أم الخسبائث والإجرام» ومن ذلك الزنى فلم يعتبره جريمة فى ذاتهء إنما اعتبر الاعتداء به هو الجريمة. فلم يكن الزنى فى ذلك القانون جريمة إلا فى زنى الزوجة» والزنى بالقاصرة» والزنى بالقهر والاغتصابء» وترى أن الجريمة هى الاعتداء وليست فى هذا الأمر الخبيث الذى أنكرته كل الأديان السماوية» وحسينا أن نعلم أنه قانئرن صادر عن فرنسا!! ولم يعتبر شرب الخمر جريمة» مع أن الخمر أم الخبائث» وأم الشرور والآثامء والجرائم» ومدعاة الفجور والانحراف» وس فسدة الس والعقل والنفسء وكذلك لم يعتبر الربا جريمة إلا إذا وصل إلى قدر معلوم. وسماه الربا الفناحشء. فالعقوبة على الفحش فى الريا لا فى أصل لرباء مع أن أصله جريمة فى ذاتهء لأنه إفساد للنظام الاقتصادى واللاجتماعى» يجعل رأ س المال يعمل كاسبا من غير أن يعرض للخسارة بأى نوع من أنواعها. ولقد استنكر هذه الجريمة العقل البشرىء والدين السماوىء فحرمته كل أديان السماء» ونادى الفلاسفة باستنكاره» حتى لقد قال قائلهم: إن الكسب بالربا كسب غير طبيعى» فإن النقد لا يلد النقد. ولولا أن قانون العقوبات المصرى يحمى هذه الآثام وتلك الموبقات ولم يأخذ بحدود الله سبحانهى أو لم ينص عليها لكان شرعيا. 4- وإن المنهاج الذى التزمه من أنه جعل لكل جريمة حدا أعلى فى العقاب وحدا أدنى» وترك للقاضى حرية التقدير فى كل قضية بذاتها طبقا لما يسيره منطقها وملابستها هو جمع بين نظريتين فقهيتين تكلم فيهما الفقهاء. الأولى : أن التعزير يترك للقاضى إذا كان مجتهدا بحيث يستطيع على ضوء الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح أن يحكم فى كل قضيةيما يناسب أحوالها وملابساتها ويكون علاجا للأدواء التى ظهرتء ويكون العدل فى القضية التى يمعضى فيهاء ولكن بعد أن ساد التقليد المطلق لم يعد ثمة موضع لأن يترك الأمر إلى القضاء إذ هو تابع لمذهب معين يتبع أحكامه. النظرية الشانية : أن التعزير هو لولى الأمرء والقاضى يستمد السلطان منه فى ذلك» وعلى ذلك يكون القاضى فى تطبيق التعزيرات التى يقررها ولى الأمر متبعا له. وقد جمع الفقهاء آراء الصحابة فى التعزيرات المختلفة» واجتهدوا فى استخراج ناك تعزيرات من الآراء الفقهية كان الولاة يتيعونهاء ويأمرون القضاة باتباعهاء ولم يكن للقضاء سلطان فى مخالفة المقررات إلا بما يقتضيه التطبيق الواقعى أحيانا من تخريج الأمر الفقهى على مقتضى الحال. فإذا كان قانون العقوبات الحالى قد جعل العقوبات ذات حد أدنى وحد أعلى» والقاضى يجتهد فى نطاق الحدين» فقد أخذ بالنظريتين الفقهيتين» وجمع بينهما جمعا مناسيا» فكان لولى الأمر وضع نظم التعزير واحد حدودهاء وعلى القاضى ألا يخرج عن هذه الحدود» ولا يتجاوز ما رسمه القانون. فلا يحكم فى جريمة بأقل من الأدنى ولا أكثر من الأعلى» ثم كان ثمة متسع فسيح لاجتهاده واستنباطه.» ووضع المعايير التطبيقية فيهما بين الحدين» فلا فرجة متسعة تصل فى أعلاها إلى.الإعدام» وفى أدناها إلى ستة 6- إلى هنا بينا أنواع الجرائم من حيث العقوبات المقررة من حيث تقديرها وعدم تقديرهاء وبينا فى إيجاز الجرائم التى قدر لها عقاب بنص من الشارع» والجرائم التى لم يقدر لها عقاب بالنص » ولكنها تعتبر جريمة فى حكم الشرع الإسلامى » أو بنص من نصوصه» وإن لم يقدر لها عقابا مثل الإفساد فى الأرض» وإهلاك الحرث والنسل » فإن هذه الأمور منهى عنها بنص من الشارع» وإن لم يقدر لها عقاب» ولم تمس العقوبة إلا بقدر ما نعرف به الجريمة وقوة الإجرام فيها وتناسبها مع قوة العقاب غير متعرضين بالتفصيل لهذا التناسب» لأن ذلك موضعه من القول عند الكلام فى نظرية العقاب» ثم فى تفصيل أحكامه. إن كان فى العمر بقية تسع تتميم هذا البحث إن شاء الله تعالى . والآن ننتقل إلى موضع آخرء وهو تة تقسيم الجريمة من حيث طريق تنفيذها» ومن حيث القصد إلى التنفيذ» ومن حيث موضوع الجريمة » وإن كان هذا القسم الأخير قد عرضنا لبعض نواحيه فى أثناء الكلام على جراتم الحدود. -١‏ الجرائم الإيجايبة والجرائم السلبية 57- أشرنا فى الجزء السابق من بحثنا إلى أن الجرائم إما أن تكون فعلا منهيا عنهء وإما أن تكون تركا لواجب مأمور به فترك الزكاة جريمة بالترك» وترك الآأذان كذلك جريمة بالترك» غير أنا نظرنا فى هذا نظرا أساسه أن العقاب فيه جزاء على الماضى» أو حمل على الواجبء» وكان نظرنا من هذه الناحية فقط. ولكننا الآن ننظر إلى هذه الجريمة على أساس أن الترك قد يترتب عليه أذى بالفعل لغيره» فإن من يترك شخصا حتى يموت جوعا قد ارتكب جريمة بتركه» وكذلك من يترك أعمى يتردى فى بئر وهو يستطيع الأخذ بيده وهدايته قد ارتكب جرماء وهكذاء 15 وعلى ذلك تكون الجرائم قسمين: جرائم سلبية» وجرائم إيجابية» أو جرائم بالترك» وجرائم بالفعل» فالزنى والسرقة والقذف والغصب. والنصب. كلها جرائم إيجابية» ومن الجرائم السلبية ما ذكرنا من الامتناع عن بعض المطلوبات» ومنها ما يكون القصد ارتكاب جريمة إيجابية . -١7‏ ولنترك الكلام فى الجرائم الإيجابية» فإن القول فيها بين واضحء وأكثر ما تكلمنا فيه هو من قبيل الجرائم الإيجابية» وهو الأوضحء ولنتجه إلى بيان الجرائم السلبية» أتعد من الجرائم المؤاخذ عليها بحكم من القضاءء أم لا تعد من الجرائم وإن كانت عصيانا دينياء فإن ذلك هو موضع البحث والنظر. لقد قرر الفقهاء بالإجماع أن ما يكون مطلوبا بأمر الشارع يعد آثما بتركه ويعد تركه جريمة هو موضع مؤاخذة فى الدين» وموضع مؤاخذة بين يدى القضاء إذا كان يجرى عليه الإثبات» ويمكن أن يفصل فيه مجلس القضاءء فمن المتفق عليه ما ذكرنا من أن ترك الزكاة يوجب عقاباء ولكنه كما ذكرنا للحمل على الأداءء فإن أدى عفا الله عما سلف. ومن المتفق عليه أيضا أن من يكون معه فضل زاد وهو فى بيداء» وأمامه شخص يتضور جوعاء يكون آثما إذا تركه حتى مات» بل إن ذلك الجائع له أن يقاتله حتى يصل إلى الزاد» ولا شك أن هذا الممتنع عليه عقاب» ولكن أهو عقاب القاتل أم عقاب دون عقاب القاتل بالتعزير؟ ذلك هو موضع النظر بين الفقهاء» وكذلك من كان معه فضل ماء فى بادية» فاستسقاه من لا ماء معه فلم يعطه حتى هلك عطشا فإنه يعاقب لا محالة» ولكن أيعاقب عقوبة القتل أم يعاقب عقوبة أخرى؟ 4 - ذلك موضع اتفاق بين الفقهاء. فالترك جريمة كالفعل» بيد أن الترك قسمان: (أولهما): ترك يقصد به ارتكاب جريمة» أو بالأحرى هو ترك يحمل فى نفسه معنى الإيجاب» كمن يحبس شخصا ويمنعه عن الطعام والشراب حتى يموت فإنه بلا . شك ترك قصد به القتل» وكذلك من يترك سرة مولود بعد قطعها حتى يموت هو ترك فى معنى الإيجاب لأنه قتل» وكذلك كل ترك يترتب عليه جريمة إيجابية يعد مرتكبا لجريمة تستحق ععقاباء وإنه ليروى فى ذلك أن رجلا استسقى على باب قوم فلم يسقوه حتى مات من العطش ٠»‏ فضمئهم عمر بن المنطاب ديته237 , (ثانيهما): تكون الجريمة فى الترك نفسه بأن يكون الأمر مطلوباء والامتناع معصية فى ذاتهاء كما ذكرنا فى ترك الزكاة فإن ذلك الترك جريمة» وفى القسم الأول قد يكون ذات الترك جريمةء ولكن ترتب على الجريمة أخرى» فمن طلب الماء يجب سقيهء فلو استطاع أن يذهب إلى مكان آخر ويستسقى منه تكون معصية» ولكن ليست فى هذه المعصية جريمة قتل» بل هى جرية دونها. . المحلى ج١١ ص77‎ )١( اه ش م 48- ولقد قرر الشافعية والمالكية والحنابلة أن من يترك شخصا يستسقى» فلم يسقه حتى مات عطشاء كان ذلك قتلا إن ثبت قصد ذلك. فقد وردت النصوص فى المذهب المالكى على أن الأم إذا منعت ولدها الرضاع حتى مات فقد قتلته إن قصدت ذلك20 , وذكر فى المهذب أنه إذا حبس الشخص فى مكان» ومنع عنه الطعام أو الشراب حتى ماتء فإن الحابس يعد قاتلاء ويكون مستحقا لعقاب القاتلين27»: ومثل هذه النصوص جاء فى كتاب الحنابلة9” . والظاهرية نهجوا ذلك المنهاج» وقد أفاض فيه ابن حزم فى المحلى فقد جاء فيه ما نصه: «القول فى هذا عندناء وبالله تعالى التوفيق» هو أن الذين لم يسقوه إن كانوا يعلمون أنه لا ماء ألبتة إلا عندهم ولا يمكنه إدراكه أصلا حتى يموت فهم قتلوه عمداء وعليهم القود بأن يمنعوا الماء حتى يموتوا كثروا أو قلوا ولا يدخل فى ذلك من لا يعلم بأمره منهمء ولا من لم يمكنه أن يسقيه» فإن كانوا لا يعلمون ذلك ويقدرون أنه سيدرك الماع فهم قتلة خطأً وعليهم الكفارة , وعلى عواقلهمٍ الدية ولايدء برهان ذلك قول الله تعالى: ظ فَمن اعتدئ عليكم فَاعتَدوا عليه بمثل ما اعتدئ عليكم 2474» وقال تعالى: « والحرمات قصاص #( 0 وبيقين يدرى كل مسلم أنه إن استقاه مسلمء وهو قادر على أن يسقيه فتعمد ألا يسقيه إلى أن مات عطشاء فإنه قد اعتدى عليه بلا خلاف بين أحد من الأئمة» وإذا اعتدى فواجب بنص القرآن الكريم أن يعتدى عليه بمثل ما اعتدى به فصح قولنا بيقين لا إشكال فيهء وأما إذا لم يعلم بذلك فقد قتله إذ منعه ما لا حياة له إلا بهء فهو قاتل خطأء فعليه ما على القاتل خطأ. . وهكذا القول فى الجائع والعارى. ولا فرق» وكل ذلك عدوان» وليس هذا كمن اتبعه سبع فلم يؤووه حتى أكله السبع ع لأن السبع هو القاتل لهء ولم يمت من جنايتهم» ولا مما تولدء ولكن لو تركوه فأخذه السبع» وهم قادرون على إنقاذه» فهم قتلته إذ لم يمت إلا من فعلهم» وهذا كمن أدخلوه فى بيت ومنعوه الطعام حتى مات)7 . -١٠‏ هذا ما قرره ابن حزمء وهو يصور فى الجملة رأى الفقهاء الذين يرون أن الجريمة تكون بالترك» إذا قصد بالترك ارتكاب جريمة» فإذا قصد بمنع الماء القتل» كان القتل عمداء وإذا قصد بمنع الغذاء أو الحبس القتل كان عمدا أيضاء وهكذا كل جريمة )١(‏ حاشية الدسوقى على الشرح الكبير ص86 (؟) المهذب ص188١‏ راجع الشرح الكبير جدة ص777 طبع المنار. ‏ (") كشاف القناع ج” ص75 . (5) سورة البقرة : ١985‏ . (5) سورة البقرة : ١985‏ . (5) المحلى ج١١‏ ص؟057. 44 يكون سببها الترك المقصود فيه هذه السببية» وإن لم تقصد السببية» ولكن ترتب على الترك القتل فاعتبر القتل خطأ فى نظر ابن حزم. وإن الذى يستفاد من هذا الكلام أمور ثلاثة : أولها : أنه ما دام العدوان مقصودا وما دامت السببية ثابتة وكان قصدها ثابتاء فإن الجريمة تكون عقوبتها هى عقوبة الجريمة الإيجابية تماماء لأنها فى معناها جريمة إيجابية» إذ لا فرق بين من يقتل بالسيف. ومن يقتل بالتجويع» أو الإلقاء إلى سبع أو ترك السبع ينهشه. وهو يستطيع منعه. وقصد بالترك ذلك القتل الشنيع » فمادام القتل مقصودا فلا عبرة بطريقته. لأن العبرة بالمقاصد. لا بالوسائلء. وبالغايات». لا بطرائقها. ثانيها : أن الجريمة إذا أمكن أن تسند إلى المباشر ولم يكن ثمة قصد فى الترك» وكان يمكن الإنقاذ ولم يستطيعوا لسبق الزمن إرادتهم. كأن يساور سبع إنساناء فلم يتمكنوا من إيوائه إلا بعد أن افترسه السبعء فإنه فى هذه الحال لا يكون فى الترك جريمةء لأنه من جهة لم يتحقق الترك ومن جهة ثانية القتل منسوب إلى السبع لا إليهم ومن جهة ثالئة لم يتحقق فيهم قصد إلى الأذى» ولا يمكن أن يعدوا قاتلين خطأء لأنهم لم يباشروه ولم يقصدوهء ولم يكن القتل بتفويت أمر كان فى استطاعتهم فعله ولم يفعلوه . ثالثها : أن الذين يقررون أن العقوبة على ترك كالعقوبة على الفعل تماما لا يفرقون بين المباشرة وغير المباشرة» ما دام قصد العدوان متخققا فى الحالين بالعلم بنتائج الترك المؤكدة» لأن العبرة بالعدوان والقصد إليه ما دامت قد قامت القرائن القاطعة على العلم بالفعل. ولم يثبت ذلك القصد بمجرد الحدس والتخمين» أو الفرض والتقدير من غير دليل قاطع يثبت» بل إنهم يعدون الترك المقصود مع العلم بالنتيجة قصدا للقتل. -١‏ ومن الفقهاء من يرون أن الترك الذى يؤدى إلى جريمة لا يعد الترك فى ذاته جريمة إذا لم يكن الفعل واجباء وإن أدى إلى قتل» إنما يعد الترك موجبا لعقاب الجريمة . التى تترتب عليه إذا كان الدرك فى ذاته ترك واجب» وقد أدى ترك الواجب إلى جريمة أخرى إيجابية هى القتل مثلاء فيكون على التارك إثم التركء وعقوبة الجريمة التى ترتبت عليه؛ وذلك واضح فى كثير من الأمثلة السابقة» فإن الأمر فيها كان ترك واجب يمليه الدين» وتمليه الأخلاق» والواجب الدينى فى الإسلام من حيث الإثم كالواجب القانونى أو القضائى»ء فترك من يريد الشراب» وأنت تملك الماء حتى يموت يعد قتلا مادمت قد قصدت إلى التركء وأنت تعلم أن منعه الماء يعد قتلا جريمة؛ لأن تمكينه من الماء الذى تحرزه واجب عليك. وإيواء من يطارده سبع واجب عليك. فتركه وأنت تعلم أنه سيفترسه لا محالة يعد قتلاء وهكذا. 44 ونرى ذلك الرأى متلاقيا مع الرأى الأول فى الجملة» لأن كل ترك هو ترك لواجب ولا فرق بين ترك الإيواء ومنع الطعام» وبين منع الماءء كما لا فرق بين هذه وبين ترك الأم سرة ولدها من غير ربط» .لأن كل هذه فيها ترك لواجب. ”7- والذين يمرقون أو يحسبون أن ثمة فروقا يقولون: إن هناك واجبات إنسانية خلقية» وواجبات قانونية» فإذا كان الذى ترك يملك الترك بحكم القانون لا يعد قاتلاء وإن كان الذى ترك لا يملك الشرك بحكم القانون كترك السرة من غسير ربط يعد قاتلا . وفى الحق. إن هذه تفرقة فى أحكام القوانين» أما فى حكم الشريعة» فإن من يرى إنسانا متعرضا للأذى عليه أن يعمل كل ما فى طاقته لمنع الأذى» لا فرق بين الماء والزاد والافقتراس» وقد ثبت ذلك بقول النبى كلد فيما رواه أبو سعيد الخدرى: «من كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر لهء ومن كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له4. ويقول الراوى: ثم أخذ يعد أصناف المال حتى ظننا أن ليس لنا حق فى فضل أموالنا. وكان ذلك فى سفر وإن التعاون الذى أوجبه الإسلام يوجب تلك الأفعال التى يكون فيها إنقاذ للنفئس البشرية» أو دفع للأذى عنها. ولهذا نرى أن الرأيين متلاقيان» والتفرقة بينهما غير مبينة . وإن كان ثمة اختلاف بين الفقهاء الذين اعتبروا القتل بالترك موجبا للعقاب» فهو فى تفصيل أحكامه. لا فى أصله» ولا فى القاعدة التى قام عليها . -١7*‏ هذا نظر جمهور الفقهاء يرون أن الجريمة بالترك عقوبتها كعقوبة الجريمة بالفعل » » ما دام قذمتحقق العدوان» وثبت القصد بأن تبين أنه كان يعلم يقينا ترتب الموت على الترك» كما قرر ابن حزم. والحنفية لا يعتبرون الجريمة بالترك كالجريمة بالفعل بحيث تكون لها عقوبتها. فمن ترك شخصا حتى مات جوعاء وهو يعلم أنه لا زاد معه» ولا يمكنه الحصول على زادء إذ هما فى بادية منقطعة. فإنه لا يعاقب عقوبة القتل» فلا يقتص منه. ولا يدفع دية» وكذلك من رأى شخصا يغرق» وهو يستطيع إنقاذه فلم ينقذه فلا يعد تركه جريمة قتل يعاقب فيها عقوبة القاتل خطأ أو عمداء ومن ترك شخصا حتى مات عطشا لا يعد قاتلاء وإن كان يعلم أنه سيموت لا محالة» إن لم يسقه هو الماء» بل أكثر من هذا قد قال أبو حنيفة: إن من أغلق على شخص بابا وتركه حتى مات جوعا لا يعد قاتلاء وقال الصاحبان: يعد قاتلاء ولكن لا يقتص منه بالقتل» بل تجب عليه الدية» مع أن القتل كان بعمل إيجابى» لا بمجرد التركء إذ إنه قد أغلق الباب دونه» وإليك ما جاء فى البدائع فى هذا المقام: «ولو طيّن على أحد بيتاء حتى مات جوعا أو عطشا لا يضمن شيئا عند أبى حنيفة» وعندهما يضمن الدية» وجهة قولهما إن التطيين عليه تسبب لإهلاكه. لأنه لا بقاء للآدمى إلا بالأكل والشرب» فالمنع عند استيلاء الجوع والعطش عليه يكون إهلاكا له فأشبه حفر البئر على قارعة الطريق» ولأبى حنيفة أن الهلاك حصل بالجوع والعطش» ولا صنع لأحد فى الجوع والعطش» بخلاف الحفرء فإنه سبب للوقوعء والحفر حصل من الحافرء فكان قتلا تسبباء ولو أطعم غيره سما فماتء فإن كان قد تناوله بنفسه فلا ضمان على الذى أطعمهء لأنه أكله باخمتياره» ولكنه يعزر ويضرب ويؤدب؛ لأنه ارتكب جناية ليس لها حد مقدور وهى الغرر فإن أوجره السم فعليه الدية. وعند الشافعى رحمه الله عليه القصاصء لأنه ارتكب جناية)17؟ . - وبهذا يتبين أن مذهب الحنفية يقول إن الجريمة بالترك لا تعد فى حكمها كالجريمة بالفعل» فالجريمة السلبية ليس لها عقاب الجريمة الإيجابية» فالقتل بالترك ليس فيه دية ولا قصاص كالقتل بالفعل» بل إن أبا حنيفة لا يعتبر القتل بالمنع من الطعام والشراب قتلا موجبا الدية» مع أن هذا المنع اقترن بعمل إيجابى وهو تغليق الأبواب حتى مات جوعا. والأساس الذى قام عليه رأى الحنفية فى هذا يتكون من عناصر ثلاثة: أولها : أن العبرة عندهم فى الجريمة بالجريمة المباشرة» فالقتل تكون الجريمة فيه إذا باشرهاء أو تسبب فيه بفعل ترتب عليه الموت لا محالة» واتصل الموت بالفعل الذى كان سببا فى القتل» وكان الفعل اعتداء» فمن حفر بئرا فى الطريق العام أو حفرة» فتردى فيها إنسانء ومات فإن القتل سببه ذات الحفرء والحفر كان اعتداءء فيكون الحافر قاتلا» وإذا وصف الحافر بأنه قاتل» فإنه فى هذه الحال تجب الدية . أما الترك حتى يموت غرقاء أو عطشاء أو يفترسه ذئب أو أسدء فإن السبب فى القتل ليس هو الترك. إنما هو الجوع والعطش» وليس بفعله». فلا يوصف بأنه قاتل. ثانيها : أن الأساس فى اتصاف الشخص بجريمة القتل أو الجناية على النفس أو الأطراف بشكل عام» هو أن يصدر عنه فعل إيجابى متصل بالنتيجة» وهى القتل أو نحوهء والتارك لا ينسب له عمل إيجابى» إذ إن السلب لا يعتبر فيه الشخص قد قام بعمل إيجابى فى ذاته . الثها : أن الاعتداء وصف للأفعال» وليبس وصفا للامتناع » فلا يمكن أن يكون الممتنع فاعلاء وفوق ذلك فإن الاعتداء يكون معناه أن يتجاوز الشخص ماله من حقوق استمدها من الشارع» والزاد والماء ونحوهماء كلها حقوق للإنسان له أن يعطى منها ما دق البدائع جلا ص 70 طبع الساسى . شاءء ويمنع منها ما شاء» ومن يستعمل حقا له لا يعد معتديا أو مجرماء وإن كان يعد آثما لا يعد مرتكبا جريمة القتل. ه- وينبغى التنبيه إلى أن الفقهاء الحنفية مع أنهم يعتبرون الترك الذى تترد عليه جريمة موجبا لعقوبة هذه الجريمة على حسب مرتبتهاء قد قرروا أن ذلك الترك إثم لاريب فيهء. ومخالفة وعصيان لأوامر النبى َل ولكن هذا الإثم إذا ثبت لدى القاضى أنه مقصود به الأذى والشرء فإنه بلا شك يكون جرية لها عقوبة ليست مقدرة إنما تكون عقوبتها بالتعزير الذى يراه الإمام» وينظم ما يترتب عليه. فالفرق بين الحنفية وغيرهم: أن غير الحنفية يعتبر الترك جرية إذا نتج عنها ما ينتج عن الفعل» وتكون عقوبة الترك كعقوبة الفعل» والحنفية لا ينسبون الجريمة إلا إلى السبب الباشر الذى اتصل بهاء إذ ليس الترك هو السبب اللمباشر المتصل» ومع ذلك فإن التارك آثم ب يستحق العقاب بعقوبة أخرى ليست هى عقوبة النتيجة لذلك الترك. 5- ويظهر أن الجرائم السلبية لم تكن موضع عناية علماء القوانين الوضعية فلم يفصلوا القول فيها تفصيلاء كما فعل فقهاء المالكية والظاهرية وغيرهم تمن اعتبروا الجرائم التركية كالجرائم الفعلية» وقد تعرض لهذا النوع من الجرائم الأستاذ على بدوى» فقال تحت عنوان القصد الإيجابى والسلبى ما نصه: «يذكر بعض الفقهاء تنويعا جديدا للقصد الجنائى» فهو إما أن يكون إيجابياء وإما أن يكون سلبياء والقصد الإيجابى هو الذى ينفذ بارتكاب فعل كالقتل بسلاح» والقصد السلبى هو الذى يتحقق بالامتناع أو بالترك» كما فى الجرائم السلبية العمدية» وفى الجرائم الإيجابية التى تتم بطريق سلبى» ويقول بعض كبار الفقهاء فى النوع الأخير من الجرائم فى الضرب أو الجرح أو العاهة أو الموت الذى يحدث بالترك أن العلم أو القصد فيها لا يمكن اعتباره إلا إهمالا فاحشا يؤدى إلى المسئولية غير العمدية» لأن النصوص لا تسمح بالعقاب عليها كجرائم عمدية(" . -١0‏ ولقد ذكر الأستاذ على بدوى أيضا أن أنظار العلماء مختلفة فى أصل فكرة العقاب على الجرائم السلبية» فذهب الفقه الألمانى إلى وجوب معاقبة المجرم الذى ارتكب جريمته بطريق سلبى كالمجرم الذى ارتكب جريته بالإيجاب تماماء وذلك كالوالدة التى تمتنم عمدا من إرضاع طفلها رغبة فى التخلص منه بالموت» ومحول طريق القطارات فى السكك الحديدية الذى لا يحول القضيب قبل قدوم القطار بقصد إحداث حادث» ومن كلف حراسة أعمى ورآه يتردى فى بئر فتركه عامدا حتى تردى فيهاء ويشترط أولثئك الالمان لكى تكون العقوبة على جريمة الترك جريمة الإيجاب أن يكون . الأحكام العامة في القانون الجنائى للأستاذ على بدوى ص هلا”‎ )١( فل التارك مطالبا قانونا بالفعل الذى يكون فيه صيانة المجنى عليه من الأذى» فإذا لم يكن مطالبا بالفعل بحكم القانون» فإنه لا يعاقب فيه على التركء لأنه ما خالف القانون. بل خالف المبادئ الإنسانية من إحسان ومروءةء لأآن هذه لا يفرض القانون عقوبة على تركها . هذا ما يقرره الألمانء وذهب أكثر الفقهاء الفرنسيين إلى أنه لا يمكن اعتبار من امتنع عن أداء واجبه قاصدا وقوع جريمة مسئولا عنها كمسئولية الذى ارتكبها بالفعل». وقد كان العمل على ذلك فى فرنسا إلى أن صدر التعديل الخاص بذلك سنة ١894‏ فنص على حال الامتناع عن تغذية الصبى القاصر الذى لم يبلغ خمس عشرة سنة بقصد قتله جوعاء وهو نص استثنائى لا يجوز القياس عليهء ولكن جارسون يرىدأن يضاف إلى ذلك الممتنع عن واجب قانونى نحو شخص موكل بقيادة أعمى أو بتغذية طفل أو مجنون أو أشل إذا امتنع عن أداء واجبه عمدا فحدثت له إصابة أو وقاة؛ لأن الامتناع هنا فى قسوته يصل إلى حد الارتكاب» ويقرر أن مقتضيات العدل تستلزم إصدار تشريع جديد بذلك سدا لهذا النقصء فهو إذن يؤيد أن النص الخاص لا يقاس عليهء ويزيد أنه تحقيقا للعدالة يجب إضافة هذه الأحوال:10' . 8- ويقول الأستاذ الدكتور السعيد مصطفى: إن فرض المساواة بين الفعل والترك فى الجرائم لا يتحقق إلا إذا كان الجانى محملا بواجب قانونى يتعارض مع موقفه السلبىء وإلا كان الأمر لا يخرج عن نطاق الواجب الأدبى» وهو فى ذلك يقيد بالنص الفرنسى» وما يشهد بهذا القيدء ويجعله قيدا عاما فى كل الجرائم السلبية» وبذلك يتجه نحو الفقه الألمانى الذى حكاه الأستاذ على بدوى. ويقول فى ذلك: «والواقع أن موقف الجانى فى هذه الحال أكبر من أن يعد مجرد موقف سلبى؛ ذلك لأن عدم قيامه بما يقتضيه واجبه نحو المجنى عليه يكون وضعا قانونيا وفعليا مرتبطا بحال هذا الأخيرء بحيث يكون امتناع الجانى عن القيام بواجبه فى حقيقته عملا خارجيا أحدث النتيجة التى يعاقب عليها القانون» . وينتهى إلى تقرير هذه القاعدة فى الجريمة السلبية التى يعاقب عليها بمثل عقوبة الجريمة الإيجابية «إن المساواة بين الامتناع والفعل تكون إذا كان الامتناع عما يفرضه القانون» أو عما يفرضه الالتزام» أو عن حال يوجدها الجانى نفسه كمن يحبس شخصا ثم يتركه يموت جوعاة""". 4- وليس للقضاء المصرى فى هذا الموضوع مبادئ مقررة» لأن محكمة النقض لم تقل كلمتهاء وأحكام المحاكم ليست على منهاج واحد. فقضى بعضها بعدم اعتبار . 7# الكتاب المذكور ص 7.7/7 وهامش‎ )١( . (؟) ملخص من الأحكام العامة فى قانون العقوبات ص56‎ 1١٠١ ترك السرة من غير ربط قتلاء وذلك يدل على أن الترك لم يعتبر جريمة كالفعل. وقضى مع ذلك بأن الحارس على زراعة محجوزة إذا تركها حتى أتلفتها الرياح يعد مبدداء مع أن ما ارتكبه ليس إلا تركا. وقد جاء فى أسباب الحكم: «كان من الواجب على التارس أن يحافظ على الزراعة التى سلمت إليه. ويستصدر أمرا بجنيهاء ويحفظها حتى.يقدمها للمحضر عند طلبها. أما أن يتركها كما يدعى تذروها الرياح» فهو والاختلاس سواءء والجريمة متوافرة الأركان» إذ إن الجريمة كما تتم بفعل إيجابى تتم بالفعل السلبى متى كان 7 القانون يستلزم من الشخص أن يأتى عملا إيجابياء فلا يعمله. ويمتنع عن أداء الواجب الذى فرضه القانون)27 . ويرى الدكتور مصطفى السعيد فى جرائم الترك وجرائم الإيجاب أن العبرة فيهما بتواتر السلبية بين الامتناع والنتيجة. وإثبات القصد إليها. ويقول فى ذلك: «قد يكون النشاط الإجرامى سلبياء فيكون من الامتناع عن عمل يفرضه القانون وهو نشاط نادر. إن الغالب أن تكون الجرائم إيجابية» لأن الشارع ينهى أكثر مما يأمر. . . ومن المسلم به أن الامتناع يساوى الإيجابء. وأن السلوك الإجرامى يتكون من الامتناع» وذلك لما يحدثه فى العالم الخارجى من آثار. . . فالقانون يهتم عادة فى وصف الجريمة ببسيان النتيجة الضارة المقصودة. ولكنه لا يهتم بالوسيلة التى يلجأ إليها الفاعل للوصول إلى هذه النتيجة» فجميع الوسائل لديه سواءء إلا إذا نص على خلاف ذلك فاعتبر الوسيلة عنصرا فى الجريمة» فالقانون يتكلم على القتل والضرب والجرح أى على نتائج لأنواع السلوك الإجرامى» لايهم أن يكون بطلق نارى» أو بآلة حادة» أو بالامتناع عن إطعام المجنى عليهء لأن النشاط فى الحالتين يرتب أثرا واحدا فى العالم الخارجى. فكل تفرقة بين وسيلتين لا تكون مقبولة». ثم يقر أن ما يشترطه الشراح من أنه يجب أن يكون الامتناع قد جاء مخالفا للواجب أو يكون المجنى عليه عاجزا عن حماية نفسه.ء قد تكون هذه ضوابط لعلاقة السببية . أى أنه يشترط أن يكون الامتناع فيه مخالفة لواجب قانونى» أو أن يكون المجنى عليه عاجزا عن وقاية نفسه من نتائج الترك» على أن هذا الاشتراط لتوافر السببية لا لأصل اعتبار الترك جرية . وإن ذلك الكلام مستقيم بالنسبة لاشتراط العجزء فإنه لا تتوافر السببية إلا إذا كان ثمة عجز عن مفاداة آثار التركء أما كون المتروك واجباء فإن ذلك لا ارتباط له بالسببية» فقد يكون المتروك أمرا ليس بواجب قانونى» ومع ذلك يؤدى الترك لامحالة إلى الموت» فالسببية قائمة. دلق شرح قانون العقوبات للدكتور محمود مصطفى ص”87١1‏ . 6١ 14- هذه هى جريمة الشرك فى القانون» والأنظار المختلفة فيها تتلخص فيما يأتى : أولا : أن كلمة الفقهاء فى القوانين الوضعية تكاد تطبق على أنه إذا كان الترك الذى ترتبت عليه جريمة أو أذى لم يكن تركا لواجب قانونى فرضه القانون لا تكون جريمة الترك كجريمة الفعل» بل يظهر أنه لا تكون جريمة؛ وذلك لأنه يجب أن يكون فى الترك ابتداء عصيان القانون حتى تجرى المؤاخذة» إذ إن القوانين لا تحاسب على مبادئ الإحسان والمروءة» ونحو ذلك من قواعد السلوك العام. ثانيا : أن الفقه الألمانى يوسع نطاق الجرائم بالترك» ويعممها فتشمل كل ترك لواجب يؤدى فى نتائجه إلى جريمة» وأن القانون الفرنسئى لم ينص إلا على جرية ترك الصبى الذى لم يبلغ الخامسة عشرة حتى يموت جوعاء وأن الشراح الفرنسيين نقدوه. لأنه كان يجب أن يعمم كل أحوال الترك للعاجزين ممن وكل به أمر رعايتهم ووقايتهم من الأذى». وأن القانون المصرى ليس فيه ما يجعله يسير على المنهاج الألمانى أو الفرنسى» وأن القضاء لم تتقرر فيه مبادئ بعدء وأن بعض الشراح يرى تعميم أحكام الجرائم بالترك ما دامت رابطة السببية تتسحقق فيهاء ولكن ذلك رأى لم يحقق بعد فى التطبيق القضائى بشكل شامل . ش ثالثا : أن الترك الذى اعتبره القانون موجبا للعقاب ليس سلبا من كل الوجوهء بل فيه معنى الإيجاب. -١‏ وإنه بعد هذا الاستعراض للآراء المختلفة والمناهج المختلفة ننتهى بلا ريب إلى أن فقهاء المسلمين قد سبقوا إلى دراسة الموضوع دراسة وافية من كل نواحيه» حتى الأمثلة التى يسوقها العلماء فى الفقه الحديث هى بعض الأمثلة التى ذكرها فقهاء المسلمين» ولعل النقل الذى نقلناه عن ابن حزم يوضح تام التوضيح كيف كان ابن حزم يربط بين الترك والجريمة ربطا يجعله سببا لهاء وكيف كان يفرض العمد والخطأ وهو نص لم نظفر بمثله موضحا مبينا محررا فى الكتب التى تصدت لبيان وضع هذه الجريمة فى القوانين الحديثة» وإنا لهذا نسجل سبق المسلمين إلى تحرير هذه الجريمة بما لم يسبقوا بمثله . وإنه بالمقارنة بين الفقه الحديث والفقه الإسلامى نجد الفقه يتلاقى مع مذهب أبى حنيفة فى الجملة» فأبو حنيفة لم يعتبر أن الجريمة بالترك تكون عقوبتها كعقوبة الجريمة بالفعل» وإن كان يفرض لها عقوبة» ولا يخليها من معنى الإجرام» ولذلك يقرر فقهاء المذهب الحنفى أن من يكون فى بادية ومعه فضل ماء وبجواره شخص لا ماء معه ويغلب على ظنه أنه سيموت إن لم يشرب من ماء صاحب الماء وامتنع الآخر عن سقيهء فقاتله فقتلهء. فإنه لا دية لهء لأن المنع اعتداءء فكان طالب الماء حاله خال ٠١ه‎ المعتدى عليهء وهذا يدل على أن أبا حنيفة يعتبر الترك إجراماء وإن لم تكن عقوبته هى عقوبة الفعل فى الجريمة. والفقه الألمانى يتقارب من مذهب مالك والظاهرية» وإن كان دونهماء لأنه اعتبر الترك جريمة إذا كان تركا لواجب قانونىء بينما هذان المأهبان وغيرهما لا يفرقان فى مثل هذه المسألة بين واجب قانونى وواجب دينى ؟ لذن الواجب الدينى إذا ترتب على تركه تعريض حياةة للتلف يتحول إلى واجب قضائى. وإن ذلك مقرر حتى فى مذهب أبى حنيفة» فإرضاع الأم لولدها واجب دينى عليهاء ولكن إذا كان الولد لا يلقم إلا ثديهاء أو لم يكن للولد ولا لأبيه مال يستأجر به ظثرا لترضعهء ويخشى على الولد الهلاك. فإن ذلك الواجب ينتقل من مرتبة الواجب الدينى المجردء إلى الواجب القضائى الذى يحكم به القضاء. الأقسام . ْ الجرائم المقصودة والجرام غير المقصودة 17:- إن كان عمل فيه إيذاء يعد جريمة فى ذاته» لأن الجريمة إفسادء وتفويت للمصالح المقررة فى الشرع الإسلامئ المطلوب حمايتهاء سواء أكان الإيذاء مقصودا أم غير مقصودء بل سواء أكان مسئولا مسئولية جنائية أم غير مسئول» على نظر فى ذلك قد نبينه فى موضعه. وعلى ذلك كانت الجرائم قسمين» جرائم مقصودة وجرائم غير مقسصودة. فالجرائم المقصودة هى الجرائم التى يباشرها الشخص عامدا مريدا لهاء عالما بالنهى عنها وبأنها معاقب عليها. وعلى ذلك فالجرائم المقصودة لابد أن تستوفى ثلاثة عناصر. تعمد لهاء وإرادة حرة مختارة لفعلهاء وعلم بالنهى. والجرائم غير المقصودة هى التى فقدت عنصرا من هذه العناصرء فإذا كانت خطأ لا تعد مقصودة». وكذلك إذا كانت بالإكراه الملجئ لا تعد الجريمة مقصودة؛ لأن المجرم ما قصد القتل فى ذاته» إنما قصد إنقاذ نفسهءعلى كلام فى ذلك بين الفقهاء» ستبينه فى . موضعه عند الكلام فى الإكراه على الجرائم» ومدى التبعية الملقاة على المكره. وكذلك إذا كان الجانى فاقد التمييزء أو كان تمييزه ناقصا لا يعد قاصدا الإجرام؛ لأن القصد الصحيح يستوجب العلم بالنتائج المترتبة على الفعل علما كاملا يجعله متحملا تبعة ما يفعل» وعلى ذلك فجرائم الصبى لا تعد عمدية» ولا تجرى عليها 665 أحكام الجرائم» ولنشر بكلمة إلى كل واحد من الخطأ والجهل مؤجلين الكلام فى الإكراه إلى موضعه. -١147‏ فإذا لم تكن الجريمة متعمدة كانت خطأء والخطأ على نوعين» خطأ فى القصد. وخطأ فى الفعلء. فالخطأ فى القصد أن يرى شيئا يظنه صيداء فإذا هو إنسان» أو يرمى من يظنه عدوا محاربا فيتبين أنه وطنى أو مسلم . فالخطأ فى هذه المحال كان خطأ فى القصدء إذ إن الفعل وقع كما أراد فهو قد صوب السهم إلى هدفه قأصابهء ولكن الغلط كان فى اعتقاده هو وقصده. والنوع الثانى: خطأ فى الفعلء وذلك أن ترمى هدفا معينا مقصوداء فتنحرف الرمية وتصين شخصاء فكان الخطأ فى الفعل» إذ القصد سليمء ولكن الفعل هو الذى نبا . ويعلل الزيلعى ذلك التقسيم بقوله: وإنما صار الخطأ نوعين؛ لأن الإنسان يتصرف بفعل القلب والجوارح» فيسحتمل فى كل واحد منهما الخطأ على الانفرادء أو على الاجتماع بأن رمى آدميا يظنه صيداء فأصاب غيره من الناس» وفى هذا القسم خطأ فى القصد والفعل معاء إذ هو أخطأ فى قصده فظن الآدمى صيدا ورماهء ومع ذلك لم تصبه الرمية» وأصابت غيره» فكان الخطأ فى الفعل أيضاء وبذلك التقى النوعان» إذ هما ليسا متناقضين» حتى لا يمكن جمعهماء بل إن الجمع بينهما ممكن. 14- هذا هو الخطأ بنوعيهء إن الشخص يفقد فيه القصد إلى الاعتداء على المجنى عليه» بل يقصد غيره أو يقصده على اعتقاد أنه ليس إنسانا محرم الدمء وهذا الخطأ فيه علم بالجريمة وقت وقوعهاء أو فيه وعى كامل» وإن كان قد اقترن به الخطأ الذى أدى إلى هذه النتيجة غير المقصودة . وهناك جريمة تقع» والشخص فاقد العلم وقت وقوعهاء وهذه يقول الفقهاء عنها: إنها جارية مجرى الخطأء ومن صورها أن ينقلب النائم على طفل مثلا فيقتله وقد علل الزيلعى كونه جاريا مجرى الخطأ وليس خطأ بقوله: (إن هذا ليس بخطأ حقيقة لعدم قصد النائم إلى شىء حتى يصير مخطنا لمقصوده. ولما وجد فعله حقيقة» وجب عليه ما أتلفه كفعل الطفل» فجعل كالخطأء لأنه معذور»(2. وفى الحقيقة: إن الجارى مجرى الخطأ يتشابه مع الخطأ فى الفعل» ولا يتشابه مع الخطأ فى القصدء لأنه فى الخطأ فى القصد كانت الإصابة مقصودة» ولكنها على ظن مخطئ» لا على علم صادق. أما هذا فالجريمة نتيجة فعل مجردء كالخطأ فى الفعل» إذ الجريمة فى خطأ الفعل نتيجة تخطى الفعل هدفه إلى غيره. . ١ص التبيين جا ا‎ )١( ومع أن التشابه ثابت بين الخطأ فى الفعل والجارى مجرى الخطأ لا يمكن أن يعد نوعا منه» لأن الخطأ بنوعيه صاحبه علم ووعى» وهذا لا يصاحبه علم ولا وعى» ولأن معنى الخطأ فى حقيقته يقتضى نوعا من العلم والقصد إلى الفعل» وهذا لا يتوافر فيه علم ولا قصد إلى فعل ما. 5 - وإذا كانت الجريمة مع فقد العلم الذى توزن به الأمورء اعتبرت غير متعمدة. وذلك مثل الذى يقع من المجانين والمعاتيه» والصبيان» فإنه لا تسقط الجريمة عنهم لأنهم غير مكلفين» ولكن تسقط عنهم عقوبتها الأصلية» ويستبدل بها العقوبات المالية» ومن المقررات الشرعية أن فاقدى الأهلية يعدون مسئولين فى أموالهم عما يتلفون وعما يرتكبون» فإذا ما أتلفوا مالا ضمنوه فى أموالهم» وإن كانوا غير محاسبين على أقوالهم» وتصرفاتهم القولية ملغاة لا اعتبار لها» ولقد ألحقت كتب الحنابلة أفعال هؤلاء - ولو أنها ففى مظهرها متعمدة - بالخطأء ولذا قال ابن قدامة فى المغنى: «وقتل غير المكلف أجرى مجرى الخطأء وإن كان عمداء وهذه الصورة التى جرى ذكرها عن الأكثرين من قسم الخطأء فإن صاحبها لم يعمد الفعل» أو عمدهء وليس هو من أهل القصد الصحيح فسموه خطأ فأعطوه حكمه. وقد صرح الخرقى بذلك» فقال فى الصبى والمجنون عمدهما خطأ 7" . وبهذا يتبين أن القصد الجنائى الذى يأخذ وصف العمد لابد فيه من أن يكون الجانى ذا قصد صحيح مبنى على تقدير وإدراك عقلى كاملين» فإن فقد العقل» فإنه لا يكون له قصد معترف به مرتبا لأى تبعة» لأن وزنه للأمور غير سليم . 7- وإن لهذا التقسيم فائدة فى الشريعة جليلة» فإن الجريمة المقصودة هى عدوان مقصودء فهى إثم بنيتهاء وبارتكابهاء أمأ الجريمة غير المقصودة فإن النية ليس فيها أى إثمء ولا توجد مؤاخذة دينية إلا من ناحية الإهمال وعدم الاحتياط. ولذلك لا يعد الشخص مرتكبا جريمة القتل» ما دام لم يقصد إليهء وذلك فيما بينه وبين الله .تعالى» ولكن لحرمة الآدمى» ولأنه لا يذهب دم هدراء ولحمل الشخص على الاحتياط والاحتراس دائما حتى لا يقع فى مثلها أوجب الشارع فيه عقوبة. . وإننا إذ نقول إن الخطأ ليس فيه إثم غير الإهمال إذا كان ما قصد إليه فى الأصل كان مباحاء فإن لم يكن مباحاء فإن الإثم ثابت» كمن يصوب السهم نحو عدوه قاصدا قتله؛ فيخطئ الهدف. ويصيب شخصا آخرء فإن الإثم واقع عليه» لأنه هم بالسيئة وفعلهاء ولكن فاته تمام جريمته لأمر لم يكن من قبله وبإرادته» ولكن بالنسبة لهذا الذى ذهب فريسة الحقد بينهما تعد الجريمة قتلا خطأء إذ إنه لم يقصد إلى قتلهء وكان ثمة خطأ فى الفعل. . المغتى جلا ص577 طبع المنار الطبعة الثانية‎ )١( ٠١م‎ وإن الجارى مجرى الخطأ لا يعد فيه إثمء والعقوبة هى على عدم الاحتراس» وأما جرائم غير المكلفين» فإنها ليست فيها مؤاخذة من حيث الدين؛ لأنهم ليسوا مكلفين التكليفات الدينية» وإنما كانت العقوبة فيها مالية لأن فيها إتلافا وإفسادا وهم مطالبون فى مالهم بتعويض ما يتلفون. -١17‏ هذه فائدة هذا التقسيم من الناحية الدينية» والشريعة لها الجانبان الدينى والقضائى » وأما فائدة التقسيم من الناحية القضائية فواضح؛ لأن العقوبة فى الإسلام كما أسلفنا اللأصل فيها أن تكون بالقصاص فى الصورة والمعنى» وهذا لا يكون إلا فى الجرائم العمدية» أما الجرائم غير العمدية. فإن العقوبة فيها تكون بالقصاص معنى فقطء وإنه من الناحية الوضعية نجد القصد الجنائى ثابتا فى الجرائم العمدية وغير ثابت فى الجرائم غير العمدية» وأن الفقهاء لاحظوا القصدء فلم يعتبروا من الخطأ ما إذا أراد أن يضرب فى غير مقتل» فأفلتت يده وضرب فى مقتلء» فقد اعتبروا ذلك من الجرائم العمدية. ولم يعتبروه من جرائم الخطأء ولذلك جاء فى كتاب التبيين ما نصه: لو تعمد بالضرب موضعا من جسده. فأصاب موضعا آخر منه يجب القصاص» لأن المحل لم - والخلاصة أن الجرائم المقصودة فيها إثم دينى وعقوبة دنيوية شديدة» وغير المقصودة فيها الثم بالإهمال إن كان المرتكب مكلفك.ء وإلا فلا إثم. ولقد قال الزيلعى فيها: «وبهذا النوع من القتل (وهو الخطأ) لا يأثم إثم القتل» وإنما يأثم إثم ترك التحرز والمبالغة فى التثبت» لأن الأفعال المباحة لا تجوز مباشرتها إلا بشرط ألا تؤذى أحدا فإذا آذى أحدا فقد تحقق ترك التحرز فيأئم». هذا بالنسبة للإثمء أما بالنسبة للعقوبة الدنيوية فقد قال فيها: «الضمان فى الخطأء لضرورة صون الدم من الإهدارء ولولا ذلك لتخاطأ كثير من الناسء وأدى إلى التفانى ولأن النفس محترمة 2 فلا تسقط بعذر التخاطقى كما فى المال» فيجب المال صيانة لها من الإهدار)(22 , 14- والجريمة سواء أكانت مقصودة أم كانت غير مقصودة أحيانا تكون بالمباشرة من الجانى؛ بأن يحدث من الجانى الفعل متجها إلى المجنى عليهء سواء أكان قاصدا أم . غير قاصده وأحيانا يكون بغير المباشرة» بل يكون بالتسبب. كمن يحفر بئرا فى غير . شرح التبيين ج ” ص9ة‎ )١( ملكه فيتردى فيها أعمى» أو كمن يضع السم لغيرهء فتناوله على غير علم منه بما فيهء ومن غير أن يكون بسقى الجانى» فإنه فى هذه الحال يكون بالتسبب. وعلى ذلك تنقسم الجريمة من ناحية المباشرة إلى قسمين: جرية بالمباشرة» وجريمة بالتسبب من غير مباشرة. والتسبب له نواح كثيرة. منها شهادة الزور التى تؤدى إلى الحكم بالإعدام» ومنها أكثر الجرائم السلبية» فإن الجريمة فيها بالتسبب لا بالمباشرة» وأكثر الجرائم الإيجابية من قبيل الجرائم المباشرة» وإن كان بعضها يجرى فيه التسبب أيضا. وإن هذا التقسيم له فائدته» لأن بعض الفقهاء لا يجعل عقوبة التسبب كعقوبة المباشرة حتى فى حالة القصد إلى الجريمة» ومن هؤلاء الحنفية» وبعضهم يجعل التسبب كالمباشرة» فإن كانت المباشرة المقصودة عقوبتها القتصاص صورة ومعنى». فكذلك التسبب المقصود عقوبته القصاص صورة ومعنى. ويلاحظ أن الذين اعتبروا الجرائم السلبية كالجرائم الإيجابية أكثرهم قد قرر أن التسبب كالباشرة» والذين لم يعتبروا الجرائم السلبية وهم الحنفية لم يعتبروا التسبب كالماشرة» بل إنهم لم ينزلوا التسبب المقصود منزلة المباشرة غير المقتصودة فى بعض الأحوال فلم يجعلوا مثلا القتل بالتسبب كالخطأء بل جعلوا عقوبته أضعف من عقوبته» ويبدو ذلك فى أمرين: أولهما : أن القتل بالتسبب ولو كان القتل مقصودا لا كفارة فيه»ء وهى عتق رقبة أو صوم شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناء بينما القتل الخطأ وهو غير مقصود - فيه مع الدية الكفارة . ثانيهما : أن الحنفية لا يعتبرون القتل بالتسبب مانعا من الميراث» بينما القتل من موانع الإرث. والشافعية يعتبرون القتل بالتسبب الخطأ من كل الوجوه. أما غير الشافعية والمالكية» فيعتبرون القتل بالتسيب كالقتل المباشر. يأخذ المقصود حكم المقصودء ويأخذ غير المقصود حكم غير اللقصود. الجرائم الواقعة على الجماعة والواقعة على الآحاد - قلنا إن بعض الحرائم اعتبرها الشارع اعتداء عليه واعتبر العقوبة فيها حقا لله تعالى» وهى الجرائم التى اعتبرها الشارع خدشا للفضيلة الإسلامية واعتداء عليها. أو يكون فيها اعتداء مباشر على الدين» أو على الحكومة التى أقامتها الشريعة الإسلامية وتنفذ أحكام الإسلامء وقد ذكرنا أن الحدود الإسلامية وضعت فى جرائم ست هى: 1١٠ الردة» والزنى» وشرب الخمرهء والسرقة» والقذف. وقطع الطريق» وأن هذه الجرائم فيها اعتداء بلا شك على الفضيلة» وفيها اعتداء أيضا على نظام الدولة الإسلامية» وإن الجرائم سواء أكانت عقوبتها حدودا مقدرة» أم كانت عقوبتها غير حدود ولكن مقدرة من الشارع» أم كانت عقوبتها غير حدود مقدرة تختلف من حيث مدى الاعتداء فيها على الجماعة؛ ومدى الاعتداء فيها على الآحاد وإن كان التلازم بينهما ثابتاء فما من جريمة فيها اعتداء على الآحاد إلا تضمن فى ثناياها خدشا للناموس الاجتماعى» فقتل شخص - وإن اعتبر من حيث العقوبة جريمة شخصية فيكون لولى الدم القصاص أو العفو - هو فى ذاته اعتداء على الجماعة كلها كما هو نص القرآن الكريم : #من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قَتَلَ نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فَكَأنّمَا قل النّاس جميعا ومن أَحياها فَكَأَنّمَا أحيًا النّاس جَميعًا 074 , ففى هذا النص الكريم تصوير لمعنى الاعتداء على النفس بالقتل» وأن من قتل نفسا اعتداء فقد اعتدى على حق الحياة» وهو حق مشترك بين الجميع» فمن انتهك حرمتهء فقد انتهك حرمة الجميع . وكذلك ما من جريمة تصيب الجماعة إلا أصابت الآحاد بالأذى الشديدء فهتك الأعراض -جريمة تصيب للجما-عة» وتصيب الآحاد» وأى ا-مرئ ذى دين ومروءة لا يرضى بأن يعيش فى وسط جماعة تشيع فيها الفاحشة. -0١‏ وإذا كانت الجرائم كلها تعود على الجماعة والآحاد معاء فليست فى مقدار عودتها عليهما بقدر متساوء فقد يكون جانب الأآذى على الجماعة أكثرء وقد يكون جانب الأذى على الآحاد أشد. ومن الجرائم جرائم تنصب على الجماعة فى ابتدائها كقطع الطريق» وكغش البضائع فى الأسواق. وكالاحتكار فى الأزمات» وكإقامة أبنية أو ألواح خشب فى الطرقاتء فإن هذه الجرائم لا تصيب شخصا بعينه» ولكنها تصيب الكافة» وكل إنسان معرض لها. وهذا النوع من الجرائم يخالف جريمة غصب مال من صاحبه مثلا: أو غشه والتغرير به» أو النصب عليهء ونحو ذلك مما يقع على الآحاد ابتداء. وعلى ذلك كانت الجرائم قسمين» جرائم تكون على الجماعة» وجرائم تكون على الأحاد. وإن ذلك التقسيم يشمل الجرائم التى قدرت لها عقوبة بنص من الشارعء والتى لم تقدر لها عقوبة» كما تبين من الأمثلة . . ”” : سورة المائدة‎ )١( - ومن الجرائم الواقعة على الجماعة الحدود كلها على اختلاف مراتبها فى قوة الاعتداء على الجماعةء ومن الحرائم التى تعد اعتداء على الجماعة غش البضائع فى الأسواق واحتكارها ومنعها من العامة» وتلقى البضائع من الداخلين على المصرء ليتمكن التجار من احتكارها وبيعها بأكثر من قيمتها فى مغالاة فاحشة» ومن الجرائم التى تكون اعتذاء على العامة فتح المحانات» وإعلان بيع المخمورء وإن لم يشربها نائعهاء ومنها الأعمال الفاضحة الخادشة للإحساس العام» كتقبيل امرأة فى الطريق» أو الانزواء بها فى مكان خال» ولقد جاء فى الأحكام السلطانية لأبى يعلى ما نصه فى أعمال المحتسب: «إذا رأى وقوف رجل وامرأة فى طريق لم تظهر منهما أمارات الريب لا يعترض عليهما فما يجد الناس بدا من هذاء وإن كان الوقوف فى طريق خالية» فخلو المكان ريبة فيتكرها ولا يعجل فى التأديب عليها حذرا من أن تكون ذات رحم محرمء وليقل له: إن كانت ذات رحم محرمء فصنها من مواقف التهمة» وإن كانت أجنبية فاحذر من خلوة تؤديك إلى معصية الله تعالى)20 . ولقد كان عمر بن الخطاب - رضى الله عنه ونفع المسلمين بسيرته - ينهى عن طواف الرجال مع النساء ويعاقب من يخالف ذلك97" . ١67“‏ - وإنه فى مقابل هذا القسم الذى كان الاعتداء فيه على الجماعة مباشراء ويجىء على الفرد منه ما يخصه بالتوزيع بين آحاد الجماعة يوجد القسم الثانى» وهو ما يكون الاعتداء فيه على الآحاد» ثم يعلو منهم إلى الجماعة كالسب والضرب والجرح والقتل» فإن هذه الجرائم تنصب ابتداء على الآحاد» وفى نهايتها تمتد إلى الجماعة» إذ تنشر الفساد» وتجعل المظهر العام للبيئة غير فاضل» وفوق ذلك ما يكون فى السب العلنى» والأذى العلنى من جرح للإحساس العام وإزعاج للتنفوس بقرع الأسماع بالعبارات النابية» وصدم الأبصار بالمناظر المؤلة» فإن جرح الأجسام ينال معه نفوس الناظرين ذوى الإحساس الجماعئ الألوف العطوف. ولكنها اعتبرت جرائم على الآحاد بالنظر إلى ابتدائهاء لا بالنظر إلى انتهائهاء وبالنظر لمن وقع عليه الألم أشد. وإن الفارق الجوهرى كما تبين بين الجريمة الواقعة على الجماعة والجريمة الآحادية فى غير الحدود هو أن الثانية تنصب ابتداء على شخص معين» ويعود الأثر من بعد ذلك على الجماعة قليلا أو كثيراء أما الجماعية فإنها تنصب ابتداء على الجماعة» ثم تعود على الأفراد من بعد ذلك على وجه التوكيد» وقد ذكرنا لك الأمثال من نحو الغش فى البضائع التى تنشر فى الأسواق» والاحتكار فى الأزمات وغير ذلك. 2000 الأحكام السلطانية لأبى ' يعلى ص ا زفق الأحكام السلطانية للماوردى: . ١1 4- وإنه واضح من الأمثلة التى سقناها أن الجرائم التى لا يكون فيها عقوبة مقدرة يجرى فيها التقسيم السابق» فمنها ما هو اعتداء على الجماعة» ونشر البدع والتهتك والأعمال العلنية التى يكون فيها تحريض على الفسق» وعرض الجوارى فى الأسواق غير مستورات» جرائم فيها اعتداء ابتداء على الجماعةء وإن شئت فقل اعتداء على الآداب العامة أو النظام العام» وكذلك ترك الأذان» ومنع إقامة الشعائر. الدينية» والإغراء على الحرمات الدينية بكل أنواعه هو فى ذاته اعتداء على حقوق الكافة فى الابتداء وليس فى ابتدائه اعتداء على حقوق الآحادء ومن هذا أيضا شهادة الزورء فمن عرف بشهادة الزور تكون جريته منصبة على الجماعة» ولا تكون منصبة على الآحاد. لأنها بشيوعها تهدم أصلا من الأصول التى يبنى عليها القضاء العادل فى الفقه الإسلامى. والجحرائم الشخصية التعزيرية منها السب» وسلب الأموال» وأخذها بطريقة لا ينطبق عليها حد السرقة» فهذه الجرائم وأشباهها لا تعد اعتداء على الجماعة ابتداء وإنما تعد اعتداء عليها فى الانتهاء . 06 - وإن فقائدة هذا التقسيم تظهر فى العقوبة من ناحيتين: أولاهما : أن جرائم الاعتداء على الجماعة لا يلاحظ فى عقوبتها المساواة بين ذات الفعل والعقوبة» وهو ما لا يلاحظ فى القصاصء بل يلاحظ فى عقوبتها أن تكون مناسبة لآثارها الضارة المفسدة» وأن تكون مانعة من وقوع مثل ذلك الفعل فى المستقبل إذ هى من قبيل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكرء يلاحظ فيها الردع العامء» ولا يلاحظ فيها الجزاء الخاص على الفعل» فليست العدالة فى العقوبة فيها تكون بالمساواة بين الفعل وجزائته» إنما تكون بالمناسبة بين العقوبة وآثار الفعل ونتائج العقاب . أما الجرائم الآحادية» فإن العقوبة يجب أن يكون الملاحظ فيها هو المساواة بين الجريمة والعقاب. وهو القصاص على المعنى الذى وضحناه فيما أشرنا من قبل» وإن هذا القصاص لا يلزم فيه أن يكون العقاب من جنس الفعل» فإن هذا هو القصاص صورة ومعنى» إنما الملاحظ هو التساوى» ويكفى فيه القصاص معنى . الناحية الثانية : أن العقوبة فى الجرائم الآحادية تقبل العفو من المجنى عليه بينما الجرائم الجماعية لا تقبل العفو من المجنى عليه لأن العقوبة عليها حق المجتمع وحق المجتمع لا يقبل الإسقاط بعد ثبوته والحكم به. الجرائم السياسية وجرائم الرأى 7- ومن الجرائم العامة نوع يسمى فى العصر الحاضر الجرائم السياسية. وجرائم الرأى» وهى الجرائم التى يكون فيها اعتداء على نظام الحكمء أو على أشخاص الحكام بوصف كونهم حكاماء أو على قادة الفكر السياسى لآرائهم السياسية» وفى الجملة هى الجرائم التى يكون انبعاثها عن فكرة ونظر ولو كان منحرفاء ولا يكون القصد 1١11‏ رم فيها الاعتداء» فهى فى لغة العصر ليس القصد منها إجراماء أو إيذاء لمجرد الإيذاء» أو لجلب نفع شخصى للجانى» وإن كانت البواعث الشخصية قد يكون لها الأثر فى توجيه الفكر والرأى» إنما يكون الباعث على الجريمة هو الأمر الجماعى» ولو كان للناحية الشخصية والنفسية أثر فى توجيهه . وإن العلماء فى هذا العصر الذين يدرسون الأمور دراسة مجردة لا ينظرون إلى صاحب الرأى الذى يندفع تحت سلطانه إلى الاعتداء سواء أكان الرأى سياسيا أم كان اجتماعيا - على أنه مجرم فاسد النفس» بل على أنه صاحب رأى أخطأ السبيل فى نصرة رأيه» فليست نفسه نفس مجرمء وإن كان الفعل إجراماء وهو فى نظرهم أقرب ألا يكون للقصد الإجرامى مكان فى الاعتبار» فالقصد الإجرامى لم يكن ثابتا من كل الوجوه. وتلك النظرة قد يكون لها ما يبررهاء فإن آراء كثيرة كان إبداؤها يعد إجراماء قد صارت من بعد ذلك حقائق نظامية» أو سياسية» أو اجتماعية» أو اقتصادية» وإن من مصلحة الجماعة أن تكون الآراء حرة» وأن يعذر الذين يندفعون تحت تأثير الحماسة لهذه الآراء إلى بعض ما يعتبره الناس إجراما أو ما هو معتبر فى ذاته إيذاء.. وقد يكون المجنى عليه فى الجرائم قد ارتكب ما هو أشد وأتكى» وأن ما نزل به أقل قصاص اجتماعى» والعيب فى الجانى أنه لم يترك الكلمة للقضاءء ولم تجر فيه البينات والإثباتات» إذ الجانى قد جعل من نفسه شاهدا وقاضيا ومنفذاء ومن هنا كان خحطؤه. وكان اعتداؤه» وقد يكون الباعث شريفا. -١ 17‏ والجريمة السياسية كما نفهمها بلغة العصر ذات: شعبتين كل واحدة منهما لها ناحية خاصة . فأما الشعبة الأولى فهى أن يعتبر إبداء الرأى فى ذاته جريمة» كأن يدعو شخص إلى ما يسمى فى لغة الشرطة والصحافة والدوائر القضائية - المبادئ الهدامة - وهى الآراء التى تدعو إلى.نقض النظام السياسى أو النظام الاجتماعى» وهذه الجريمة تكون مادتها هى إبداء الرأى» لما يؤدى إليه من فسادء وتقويض للنظم والمقررات القائمة. والتى يكون من المصلحة بقاؤهاء وإن كان فيها ما يستحتق التغيير اتجه إلى تغييرها بالتدريج». لا بالطفرة» فإن الطفرة فى طبائع الأشياء والأمور السياسية والاجتماعية من الأمور غير المنتجة التى لا ترفع عدلا ولا تخفض باطلا. وهذه الناحية من الجرائم السياسية التى يسميها علماء القانون جرائم الرأى يتشكك علماء الاجتماع والأخلاق والقانون فى اعتبارها جريمة إذا كانت مجرد إيداء رأى من غير دعوة إلى عمل إيجابى يعد انتهاكا للحرمات, أو انتقاضا على النظام القائم» أو من غير أن يكون فى القول تحريض على عدم الطاعة للقوانين؛ وذلك لآن ١1 محاربة الرأى إذا كان فى تلك الحدود لا يتجاوزها - لا تعد من مصلحة الجماعة» وتعد المحاربة ذاتها اعتداء على حرية الرأى» والاعتداء على حرية الرأى يعد من الاعتداء على النفس كما قررنا من قبل» ولا يصح أن تمنع جريمة وهمية باعتداء حقيقى» وأن مصلحة الجماعة أن تكون فيها الآراء حرة غير مسقيدة إلا بأن تكون فى دائرة الدعوة بالمنطق والحكمة والموعظة الحسنة من غير اعتداء. وإن كان لابد من وضع عقوبات على الرأى واعتبار إبدائه فى بتعض الأحوال جريمة فلا بد أن يكون ذلك فى أضيق دائرة» وهى الأحوال التى يُُخشى فيها من أن . يكون مجرد إعلانه داعيا إلى الفتنة» فإن ضرر الفتنة أشد من ضرر منع الرأى» وأن المتولى لأمر الناس عليه أن يعرف أن العقوبة فى ذاتها مضرة» وأنها إن لم تكن دفعا لأذى أشد منها تكون إثما. والشعبة الثانية من ناحية الإجرام السياسى هى الأفعال التى يكون فيها اعتداء بالفعل نتيجة لاعتناق رأى» وفى هذه الخال تكون الجريمة فيما وقع لا فى أصل إبداء الرأى» وهذا لا خلاف فى أنه جريمة» ولكن تخت لف قوة وضعفا كما تختلف عقوبتها تبعا لاختلافها قوة وضعفا. ٠‏ 4- وقبل أن نخوض فى بيان نظر فقهاء المسلمين» والسلف الصالح من أئمة الهدى إلى هذا النوع من الإجرام - نذكر ما عليه الناس الآن فى النظر إليه. وإننا نجد نظر الناس يختلف اختلافا بينا بحسب الزمان» وبحسب المكان» وبحسب اللون. فالقانونيون فى أوربا كانوا من قبل الشورة الفرنسية التى هى الحد الفاصل فى أوربا بين الحرية والاستبداد» وبين الحكم الديمقراطى والحكم الأوتوقراطى. يعاقبون على هذه الجرائم بأشد ما يعاقبون به فى الجرائم العادية؛؟ وذلك ليحموا الملوك من طغيان الجماهير كما كانوا يزعمون. فما كان يهم القانونيين حماية الناس من الملوك أو الحكام بشكل عام. إنما كان يهمهم حماية الحكام من الناس» فكان نقد الملوك لا يجوزهء إذ إن ذواتهم كانت مصونة لا تمسء وهم من إنسانية عالية فوق الإنسانية التى يتصف بها كل الناس» وقد كان منهم من ادعى أنه يحكم بسلطة مقدسة تستمد قدسيتها من الله سبحانه وتعالى. 64- كان ذلك قبل الثورة الفرنسية» أما بعدها عندهم» فإن الإجرام السياسى نظروا إليه نظرة أعطف وأرفق فى معاملة الأوربيين» فكان القانونيون منهم ينظرون إلى الرأى على أنه حرء وقد فتحت كل الأبواب لإبداء الرأى وخصوصا فى البلاد التى تجردت من سيطرة الملوك. إلا إذا كان فيها حكم ديكتاتورى؛ وهو من حكم الفرد. وإن لم يكن قد سمى نفسه ملكاء بل سمى نفسه ديكتاتورا أو زعيماء أو نحو ذلك من ١1 الأسماء التى تدل على الانفراد بالسلطان فى ذاتهاء فإن الرأى فى هذه الأحوال يكون جريمة ما دام يخالف رأى الزعيم أو الديكتاتور. وفى غير أحوال الحكم الانفرادى فى أورباء فالآراء محترمة مصونة لا تمس ما دامت فى دائرة إبداء الرأى وكانت من أوربيين» ولم تكن من ملونين. والجرائم السياسية أو الاجتماعية التى تكون نتيجة لهذه الآراء إذ انحرف معتنقوهاء فإنهم كانوا ينظرون إليها نظرة أرفق من الجرائم التى لا تتصل بالسياسة» لأن الباعث ليس هو الإجرام . ولكن أولئك الأوربيين الأحرار فى بلادهم وجدناهم غير ذلك إذا تجاوزوا أقطارهم إلى البلاد التى منيت بحكمهم» وسلطهم الله عليها لتفكك أهلهاء فإن السياسة التى كانوا يسنونها لحكم هذه البلاد تقوم على أساسين: أولهما : اعتبار الرأى جريمة إذا اختلف مع سياستهم التى سنوهاء أو مع المنهاج الاجتماعى الذى أرادوه لهذه البلاد التى يحكمونهاء فقد يكون لهذا الرأى نواب يدافعون عنه فى بلادهمء فإذا انتقل من المغرب إلى المشرق كان جريمة لا تغتفرء بل لقد اعتبروا مجرد الطعن فى سياستهم أو مجرد الطعن فى الملوك أو الحكام الذين أقاموهم ظلا يستر حكمهم» جرما شديدا لا غفران فيه. ثانيهما : أنهم كانوا يشددون فى العقوبات على الجرائم السياسية أكثر مما يشددون فى غيرهاء فالمشائق كانت تقام لمن يرتكبون جرائم فى السياسة» ولو لم تكن الجريمة جريمة قتل» وكانوا يقيمون المحاكم الخاصة للمحاكمات السياسية لتكون غليظة شديدة» وليكون الإثبات فيها غير خاضع لقيود الإثبات بين يدى القضاء العادى. حتى إذا انقشع غيهبهم من أرضء. أو خف ظلامهم أبقوا فيهم ملوكا جعلوا لهم ذوات مقدسةء. تكبر جرائ تم نقدهم». وكانت أحكام القضاء لا تخرج عن ذلك النحوء فكانت تحتاط لذات الملك» ولا تحتاط لذات المتهم. وإنا لنرجو وقد زال من مصر ما كان يعتبره الباطل فوق القانون أن ينظر القضاء المصرى إلى الجرائم السياسية نظر الإسلام. وها هو ذا حكم الإجرام السياسى فى نظر الإسلام : -٠‏ عرف الإسلام الإجرام السياسى بنوعيه» فوجدت الآراء المنحرفة» والبدع الضالة التى لا يقصد بها إلا هدم الإسلام الذى كان هو قوة الدولة الإسلامية ورباطها وجامع وحدتهاء والرابط بين أشتاتها. كما وجد الاعتداء بالفعل على الخلفاء العادلين فقتل أعدل الحاكمين بعد النبيين عمر بن الخطاب» وقتل الشهيد عثمان بن عفان» وقتل فارس الإسلام على بن أبى طالب كرم الله وجهه. وسرى القتل فى ذريته الطاهرة من العترة النبوية الشريعة . 0 ١15 فكان إذن فى الإسلام النوعان من الإجرام: إجرام بإيداء الرأى المنحرف الذى يراد به فك عرا الإسلام عروة عروة» ووجد الإجرام بالفعل الذى لا يقف به المجرم عند الرأى يبديه» بل يتجاوزه إلى أن يحكم على مخالفه بالقتل من غير بينة إلا اعتقاده المنحرف» أو هواه المتحكم» وأن ينفذ هو الحكم فى غدر وخيانة» أو تبجح ومجاهرة بالعصيانء وإن واتته الأحوالء بل إنه حدث فى كثير من الأحوال أن تفاقم الأمرء وخرج الخارجون يحملون السيف على الحاكم ويحاولون أن يزيلوا حكمه؛ ويديلوا من دولته بأخرى يقيمونها. -0١‏ ومن أجل هذا كان للإجرام السياسى موضع فى الفقه الإسلامى» وقد عالج الخلفاء الراشدون هذا الداءء» وأخذ الفقهاء عنهم هذا العلاج» ولسنا نحاول أن نأخذ العلاج إلا من أقوال الفقهاء وأفعال الحكام العادلين» ولا نحاول أن نأخذه عن الملوك الذين تسموا بعد عصر الراشدين باسم الخلفاء» ولم يحاولوا أن يقوموا معوجاء أو يزيلوا فساداء بل كان الفساد أحيانا يخرج من بيوتهم» ويسرى بين الناس أهواء منحرفة» وآراء ضالة مضلة» ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم . - لقد وجدنا الجرائم التى تتصل بالحكم أو السياسة أو الآراء تنقسم إلى قسمين كما أشرنا: أحدهما : آراء منحرفة يبديها بعض الناس يكون نشرها فسادا وإفسادا أو تضليلا وضلالاء والقصد منها هدم الإسلام الذى هو قوام الدولة الإسلامية كما أشرناء ومن الأول سب الخلفاء والتعرض لهم بالقول الجارح» الذى يخرج عن حد اللوم الشديد إلى الطعن العنيف» وإن لم نجد السلف الصالح وضع ذلك فى قرن الجرائم المفسدة» بل منهم من لم يعده جريمة قط»ء وإن تناول أشخاصهم.؛ ومن عده منهم جريمة لم يعتبره إلا كالاعتداء على الآحاد» فليست له صفة خاصة تجعل الأمر يخرج عن مرتبة السب المعتاد إلى مرتبة أعلى» لأنهم ما كانوا يعتبرون أنفسهم صنفا ممتازا على الناس» مقتدين فى ذلك بالنبى كله . ثانيهما : الجرائم التى تقع بالفعل كالقتل» يقتل آحاد الأمة أو قادتها فى سبيل ذلك الرأى» وفى سبيل تهوين شأن الحكم والحاكمين» والتمكين لآرائهم أو لرجالهم من أن يحكموا ويسيطروا. أحيانا يخرجون بقوة منتقضة على سلطان الدولة» تنازعها القوة كما أشرنا فى كلامنا . 17- ولنتكلم فى النوع الأول - وهو الإجرام بالآراء المنحرفة أو الإجرام بالتهجم على مقام الخلفاء والطعن فيهمء والنيل منهمء ولنترك الجزء الأول» ونتجه إلى الجزء الثانى» وهو الطعن فى الخلفاء. ١1١7/ كان الخلفاء يجابهون بالقول المرء فيحتملونه» ولا يجدون غضاضة فى الاستماع إليه» إن كان فيه موعظة؛ أو رفع مظلمة» أو شكاية من أمرء ولو كانت العبارات نابية» فإن لصاحب الحق مقالاء كما قأل النبى علي ومن حق الحاكم العادل أن يستمع إلى مقالتهى ولا يتبرم بشكلهاء ولقد كان عمر بن الخطاب يلاقى من ذلك الشىء الكثير حتى من بعض كبار الصحابة . ولنذكر فى ذلك بعض ما حدث له من صحابى كبيرء فإنه يروى أنه أتى عمر بن الخطاب بثياب فقسمها بين المهاجرين والأنصار» وكان منها واحد يمتاز بجودة أو حسن صناعة؛ فقال الفاروق العادل: إن أعطيته أحدا منهم غضب الآخرونء وقالوا: إنى فضلته عليهم» فدلونى على فتى من قريش نشأ نشأة حسنة أعطيه إياه» فأسموا له المسور ابن مخرمة. فدفعه إليه» فنظر إليه سعد بن أبى وقاص على المسور» فقال: ما هذا؟ قال: كسانيه أمير المؤمنين» فجاء سعد إلى عمرء فقال: تكسونى هذا البرد (أى الثوب)» وتكسو ابن أخى مسورا أفضل منهء فقال: يا أبا إسحاق إنى كرهت أن أعطيه أحدكم فيغضب أصحابه فأعطيته فتى نشأ نشأة حسنة لا يتوهم فيها أنى أفضله عليكمء فقال: سعد: فإنى قد حلفت أضربن بالبرد الذى أعطيتنى - رأسك» فخضع له عمر برأسه وقال: رأسى عندك يا أيا إسحاق, وليرفق الشيخ بالشيخ.» فضرب رأسه 4- بمثل هذا العلاج السمح كان الخلفاء الراشدون الذين كان حكمهم صورة عالية للحكم الإسلامى يعاالجون من يحاولون النيل منهم» فما كانوا يغضبون إلا لله تعالى» وكانوا فى ذلك مقتدين بالنبى كَكِلْكّ فما كان حكمهم إلا هديا محمديا. ولقد ظهر الحاكم المسلم العادل بالنسبة لمن يطعنون فيه فى عهد الخليفتين ذى النورين عثمان بن عفان» وفارس الإسلام على بن أبى طالب كرم الله وجهه. فقد كثر الطعن فى حكمهماء فما انتقما لأنفسهما قطء وكانا يستمعان إلى نقد الناقدين ولوم اللائمين فما ينزلون نقمة بلائم» ولو كان لا يقصد وجه الله بقولهء بل يقصد الأذى بالخليفة وبحكمه. بل إن الشهيد عثمان بن عفان كان يحاول أن يخطب فيحصبه بعض السامعين». ولا يريدون بذلك إلا الفجورء وإنزال الأذى. وكذلك كان الأمر بالنسبة لعلى كرم الله وجههء فقد كان يصدم بالكلمة النابية فلا يجد فى ذلك ما يوجب عقاباء ولقد كان يكون على المنبر فيقاطعه مخالفون يرمونه بالكفرء فلا يفكر فى عقابهم» وإنه ليذكر أنهم رموه بالكفر قائلين له: لا حكم إلا للهء فيقول لهم هادئا مطمئنا: كلمة حق يراد بها باطل» نعم إنه لا حكم إلا لله» ولكن .١6ا6ص التاريخ - عمر بن الخطاب - لابن الحوزى‎ )١( 1١148 هؤلاء يقولون لا إمرة إلا لله وأنه لابد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل فى إمرته المؤمن» ويستمتع فيها الكافر» ويبلغ فيها الأجل» ويبلغ فيها الفتى» ويقاتل به العدو. وتأمن به السبل» ويؤخذ به للضعيف من القوى» حتى يستريح بر» ويستراح من فاجر. 6- لم يجعل أولئك العلية من الصديقين الأتقياء لأنفسهم منزلة فوق منزلة الناس » فلم يجعلوا أنفسهم فوق النقد واللومء بل دعوا الناس إلى نقدهم ولومهمء ولا يكون باب النقد مفتوحا إذا جعل الحاكم ذاته مصونة لا تمس» ولقد وقف عمر بن الخطاب يقول: «أيها الناس» من رأى منكم فى اعوجاجا فليقومه» فقال بعض السامعين: «والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا»» فقال الحاكم العادل: «الحمد لله الذى جعل فى أمة محمد من يقوم عمر بالسيف إذا اعوج». ولقد نهج ذلك المنهج كل حاكم عادل» لا يجعل لنفسه منزلة بسبب الحكم. بل إنه إذا كان يتحرج قبل الولاية من أن ينال بكلمة نابية» فإنه بعدها يفتح أذنه لمن يقول معتر-ضا عليه ولو بكلمة نابية» لكيلا يمتنع طالب الحق» ولكيلا يجمجم المظلوم ولا يتكلم . وإنه ليروى أن بعض الخوارج سب عمر بن عبد العزيز» فأرسل الوالى يذكر ذلك لهء وبيّن له أنه هم بقتل من سبه» فكتب إليه عمر يقول له: "لو قتلته لقتلتك بهء فإنه لا يقتل أحد إلا أن يشتم النبى لله فإذا أتاك كتابى هذا فاحبس عن المسلمين شره. وادعه إلى التوبة فى كل هلال» فإذا تاب فخل سبيله» . صفح الحاكم العادل عن شتمهء ولكن أمامه شر الرجل وفساد رأيه» واندفاعه إلى إيذاء المسلمين بتكفيرهم» ونشر الضلالة فيهم» فأمر بحبسه ليحبس شره عن المسلمين على أن يستتاب فى كل شهر» فإن تاب خلى سبيله. 7- إذن فليس فى الأحكام الشرعية ما ابتدعه الملوك من جعل ذواتهم فوق المستوى البشرىء وأن سبهم اعتداء على ذات مصونة لا تمس . نعم إنه وجد ملوك كانوا يفعلون ذلك فى الإسلام» ومنهم من تسموا بأسماء الخلفاء» فالوليد بن عبد الملك وأبوه وأشياعهم كانوا يقتلون من يسبهم ويعتبرون سبهم جريمة لا تغتفرء وعبد الملك بن مروان كان يقول: «من قال لى اتق الله قطعت عنقه»» ولكن أحدا من فقهاء الإسلام من عصر الاجتهاد الفقهى كان يظله حكم هؤلاء لم يذكر ذلك فى الجرائم على أنه جريمة توجب حدا أو توجب تعزيراء بل سكتواء وإذا كانوا لم يقولوا للحكام أخطأتم أو أصبتم» ولم يستطيعوا تحويلا ولا تغييراء فإنهم أيضا لم يقروا ولم يؤيدوا. وإذا كان هذا النوع من الأقوال كانت له عقوبة فى القوانين الحديثة فى البلاد الإسلامية أو بعضهاء فهو بدعة فى دين الله تعالى نرجو أن يبعدها هؤلاء الحكام من قوانينهم إن كانوا لا يزالون يعملون بالقرآن الكريم ومبادئ الإسلام السمحة. احلدل /1- هذا هو الجزء الأول من الرأى الذى يعتبر موضع مؤاخذة» وكان له عقاب صارم فى القرون الوسطى» وأقرته نظمها القانونية» ولكن الإسلام لم يقرهء ولم يقره فقه إسلامى . أما الجريمة الثانية» وهى الآراء التى تعد ابتداعا فى الدين» وتعد هجوما على المبادئ الإسلامية المقررةءفقبل أن نبين أنظار الفقهاء حولها يجب أن نقرر حقائق ثلاثاء هى لب الحكم الإسلامى» ودعامته والأسس التى قام عليهاء وفيها ما يبين مقاصد أعداء الدولة الإسلامية» وتلك الحقائق الثلاث: أولها : أن الدولة الإسلامية قامت على أساس الدين» فالعقيدة الإسلامية هى التى تحكمهاء فليس الأساس الذى يجمعها جنسية أو إقليمية» أو سلالة» أو نحو ذلك مما يجمع الأقاليم» ويربط بين الناس الذين يقيمون فى بقعة واحدة من الأرض» وينطقون بلغة واحدة» وإنما الجامع بينهم هو الدين» فمن يمس الدين» فقد مس الأساس الذى قامت عليه الدولة» وإذا انهار الأساس انهار البناء من قواعده. وإن ذلك الأساس تعرض للهزات العنيفة من أول نشأة الدولة الإسلامية فوجد من غير المسلمين من كانوا ينشرون بين المسلمين آراء منحرفة» لو أخذ بها لانحلت عرا الإسلامء ووجد من غير غير المسلمين من دخلوا فى الإسلام ليكيدوا لأهله. فلم يكونوا ذوى فكر حرء منبعث عن حقائق علمية اعتنقوها وفى إعلانها تقدم للعلم وإنارة للحقائق الإسلامية» بل كان الباعث إجراماء والنتيجة إفسادا يمس كيان الدولة» ويهزها هزا عنيفا. ثانيها : أنه فى آخر عهد الخلفاء الراشدين ومن بعد عهدهم اشتدت الدعايات التى كان القصد منها إفساد العقيدة الإسلامية» وبث روح الحيرة والشك فى نفوس المسلمين لتذهب دولتهمء ؛ ويستطيعوا من بعد ذلك أن يقيموا الدولة التى أبادها الإسلام» فالفرس الذين أذهب الإسلام دولتهمء منهم من دخل فى الإسلام ظاهراء وأراد الكيد له باطنا ليستطيعوا أن يهدموه فيهدموا الوحدة الإسلامية» ويقطعوا أوصالهاء فيكون من بعد ذلك ما يحكمون به وتصبو إليه أنفسهم . الثها : أن هذه الآراء المنحرفة: كانت تنشر , بين المسلمين» ليكون معها الفساد والضلال» ويقترن بها فى كثير من الأحوال قوة هادمة تشن الغارة على المسلمين» فالخوارج كانت آراؤهم ليست مجرد آراء» بل كانت وراءها قوة منتقضة تهدم البناء» والزنادقة الذين ظهروا فى صدر الدولة العباسية» وراجت سوقهمء واستطاعوا أن ينفثوا من السموم ما اتسعت له حياتهم» كانت وراءهم فى ذلك قوة المقنع الخراساني الذى انتقض على الدولة العباسية» وشنها عليها حربا قوية شديدة اللجب» وما هزمه المهدى إلا بعد حرب شديدة الأوارء وقد سبق حركته العنيفة انتشار الآراء المنحرفة فى أقوال د الكتاب والشعراء ومن كان لهم قدرة على بث الأفكار بين الجماهير. وكذلك حركة الزنوج الذين انقضوا على الدولة فى وسط الدولة العباسية سبقتها دعوات منحرفة» وكذلك القرامطة» وهكذا. 4- هذه الحقائق الثلاث تكشف لنا مقدار هذه الجريمة» وهى الزندقة والآراء المنحرفة» والباعث عليهاء والنتائج التى كانت تؤدى إليها فى كثير من الأحيان» ومنها يتبين أنها كانت نتائج خطيرة» وأن الذين كانوا يقولونها لم يكونوا ذوى آراء بريئة تجب حمايتهاء إنما كانوا مريدى انقلابات يدعون إليهاء ويدبرون لهاء أو يحرثون الأرض لتلقى فيها بذور الانتقاض» وما فيه تهيئة النفوس لتلقى الانقلاب» وحل العزائم لكيلا تقه فى سبيل تلك القوى متماسكة» ولبث روح الشك وزعزعة الإيمان فى نفوس ولتلك القضايا البالغة الأثرء ولما كانت تؤدى إليه تلك الحركات من فتن عمياءء يضيع فيها صوت الحق والعقل» وتتكلم الأهواء والشهوات والنفوس المنحرفة - وضع الفقهاء عقوبات شديدة فى كثير من الأحوال لهذه البدع. 4- وقبل أن نخوض فيما أقره الفقهاء نذكر ما كان يفعله الراشدونء» وإنه كان من نعمة الله على الفقه الإسلامى أن ابتلى عالم الصحابة وأقضاهم على بن أبى طالب بأن ظهرت الآراء المنحرفة فى عهدى. لأنه قادر على بيان شرع الله فكان فى عهده الشيعة الذين غالوا فيه مغالاة شديدة» حتى ادعى بعضهم أنه إله أو حل فيه الإله» وقد عاقب هؤلاء بأقصى عقاب, وهو القتل» لأنه اعتبرهم مرتدين» وعقوبة المرتد القتل. كما ظهر فى عهده القول فى القدرء والكلام فى القدرة الإنسانية بجوار قدرة الله تعالى» وهل الإنسان مختار فيما يفعل» له الإرادة المطلقة فيه» حتى يكون مسئولا عن فعله إن كان خيرا فخيرء وإن كان شرا فشرء وقد وجد من حكم بالجبرء ووجد من حكم بالاختيارء ولم يعاقب أحد الفريقين» بل كان يهدى ويرشدء ويبين الحق فى القضيةء لأنه وجد نفسه أمام ضالين فأراد أن يهديهمء فتجرد للبيان» وهو إمام المسلمين. كما وجد فى عهده الكلام فى مرتكب الكبيرة» ومن المسلمين من قال: إنه كافرء فلم يعاقبهم على قولهم» بل جادلهم بالتى هى أحسنء والذين ينتقدونه فى حكمه يبين لهم وجه الحق فيما فعل أو قال غير مدخر بياناء وغير متجه إلى عقاب» ومما نقلته كتب التاريخ فى الرد عليهم وهم يرمونه بالكفر والضلال: «إن أبيتم إلا أن تزعموا أنى أخطأت وضللت» فلم تضلون عامة أمة محمد يلل بضلالى» وتأخذونهم بخطئى.» وتكفرونهم بذنوبى» سيوفكم على عواتقكم تضعونها فى مواض ضع البرء والسقمء وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب» وقد علمتم أن رسول الله ١١ كله رجم الزانى المحصنء, ثم صلى عليه. ثم ورثه أهله» ثم قتل القاتل وورث ميراثه أهلهء وقطع يد السارق وجلد الزانى غير المحصن» ثم قسم عليهما من الفىء؛ ونكحا المسلمات» آخذهم رسول الله كلد وآله بذنوبهمء وأقام حق الله عليهمء ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام» ولم يخرج أسماءهم من بين أهله؟. - وبهذا نرى أن على , بن أبى طالب كرم الله وجهه ما عاقب على إبداء الرأى ما دام الرأى ليس كفراء ولم يصحب إبداء الرأى ما يعلد جريمة بالفعل» ولكن رأينا عمر بن الخطاب رضى الله عنه من قبله كان يعزر أحيانا على سوء التأويل» كضربه سارقا عدة أسواط بعد أن أقام عليه الحدء وذلك لأنه لما سأله: لم سرقت؟ قال: قضاء الله تعالى. فزاده هذه الأسواط لسوء التأويل» وكذلك ضرب الذين شربوا الخمرء » فقال لهم: لم شربتموها؟ فقالوا: لأن الله تعالى يقول: ليس على الّذين آمنوا وَعملُوا الصالحات جَنَاحٌ فيما طَعموا ذا ما انوا آمو ١74‏ فضريهم أسواطا فوق الحدء لسوء التأويل» وقال رضى الله عنه: لو اتقيتم ما شربتم 20 وهكذا نجد -_عمر بن الخطاب ر_ضى الله عنه» ما كان يعاقب على الآراء إلا بالتعزير أحيانا تعزيرا يسيراء وخصوصا إذا كان إبداء الرأى جاء اعتذارا عن الجريمة . ونجد سيدنا عثمان رضى الله عنه أبعد الصحابى الجليل أبا ذر الغفارى إلى الربذة لأنه كان يدعو الناس إلى عدم اكتناز الذهب والفضةء ويرى أن ما كان يفعله الولاة من الظهور بأبهة الملك والسلطان من البدعء فقد نفاه معاوية أولا إلى المدينة» ثم نفاه عثمان من بعد ذلك إلى الربذة. وإنه يروى أنه كان يقول فى الشام: والله لقد حدثت أعمال ما أعرقهاء واللّه ما هى فى كتاب الله تعالى. ولا سنة نبيه يلد والله إنى لأرى حقا يطفأء وباطلا يحيا وصادقا مكذباء وأثرة بغير تقى». وصالحا مستأثرا عليه. وقد كان يرى أن كثرة المال واكتنازه أطفأت الإسلام فى القلوب» وأنه لكى تعود القلوب إلى حقيقة الإسلام كما بدأت لا يصح اكتناز الذهب والفضة» بل لا يبقى المرء منها إلا حاجتهء ولذا نفاه سيدنا عثمان خشية الفتة» وما كان مبتدعاء ولا خارجا. ولقد قيل فى نفيه: إنه هو الذى اختار ذلك فقد برم بالبقاء فى المدينة بعد أن رأى سيطرة المال وقوته» إذ جاءت إليها أموال كسرى وقيصرء وهذا هو الأقرب إلى أخلاق ذى النورين عثمان» وأخلاق صاحب رسول الله يَكِلِهِ أبى ذرء» وقد بقى فى الربذة إلى أن مات بها كما تنبا النبى يَكلِيْدٌ إذ قال: (إنه سيبعث أمة وحله». . 87 : سورة المائدة‎ )١( 0 شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد المجلد الثانى ص © : مم‎ )( ١7 -١‏ وبهذا نرى أن الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم الذين تولوا الحكم ما كانوا يعاقبون على الرأى عقوبات غليظة شديدة إلا إذا كان الرأى كفرا صريحاء فإنه يكون ردة» ويستتاب, وإلا عوقب بحدهاء وإذا اشتد الداعى إلى نحلة نفوه أو حبسوه كما كان يفعل الحاكم العادل عمر بن عبد العزيز رضى الله عنهء فلما جاء الفقهاء المجتهدون» وفى عصرهم كثر الابتداع بقصد إفساد الدولة الإسلامية» وهدم كيانهاء لا تغبير شكل القائم فيها فى ذلك الوقت» ولذلك كان منهم من شدد عقوبة المبتدعة» حتى إنه ليروى أن الإمام مالكاء وكثيرين من الحنابلة جوزوا قتل الداعى للبدعة» وقد جاء فى السياسة الشرعية لابن تيمية: «جوز طائفة من أصحاب الشافعى وأحمد وغيرهما قتل الداعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة» وكذلك كثير من أصحاب مالك» وقالوا: إنما جوز مالك وغيره قتل القدرية لأجل الفساد فى الأرضء لا لأجل الردة»23(7 . فالعقاب كما يبدو ليس لأجل الرأى» بل لما يؤدى إليه من فسادء لذا قال بعد ذلك رضى الله عنه» وقد استدل على أن المفسد إذا لم ينقطع شره إلا بقتله فإنه يقتل بما رواه مسلم فى صحيحه عن عرفجة الأشجعى رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله كد يقول: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحدء يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه». وفى رواية: «ستكون هنات وهنات» فمن أراد أن يفرق الأمة وهى جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان»9؟2. 20 ونرى من هذا أن العقاب على الرأى ليس لذات الرأى» وإنما يكون إذا أدى إلى تفريق الأمة. وتوهين الحكم الإسلامى» وكانت له قوة مفسدة» كما حدث من الخوارج عندما انقضوا على الدولة. وكالزنادقة عندما انقضوا على الحكم الإسلامى بقيادة المقنع الخراسانى» وليس معنى ذلك أن ينتظر حتى يقومواء بل يعالجون قبل أن يتفاقم الأمر. هذا نظر أولئك المتشددين» لا يعاقبون على ذات الرأى» فلا يعاقبون على ذات الرأى البدعى» لما يؤدى إليه من فساد. ويزكى قولهم هذا ما روى من أن رجلا جاء إلى النبى يبيد بعد توزيعه غنائم حنين» فقال: اتق الله يا محمد» فقال رسول الله يكل : «فمن يطع الله إن عصيته» أيأمننى أهل الأرض» ولا تأمنونى». ثم أدبر الرجل» فاستأذن رجل من القوم فى قتلهء فلم يأذن رسول الله ككل وقال كَللِة: «إن من ضئضيء9) هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام» ويدعون أهل الأوثان» يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية» لئن أدر كتهم لاق قتلنهم قتل عاد)47) , )١(‏ السياسة الشرعية ص177. (؟) السياسة الشرعية ص 177 . (5) أى من نسله أو من شاكلته. (4) السياسة الشرعية ص 05 . 1١77 ونرى من هذا أن النبى يلد ما عاقب الرجل على مجرد قوله» وتهجمه عليه- عليه الصلاة والسلام» إذ يروى أنه قال للنبى يَكلِِ: إنها قسمة ما أريد بها وجه اللّه» وما عاقبه على الباعث على القولء ولكنه بين أن من على شاكلة هذا إذا خرجوا يثبطون عن خحكم الإسلام» ويفسدون أهله فإنه يقاتلهم . - هذا نظر الفريق الذى عاقب المبتدعة بأغلظ عقوبة» وهى القتل» لأنهم مفسدونء» وكان فى _مقابل هؤلاء الفريق الآدخر وعلى رأسهم أبو حنيفة» وأولتك لا يرون عقابهم بالقتل» بل يرون أن العقوبة بما دون ذلك» وهو التعزير بما يمنع الشر من غير أن يصلوا إلى القتل؛ إلا إذا حملوا السيف مقاتلين بالفعل» فإنهم يكونون بغاة يحاربون.» كما فعل على رضى الله عنه مع الخوارج عندما خرجوا عليه» ونازلوه» وعلى ذلك يكون عمل ولى الأمر بالنسبة إلى البدعة ما داموا لم يصلوا إلى أن تكون لهم قوة بالفعل فى الأرض منتقضة - هو أن يمنع شرهم من أن يستمر إما بالتعزير بالضرب» وإما بالحبس لمنع الشر» كما فعل الحاكم العادل عمر بن عبد العزيز بالنسبة للخوارج الذين دعوا إلى ملتهم وسبوه؛ لأن المقصود هو منع الشر والفسادء ويتخذ فى ١‏ منعه أقل قدر يمكن. لأن العقوبة فى ذاتها ضررء ولا يدفع الضرر بأكثر منه» ولأن عليا كان يستطيع قتل الخوارجء وهم يدعون إلى بدعتهم » ويجابهونه فرادى» ولكنه مع ذلك لم يقتلهم حتى قتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت. وإنا نميل إلى رأى أبى حنيفة وأصحابه؛ لأن القتل هو أقصى عقوبة» ولا يصح الاتجاه إليه إلا إذا لم يكن سواه. : -١1/*‏ هذه اتجاهات الفقه الإسلامى فى جريمة الرأى» ولننتقل بعد ذلك إلى الجرائم الفعلية التى تكون نتيجة للرأى السياسى» ونقسمها إلى قسمين: أحدهما - جرائم آحادية» والأخرى جرائم جماعية. أما الأولى وهى الجرائم الآحادية» كالاعتداء على الحاكم تخلصا من حكمه» أو لنزعة سياسية تخالفه» وهذا لم يعطه الخلفاء الراشدون وصفا يزيد به عن الجريمة غير السياسية» فالاعتداء هو الاعتداء من غير نظر إلى كونه سياسيا أو غير سياسى» ولعل السبب فى ذلك أن الشريعة لا تنظر إلا إلى الظواهرء ولا تنظر إلى البواعث الباطنية» فما دام قصد الأذى قد توافر» لا يلتفت إلى كون الباعث سياسيا أو غير سياسى: فلما قتل عمر رضى الله عنه لم ينظر فى تلك الجريمة التى لعنها أهل الأرض وأهل السماء إلا على أنها جريمة قتل اعتيادية» ولما قتل عبيد الله بن عمر - الهرمزان لاتهامه بالتآمر والئثأر لقتل أبيه شدد على بن أبى طالب فى وجوب القصاص منه. ولكن عثمان بن عفان قال: لا يقتل عمر بالأمس ونقتل ابنه اليوم . 5 ولما ضرب ابن ملجم على بن أبى طالب رضى الله عنه قال الإمام العادل لولده الحسن: «أحسنوا إساره» فإن عشت فأنا ولى دمى وإن مت فضربة كضربتى». وبهذا الهدى المحمدى أخذ الفقهاء». فلم يفرقوا بين قتل الخليفة وقتل أحد الرعاياء» فالنفس بالنفس إن هلكت» ولو قتل الخليفة أحد الرعايا بغير نفس ولا فساد فى الأرض» فإنه يقتل به ويقتص منه» وكذلك إذا قتل: أحد الرعايا الإمامء فهو دم يدم» وكذلك إذا اعتدى الحاكم على أحد رعاياه بالضرب من غير حق ولا فساد فى اللأرض» فإنه يجب أن يقاد منه» ولقد كان عمر بن الخطاب يقيد من عماله إذا اعتدوا على الرعية» ولقد أقسم فى جمع منهم أنه لو ضرب أحد عماله أبشار الناس لاقتص منه. 4- ولاذا سوى الفقه الإسلامى بين الحريمة السياسية وغير السياسية؟ قد ذكرنا أن الفقه الإسلامى لا ينظر إلى البواعث. ومادام لا ينظر إلى البواعث فإنه لا شك يستوى فيه ما يكون الباعث فيه سياسياء وما يكون الباعث فيه غير سياسى» ومن جهة أخرى فإن أساس العقاب فى الإسلام هو القصاصء والقصاص هو التساوى بين ما نزل بالمجنى عليه وما نزل بالجانى» وأن ذلك يقتضى ألا ينظر إلا الناحية المادية فى الجريمة ما دامت الجريمة مقصودة بالإيقاع من غير نظر إلى باعثهاء وفوق ذلك فإن التمبيز بين الجريمة السياسية وغيرها ليس سهلا فى كل الأحوال» وإن جعل الباعث حكما فى العقاب قد يؤدى إلى التفرقة الظالمة التى لا يريدها الإسلام» فيكون الاعتداء بسبب السياسة أشد عقابا من غيره» ثم ينحدر إلى حماية الملوك أنفسهم من نقد الناقدين:ولوم اللائمين» ويكون الحكم ملكا استيداديا مرهقاء فكان من سد الذرائع ألا يفرق بين جريمة وجريعة من ناحية الباعث ما دامت مقصودة. وما دام الأذى مقصودا ولا عذر لمجرم فى جريمة إلا أن تكون حقا. البغى 66- هذه الجريمة هى الجريمة السياسية الكبرى التى يكون الاعتداء فيها جماعيا لا احادياء فقد قلنا: إن الجرائم السياسية إما أن تكون آحادية وإما أن تكون جماعية. وهى التى تكون بقوة تخرج على سلطان الإمام» ولذلك يعرف الفقهاء البغاة بأنهم القوم الذين يخرجون على الإمام بتأويل سائغ» ولهم منعة وشوكة. وإن هذا التعريف يبدو منه أن البغى يقتضى أن يكون الباغون لهم قوة يستطيعون السيطرة بهاء» وأن يكون الخروج مبنيا على تأويل» وأن يكون لهذا التأويل مساغ» وإن لم يكن راجحاء فكون التأويل سائغا لا يقتضى أن يكون راجحا. وعلى هذا التعريف لا يكون مجرد المخالفة لرأى الإمام» أوعدم طاعته بغيا. إنما البغى هو هذا الخروج القوى الذى يكون له معتمد من دليل وله قوة ومنعة» وفى فتح القدير اشتراط هذه الشروط مع التصريح بأنه يجب أن يكون الإمام عدلاء واشستراط حفن عدالة الإمام فى اعتبار الخارجين بغاة أمر متفق عليه بين الأئمة» ويروى فى ذلك أن الإمام مالكا سئل عن الخارجين على الخليفة فقال: إن خرجوا على مثل عمر بن عبد العزيز حل قتالهم وإلا فدعهم ينتقم الله من ظالم بظالم» ثم ينتقم من كليهما. ويروى بعض التابعين أن الإمام الذى يتولى أمر المسلمين بغير العدل يسعى فى تغييره ولا يجوز الخروج عليه؛ء وهذا القول مذكور فى مذهب الحنفية» وإنه على هذا يعد الخارجون بغاة إذا انتقضوا عليه باعتبار أن ذلك يؤدى إلى فتن عمياء تضطرب فيها أمور المسلمين» يكون ما تؤدى إليه من مفاسد أكثر مما تؤدى إليه ولاية غير عادلة» أو لم تتول الولاية بشورى المسلمين فإن فوضى ساعة يرتكب فيها من المظالم ما لا يرتكب فى استبداد سنين . وفى الحق» إن اشتراط العدالة تكاد تتفق عليه كل عبارات الكتب» وهو احتياط 5- ويقسم كمال الدين بن الهمام الخارجين على طاعة الإمام إلى أقسام أربعة : أولهم: الخارجون على طاعته من غير تأويل يسوغ لهم الخروج وليس لهم منعة تمنعهم ولكنهم يأخذون مجتمعين أموال الناس ويخيفونهم ويجعلون الطريق مخوفاء وهم قطاع الطريق. وثانيهم : قوم كذلك لا منعة لهم ويخيفون الطريق ولكن لهم تأويل» وهؤلاء يعدون من قطاع الطريق ما داموا يخيفون الطريق. وثالشهم : قوم لهم منعة وحميةء وخرجوا بتأويل ويستحلون دماء المسلمين ويسبون نساءهم » فهؤلاء لا يخرجون على طاعة الإمام ف فقط ولا يحاربون الجيوش فقط. بل يستحلون دماء الآمنين الوادعين» ومن هؤلاء الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضى الله عنه. والفقهاء قد أجمعوا على أنهم يقاتلون ويقتلون حتى تذهب شوكتهم» وقتلهم لفسادهم لا لكفرهم؛ وذلك لقول النبى يَكك: اايخرج قوم فى آخر الزمان أحداث الأسئان سفهاء ء الأحلام» يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية»فأينما لقيتهم قاتلتهم فإن فى قتلهم أجرا لمن قتلهم إلى يوم القيامة». رواه البخارى. ورابعهم: قوم خرجوا على الإمام العدل» ولم يستبيحوا دماء المسلمين ولا سبى ذراريهم» وهؤلاء هم الذين يسمون بغاة» وقد اختص القسم الثالث باسم الخوارج. وإن الحكم فى الحقيقة واحد من حيث إن كلا القسمين يخرج بتأويل وله منعة» بيد أن الأولين لا يكتفون بمحاربة معسكر السلطان» بل يلقون الأذى على كل حال من هم فى طاعة السلطان» أو كما قال الإمام على رضى الله عنه: «سيوفهم على عواتقهم اخول يضعونها فى موضع البرء ء وموضع السقم». أما الآخحرون فإنهم لا يعادون إلا السلطان ومعسكرهء لأنهم فى زعمهم جاءوا لإنقاذ الشعب منهء لا لمحاربة الشعب17). /ا١-‏ ويلاحظ أن عليا رضى الله عنه الذى ابتلى بالخروج وا-لبغى عليه كان لا يقتل إلا بعد أن يقتلواء وما كان يعاقب على سبه أو على نية قتله» روى محمد بن الحسن الشيبانى صاحب أبى حنيفة عن الحضرمى أنه قال: «دخلت مسجد الكوفة من قبل أبواب كندة» فإذا نفر خمسة يشتمون عليا رضى الله عنه» وفيهم رجل عليه برنس يقول : أعاهد الله لأقتلنه» فتعلقت به» وتفرقت أصحابه عنهء فأتيت به عليا رضى الله عنه» فقلت: إنى سمعت هذا يعاهد الله ليقتلنك. فقال له: ادن ويجك من أنت؟ فقال: أنا سوار المنقرى» فقال على رضى الله عنه: خل عنهء فقلت: أخلى عنه وقد عاهد الله ليقتلنك» قال على: أفأقتله ولم يقتلنى!! قلت: فإنه قد شتمك,. قال: فاشتمه إن شعت أو دعه)292) . ولقد قال للخوارج الذين كانوا يدبرون قتله وهو يعلم: «لن نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ولن نمنعكم الفىء ما دامت أيديكم مع أيديناء ولن نقاتلكم حتى تقاتلونا». وفى هذا دليل على أنه لا يحل للإمام أن يقاتلهم حثى يقاتلوا. 4- وقبل أن نخوض فى بيان أركان الجريمة السياسية التى تسمى البغى أو الخروج نقف وقفة قصيرة عند رأى الإمام العدلء إمام الهدى والتقى على بن أبى طالب أبى العترة المحمدية . إنه لا شك أن ذلك الرأى هو أبلغ ما يصل إليه تقدير الحرية الشخصية وحرية الفكر والقول» وأى حرية أبلغ من أن يستيقن أن شخصا يدبر قتله ويسبه» ثم مع ذلك يخلى سبيلهء وقد قامت بين يديه الأمارات القاطعة التى تنبئ عن نية القتل» ولكنه الفارس العربى الحر الذى يقدر الحرية فى غيره» كما يقدرها فى نفسهء ثم أى حرية سامية فى أن يترك خصومه يغشون المساجد. ويقاطعونه إذا تكلم» بل يقسم عليهم من الفىء» ويعطيهم أعطياتهم!! وإنه خلق أقرب ما يكون بخلق الفارس الشجاعء, ولكنه . فى السياسة موضع نظرء ولقد كنا نود أن يعاقيهم - ولقد بدرت منهم هذه البوادر - بغير القتل» بأن يحبسهمء أو ينفيهم من الأرض دفعا لشرهمء وبأن يعزر بالضرب هذا الذى يقاطعه فى خطبته» فليس هذا من أدب الإسلام فى شىء» وما نحسب أن عمر بن الخطاب وهو الحاكم العدل الحر كان يترك لهم الحبل على الغارب» حتى يكون منهم ما كان. بل إنه ليقطع الشر قبل أن ينتأء يجتثه وهو حشائش قبل أن تستغلظ سوقه. ويكون شرا وبيلا. )١(‏ هذه الأقسام الأربعة مبيئة فى ج؛ ص8 1١‏ 2 5094 . (؟5) الكتاب المذكور. ١ /ا‎ هذه وقفة صغيرة عندما حدث من فارس الإسلام على بن أبى طالب» وقد كان ما فعله سنة الفقهاءء حتى إن الإمامين الشافعى وأحمد قد أخذا أحكام معاملة البغاة من معاملته رضى الله عنهى وتلك حكمة الله» ذلك أن الخروج من بعده لم يكن على مثله ولم يكن الخارجون من مثل الخارجين عليه فاتخاذ هديه سنة من رحمة الله بالخارجين من بعد إذ لم يكن الحكام عادلين» ولم يكن الخارجون فى كل الأحوال ظالمين. 848- وإن أركان الجريمة السياسية فى البغى على ما انتهى إليه المحققون من الفقهاء إذن أربعة: أولها : أن يكون الحاكم عدلا؛ ذلك لأن الخروج انتقاض على الجماعة» وامتناع عن الطاعة. ولا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق» والنبى لله يقول: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة». ثانيها : أن يكون للخارجين تأويل كأن يقولوا إن اتتخاب الخليفة لم يكن بالطريق المرضىء أو أنه لم يفعل كذا وكان ينبغى فعلهء وكذا يكون لهم معتمد من أصول الحكم الإسلامى» وإن لم يكن قوياء وإن هذا هو الفارق بين البغى وقطع الطريق» فإن قطع الطريق لا يشترط فيه ذلك التأويل . الثها : أن يكون لهم منعة وحوزةء فإنهم إن لم يكونوا كذلك ولم يحاولوا أن يغيروا كانت جريمتهم جريمة رأى» وقد بينا مدى اعتبار إبداء الرأى جريمة» واختلاف أنظار الفقهاء فى ذلك. وإن حاولوا الاعتداء فرادى غير مسجتمعين, ولا منعة لهم إن كانت جريمتهم كسائر الجرائم الآحادية» تعاقب بعقوبتهاء وينظر إليها كنظرها. رابعها : أن يبتدثئوا بالقتال والاعتداء فإنه فى هذه الحال يحل القتال» وتجب المنازلة» وعلى لم يقاتلهم إلا بعد أن قتلوا عبد الله بن خباب» وامتنعوا عن تسليم ولكن أجمع جمهور الفقهاء على أنهم متى خرجوا للقتال واعتزموه لا ينتظر الإمام حتى يساوروه» فإن ذلك هو الهزيمة وليس الحسم والمنع. - إذا تمت هذه الشروط أو تمت هذه الأركان فإن الجريمة بلا شك جريمة بغى يحل القتال وقتلهم. ولكن لا يجهز على جريحهم.ء ولا تغنم أموالهم» ولا تسبى ذراريهم على ما سنبين فى أحكام معاملتهم عند الكلام فى ذلك من موضعه فى بيان العقوبة . إنما الذى نريد أن نتكلم فيه وهو الشرط الأول الذى يصرح بأن يكون الحاكم عدلاء فإن هذا الركن يحتاج إلى نظر إذا رجعنا إلى مصادر الفقه وموارده. وإن جرى على عبارات الفقهاء عندما يتكلمون فى البغى» والفتن التى تترتب على الخروج بشكل عام» وإن الكلام فى هذا يتجه إلى ثلاث شعب: ١8 أولاها : إذا كان عدلاء ثم فسقء» أيصح الخروج عليه أم لا يصح؟ والثانية : إذا كان عدلا ولكنه لم يتول بالطريقة الشرعية» وهى اختيار عام من عامة المسلمين وخاصتهم. والثالثة : إذا كان غير عدل فى ذاته» ولم يتول بطريق عادلة ولكن مصلحة المسلمين فى بقائه حتى لا تتعرض البلاد إلى الفتن الشديدة العنيفة التى تكون شرا من حكمه. . ولتتكلم بكلمات موجزة فى هذه الشعب شعبة شعبة. -١‏ إذا تولى الحاكم بطريق شرعية خالصة وكان عدلاء ولكن حاد عن طريقة العدذل» وسبحان مقلب القلوب» أو أحاطت به شيعة أفسدت تفكيره» وأذهيت حسن تدبيره» فماذا يكون الحكم: أيبقى أميرا لا يقبل العزل؟ أم ينعزل من تلقاء نفسه. لأن شرط الولاية كشرط القضاء العدل. وإذا لم يكن العدل ثابتا زالت الصلاحيةء فزالت الأهلية فتبطل ولايته من تلقاء نفسه؟. الذى يجرى على أقلام فقهاء المذاهب الأربعة أن ولى الأمر لا ينعزل بفسقه. وذلك لأن الولاية كيفما كانت لمصلحة المسلمين» فبه تقام الحدود وتقام الجمع» وتعمر المساجدء وتقام الشعائرء ويحفظ الأمن فى البلاد. وقد روى أن الحسن البصرى كان يقول: «هؤلاء - يعنى الملوك من بنى أميةء وإن وطئ الناس أعقابهم فإن ذل المغصية فى قلوبهم» إلا أن الحق ألزمنا طاعتهمء ومنعنا من الخروج عليهم» وأمرنا أن نستبعد بالتوبة والدعاء مضرتهم». ويقول وقد سئل عن بنى أمية: «ماذا عسى أن أقول فيهمء وهم يلون من أمرنا نخمسا: الجمعة والجماعة والفىء والثغور والحدود» والله لا يستقيم الدين إلا بهمء وإن جاروا وإن ظلمواء والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون(21. ومن هذا نرى أن الفقهاء عندما قالوا إنه لا ينعزل إذا ولى عدلا ثم فسقء وكانت ولايته بالطريق العادلة» كان المعتبر مصلحة المسلمينء» والوقائع تؤيد نظرهمء فإن الفتن اللتى صحبت مقتل الحسين ومن بعده كان ضررها أشد من بقاء الحال قائما على عهد يزيد مع أن يزيد ما تولى بالطريقة العادلة. وإن من المنصوص عليه أمرين: أولهما : الامتناع عن الفتنة والسعى فى عزله بالطرق الممكنة بشرط ألا تؤدى إلى فتنة» كما أدال الله من الحكم الأموى بالحكم العباسى . والثانى: ألا يطاع فى معاصيهء وأن يعلن تأييده مطلقا ما دام فى, عامة أموره غير عدلء ولو كان قد تولى بالطريق العادلة» وبالأولى لا يؤيد فى حكمه ولا يدعى إليه إذا كان فاسقا تولى بغير العدل. 3 ١80 وبهذا يتبين حكم الشعبة الأولى والشعبة الثالثة وذلك عند جمهور الفقهاء» ومن فقهاء التابعين» وبعض الفقهاء فى المذاهب الأربعة من يرى أن التغيير واجب» لأن البقاء على الظلم والمعاصى لا يجوزء وإن ذلك القدرءيوافق عليه الجمهور» ولكن الخلاف فى التغيير بالحرب والنزال» فالجمهور لا يرى ذلك وبعض التابعين ومعهم بعض الفقهاء لا يرون حرجا فى ذلك كما يبدو من التاريخ . 7- أما الشعبة الثانية وهى التولى بطريق غير شرعية» وهى طريق الشورى. ولكنه عادل فى ذات نفسه» فإن المروى عن مالك والشافعى وأحمد أنه إن تغلب شخص على الحكم وكان عادلا وارتضهه الناس لعدله. فإنه يكون إماما؛ وذلك لأن العيرة بالرضا ولو مالاء والعدالة متوافرة» فهو إمام عدل مستوف لشروط الإمامة . ولقد قسم ابن تيمية الإمامة إلى قسمين: إمامة نبوية» أو خلافة نبوية» وخلافة هى ملك» فالإمامة النبوية هى الإمامة التى تكون مستوفية لشروط الإمامة» وهى القرشية عند جمهور الفقهاء» ومنهم من قال إنه غير شرط» وأن يكون الاختيار بالشورى لا بالجبر والقسرء لقول الله تعالى: « وأمرهم شورئ بينهم 2174 ولقوله جل وعلا: وشاورهم في الْأَمر 2204 والشرط الثالث «العدالة». فإذا توافرت هذه الشروط فهى خلافة نبوية» فإن تخلف واحد فهى ملك وليست خلافة نبوية» وتجب الطاعة فى كلتا الحالتين» ففى الأولى الأمر ظاهرء وفى الثانية تجب الطاعة لإقامة الأمور الخمسة التى ذكرها الحسن البصرى وهى الجمعة والجماعة» والفىء» والثغورء والحدود. وعلى أى حال لا يطاع فى معصية» ولا يؤيد فى معصية» وإن غلبت على الوالى المعاصى كان لابد من السعى فى تغييره من غير تعرض للفتن» فإن الفتن ظلم وظلمات» وهى تنكشف فى كثير من الأحوال عن حاكم لا يقل عن الأول سوءا وفسادا. 18- هذا ما وجب تحريره فى ركن العدالة بالدمبة للإمام» ومهما يكن من أمر الإمام» فإنه يسمى الذين ينحازون إليه أهل العدل» والخارجين عليه أهل البغى. ويلاحظ فى قتال أهل البغى أنه ليس المقصود الانتقام أو إنزال الأذى لأنهم قوم متأولون» ولهم وجه وإن لم يكن هو الراجح فى النظر الفقهىء إنما المقصود هو منم الفتنة واضطراب الأمور. وقد أوجثبٍ الفقهاء على ولى الأمر أن يحتاط للفتنة قبل وقوعهاء وأن يحتاط لحقوق الناس قبل وقوع الاعتداء حتى لا يقع. . 1١609 سورة الشورى: /”7. (؟) سورة آل عمران:‎ )١( بخن فإذا علم أنهم يستعدون أخذ على أيديهم قبل أن يكونوا قوتهم» ولذا جاء فى الهداية ما نصه: «وإذا بلغه أنهم يشترون السلاح ويتأهبون للقمال فينبغى أن يأخذهم. ويحبسهم حتى يقلعوا عن ذلك ويحدثوا توبة» دفعا للشر بقدر الإمكان». وبعد القضاء على هذه الفتنة السياسية ترد إليهم حقوقهم إذا تابواء فأموالهم ترد إليهم . ولا يسألون بعد زوال فتنتهم عما ارتكبوه فى أثنائها مادام ما أتلفوه من مقتضيات القتال» وما تبيحه أحكام الحرب فى الإسلام» ذلك لأنهم متأولون يحاربون عن حق فى زعمهمء وليست الحرب لأجل رأيهم» ولكن لنع فتنهم» فإذا قتلوا فى الميدان لا يعاقبون عن ذلك القتل. وقد قرر مالك وأحمد والشافعى أن يقرر عليهم عقوبة تعزيرية لا تصل إلى القتل» إذا دعت إلى ذلك حال الاستقرار» بأن كان يخشى من فتنة أخرى يقومون بهاء ولكن الإمام أبا حنيفة كان يبيح التعزير للإمام إن اقتضت الأمور ذلك» ولو كان هذا بالقتل . ويلاحظ أن هذه العقوبة ليست على قتالهم» وإلا ما كانت تعزيرية» وإنما هى احتياط للمستقبل» ولعل ما سلكه عمر بن عبد العزيز من حبس دعاتهم حتى يتوبواء» وعرض عليهم التوبة كل هلال - من أعدل الأحكام وأكثرها توقيا للفتن . 64- هذه هى الجرائم السياسيةء وجرائم الرأى فى الإسلام لم يشرعها الإسلام شر الفتن التى تأكل الأخضر واليابسء والتى تجعل أمور الجماعة فوضى من غير رابط ولا عاصم تستمسك به الأمة وهكذا كانت كل عقوبة فى الإسلام أساسها منع الأذى بالآحاد أو بالجماعات. وقد استعرضنا صور الجرائم فى أقسامها المختلفة» سواء أكانت جرائم مقدرة العقاب» أم كانت غير مقدرة» وسواء أكانت مقصودة أم غير مقصودة» وسواء أكانت إيجابية أم كانت سلبية» وسواء أكانت جرائم واقعة على الآحادء أم كانت جرائم على الجماعة» ثم تكلمنا فيما يسمى فى لغة العصر جريمة الرأى» والجرائم السياسية» وانتهينا كما ابتدأنا. وهو أن الجريمة هى ما يمس مصلحة الجماعة أو الأحاد. والآن نحقل إلى أركان الجريمة مسايرين للقانونيين فى شروحهم لقوانين العقوبات. أركان الجر يمة 6- التزمنا فى كتاباتنا أن ننهج مناهج القانونيين فى كتابتهم وإن اخحتلفت وتباينت طرق علاج الإجرام والمجرمين» كما اختلف معنى الإجرام» وإن فقهاء القانون الجحنائى الوضعى يجعلون للجرية أركانا ثلاثة لا يعد الفعل جريمة إلا إذا تكاملت فيه ١١ هذه الأركان. ويقول فى ذلك الأستاذ على بدوى: «لا تتوافر الجريمة إلا إذا تحققت أركان ثلاثة عامة على كل جريمة من أى نوع كانت» بحيث إذا انعدم ركن منها انعدمت الجريمة قانونا». الركن الأول: «أن يكون هناك نص يحد الجريمة ويبين الجزاء العقابى المترتب عليهاء وهو ما يسمى بالركن الشرعى»2. والثانى : «أن يقع من المجرم الأمر المادى المكون للجريمة» سواء أكان هذا الأمر إيجابيا أم سلبياء فعلا أصليا أم اشتراكاء جريمة تامة أم شروعاء وهذا ما يسمى بالركن المادى» . والثالث : «أن تتوافر فى المجرم مسئوليته عن هذا الأمر الذى وقع منهء الذى نص على تجريمه وعقابه.» وذلك بتوافر عناصر المسئولية الأدبية فى شخصه من حيث الإدراك والإرادة» ومن حيث النطأ العمدى أو غير العمدى. ومن حيث ارتكاب الأمر بغير حق يستعمله. أو واجب يؤديه » وهذا ما يسمى بالركن الأديبى)17) . 7- وإن أساس هذه التجزئة فى ركن الجريمة هو التلازم التام بين اعتبار الفعل مصلحة مقصودة, أو فيه اعتداء على مصلحة مشروعة. إنما النظر إلى كونه معاقبا عليه وإنه على أساس هذا النظر كان لابد أن تتكون الجريمة من الأجزاء الشلاثة» إذ العقاب لا يعرف إلا بنص من الشارعء فكان لابد من الركن الشرعى» والعقاب لابد له من مكلف له عقل وإرادة سليمة» فكان لابد من الركن الأدبى» ثم الفعل المادى الذى هو عمود الجرعة. وإنه بمقتضى ذلك النظر القانونى تكون كل الأفعال مباحة حتى يجىء نص من القانون بتحريمها أو بالأحرى بتجريمهاء فالأمر الذى لا يعده القانون جريمة مباح بصفة أصلية من الناحية الجنائية بصرف النظر عن الظروف التى وقع فيهاء بحيث لا يكون على القاضى لكى يحكم بالبراءة إلا أن يتحقق من عدم النص على تجريم الأفعال المسندة2؟). 117- وإن هذه التجزئة فى ركن الجريمة تتلاقى فى الجملة مع أقوال الفقهاء المسلمين» بيد أنه يجب الإشارة إلى ما نوهنا عليه من قبل» وهو أن الشريعة لا تنظر فى المحظورات إلى ما يمكن فرض عقاب فيه فقط. بل إن الشريعة لها جانبها الدينى بجوار )١(‏ الأحكام العامة فى القانون الجنائى ص 44 للأستاذ على بدوى. (؟) شرح قانون العقوبات - القسم العام - الدكتور محمود مصطفى . ضفن جانبها القضائى. ولذلك لا يعد ما ليس فيه نص بعقابء أو لا يمكن فرض عقاب فيه كالنميمة والنفاق والكذب - فى مرتبة المباح» أو يعد مباحاء بل إنه واقع تحت الحظر الدينى» إن سلم من العقاب الدنيوى» فلا يمكن أن تعد هذه الخبائث أشياء مباحةء وإن كانت لا تدخل تحت طائلة العقاب الدنيوى» وقد أشرنا إلى ذلك عند الكلام فى تعرييئف الجريمة» وبينا حدود الخطايا وحذدود الجرائم التى وضع عليها العقاب الدنيوى» وقلنا إن دائرة الخطايا أوسع من دائرة الجرائم التى يعاقب عليها القضاء بحد أو قصاص أو تعزير. ويصح لنا على هذا أن نقول: إن الجريمة لابد لها من أمور ثلاثة» كما فى القانون: وهى الدليل الذى يفيد العقاب الدنيوى» والفعل المادى, والتكليف الشرعى . ولكن مع أننا نرتضى تلك الأمور يصح أن نناقشها مناقشة منطقية» فإن ركن الشىء هو ماهيته التى لا يتحقق فى الوجود بدونهاء أفيصح لنا أن نقول: إن الجريمة هى مجموع هذه الأمور. أم يصح لنا أن نقول: إن الجريمة هى وحذدها الفعل الذى ارتكب ولكن لا عقاب عليها إلا بالنص» وأن يكون المرتكب أهلا لتحمل التبعة. وإن هذا بلا ريب هو المنطق» فإن ركن الشىء هو الماهية التى لا يتحقق بدونهاء والعقاب لا يتصور إلا أن يكون أثرا للجريمة» وأثر الشىء لا يكون جزءا منه. ولكن القوانين الوضعية فى التجريم توافق على اعتبار الشىء ممنوعا أو غير ممنوع ء وعلى ذلك لا ينشأ اعتبار الفعل جريمة إلا بتجريم القانون ومنعه» ولا تجريم يصح أن يعتبر قانونيا إلا إذا كان عليه جزاءء وعلى ذلك يكون - بمقتضى هذا الاتجاه - هذه الأمور تعد أركانا على تسامح . 4- وسواء اعتبرنا هذه الأمور شروطا كما هو منطق العقل» أم اعتبرناها فلا بد إذن فى الجريمة من نص على العقاب» ومن فعل مادى» ومن شخص يتحمل التبعة أيا كانت هذه التبعة» ولنتكلم فى هذه العناصر عنصرا عنصرا. لا جريمة إلا بقانون ولا عقوبة إلا بنص 6- استقر الفقه الأوربى الحديث على أنه لا جريمة إلا بقانون ولا عقوية إلا بنص» وتقرر ذلك المبدأ منذ الثورة الفرنسية» حتى لا يكون تحكم من الحكام» وحتى يعلم الناس ما لهم وما عليهمء ولأن أساس العقوبة هو مخالفة الأوامر القانونية الثابتة» ولا تتصور مخالفة إلا إذا وجد النص الآأمر أو النص المانع» وبلغة الفقه الإسلامى لا انضن تتصور مخالفة إلا إذا وجد أمر أو نهى» فلا يصح أن يعتبر الشخص مجرما بحكم القانون إلا إذا صرح القانون بتجريمه» أو كان فيه ما يدل على التجريم فى الجملة. وإن القانون الفرنسى عندما أدخل ذلك المبدأ وهو أنه لا جريمة إلا بنص أفرط فى الاستمساك به» حتى إنه أحصى الجرائم عداء ووضع لكل جريمة عقوبتها مقترنة بهاء ولم يكن للعقوبة حد أعلى وحد أدنى» بل كانت أمرا واحدا لا هوادة فيه» ثم عدل بعد ذلك» فكان للجريمة حد أعلى وحد أدنى والمسافة بينهما واسعة يكون فيها للقاضى رأيه» وتقديره لما أحاط بالمتهم من أحوال وملابسات» وكان للجريمة فى كثير من الأحوال عقوبتان يختار القاضى منهما أو يختارهماء وفى الاختيار متسع للتقدير والوزن. ولقد انتقل ذلك المبدأ من القانون الفرنسى إلى غيره من القوانين» وهو كلما اتسع تطبيقه اتسع حكمههء وانتقل من الضيق إلى إعطاء القاضى حرية فى الستقديرء فصار للقاضى حق وقف الحكمء وللسلطة التنفيذية حق العفوء وحق تخفيض العقوبة وحق الإفراج» ووجد مع ذلك نظام العقوبة غير المحدودة(١).‏ ولكن مع هذا التغير فى العقاب وإعطاء القاضى حق التقدير فى سعةء فإن الأصل استمر ثابتاء إذ لا جريمة إلا بنص وإن اختلفت العقوبة قوة وضعفاء واختلف العقاب توسعة وتضييقا بالنسبة لتقدير القضاء؛ لأن القاضى فى كل الأحوال لا يستطيع اعتبار فعل جريمة إلا بقانون. - ولكن هذا المبدأ تعرض للنقد الشديدء ذلك أن النصوص مهما كثرت تقصر عن أن تسع كل الجرائم التى يبتدعها ابن الأرض» وإن أساليب الاعتداء مختلفة» وإن كانت فى مررماها من ناحية إنزال الأذى متلاقية» فلا يمكن أن يكون النص شاملا لكل أعمال المجرمين وأساليبهم» وإن ترك هؤلاء المجرمين يعيثون فى الأرض فساداء حتى يجىء النص المعاقب فيه تعريض الجماعة للأذى» والنظام للعبث والصالح للفساد. وقد كان لهذا النقد أثره فى القوانين الأخيرة» فسوغ القانون الألمانى النازى للقاضى أن يعتبر الفعل جريمة إذا كان فيه اعتداء على المجتمعء وسوغ القانون السوفييتى القياس فى الجرائم. ويتجه الآن الفقه الحديث إلى التخفيف من هذا المبدأ بالنص على الجرائم بنص عام وذلك بتعريف الآفعال المجرمة تعريفا يتسع لأكبر عدد من الجرائم ولا يضيق» بحيث يدخل فى عمومه أحوال كثيرة» ولا يستطيع المجرم أن يفلت» وبالنسبة للعقوبة )١(‏ يراجع ذلك فى شرح قانون العقوبات للأسستاذين الدكتور محمد كامل موسى والدكتور السعيد مصطفى ص7 ٠١‏ والأحكام العامة فى القانون الجنائى لعلى بدوى ٠١7‏ . 15 اتجه الفقهاء إلى النص على الحد الأعلى دون الأدنى» ليكون للقاضى فرصة للإعفاء من العقوبة جملة237. وإن هذا بلا ريب يتجه إلى إعطاء القاضى حق التقدير إن لم يكن مطلقا فإنه يزول قدر من التقييدء لأن كل إطلاق للقاضى العادل يعاونه على تحقيق العدالة» وكل تقييد قد يقيد حريته فى تحقيق العدل» والقانون جاء لخدمة العدالة» وليكون مسخرا لهاء ولا تكون هى خاضعة لأحكامه خضوعا مطلقا. -١‏ هله هى أدوار تلك القاعدة» وثئرى أنها انتهت إلى إطلاق حرية القاضى فى التقدير بالنسبة للعقوبة ما أمكن الإطلاق» وإننا سنقرر أن الشريعة الإسلامية قد تكون ابتدأت فى العقوبات التعزيرية بما انتهت إليه القوانين الحديئة» وقبل أن نخوض فى بيان ذلك نتكلم عن مقدار أصل الفكرة فى الشريعة الإسلامية» ومدى تطبيقها فيها. العرب من يبيح لنفسه أن يتزوج زوجة أبيه؛ بل يرث زواجه لهاء كما يرث أمواله وحقوقه المتعلقة بهاء فحرم الإسلام ذلك بقوله تعالى: ولا تتكحوا ما نكح آباؤكم من النساء لما قَدْ سلف إِنَهُ كان فَاحشة ومَقمَا وسَاء سبيلاً 7 2204 . وكان العرب يبيحون الجمع بين الأختين فى عصمة زواج» فجاء الإسلام وحرم ذلك فقال تعالى: <( وأن تجمعوا بين الأختين إِلأَّ ما قد سلف 204 . وهكذا نجد القرآن الكريم فى تحريمه وبيان المؤاخذة واعتبار الفعل إنما يستثنى ما كان منهم فى الجاهلية» مع أن الفعل فى ذاته فاحشة ومقتاء وأنه أسواً السبل فى العلاقة 2 الزوجية» وليس ذلك الاستثناء إلا رفعا للمؤاخذة عليه فى الآخرة» وإن كان فعلا يخالف النظام الفاضل الذى يليق بجماعة فاضلة» وهو قبيح فى ذاته عند العقلاء. والنبى يَلَكِةِ لم يعاقب على الدماء فى الجاهلية» ولا على الربا فى الجاهلية» الإسلام لا يدفع» ولذلك قال النبى يَكِلِ فى خطبة الوداع: «ألا وإن دم الجاهلية موضوع وأول دم أبدأ به دم الحارث بن عبد المطلب. وإن ربا الجاهلية موضوع. وأول ربا أبدأ به ربا عمى العباس بن عبد المطلب». وفى كل هذا بيان أنه لا يعاقب إلا بنص سابق على الفعل . وردت نصوص القرآن متضافرة فى تأكيد هذا المعنى» وهو أنه لا توجد عقوبة من غير )١(‏ شرح قانون العقوبات للدكتور محمد كامل موسى والسعيد مصطفى ص5 ٠١‏ . غوقا رسالة رسول ينذر ويبشرء فقد قال تعالى: وما كنا معذبين حتَى تبعت رسولاً 2374 وقا تعالى : «وإن مَن أَمه إلا حَلا فيها نير 22 2204 . فحكمة الله الى فضت بأد اله تعالى لا يعاقب أحدا من عباده إلا إذا بلغ رسالته إليه» وأنذره بسوء العقبى إن خالف» وبحسن العقبى إن أطاع ثم لم يخالف. ولقد قال تعالى: «إوما كان ربك مهلك القرئ حت يَبْعَثْ في أَمَهَا رسولاً ينو يهم آياتنا 94 . ولقد قال تعالى: 9 رسلا مبَشرين ومنذرين للا يَكُونَ لئاس على اللّه حجة بعد الرّسل وكات اللّهُ عزِيرَا حكيمًا ج59 (4) . إن الإسلام لم يعاقب على الجرائم إذا لم يكن نص يجرم فقطء بل إن الجرائم التى جاءت بها النصوص لا يعاقب عليها من يدخل فى الإسلام إذا كان قد ارتكبها قبل الإسلام . ولم يكن للمسلمين عليه حكم نافذ» ولذا قال تعالى: قل للّدين كفروا إن يَسَهورٍ يعفر لهم ما قد سلف 4( *)» ومن القواعد المقررة فى الفقه الإسلامى أن الإسلام يجب ما قبله ولقد ثبت فى الآثار الصحاح أن عمرو بن العاص لما أسلم وبايع النبى يِه على نصرته قال: : «على أن يغفر الله ما تقدم من ذنبى»» فقال عليه الصلاة والسلام: «يا عمرو أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله». 1 14- وبهذا يتقرر ذلك المبدأء وهو أنه لا عقوبة على ذنب إلا بعد التنبيه إلى أنه ذنب» ويتحقق فى مطوى ذلك المعنى ما يسمونه اليوم «لا عقوبة إلا بقانون» ولكنه لا يطبق تطبيقا حرفياء بمعنى أنه يهمل تقدير القاضى» أو تقدير ولى الأمر فى كل حال بذاتهاء أو علاج الأمور على حسب ملابساتهاء إنما يكون المعنى المتقرر هو أن يكن ثمة إعلام بالذنب» والعقاب. ولكن بشكل ععام» لا بشكل خاص إلا فى الأحوال التى يخشى أن يشتط الناس فيها إن لم يكن التقدير» إذ يهملون فى زواجرهاء إن لم ينبه الشارع على وجوب الغلظة فيها.ليكون الزجر العام» وليكون الإحساس برهبة العقاب مانعا من الوقوع . وفى الحقيقة, إن الشارع الإسلامى» قد سلك المسلكين فى تقدير العقاب» الأول: هو بيان الجرعة مقترنة بعقوبتهاء بيانا بعد إحصاء للجرائم والعقوبة فيهاء وذلك فى الحدود والقصاصء ولمسلك الثانى: أن تعرف الجريمة تعريفا عاماء ويترك لولى الأمر تقدير العقوبات على حسب الأحوال والمناسبات» ويقدر ولى الأمر العقوبة أيضا تقديرا عاما ليكون لدى القاضى فرصة تحقيق العدالة فى كل قضية بما يلابسها من أحوال تشدد العقاب أو تخففه. (5) النساء: ,1١56‏ (5) النور: ” . 1 هل الجرائم وإحصائها إحصاء قد وضع أقصى العقاب على مقتضى نظر كثيرين من الفقهاء» وترك للقاضى أو لولى الأمر الذى يتولى القاضى السلطان. من سلطانه - أن يقدر فيما دون ذلك. وأن ذلك هو أقصى ما وصل إليه الفقه الحديث فى تطبيق نظريةهلا جريمة إلا بقانون» ولا عقويبة إلا بنص » إذ إن الاتجاه الحديث كما قررنا قد انتهى إلى أن توضع العقوبة بحدها الأقصى. ولا يذكر لها حد أدنى» ليكون للقاضى سعة فى التقدير» حتى ٠‏ يصل الأمر إلى التبرئة. النص فى جرائم الحدود والقصاص 06- وإن ذلك إجمال غير بيّن يحتاج إلى بعض بيان» وإن كنا لا نخرج بعون الله تعالى عن حد الإجمال. إن الجرائم التى لها عقوبات مقدرة فى الفقه الإسلامى هى الحدود والقصاص وما عدا ذلك من الجرائم لم يقدر عقابه بنص من القرآن أو السنةء بل ترك تقدير عقابه إما لولى الأمرء أو للقاضى الذى يستمد السلطان من ولى الأمرء على أن الأمر فى ذلك لم والحدود قد حد الله سبحانه وتعالى عقويتها بالتص فى كتابهالكر, م أو على لسان نبيه الأمين . فحد الزنى ثبتت له عقوبة مقدرة بقوله تعالى : اط الزانية والزاني فَاجَلدوا كل واحدٍ ا ين بهما رأَقَةَ في دين الله إن كنم تؤمنون بالله واليوْم الآخر 217 . ثبتت الوقاية منه بقوله تعالى: «١‏ واللأتي يأتين القاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن ةمهم فإد هدو كردن في اوت حن يوقا لمت أز يل الله هن ميل 304 , قب تكلم لم0 وثبت حد ع الطريق بقواه تعالى : لإنما خزاء الذين ارون ال الله ورسولة )١(‏ الأنفال: 78 (5) النساء 1١6‏ ., (؟) المائدة : م يلخن الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهُمْ في الآخرة عذاب عظيم ج(22> إلا دين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فَاعلَموا أن اله عفُورَ رُحيم 220 204 . وحد القذف ثبت بقوله تعالى : «إوالّذينٍ يرمون المحصنات ثم لم يَأثوا بأربعة شْهَدَاءً فاجلدوهم تَمَاينَ جلْدَة ولا تَقبلُوا لهم شهادة أبدا وأولتك هم الفقاسقون 6 اذا وجريمة البغى ثبتت عقوبتها بقوله تعالى : «إوإن طائفتان من المؤمدين اقتمَلوا فَأصلحوا بِينَهُمًا فإن بعت إحداهما على الأخرئ فقاتلوا التي تبي حت تفيء إِلَى أَمرِ الله إن فاءت فأُصلحوا بِينَهما بالعدل وأفسطوا إن الله يحب المقسطين 292 2274. ووردت الآثار بلزوم المسلمين بيعة الإمام» ومن جاء يغير فليس له إلا القتل . وعقوبة الردة ثبتت بقول النبى كَل «من بدل دينه فاقتلوه» وبقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث» الثشيب الزانى» والنفس بالنفس» والتارك للجماعة». وحد الشرب ثبت بالسنةء فقد قال النبى لله فى شاب أتى به: «اضربوه» وقد روى أهل السنة أن النبى ككَِةِ قال: «من شرب الخمر فاجلدوه. ثم إن شرب الخمر فاجلدوه» ثم إن شرب الخمر فاجلدوهء ثم إن شرب الرابعة فاقتلوه» . ويقول ابن تيمية فى التعليق على هذا الحديث: «القتل عند أكثر العلماء منسوخء وقيل : هو محكمء وقد يقال: هو تعزير يفعله الأمام عند الحاجة». وقد قدر الصحابة فى عهد عمر رضى الله عنه الحد بثمانين» ويروى أن التقدير تم فى عصر النبى وَلكة. 57- هذه التقديرات لجحرائم الحدود. ونرى فيها أن العقوبات مقدرة على أنها أقصى العقوبة. وكذلك جرائم القصاص قدرت فيها العقوبات بالنصء» إما من القرآن الكريم» وإما من السنة النبوية» وإما من عمل الصحابة رضى الله عنهم» وعملهم فى مثل هذه الأمور سنة متبعة على رأى جمهور الفقهاء؛ فصريح القرآن الكريم فيه دعوة القصاص فى القتلى» فقد قال تعالى : 0 يها الْذِين آمنوا كب عَليكُم القصاص ذ فى القتلى لخر بِالْحرٌ والعبد بالعبد والأننى بالأنتئ فمن عفي له من أخيه شيء َاتبَاع بالْمعروف وأَدَاء إليه بإحسان 2404 . إلى أن قال سبحانه: « ولكم في الققصاص حيَاة يا أولي الآلباب 2004 . والقصاص بشكل عام ثبت بقوله تعالى: «( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنّفْس والعين بالعين والأنف بالأنف وَالأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاصٌ 904 , 4 : المائدة : "#" ا 5" (0) النور: 5 . (9) الحجرات‎ )١( 560 : البقرة : 3/84 (5) المائدة‎ )5( . ١/8 : البقرة‎ )5( 78 وقد ثبتت عقوبة القتل الخطأ بقوله تعالى : «( ومن قََل مؤمنا خَطًا فتحرير رقب مؤمنة وديا مسلمة إلى أهله إلا أن يكوا إن كا من فوم عدر م وهو مؤمن تحرير قي ؤس مومه فصي هري ماب وله وان اله يما كي( 00 1 وبين رسول الله كه حكم الضرب الذى أفضى إلى الموت» أو القتل شبه العمدء فقال يَلِية: «ألا إن فى قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا والحجر مائة من الإبل». وبين القرآن الكريم القصاص فى الأطراف فى حال العمد فيما تلونا من الآية السابقة» وبين رسول الله كلكِِةٌ فيما إذا تعذر القصاص أو كان الاعتداء خطأ فقال كَل «فى الأنف إذا ما أوعب مارنه جدعا الدية» وفى اللسان الدية» وفى الذكر الدية» وفى اليدين الدية» وفى الرجلين الدية»» وهكذا استوعب الأطراف بالذكر مع بيان العقوبة. وقد ذكر رسول الله كَكيْهُ ديات الجراح إذا لم يكن فيها القصاصء» أو كان الاعتداء خط فذكر أن أرش الموضحة وهى التى تكشف العظم خمس من الإبل» وأن أرش الهاشمة» داف الى الهش الم عشر من الإبل٠ ٠‏ أذ أرش الآمة وهى التى تصل إلى أصل الدماغ. /517- وبهذا يتبين أن القرآن والسنة أحصيا العقوبات فى جرائم الحدود والقصاص والديات إجصاء بحيث لا يسع القاضى أن يخالف النص فى هذاء فلا يمكنه أن يزيد أو ينقص فى العقوبة» وقد بينا الحكمة فى ذلك عند الكلام فى أقسام الجرائم المقدرة. ولا نعيد هنا ما ذكرناه هناك فارجع إليه. أولها : أن الحدود غير قابلة للعفو بعد ثبوتها على النحو الذى ذكرناه آنفاء القصاص . صورة ومعنى والاكتفاء بالقصاص معنى فقط» يجوز ز للقاضى أن يحكم مع الدية المقررة أو الأرش المقرر بعقوبة تعزيرية منعا للفساد فى الاأرض» حسما 2 وخصوصا إذا كان المعتدى من تعودوا الاعتداء على الناس كبعض الشباب فى المدن والقرى الذين لا عمل لهم إلا الأذى» وقد يستأجرون لهذا الغرض. 220 النساء :5 ضن الثها : التقادم له أثره فى الجرائم التى تكون عقوبتها الحدء وليس له أثر فى جرائم القصاص والاعتداء على الأطراف» وقد أشرنا إلى طرف من ذلك عند الكلام فى تقسيم الجرائم . لا جريمة ولا عقوبة بلا دليل فى التعزير 48- هذه قضية سليمة بلا شك» فلا عقوبة فى التعزير من غير دليل» ولا جرية أيضا من غير نص فى التعزيرات» وإن ذلك يحتاج إلى بعض البيان فى الشطرين: أما الشطر الأول : وهو أنه لا عقوبة من غير نص فى التعزيرات فيوضحه أمران: أحدهما : ما ذكرناه من أن العقوبات المقدرة جعلت أساسا لتبنى عليه العقوبات غير المقدرة» فإن الشارع الإسلامى قد جعل عقوبات مقدرة فى كل نوع من أنواع الاعتداء على المصالح الإنسانية المعتبرة» فجعل عقوبة فى القذف» وفيها إشارة إلى نوع العقاب فى كل أنواع السب وخدش الناموس العام» وجعل عقوبة فى الاعتداء على النسل بعقوبة الزنى» وفى ذلك إشارة إلى ما يتبع فى كل أنواع الجرائم المتصلة بهذا النوعء وجعل عقوبة فى الاعتداء على الأمن العام بعقوبة قطاع الطريق» وفيه إشارة إلى ما يعالج به الجرائم التى تكون من هذا النوعء وأنه لا يصح أن تؤخذ بهوادة» وجعل عقوبة على الردة» وفيها إشارة إلى عقوبة كل ما يدخل فى هذا النوع ما يكون فيه اعتداء على الدين»وجعل عقوبة فى السرقة بالنص» وقد كان ذكرها إشارة إلى ما يجب من حماية الأموال. ومثل ذلك جرائم القصاص» وقد ذكرت عقوبة كبرى هذه الجرائم بالنص ليعرف القاضى بقية العقوبات بالقياس» وإن ذلك الاتجاه إلى إثبات العقوبات بالقياس هو ما اتجهت ,إليه بعض القوانين الأوربية» فإن القانون الدانمركى أباح إثبات العقاب بالقياس» كمنا جاء فى المادة الأولى من قاتون العقوبات الصادر فى ١5‏ من أبريل سنة 21917١‏ وكما جاء فى القانون الألمانى فى العهد النازى(١2‏ - وبهذا يتبين أن العقوبات التعزيرية لم تترك فرطاء وإن تركها لتقدير القاضى أو ولى الأمرء مع قيام أسباب القياس لا يعد تركا. ثانيهما: الذى يوضح أن الشارع الإسلامى عندما ترك العقوبات التعزيرية من غير تقديرء وفوض ذلك للقاضى فى أكثر الأحوال - ما خرج عن قاعدة ١لا‏ عقوبة من غير نص» فى الدور الأخير لهاء ذلك أن آخر دور لهذه النظرية بالنسبة للعقوبات هو أنها جعلت للعقوبات حدا أقصى ١‏ ولم تبعل لها حدا أدنى » وأطلقت للقاضى حرية التقدير فى هذا الحد الواسع» فله أن يبرئ ولكن ليس له أن يزيد على ما قدره الشارع . )١(‏ راجع فى هذا كتاب الأحكام العامة فى قانون العقوبات للأستاذ الدكتور السعيد مصطفى السعيد. 15 وإن ذلك عين مسلك الشارع الإسلامى» سلكه قبل أن يصل إليه القانون الوضعى بأكثر من ثلاثة عشر قرناء فالمقرر عند أحمد أن التعزير لا يبلغ به حد العقوبة فى جنسه» فالسرقة حدها قطع اليدء ولا تبلغ أى عقوبة تعزيرية خاصة بالمال ذلك الحد» . والقذف حده ثمانون جلدة» ولا تبلغ جريمة السب هذا الحد والزنى حده الجلد مائة» ولا تبلغ أى عقوبة لغيره من جنسه ذلك الحدء وهكذاء وعند الشافعى لا تبلغ العقوبة لغير الحد أدنى الحد» وعند مالك رضى الله عنه ليس للتعزير حد أعلى - بل يصل إلى القتل» وعند الحنفية مثل ما قال الشافعى على تفصيل فى ذلك» فقد قرروا أنه إن وجب التعزير بجناية ليس من جنسها ما يوجب الحدء كما إذا قال لغيره: يا فاسق يا خبيث يا سارق ونحو ذلك» فالإمام بالخيار إن شاء عزره بالضرب وإن شاء بالحبس» وإن شاء بالقهر والاستخفاف بالكلام» وعلى هذا يحمل قول سيدنا عمر لعبادة بن الصامت» إذ قال له فيما يروى: «يا أحمق» فإن ذلك كان على سبيل التعزير منه» لا على سبيل الشتم» إذ لا يظن ذلك من مثل سيدنا عمر رضى الله عنه لأحد» فضلا عن الصحابى ... وإن وجب التعزير بجناية فى جنسها الحد. لكنه لا يجب لفقد شرطهء كما إذا قال لصبى أو مجنون يازان» أو لذمية يا زانية فالتعزير فيه بالضربء ويبلغ أقصى غاياته» وهو تسعة وثلاثون فى قول أبى حنيفة عليه الرحمة» وعند أبى يوسف فى رواية خمسة وسبعون» وفى رواية أخرى تسعة وسبعون» وقال فى تعليل هذه الأقوال: والحاصل أنه لا خلاف بين أصحابنا رضى الله عنهم أنه لا يبلغ التعزير الحدءلما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال: «من بلغ حدا فى غير حد فهو من المعتدين» إلا أن أبا يوسف صرف الحد المذكور فى الحديث على الأحران» ويزعم أنه الحد الكامل لا حد المماليك» لأن حد المماليك بعض الحد. وليس بحد كامل» ومطلق الاسم ينصرف إلى الكامل فى كل باب» ولأن الأحرار هم المقصودون فى الخطاب وغيرهم ملحق بهم فيهء ثم قال فى رواية: ينقص منها سوطء وهو الأقيس» لأن ترك التبليغ يحصل به وفى رواية قال: ينتقص منها خمسة» وروى فى ذلك أثرا عن الإمام على رضى الله عنه أنه قال: يعزر خمسة وسبعين» وقال أبو يوسف رحمه اللّه: فقلدته فى نقصان الخمسة.» واعتبرته عنه أدنى الحدود. وروى عنه أنه قال: أخذت كل نوع من بابه» أخحذت التعزير للتقبيل واللمس من حد الزنى»والقذف بغير الزنى من حد القذف ليكون إلحاق كل نوع يبابه» وأبو حنيفة صرفه إلى حد المماليك وهو أربعون» لأنه (أى الحديث السابق) ذكر حدا منكرا فيتناول حدا ماء وأربعون حد كامل فى المماليك» فينصرف إليه. ولأن فى الحمل على هذا الحد أخذا بالثقة والاحتياط؛ لأن اسم الحد فى النوعين» فلو حملناه على ما قال أبو حنيفة يقع الأمن عن الوعيد .. ولو حملناه على ما قال أبو يوسف لا يقع ١:١ الأمن عنه لاحتمال أنه أراد به حد المماليك . . . . فيلحقه الوعيدء فكان الاحتياط فيما قاله أبو حنيفة رضى الله عنهء والله تعالى الموفق7١2.‏ 8- وإن هذا الكلام يدل على ثلاثة أمور: أولها : أن الفقهاء قد قرر أكثرهم أن العقوبات المقدرة تعتبر حدا أقصى» وأن حديث النبى يلي صريح بهذا المعنى» إذ يقول عليه الصلاة والسلام فيما نقلنا: «من بلغ حدا فى غير حد فهو من المعتدين» وإن هذا يدل على أن الإسلام وضع حدا أعلى للعقوبة» ولم يضع حدا أدنى. ثانيها : أن أكثر الفقهاء يقرر أن التعزير لا يسار فيه على سنن غير واضح» بل يسار فيه على سنن بين واضح» وهو أن العقوبات التى من جنسها حد لا يتجاوز حدهاء فالفعل الفاضح الذى لا يعد زنى لا يتجاوز فى عقوبته حد الزنى» وذلك رأى أحمدء وبعض أقوال الشافعى» ورأى لأبى يوسف من أثمة المذهب الحنفى» وقد قال فى توضيح هذا الرأى ابن تيمية ما نصه: «قد قيل فى التعزير: لا يزاد على عشرة أسواط» وقال كثيرون من العلماء لا يبلغ به الحدء ثم هو على قولين منهم من قال: لا يبلغ به أدنى الحدودء لا يبلغ باحر أدنى الحد وهى الأربعون7 أو الثمانون» ولا يبلغ بالعبد أدنى حدود العبد» وهى العشرون أو الأربعونء وقيل: بل لا يبلغ كل منهما حد العبد» ومنهم من يقول: لا يبلغ بكل ذنب حد جسه. وإن زاد على حد جنس آخر» فلا يبلغ بالسارق من غير حرز قطع اليدء وإن ضرب أكثر من حد القذف». ولا يبلغ عن فعل ما دون الزنى - حد الزنى - وإن زاد على حد القذف29 . ثالثها : الذى يدل عليه كلام الفقهاء وخصوصا ما نقلناه آنفا عن الكاسانى هو أنه يحتاط فى العقوبة بالنسبة للمتهمء حتى لا يكون قد عوقب بأكثر مما يعاقب به مثله فى الشرعء فإنه لو خفف العقاب للاحتياط لكان أولى من التشدد مع الاحتمال» ولذلك كان أبو حنيفة يقرر أن يؤخذ فى التعزير بأقل الحدود كما نقل الكاسانى فيما ذكرنا آنفا. -٠٠‏ قد يقول قائل: إن الإسلام بلا شك وضع الحدودء وبين مقادير العقوبات فى جرائم الاعتداء على الجماعة وعلى الآحاد التى نص عليهاء أما غير الجرائم المنصوص على عقوبتهاء فلم يبين القرآن ولا السنة ولا عمل الصحابة الجرائم فى ذاتها فالقارئ للكتاب والسنة يرى أمورا كان يعتبرها النبى كله جرائم» وقد وضع لها العقاب» فإذا انتقل إلى عهد الراشدين وجدهم اعتبروا أمورا أخرى لم تكن فى عهد النبى مَل معروفة» فهذا الذى نقش على صورة خاتم بيت المال» أخذ بهذا الخاتم منه» 2220 البدائع جلا ص5" . (؟) الأربعون هى حد الشربء لأن بعض الفقهاء يقول حد الشرب أربعون» وهو غير الراجح. () السياسة الشرعية ص 1757 . ١ قد اعتبر ذلك عمر جريمة» وعاقب عليه بالجلد» فما هو الضابط العام الذى يمكن أن يفهم منه أن هذا الفعل جريمة أو غير جرية . فإذا كانت الشريعة قد بينت العقوبات بالذكر لبعضهاء وبفتح باب القياس فى التعزيرات» فإنها لم تبين كل الجرائم التى يجرى عليها العقاب» وإن ذلك قد فتح الباب لأهواء الملوك والحكام لأن يفرضوا أهواءهم على الناس» ويجعلوا مخالفتها جرائم» وجعلوا لها عقابا قاسيا شديدا باسم التعزير وباسم منع الفسادء وإن حدوث مثل هذا فى أوربا هو الذى جعل القانونيين بعد الثورة يسنون ذلك ابد العادل» وهو أنه لا جريمة إلا بقانون؛ليعرف الناس ما يدخلهم تحت طائلة العقاب وما لا يدخلهم. وإن لذلك موضوعه من القول بالنسبة للملوك الإسلام فى عصور التأخر وهجر الإسلام ونيذهم مبادئه العادلة السامية» أما بالنسبة لذات الشريعة الإسلامية فلا موضع له ويجب أن تفصل البادئ الشرعية التى قررها الإسلام بنصوصه. أو باستنباط المجتهدين فيه من أعمال الحكام الذين كانوا أول من ناوأ هذه الأحكامء وجعل الحكم الجاهلى هو الذى يسود» وإنه من النعم التى أسداها الله تعالى إلى الباحثين أن الفقهاء فى كل العصور نزهوا أنفسهم عن أن يقروا أعمال الملوك حتى فى العصور التى كانوا يحكمون فيها حكما جاهلياء فسكتواء ولم يكتبوا مؤيدين» أو لائمين»ء وإن والوا الحكام أحياناء وأطاعوهم فى أكثر الأحوال. وإذا كنا قد فصلنا عمل الحكام عن أصل الشريعة» فإننا نقرر أن الشريعة كما بينت العقوبات بالنص والقياس» فإنها بينت أيضا الجرائم . الجراتم التى تستوجب العقاب -١‏ ذكرنا أن أساس اعتبار الفعل جريمة فى الشريعة هو ما عساه يكون فيه من اعتداء على النفسء» أو الدين أو المال» أو النسل» أو العقل» وتلك مصالح الدنيا والآخرة لا شك فى ذلك». ولكن ذلك معنى عام» فهل يترك تقدير المصالح إلى حكم العقل فيكون الطغيان أحيانا من الحكام» فيجعلون أهواءهم مصالح تجب حمايتهاء ومفاسدهم أوامر تجب رعايتها. لذلك لم يترك الإسلام الأمر سدى كما قال تعالى: « أيحسَب الإنسان أن يتَرّكَ سددى 2104 بل وضع الحدودء» وسن الطريق لمعرفة ما هو مصلحة يجب طلبه» ويأمر به» وما هو مضرة يجب اجتنابه» والكف عنه» فكانت أوامره ونواهيهء فما نهى الله تعالى عنه فهو معصية وهو جريمةء ويكون العقاب الدنيوى عليها واجبا إذا أمكن إثباتها وإجراء البينات القضائية عليهاء وقد ذكرنا فيما مضى . ”5 : القيامة‎ )١( ١7 الفارق بين الجريمة والمعصيةء وأن بينهما عموما وخصوصا مطلقاء فالمعصية أعم من الجريمة» والجريمة أخصء فكل جريمة معصية» وليس كل معصية جريمة. فالأوامر القرآنية والسنة النبوية والنواهى هى التى تكشف عن المطلوب شرعاء والمنهى عنه شرعاء وهى التى تحوى فى ثناياها بيان الجريمةء وبذلك يتحقق بلا شك معنى لا جريمة إلا بنصء أو ما يومئ إليه النص» وولى الأمر هو الذى يميز بين ما . يجرى عليه الإثبات» وما لا يجرى من أوامر القرآن الكريم ونواهيه» حتى يمكن اعتبار' الفعل جريمة قضائية» أو ليس جريمة قضائية» وذلك إذا لم د يكن النص الصريح وطريق الإثبات ميسرة معبدة» بحيث يمكن الإثبات بطريق يطمئن إليها القضاء من غير تعسف ولا إرهاق ولا تجسسء فإن التجسس منهى عنه بنص القرآن الكريم» إذ يقول سبحانه: ولا تَجسَّسُوا ولا يغتَب بَعَضَكُم بَعْضًا 23(4, ويقول يَكِ: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاء وكونوا عباد الله إخوانا». ؟ -2١‏ وبهذا وبما سبق من أن الجرائم اعتداء على المصالح الشرعية المعتبرة يتبين أن أوامر الله ونواهيه هى التى تشتمل على المصالح الإسلامية العلياء نعم إن العقل يدرك تلك المصالح من تلقاء نقسه. ولكنه قد يضل فى طلبهاء فكان لابد من مرشد مبين» وليس كل امرئّ قد خلص من أدران الهوى بحيث يفرق بين المسصلحة الحقيقية والهوى الجامحء .أو المصلحة التى يطلبها الإسلام والعقل» والمضرة التى يدفعها الإسلام والعقل.. ولأن المصلحة التى يطلبها الإسلام هى المصلحة التى تكون لأكبر عدد ممكن. والمضرة التى يدفعها هى مضرة لأكبر عدد. وتتفاوت الجرائم فى الإسلام بتفاوت ما فيها من مفاسد. كما تتفاوت المطالب بتفاوت ما فيها من مصالحء ولقد قسم عز الدين بن عبد السلام المفاسد إلى ضربين: ضرب حرم الله تعالى قربانه» وضرب كره الله إتيانه» وبهذا يربط رضى الله عنه بين المحرم والمكروه»ء وما عساه يكون فيهما من المفاسدء واسترسل فى بيان المحرم والمكروه فقال رضى الله عنه: «والمفاسد ما حرم الله قربانه وهى رتبتان : إحداهما رتبة الكبائر»ء وهى منقسمة إلى الكبير والأكبرء والمتوسط بينهماء فالأكبر أعظم الكبائر مفسدة». وكذلك الأنقص فالاأنقصء ولا تزال مفاسد الكبائر تتناقصء إلى أن تنتهى إلى مفسدة لو نقصت أوقعت فى أعظم رتب الصغائرء وهى الرتبة الثانية (أى المفاسد) ثم لا تزال مفاسد الصغائر تتناقص إلى أن تنتهى إلى مفسدة لو كانت لانتهت إلى أعلى مفاسد المكروهات وهى الضرب الثانى من رتب المفاسدء ولا تزال تتناقص مفاسد المكروهات» حتى تنتهى إلى حد لو زال لوقعت فى المباح»(؟؟ . : الحجرات‎ )١( (؟) قواعد 5 فى مصالح الأنامء لسلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام المتوفى سنة 0ه طبع‎ . الحسيئية‎ ١.5 ونرى من هذا كيف ربط ذلك الإمام الجليل بين المحرمات فى الشرع وبين المفاسد ربطا محكما دقيقا لا مجال للريب فيه» وقد رتب قوة التحريم على قوة المفسدة» فما تكون مفسدته أشد يكون تحريمه أكبر » وإن المفاسد متدرجة مع التحريم نزولا وصعوداء فأعظم الأشياء مفاسد أكبر الكبائرء ثم ينزل مقدار الإثم بمقدار نزول الفسادء حتى تصل إلى درجة المباح حيث لا يكون فساد فى الفعل أو الترك. *7- وكما ارتبطت المحرمات بالمفاسد قوة وضعفا ارتبطت المصالح بالمطلوبات الشرعية قوة وضعفاء ءفما قويت مصلحته كان أقوى طلباء وكان تفويته أعظم مفسدةء ويكون أشد إجراما. ويقسم العز بن عبد السلام المصالح إلى ثلاثة ضروب: أولها : مصلحة أوجبها الله تعالى لعباده» وهى متفاوتة الرتب منقسمة إلى الفاضل والأفضل والمستوسط بينهماء فأفضل المصالح ما كان شريفا فى نفسهء دافعا لأقبح المفاسد. جالبا لأرجح المصالح. وهذا القسم كان واجب الفعل محرم الترك يعاقب فيه التارك» ويثاب الفاعل . ثانيها : ما ندب الشارع عباده إليه إصلاحا لهمء وأعلى رتب مصالح الندب دون أدنى رتب مصالح الواجب» وتتفاوت إلى أن تنتهى إلى مسصلحة يسيرة» لو فاتت لصادفنا مصالح المباح. كذلك مندوب الكفاية تتفاوت رتب مصالحه وفضائله. ثالشها : مصالح المباحء وذلك أن المباح لا يخلو من جلب مصلحة أو دفع مفسدة. ويقول فيها رضى الله عنه: «مصالح المباح عاجلة بعضها أنفع وأكبر من بعض.» ولا أجر عليهاء فمن أكل شق تمرة كان محسنا إلى نفسه بمصلحة عاجلة» . وفى الحقيقة» إن الفرق بين المصالح التى تكون فى المباح» والمصالح التى تكون فى الواجب أو المندوب» أن مصالح المباح الدنيوية مصالح شخصية لذات الفاعل» ولذلك لا يتحقق عليها ثواب فى الآخرة مع عظم لزومها فى الدنيا بالنسبة للفاعل كالأكل والشرب والمشى» وغير ذلك من الأفعال التى هى بلا شك فيها مصلحة ذاتية شخصية لفاعلهاء أما المصالح التى تكون فى الواجب أو المندوب» فإنها مصالح ليست شخصية. بل إنها مصالح تعود على النفس وعلى الناس بالتفع» ولذلك كان للفعل فى الآخرة الثواب» وللترك العقاب إن كان واجباء وفى الدنيا يكون الترك داعيا للعقاب. إذا كان يمكن أن تجرى عليه البينات القضائية كترك الزكاة» وكترك اللأعمى يتردى فى بئرء وهو يستطيع إنقاذه» وكترك شخص يموت جوعاء يستطيع إطعامه. 4-- هذه نظرة تكشف عن وجه الارتباط بين المصالح التى كان الاعتداء عليها جريمة» والأوامر والنواهى الشرعية» وهى تكشف بجلاء عن أن الشارع الإسلامى إذ قد نص على كل الأوامر وكل النواهى» أو بعبارة أدقء» بينها إما بالنص عليهاء أو بيان - ١ اللأمارة الدالة عليها فقد بين الجرائم» ويكون قد حد ما عليه العقاب. وتحققت القاعدة لا جريمة إلا بنص» وبهذا ننتهى إلى قضيتين: إحداهما : أن ولى الأمر ليس مطلق اليد فى سن العقوبات» وتعيين الجرائم» بل هو مقيد كل التقييد بأوامر الشرع ليس له أن يعتبر أمرا - لا ضرر فيه ولم يجئ نهى عنه - جرعة بحال من الأحوال» وإلا كان ظلماء وكان كل أمر فيه أمرا بمعصية. ولا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق»: فليس حكم الحاكم الذى يستمده من الأحكام الشرعية مطلقاء بل هو مقيد وليس له أن يمنع أحدا من فعل» ويعتبره جريمة إلا إذا كان له مبرر من قواعد الشرعء إما لضرر مؤكد ينال الجميع» أو يغلب على الظن أن ينالهم» وإما لأن مصلحة الأمة العليا المؤكدة فى ذلك التعيين. وثانيهما : أن أوامر الشرع ونواهيه هى الأمر المعرف للجرائم» وأوامر الشرع ونواهيه ثابتة لا مجال للشك فيهاء وبعضها معلوم بالنص الصريح من الكتاب والسنة» أو إجماع السلف الصالح عليه» وهم الذين التمسوا علم النبوة» وتلقوا من رسول الله كد رسالة الله» وتولوا هم تنفيذها بسلطان الحكم بعد أن نفذها عليه الصلاة والسلام بسلطان النبوة» وإن لم يكن نص ولا إجماع فإن تلك الأوامر والنواهى التى اعتبرت أساسا للتجريم تعرف بالاستنباط الفقهى المقيد بمعانى. النصوص والقياس على الأحكامء والغايات العامة التى يطلبها الإسلام. وإنه لأجل بيان الأصول العامة لمعرفة الجريمة فى الشرع الإسلامى» لا بد لهذا من معرفة مراتب الأوامر والنواهى» لتعرف مراتب المصلحة فى التقييد»ء ولتعرف مراتب الجريمة قوة وضعفاء وتتبعها مراتب العقوبة العادلة قوة وضعفا. . ولا بد أيضا من معرفة طرائق الاستنباط التى بها تعرف الأوامر والتواهى الشرعية» والضوابط العامة وما لذلك من تفصيل؛ فإن لهذين الأمرين علما قائما بذاته هوعلم الأصول. وإنا فى هذا المقام نكتفى بالإشارة إلى بعض ما يهمنا إشارة موجزة كل الإيجاز. -١‏ مراتب الأوامز والنواهى 65- إن الأوامر والنواهى هى أقسام الحكم التكليفى الذى خاطب به الشارع الإسلامى المكلفين» ولذا يعرفه علماء الأصول: «بأنه خطاب الله تعالى المتعلق يأفعال المكلفين طلبا أو كفا أو تخييرا»(29 . وإن هذا التعريف فى إيجازه يتضمن أن خطاب الشارع الإسلامى للمكلفين» إما )١(‏ راجع شرح منتهى السول لمنهاج الأصول للأسنوى. ١5 أن يكون طلب فعل.» وهو المطلوبات» وإما أن يكون طلب كف. وهو الممنوعات» وإما أن يكون تخييراء وهو المباحات. ولا شك أن ترك المطلوبات لا يجوزء كما أن فعل الممنوعات لا يجوزء ومن المباحات ما يصح أن يدخل فى دائرة التحريم على النحو الذى نبينه. وإن المطلوبات ليست درجة واحدة فى الطلب» ولذا لا يمكن أن تكون درجة الترك واحدة فى التحريم» ما دام الطلب متفاوتا قوة وضعفاء وكذلك الممنوعات ليست درجة واحدة فى طلب الكف. بل هى تتفاوت» ولذا يتفاوت معها مقدار التحريم. الواجب : 1 -- ولبيان هذا التفاوت قد قسم العلماء الحكم التكليفى إلى خمسة أقسام. واجبء ومندوب, وحرام» ومباح» ومكروه» والواجب هو ما طلب فعله على وجه اللزوم» بحيث يأثم تاركه كأداء الزكاة» وأداء الديون» وسد حاجة المحتاج الذى يكون فى مخمصة شديدة» وإغاثة اللهفان» والجهاد فى سبيل الله بالمال واللسان والنفس إذا دهم الأرض عدوء فإن هذه كلها واجبات وتسمى فرضاء ولا فرق بين الفرض والواجب عند جمهور الفقهاء خلافا للحنفية. وإن الواجبات يأثم تاركها عند الله تعالى» ويعاقبه تعالى يوم الحساب إلا أن يتغمده الله برحمتههء وفى الدنيا يتولى ولى الأمر عقابه فى ترك الواجبات التى تمس مصلحة عامة أو خاصة فى الدنياء ويجرى فيها الإشات من غير تجسس ولا كشف للأستار. ولكن الواجب فى الفقه أقسام لا نريد أن نتتصدى لبيان هذه الأقسامء فإنها لا تمس موضوعناء ولكن نأخذ منه ما يمس هذا الموضوع فى غير إطناب متحرين الإيجاز والإجمال من غير إبهام . -٠١7‏ وإنه بما يمس الموضوع لأنه يتصل بالمصلحة العامة تقسيمهم الفرض إلى فرض عين وفرض كفاية» والواجب العينى هو الذى يطالب به كل شخص مستوف لشروط الوجوب. ويأثم إن لم يفعله كالزكاة» وكإعانة المحتاج الذى يكون فى مخمصة شديدة إذا أدت إلى الهلاك. وتعين هو لأداء هذا الواجب. والواجب الكفائى هو الذى يكون المطلوب فيه تحقيق الفعل من الجماعة غير متعين له شخص بعينهء فإن لم يحصل أثم الجميع كالجهاد فى سبيل الله والاأمر بالمعروف والنهى عن المتكرء وإقامة الصناعات التى تحقق عمران الدولة» فهذه الواجيات وأشباهها فرض كفائى يجب تحققه فى الجماعة» فإن فعله بعضها برئت الجماعة كلهاء 1١ 7 وإن لم يفعله أحد أئمت الجماعة كلهاء وفى حال قيام البعض تعد الجماعة كلها قد قامت؛ لأنه بمقتضى التكافل الاجتماعى فى الجماعة يكون القائم بالعمل نائبا عن الجماعة كلهاء ولأن الجماعة هى التى هيأت الأسباب لمن يستطيع القيام بهء فالأمة كلها ممثلة فى الدولة» أو فى إحدى الجماعات عليها أن تنشئ مصانع أو مدارس لتعليم الصناعات المختلفة؛ فيدخلها من عنده الكفاية لهاء فإذا قام بواجب صناعته فى العمران» فقد أدى هذا الواجب عن الجميع . ولقد وضح هذا المعنى فى الفروض الكفائية الشاطبى فى الموافقات فقال: (إن القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة؛ فهم مطلوبون لسدها على الجملة» فبعضهم قادر عليها مباشرة وذلك من كان أهلا لهاء والباقون وإن لم يقدروا عليها قادرون على إقامة القادرين» فمن كان قادرا على الولاية فهو مطلوب بإقامتهاء ومن لا يقدر عليها مطلوب بأمر هو إقامة ذلك القادر وإجباره على القيام بهاء فالقادر إذن مطلوب بإقامة الفرض» وغير مطلوب بتقديم ذلك القادر»(21 . ولقد بين الشاطبى أن مواهب الناس مختلفة» وأقدارهم متباينة ومتفاوتة» فهذا قد تهيأ للعلم» وهذا للإدارة والرياسة» وذلك للصناعة» والآخر للزراعة» وكل امرئ وما يسر له» ويجب أن يربى كل واحد على ما تهيئه له فطرته» حتى يبرز كل واحد فيما غلب عليه ومال إليه» ويقول الشاطبى فى ذلك: «وبذلك يتربى لكل فعل هو فرض كفاية قوم» لأنه سير أولا فى طريق مشترك؛ فحيث وقف السائر وعجز عن السيرء فقد وقف فى مرتبة محتاج إليها فى الجملةء وإن كانت له قوة زاد السير إلى أن يصل إلى أقصى الغايات فى المفروضات الكفائية» وبذلك تستقيم أحوال الدنيا وأعمال الآخرة» فأنت ترى أن الترقى فى طلب الكفاية ليس على ترتيب واحدء ولا هو على العامة بإطلاق ولا هو على البعض بإطلاق» ولا هو مطلوب من حيث المقاصد دون الوسائل» ولا بالعكس» بل لا يصح أن ينظر فيه نظر واحد» حتى يفصل بنحو من التفصيل ويوزع فى أهل الإسلام بمثل هذا التوزيع وإلا فضبط القول فيه بوجه واحد من الوجوه عسير )270 وإنه من هذا يتبين أن الأصل فى الفروض الكفائية هو القيام بمصلحة عامة يجب على المسلمين تحقيقهاء وهى على القادرين عليها بشكل خاص» وعلى غير القادرين بشكل عام لتهيتة القادرينء وإن التخلف عن هذه المصلحة العامة إن تعينت يكون جريمة. فالفرار من القتال جريمة» والامتناع عن القيام فى العمل المخصص له يكون جريمة إذا ترتب عليه ضرر عام» وهو ما يسمى فى لغة العصر بالإضراب عن العمل . طبع الشيخ منير الدمشقى‎ ١١9ص‎ ١ الموافقات‎ )١( ١ تعطيل فرض كفائى . 5-48 وللواجب مراتب لها ارتباط بقوة المصلحة فيه» فهى تتفاوت بتفاوت مقدار المصلحة فيهاء فكلما كانت المصلحة أكثر فى فرض كان أقوى فريضة من غيره» فمثلا الصلاة والصوم فرضان من فروض العين التى لا ينكر فرضيتها مسلمء وإنقاذ الغرقى فرض أيضاء ولو كان الوقت لا يسع إلا أحد الأمرين قدم إنقاذ الغريق» ولقد وضح هذا العز بن عبد السلام فقال: «تقديم إنقاذ الغرقى المعصومين على أداء الصلوات ثابت؛ لأن إنقاذ الغرقى المعصومين عند الله أفضل من الصلاة» والججسمع بين المصلحتين ممكن» بأن ينقذ الغريق» ثم يقضى الصلاة» ومعلوم أن ما فاته من أداء الصلاة لا يقارب إنقاذ نفس مسلمة من الهلاك» وكذلك لو رأى الصائم فى رمضان غريقا لا يتمكن من إنقاذه إلا بالفطر. أو رأى مصولا عليه لا يمكن تخليصه إلا بالتقوى بالفطرء فإنه يفطر وينقذهء وهذا أيضا من باب الجمع بين المصالح لأن فى النفوس حقا لله تعالى» وحقا لصاحب النفس 2١‏ فقدم ذلك على أداء الصوم دون أصله2730 , ومن هذا تبين أنه يؤاخذ الذى يترك غريقا يغرق ولا ينقذه ويعتذر بصلاته» لأن الأول أفضل وألزم بالأداعء ويحق عليه العقاب» لأنه يترك اللازم» ويعمل ما هو دونه لزوما. فقدم عتق رقبة على إطعام ستين مسكينا فى كفارة الصيام؛ لأن العتق أوضح مصلحة» إذ هو إحياء نفس مسلمة» وإضافة واحد إلى تعداد المسلمين» وصوم ستين يوما مقدم أيضا على إطعام ستين مسكيتاء لأنه أكثر ردعا وحملا على الأداء . وهكذا كانت الفرائض تتفاوت قوة اللزوم فيها بتفاوت مصلحتها كما وكيفا. وإن ولى الأمر فى اختياره أحكام التعزير فى ترك الواجبات سرتيها بمقدار المصلحة فيها. المندوب : 84-- هوما طلب الشارع فعله طلبا غير لازم» وذلك مثل الأذان» ومثل صلاة الجماعة» ومشثل صلاة العيد» ومثل تخير الطيب فى أداء الزكاة» ومثل التصدق المنثور الذى لا يدخل فى باب الزكاة» ومثل إقراء السلام» والمندوبات فعلها أولى من تركها فيجوز أن يتركهاء ولكن لا يجوز تركها جملة؛ لأنها باعتبارها من هدى النبى مَك لا يجوز تركها جملة وإن كان يجوز ترك بعضهاء ولذلك حل لولى الأمر أن يعاقب على )١(‏ قواعد الأحكام ج ١‏ ص77 . ١.4 ترك الأذان جملة» وقد كان الأذان فى وقت الردة فى أول خلافة أبى بكر الصديق رضى الله عنه دليلا على التوبة» والامتناع دليلا على الاستمرار على الردة. وإن المصلحة فى المندوب دون المصلحة فى الواجب. وإن أدنى درجات المصلحة فى الواجب تليها فى الرتبة أعلى درجات المندوب» والمفسدة التى تكون فى ترك المندوب دون المفسدة التى تكون فى ترك أدنى الواجبات» ولذلك لا تكون جريمة فى ترك المندوب إلا إذا تكاثر الترك وتضافر حتى صار تركا بالكل وليس تركا بالجزء . المباح : -٠ 7‏ والمباح ما خير الشارع المكلف فيه بين الفعل والترك» له أن يفعل وله ألا يفعل كالأكل والشربء. واللهو البرىء والبيع والشراءء وغيرها من العقودء فإن هذه كلها مباحات لا يتقيد المرء فى فعلهاء فهو لا يتقيد بوقت» ولا يتقيد بمكان» ولا يتقيد بحال. ولكن يلاحظ أن هذه المباحات وأشباهها لا يصح تركها جملة» بل إن الاختيار فى نوع الفعل وزمانه ومكانه» وإذا كان من علماء المسلمين من أنكر أن يكون فى الأفعال ما هو مباح بإطلاق» وقرر أنه لا شىء فى الأفعال يتخير فيه المكلف بين الفعل والترك» وإنما الأمور فى الشارع إما أن تكون مطلوبة أو منهيا عنهاء ولا شىء يتساوى وجوده وعدم وجوده فى نظر الشارع فى أفعال المكلفين من حيث ضرره على المكلف ونفعه له وما دام الضرر والنفع لا يتساويان» والشارع يطلب الأكثر نفعاء ويمنع الأكثر ضرراء فإنه بلا شك لا يمكن أن يوجد الفعل الذى يتساوى لدى الشارع فيه الفعل والتركء فالأكل مثلا مطلوب بالقدر الذى يقيم الأودء ولا يعرض الجسم للتلف» وتركه فى هذه الحال فى موضع النهى. ويلاحظ أيضا أن من المباحات ما يقترن به من الأمور ما يجعله حراما أو مكروهاء كالبيع وقت النداء لصلاة الجمعة» وكالشراء بتلقى الركبان يشترى منهم السلع قبل أن تدخل إلى السوق. ففى هذه الحال تكون تلك الأمور موضع النهى» وتكون من المعاصى» وتدخل فى باب الجرائمء ويكون لولى الأمر أو القاضى تقدير العقوبة فيها. وإن بعض المباحات قد تقيد لمصلحة تقتضى التقييد كأن تكون البضائع فى أيدى أناس يغالون فى أسعارها فى أوقات الضيق» وقلة الأقوات وما يشبع الحاجات» فإنه فى هذه الحال يجوز لولى الأمر أن يسعر أصناف الحاجيات» وتعتير المخالفة جريمة يجوز فيها تقدير عقاب» وليس ذلك إلا تقييدا لبعض المباحات. 16 الحرام : -0١‏ الحرام ما طلب الشارع الإسلامى الكف عن فعله على وجه الحتم كقتل النفس» وأكل أموال الناس بالباطل» ويدخل فى ذلك الأذى بكل أنواعه وفى كل أحواله. والحرام ينقسم إلى قسمين: حرام لذاته» وحرام لغيرهء فالحرام لذاته ما قصد الشارع إلى تحريمه لما فيه ضررء كأكل الميتة» وشرب الخمرء والزنى» والسرقة» وغير ذلك مما يمس الضرورات الخمس» وهى حفظ الجسم والتفس» والنسل» والمال» والعقل» والدين» وهذه الأمور وأشباهها تمس واحدا من هذه الضرورات. والمحرم لغيره هو الذى يكون النهى عنه لأنه يفضى إلى واحد من المحرمات لذاتهاء كالنظر إلى عورة المرأة» فإنه حرام» لأنه يفضى إلى الزنى» والاحتكار لأنه يؤدى إلى غلاء الأقوات» وغلاء الأقوات ضار بالمسلمين حرام لذاته» وكذلك تلقى الركبان والشراء منهم حرام لأنه يؤدى إلى الاحتكار» وقد نهى النبى مله عن الاثنين» فنهى عن الاحتكار وقال ْم «المحتكر خاطئ»» ونهى عن تلقى الركبان» ولكن الأول حرام لذاته» والثانى حرام لغيره لآأنه يؤدى إليه. وقد بنى على هذا التقسيم أمران: 7- أحذلهما دينى» وهو أن المحرم لذاته لا يباح إلا عند الضرورة» وذلك لقوله تعالى: لفن اط غير باغ ولا عاد إن الله ُو يم 4 “١‏ والمحرم لغيره يباح للحاجة» كإباحة النظر إلى العورة عند العلاج» والفرق بين الضرورة والحاجة أن ترك الأخذ بحكم الضرورة يعرض الحياة لخطرء أو المال كله للضياع» فمن وقع فى نفسه أنه سيموت إن لم يأكل الميتة كان فى حال ضرورة لأكلهاء ومن خشى على نفسه الموت من العطش ولم يجد إلا مقدارا من الخمر فإنه يشربهء وقد فسر النبى كَكلةْ الضرورة: «بأنه يأتى الصبوح والغبوق ولا يجد ما يأكله» أى من يجىء عليه الصباح والمساء ولا يجد ما يأكله» كان فى هذه الحال له أن يأكل المحرم غير طالب له ولا متجاوز حد الضرورة. أما الحاجة فهى ألا يترتب على الترك خشية الموت أو ضياع المال كلهء بل يترتب عليه ضيق وحرج فإنه يباح المحرم لغيره فى هذه الحال وقد ضربنا بعض الأمثال. الأمر الثانى : الذى يترتب على هذا التقسيم»ء هو أن المصلحة التى تفوت بارتكاب المحرم لذاته مؤكدة» والفساد ثابت مستيقن فيهء فيجب أن تكون العقوبة فيه أشدء أما المحرم لغيره» فهو محرم سدا لذرائع الشرء والمضرة فيه غير مستيقنة» فريما لا يفضى إلى الشرء إذ هو وسيلة لا غاية» تتكون عليه أخف . )١(‏ النحل : ه ١١ المكروه : 3- ما طلب الشارع الكف عن فعله طلبا غير ملزم بأن كان منهيا عنه» واقترن النهى بما يدل على أنه لم يقصد به التحريم كالبيع وقت النداء لصلاة ة الجمعة فى قوله تعالى : يا أَيها اين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ودرُوا الع ذلكم خير لَكُم إن كنثم تَعَلَمُونَ 4207 2174 ففهم كثيرون من الفقهاء أن قوله تعالى: #ذلكم خير لُكم4 أن النهى فيه سعة. وقالوا لذلك: إن البيع وقت النداء للجمعة ليس حراما بل مكروه. وإن المكروه ريما لا يظهر ضرره إذا ارتكب جزئيا أما إذا كان ارتكابه كلياء فإنه يظهر ضرره الواضحء» ولذلك قالوا إن المكروه هو بالجزء لا مؤاخذة فيهء ولكنه بالكل فيه مؤاخذة. إذ إنه بالكل يكون حراماء فلا إثم فيه بالجزء ولكنه فيه إثم بالكل» فإذا أجمع أهل مدينة أو قرية على ألا يتركوا متاجرهم. بل يستمرون على البيع والشراء والنداء للجمعة مسموعء فإن ذلك يكون حراما بهذا المظهر الكلى» وكذلك الذى يفعل أمرا مكروهاء ويستمر على الإصرار عليه» فإنه يكون عاصيا بهذا الإصرار. وإنه مهما يكن أمر المكروه كليا أو جزئياء فإنه من المؤكد أنه دون الحرام مضرة» وأدنى درجات الحرام مضرة أشد من أعلى درجات المكروه إضرارا. وإنه إذا كان المكروه يوجب عقوبة لكثرته» فإن ولى الأمر أو القاضى يلاحظ فى تقدير العقوبة ذلك» كما أنه يلاحظ الفارق فى المحرمات» فإذا كان تلقى الركبان وهو محرم قد كثر ورأى ولى الأمر أن مصلحة المسلمين فى وضع عقوبة على مرتكبه» فإنه بلا شك تكون عقوبته دون عقوبة المحتكرء وأكثر من عقوبة من يخالف التسعيرء لأن المحتكر قد ارتكب ما هو أشد من الأمرين. 4- هذه مراتب الأوامر والنواهى» ومنها تبين أن الشارع الإسلامى لم يترك أمور الناس سدىء» بل وضع الحدودء وفرض الفرائض وبين المطلوب وغير المطلوب» وما على الذين بأيديهم أمر المسلمين إلا أن يلاحظوا فى أحكامهم تنفيذ ما أمر الله به وحمل الناس على اجتناب ما نهى الله عنه» وأن يعرفوا أن الأساس فى العقاب هو دفع المضرة ما أمكن ما دام يمكن أن تكون الجريمة مما يدخل فى دائرة القضاءء بأن كان يمكن إثباتها على وجه لا يؤدى إلى التجسس وكشف الأاستارء فإن مضرة ذلك أشد من أصل الضرر فى المعصية» ومن المقررات الشرعية أن الضرر القليل يحتمل فى سبيل دفع الضرر الكبير. 4 : الجمعة‎ )١( ١6 وبهذا يتبين أن الجرائم قد بينت بشكل عام» وترك لولى الأمر تقدير العقوبة فى شئون التعزيرات» غير أنه مقيد فى التقدير بثلاثة أمور: أولها : أنه لا يصح أن يعتدى فى العقوبة فلا يبلغ بها حدا من الحدود المقدرة» على خلاف وتفصيل فى ذلك قد أشرنا إليه آنفا وسنبين تفصيل ذلك عند الكلام فى العقاب. ذلك أن الحد هو الحد الأعلى. ثانيها : أن تكون العقوبات من جنس ما قرره الشارع؛ ليكون القياس سليماء فلا يتخذ المثلة عقابا مثلا . ثالثها : أن توازن بين مقدار المضرة فى العقابء. والمضرة اللاحقة بسبب الذنب» فلا يشتط ولا يتجاوز الحدء وأن تكون العقوبة متناسبة مع المصالح التى فوتتها الجرائم» والمضار التى أنزلتهاء وأن تكون درجات العقوبة متلاقية مع درجات الضرر اللاحق» فتكبر بكبر الضرر وتنزل بنزوله. 06- وهنا قد يرد سؤال: إن الجرائم قد بينت فى الشريعة بيانا عاما» وبعض هذا البيان كان بوضع الضوابط لا بإحصاء الأفعال» كقول النبى يَكِ: «لا ضرر ولا ضرار». وكذلك العقوبات ذكر بعضهاء وأشير إلى سائرهاء وبعض اللمباحات قد تؤدى إلى المضارء ويرى وجوب دفعهاء كما أن المندوبات يكون من المصلحة أحيانا الحمل على بعضها. وإن كل ذلك يحتاج إلى أن يجد ما هو ممنوع من المباحات التى يؤدى الإفراط فيها إلى ضرر. والمندوبيات التى يكون من المصلحة الاجتماعية بيان الإلزام بها. فمن الذى يتولى ذلك؟ وألا يكون الترك من غير أن يوجد من يرسم الحدود مؤديا إلى احرج ١‏ وإذا عاقب القاضى من غير بيان يحد الجريمة ويرسم العقاب أفلا يكون ذلك عقابا من غير نص» وتجريما من غير نص أيضا؟ وإن الجواب عن ذلك أن الأمور الضارة والنافعة قسمان: القسم الأول : ما جاء به الأمر الدينى صريحا وما جاء به النهى الدينى صريحا أيضاء ولكن لم يذكر فيه العقاب. وهذا بلا شك يكون تقدير العقاب فيه لولى الأمر إلا إذا فوضه إلى القاضىء. فإنه يكون للقاضى تقدير العقابء. ولا يقال فى هذه الخال أن ثمة عقوبة من غير نص أو جريمة من غير نص فإن الجزء الثانى غير صحيح؛ لأن الجريمة قد علمت بالنص» أو بالدليل الشرعى» وأما العقوبة فقد بينا فى صدر كلامنا أنه قد بينت أعلى العقوبات» وهى الحدود»ء وللقاضى التقدير فيما دونهاء ومن جهة أخرى فإن القياس فى العقوبة يسلكه القاضى المجتهد؛ وكلا الاتجاهين أقرته القوانين الخاصة . القسم الثانى : هو الذى يثبت بالدليل تحريمه. إما لأنه مباحء أو لأنه مكروه» ولكن رأى ولى الأمر تقييد المباح» أو تكاتف المكروه حتى صار ضارا بالجماعة» وفى هذه الحال يقيد المباح ويكون المنعم من هذه المكروهات التى صارت فى كثرتها ضارة 1١6 ضررا بليغاء وإنه يجب فى هذه الحال أن يعلن ذلك التقييدء لأنه لا جرية إلا بننص» ولا نص من الشارع» أو لا دليل منهء فلا بد أن يكون الإعلان من ولى الأمر. ويروى فى ذلك عن إبراهيم يم النخعى أنه قال: «إن عمر بن الخطاب نهى الرجال أن يطوفوا مع النساء» فرأى رجلا يصلى مع النساءء فضربه بالدرة» فقال الرجل: واللّه إن كنت أحسنت لقد ظلمتنى» وإن كنت أسأت فما علمتنى» فقال عمر: أما شهدت عزمتى ألا يطوف الرجال مع النساءء فقال: ما شهدت لك عزمةء فألقى إليه الدرة وقال له: اقتص. قال: لا أقتص اليوم. قال: فاعف عنى. قال: لا أعفو. فافترقا على ذلك» ثم لقيه(١2‏ من الغدء فتغير لون عمر » فقال الرجل: يا أمير المؤمنين» كأنى أرى ما كان منى قد أسرع فيك» قال:أجل . قال: فأشهد الله أنى قد عفوت عنك» . وإن هذا الأثر السلفى يدل على أنه فى اللأمور التى يرى ولى الأمر منعها دفعا للضرر من العامة» وتكون فى أصلها غير منهى عنها نهيا قاطعاء أو كانت غير منهى عنها بالجزء وقد صار عمومها ضاراء فكان منهيا عنها بالكل» يكون من الواجب على ولى الأمر قبل أن ينزل العقاب على من يخالف الأمر أن يعلنه إعلانا كافيا لكى يصل إلى المكلفين» أو يفرض مع هذا الإعلان العلم بمن يوجه إليهمء ولذا اعتبر عمر نفسه معتدياء إذ تبين أن من علاه بالدرة كان غير عالم بالنهى» وبذلك يتحقق تحققا شاملا أنه لا جريمة إلا بنص» بحيث لا يكون ثمة مجال لارتياب مرتاب ولا لاعتذار معتذر. ؟- أدلة الأوامر والنواهى 5 - لم تكن الشريعة قانونا مسطورا يحدد الجرائم وعقوبتها بمواد مدونة» بل إنها أوامر ونواه مبينة واضحة» تختلط فى نصوصها الأحكام مع حكمهاء والأوامر والنواهى مع عللهاء فهى تبين الحكمء وفق علته وحكمته»ء فيكون الييان بيانا لأمرين: لحكم صريح واضح بالنص» ولحكم آخر غير صريح بالنص» وإنما يفهم من عموم العلة التى صرح بها النصء أو من الإيماء إلى العلة» أو من تطبيق النبى كَليْهِ له» أو من مسجموع الأحكام الشرعية بعضها مع بعض' وكون الشريعة ليست قانونا مسطورا مدونا لا يعيبهاء فإن التدوين للقوانين فى مواد أمر حديث فى القوانين» ولا تزال بعض القوانين الأوربية غير مدونة. فالقانون الإنجليزى ما زال أكثره غير مسطور» ولم يعب ذلك العدل الإنجليزى إذ تحقق فيما يحكم به القضاء» فليس العدل منوطا بصيغة القانون أو جمعه فى مواد إثما العدل كل العدل فى استقامة القاضى فى تفكيره وسلامة التطبيق. . راجع فى هذا الأحكام السلطانية للماوردى‎ )١( 7- فإذا كانت الشريعة ليست قانونا مسطورا فليس معنى ذلك أنها تركت الناس سدى» أو على أحكام غير واضحة». بل بينت الأحكام كلها بيانا عاماء» وبيانا خاصاء وما ترك محمد أمته حتى كان كل حكم واضحاء بالنص عليه» أو بالإرشاد إلى قاعدته العامة وعلم أمته طريقة استنباط الأحكام من النصوص وقواعد الإسلامء باجتهاده عليه الصلاة والسلام» وقد أقرهم على الاجتهاد فيما يبتلون. ويكونون بعيدين عنه ولا يستطيعون سؤاله» وبهذا البيان وذلك التوضيح صح له أن يقول يَكَهٌ: «تركتكم على المحجة الواضحة التى ليلها كنهارها». وقد انتهى الدارسون للشريعة إلى أن المصادر الشرعية التى بها تعرف الأحكام كلها من بين مختلف فيه ومتفق عليه» هى الكتاب, والسنة» والإجماع» والقياس» والاستحسان» والمصالح المرسلة » وسد الذرائع » والاستصحابء والعرف. ولنشر إلى كل واحد من هذه الأمور بكلمة» ولا نقصد بها بيانا شافيا» فإن ذلك موضعه علم الأصول الذى تشغل هذه الأمور الحيز الأكبر فيه . ٠‏ القران الكريم 4- هو مصدر هذه الشريعة الأأول» ومرجع كل أدلتهاء والأصل الذى تفرع عنه كل ما جاء به محمد يِه حتى لقد قال عبد الله بن عمر: «من علم القرآن فقد أدرج علم النبوة بين جنبيه» ولقد قال الشاطبى: «إن الكتاب كلى الشريعة» وعمد الملة وينبوع الحكمةء وآية الرسالة» ونور الأبصار والبصائرء وإنه لا طريق إلى الله سبحانه سواه ولا نجاة بغيره» ولا تمسك بشىء يخالفهء وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير أو استدلال عليهء لأنه معلوم من دين الأمة» وإذا كان كذلك لزم ضرورة لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة» وطمع فى إدراك مقاصدهاء واللحاق بأهلها أن يتخذه سميره وأئيسه170 . وإن القرآن الكريم قد بين الشريعة بنوعين من البيان: أحدهما : كلى إجمالىء وقد بينه النبى كَكِهِ كما قال تعالى: « وأنزلنا إليك الغ يس مال لاير174 وثانيهما : جزئى تفصيلى» » ومن ذلك المواريث؛ وأحكام الطلاق والأسرة» وكذلك أحكام الحدود والقتصاص» فقد بينها القرآن الكريم بيانا يكاد يكون كاملاء فقدل بين القرآن حد الزنى» وحد السرقة وحد القذف وحد قطع الطريق: وأشار إلى حد الشرب» ولذا استنبط مقدار الضرب فيه على ب بن أبى طالب من القرآن بقياسه على حد (1) الموافقات جد ص46 طبع التجارية . )١(‏ النحل : 44 . ْ ١ هه‎ القذفء» وبين الحكم إذا كان الزوج هو الذى رمى زوجته بالزنى» فبين اللعان بيانا 5- وبين القرآن الكريم القصاص فى قتل النفس وقطع الأطراف بيانا كاملاء بعضه بالإحصاءء وبعضه بالقاعدة» وهى قوله تعالى: ‏ وَالْجرُوح قصاص 27 . وبين من يكون له حق طلب العقابء, ومدى هذا الحق» وكونه يتناول حق العفوء وحق أخذ الدية فى أوجز بيان وأوضحهء وبين الحكمة فى إعطاء حق القصاص» وجعله أساسا للعقوبات» إذ قال سبحانه :9 وَلَكُم في الّقصاص حي يا أولي الألبَاب 74" . وبيّن القرآن الكريم جرية القتل خطأء وفصل العقوبة فيها تفصيلاء سواء أكان المقتول مؤمناء أم كان غير مؤمن» وسواء أكان من عدو للمؤمنين» أم كان من قوم بينهم وبين المؤمنين ميثاق وعهد. وببيانه أحكام القتل الخطأء تتبين أحكام أقصى الجرائم التى تقع خطأء وقد بينت السنئة بعد ذلك مواضع كالقصاصء وما بشيه الخطأ على ما سنشير إلى ذلك إن شاء الله تعالى . - والقرآن الكريم قد ذكر أكثر المعاصى فى مواضع النهى عنهاء فقد نهى عن الخمر والميسرء وقد نهى عن كل المعاصى جملة» فقد قال تعالى: ف( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن 74" ونهى عن أكل الربا فقال تعالى: 8 الّذين يأكلون الربا لا يَقُومُونَ إل كما يَقُومُ الذي يَعحَطهُ ايان من الْصَيّ ذلك بأنَهم قَاُوا نما ابيع مثل الربا وَل الَّهُ اع َم الا فمن جاءه موعظة من وب فانتهئ قله ما سقف وأمره إلى الله ومن عاد ولك أصْحَاب الا بهم فيها خالدُوت 409 يمح الله الا ويربِي الصّدقات واللّه لا يحب كل كقار أنيم #50 لق إن ألذين آمُوا وعَمنُوا الصالحات وَأقَامُوا الصّلاة وآنوا الرّكاة لهم أجرهم عند بهم ولا وف عليه ولاهم يَحَرنُون 0272 ي أنه دين آمنوا انوا لله وروا ما بي من ابا إن كم مؤمنين 597 فَإن لم تفعلوا دوا بحرب مَن الله ورسوله وإن تبتم فلكم روس أَمْوَالكُم لا َظلمُونَ ولا ُظلَمُوَ 4232 وإن كان ذو عسرة قنظرةٌ إلى ميْسَرَة وأن قصدقوا خير كم إن كنتم تعلّمون ج20 )147 . ونهى القرآن الكريم عن تطفيف الكيل والميزان واعتبره ه من أشد المعاصى فقد قال تعالى : ل ويل للمُطَمَفينَ > الّدين إذا اكَْاُوا علَى النَّاس يُستَوفُونَ +422 وإِذا كالوهم أو ١١‏ ) المائدة : 886 . (5) البقرة : 9 (”) الأنعام : 3161 (5) البقرة : هلالا -5800 . كه١‏ او شر 0 ماه وزنوهم يخسرون 22> ألا يض ولك نهم معونُونَ 20> ليوم عظيم +4 يوم يقوم النّاس لرب الْعَالَمِنَ رجي 104 . ونهى القرآن الكريم عن أكل أموال الناس بالباطل» وعن الرشوة.ٍ فقد قال تعالى: «ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الْحكام لتأكلوا قريقا من أموال النّاس بالإنم وأنتم تعلمون +22 74" وإن هذا النص يستفاد منه أن الرشوة من أكبر الكبائر؛ لأنها أكل لمال الناس بالباطل» وإفساد للحكام. وقد نهى نهيا صريحا عنهاء وبين أنها هى التى ذهبت بقوة بنى إسرائيل» فقد قال تعالى منددا عليهم ذاكرا أوصافهم التى أردتهم : ا سَمَاعونَ للْكَذب أَكَانُونَ للسّحت 274" . وقد أمر سبحانه وتعالى بالأمانة فقال جل ذكره: 8إِنّ الله يمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القريئ 904) ونهى عن الخيانة فقال تعالى: يا أَيْها اين آمنوا لا تخونوا الله والرّسول وتَحْونُوا أمَاناتكُم ونم تَعلَمُونَ و 004 . ونهى سبحانه وتعالى عن السب والتنابز بالألقاب والأسماء فقال تعالى : <يا أ ال آنا ل ماخر قوم ىفو ضسن أن كوو خر مه ولا اد تن تاو سك أد ب خيرا مَنْهِنَ ولا تلمرُوا أَنفسَكُم ولا تَنَابَرُوا بالألقاب بنس الاسم الفسوق بعد الإمان ومن لم يتب فَأُولك هم الظالمون ©4202 يا يها الدين آمنُوا اجحَبُوا كديرا م من الظَن إن بعض الظَن إِنْم ولا تَجَسَسُوا ولا يتب بَعْضكُم بض يحب أحَدكُم أن يكل لحم أخيه مين رموه واوا الله إن الله واب رّحيم 509 2304 . -١‏ وهكذا نجد القرآن قد ذكر بعض المعاصى وعقوبتهاء وهى المعاصى التى يعد الاعتداء فيها أكبر اعتداء؛ لأنه اعتداء على ما هو ضرورى فى المصالح التى أوجب الإسلام. حمايتهاء وهى حفظ النفس والدين والمال والنسل والعقل» والاعتداء بالزنى والقذف والشرب والردة وقطع الطريق والقتل اعتداء على ما هو ضرورى بالنسبة لهذه الأمور الخمسةء فكان النص فيه على أكبر عقوبة لأكبر جريمة» ليكون التدرج النزولى بعد ذلك لمن يقيس على ما نص القرآن الكريم على عقوبته. وفد ذكر فى مواخض ضع النهى جملا من المعاصى الإنسانية التى تعتبر رءوسهاء وبعض هذه المعاصى ذكره بالنص» وهو ما يعس مصلحة الجماعة مباشرة. وما يكون فيه )١(‏ المطففين : 5-5١‏ . (5) البقرة : ١84‏ . (”) المائدة : ؟ (5) النحل : 90 . 0 الأنفال : /ا؟ . (") الحجرات : ١505١١‏ . ١ لاه‎ اعتداء صريح ونص على بعض آخر بالتعميم» وهو ما عبر عنه بالفواحشء» والبغى» وكلمة البغى فيها أجمع الألفاظ التى تشمل معانى الإجرام» لأن الإجرام بغى دائمء, وتجاوز للحد» وقد جمع سبحانه المأمور به والمنهى عنه فى قوله تعالى : : ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهئ عن الفحشاء وَالْمدكرٍ والبغي يعظكم َعلّكم تذكُرون # 2174 وقد قال المحققون من علماء القرآن إن هذا الآية أجمع آية لمعانى الإسلام. 7- وإذا كان القرآن الكريم قد اشتمل على بيان كل المعاصى بالنص» أو بالتتعميمء فليس لأحد أن يدعى أن الجرائم فى الإسلام تركت من غير بيان» وأن الحكم فيها كان تحكميا تبعا لهوى الحكام» إذ هم الذين يحرمون الأفعال ولاضابط يضبطهم» فيعاقبون من غير نص سابق يبين الذى ينهون عنه من الأفعال. فإن ذلك القول مجاف للحقيقة؛ لأن القرآن الكريم وهو أصل الإسلام وعموده فى سياسة الأمور والعقوبات» ولكنهم فى ذلك كانوا خارجين على الإسلام» ولم يكونوا منفذين لأحكام القرآن الكريمء فلا تتحمل الشريعة وزر من يخالفونهاء كما لا يتحمل أى قانون عادل وزر من يهدمون أحكامهء ويطرحون مبادئه وراءهم ظهريا. 777- وقد يقال: إن الدلالات القرآنية ظنية» وقد تكون قابلة للتأويل» ويحتاج الأمر ذ فيها إلى شرح» وإلى كثير من ضروب التأويل» وذلك لا يجعله مبينا تمام البيان للجرائم التى تكون عليها العقوبات كما بينها قانون محدد المعانى» واضح المقاصد. ونقول فى الإجابة عن ذلك: إن القرآن الكريم فى كل ما يتعلق بالأوامر والنواهى صريح لا يقبل التأويل ولا التخريج على غير ظواهر ألفاظهاء نعم إن الفقهاء قد يختلفون فى بعض قليل جدا تحت ظلهاء ولكن لا يختلفون إلا نادرا فى بعض مدلولاتهاء كاختلافهم فيما تدل عليه كلمة قرءء ولم يختلفوا قط فى مدلولات العبارات التى تدل على المنهى عنه؛ لأآن المنهى عنه من المعاصى لمر تدر_كه العقولء ولا تختلف فيه الأفهام المستقيمة المتجهة إلى طلب الحق . وإن القوانين الحديثة المسطورة بعض ألفاظها غير محدود. ولها عموم وخصوص» وقد يختلف شراحها فى مدى عمومهاء ومدى ما يخصصهاء» ونوع المختلفة لطلاب العلم القانونى» وما اختلف القضاة فى أقضيتهم» وما كانت محكمة النقض التى تنظر فى سلامة التطبيق» من غير نظر إلى الموضوع . )١(‏ التحل: ش مه ١‏ وإن القرآن الكريم لم يكن كتلك القوانين الحديثة ليس لها مفسر يشتق قوة تمسيره من قوتهاء » بل القرآن له مفسر يبين مبهمه. ويفصل مجمله؛ ويعين مدلول المشترك فيه» وذلك المفسر هو أقوال النبى يَكِيْهه وما كان يَيَلِهّ ينطق عن الهوى إن هو إل وحي يوحئ + 20> عَلْمَهُ شديد القوى 22> ذو مرة فاستوئ <22) 4 (23. فتفسير النبى وكلْةِ هو تفسير الله تعالى منزل القرآن الكريم. "-السنة النبوية الشريفة 314- السنة النبوية أقوال النبى يَلْةٌ وأفعاله وتقريراته» وهى شارحة القرآن الكريم » وبها كان تبليغ الرسالة المحمدية» كما قال تعالى: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من رَبك وإن لم تفعل فَما بلغت رسالتَه 74" . وما تدل عليه السنة الشريفة ثلاثة أقسام : القسم الأول : تقرير لأحكام القرآنء وليس فيه جديد عليه» ولا توضيح لمبهمء ولا تقييد تقييد لمطلق» »؛ ولا تخصيص لعام» ومن ذلك الأحاديث الواردة فى معانى القصاص» مثل قوله عَللِهِ : (إذا قتل قتيل فأهله بين خيرتين» إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا العقّل». وفى رواية أخرى: «وإن أحبوا عفوا». القسم الثانى : سنة تبين المراد من القرآن الكريم» وتقيد مطلقه وتفصل مجمله إفرة من مثل قوله يلل فى تفسير قوله تعالى: « الّذين آمنوا ولم يلبسوا إيمائهم بظلم)» فقال: «هو الشرك». ومن بيان المحل بيان أحكام الزكاة» إذ قد تولت السنة بيان أصناف المال التى تجب فيها الزكاة ومقاديرها بيان استقراء وتتبع للأموال التى كانت معروفة بالاستغلال والنماء في البلاد العربية,, ومن بيان المجمل بيان حد النصاب فى السرقة» فقد قال تعالى: © والسّارق والسَارقَة فَاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا مَن الله 474 فإنه مجمل النصاب الذى يقطع به وشروط النصاب» وشروط القطع. وقد بينت السنة كل ذلك» وكذلك لفظ الدية في القرآن جاء مجملا وبينته السنة» فقد قال تعالى فى القتل الخطأً : « ومن قعل مؤمنا خطنا قتحرير رقبَةَ مُؤمنة ودية مُسَلّمَة إلى هله م(0) فبينت السنة الدية بيانا كاملاء وبينت مواضعهاء ومن تجب عليه»ء ومدى ما تدل عليه كلمة خطأل مما يشبه الخطأ فى حقيقة معنا وهو عدم توافر القصد السليم. القسم الثالث : سنة متضمنة لحكم سكت عنه القرآن» فتبينه السنة بيانا مبتدأء وذلك مثل دية الجنين» ومثل كون الديات تورث أو تكون للعصبة» فقد كان الإمام عمر )1( النجم 55ص (9) المائلة : لا5 . إفرة الأنعام 00 (5) المائدة : 8" . (60) النساء :”7 ١4 رضى الله عنه يقرر أنها لا تورث» بل تكون للعصبة باعتبار أن العصبة كان عليهم أن يدفعوا الدية إذا جنى» فيكون لهم أن يأخذوها إذا كان هو المجنى عليه إذ الغرم بالغنم » وأيضاء فإن العصبة هم أولياء الدم, كما قال تعالى: «ومن قتل مظلوما فَقَد جَعلْنا لوليه سلطَانًا فلا يُسَرِف في الْقثل إِنّه كان منصورا را )4 2174 ولكن ذكر عمر مع هذه الأقيسة بأن النبى ورث زوجة مقتول من ديتهء فقد روى الشافعى: أن عمر بن الخطاب كان يجعل دية المقتول فى العصبة. ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئا حتى أخبره الضحاك ابن سفيان أن رسول الله يللي كتب إليه أن يورث امرأة الضبائى من ديته فرجع عمر إليه. وروى فى دية الجنين أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال للصحابة: «أذكر الله امرءا سمع من النبى فى الجنين شيئا؟ فقام جمل بن مالك النابغة» فقال: كنت بين جاريتين لى - يعنى ضرتين - فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فألقت جنينا ميتاء فقضى رسول الله يَكلَهِ بغرة0' . فقال عمر: لو لم أسمع فيه لقضينا بغيره؟ . وإن هذا الأثر يدل على أمرين: أولهما : أن السنة كانت المرجع فى الأحكام بعد القرآن الكريم. وذلك بلا ريب ثانيهما : أن الصحابة عندما كانوا يقضون كان بين أيديهم قانون يأخذون بأحكامه. ويتبعون ما نص عليه من عقوبة وجريمة معاء ولذلك لجأ عمر رضى الله عنه إلى تعرف ما ورد فى هذا القانون عندما أبهم الأمر عليه فقد نظر فوجد أن الجنين حى قد أزهقت لأمه فى الوجودء فالاعتداء عليه اعتداء عليهاء فلما التيس الأمر طلب من الصحابة أن يهدوه إلى نص القانون الذى يحكم فى الموضوع وقد استبهم عليه الأمر فأرشدوه إليه رضى الله عنه» فاتبعهء ولما قضى بإعطاء الدية للعصبة. ولم يعط الزوجة منها ونبه إلى القانون المتبع» وهو قول النبى يَلكةِ عدل عن قضائه. ورجع إلى حكم القانون النبوى» وهو أولى من يعود إلى الحق إذا وجده» إذ هو القائل رضى اللّه عنه: إن الحق قديم والرجوع إلى الحق خير من التمادى فى الباطل . 06- هذه السنة النبوية فى مدى تطبيقهاء ومدى وجوب اتباعهاء والسنة قد أتت بأكثر ما يطبق بوجه عام فى القضايا الجنايات والجرائم» ولو أحصيت الأحاديث الصحاح الواردة فى أحكام العقوبات» ووضع كل حديث فى موضعهء ورتبت الأبواب ترتيبا مبينا كاشفا لكل جريمة وعقوبتهاء وقد وضعت فيه أجناس المسائل» كل جنس )١(‏ الإسراء 37” . (؟) الغرة: عشرة من الإبل» أو عبد أو أمة» ولذا قال كثيرون من الفقهاء: إنها عشر الدية» والمسطح ما يدق به وتد الخباء. : بل يشتمل على ما يدخل فى عمومه.ء ليكون من ذلك قانون مسطور سليم شامل» بيد أن عبارته تختلط فيها الحكمة من الحكمء والموعظة الحسنة بالحكم الزاجر الرادع» وذلك ما ليس مألوفا فى هذه الأيام فى نصوص القوانين» فنصوص القوانين جامدة» وقد أدى جمودها إلى الاختلاف فى تفسيرهاء وتعددت مناهج التفسير فيها. أما نصوص السنة فهى نصوص حية يتبين المراد منها بيانا واضحا بذكر العلة أو الحكمة» أو بما اقترن بالقول من وقائع» وما اخخمتلف فيه الفقهاء من الأحكام الواردة فى الآثار أكثره ليس فى فهم النصوص أو المراد أو المرمى فإن هذا هو القليل» إنما أكثره فى سلامة. رواية الحديث» وقبول رجاله الذين رووه» أو عدم قبولهم . 7- ولنقيض الآن قبضة واحدة من أثر الرسول صلوات الله وسلامه عليه تكون نموذجا لبيان العقوبات التى جاءت على لسان النبى يللي مقترنة باجرائم التى وقعت)» أو يمكن أن تقع. فمن ذلك ما قد بين النبى ذَكةِ القتل بالتسبب» وما يكون من دية فيه» وننقل إلى القارئ فى هذا حكما من أعدل الأحكام قضى به على رضى الله عنهء وأقره النبى لل وكان هذا قضاء محكماء وهذا هو الخبر» كما رواه أحمد فى مسندهء عن الإمام على رضى الله تعالى عنه قال: بعششى رسول الله كَلِْةِ إلى اليمن» ٠‏ فانتهينا إلى قوم قد بنوا زبية217 للأسدء فبيناهم كذلك يتدافعون» إذ سقط رجل فتعلق بآخرء ثم تعلق الرجل بآخر» حتى صاروا فيها أربعة فجرحهم الأسدء فانتدب له رجل بحربة فقتله» وماتوا من جراحتهم كلهم. فقام أولياء الأول إلى أولياء الآخر؛ فأخرجوا السلاح ليقتتلوا؛ فأتاهم على رضى الله عنه تفئة("؟ ذلك؛ فقال: تريدون أن تقتتلوا ورسول الله كك 'حى؛ إنى أقضى بينكم قضاء إن رضيتم به فهو القضاءء وإلا حجز بعضكم على بعض؛ حتى تأتوا النبى يَكِةٌ فيكون هو الذى يقضى بينكم؛ فمن عدا بعد ذلك فلا حق له؛ اجمعوا من قبائل الذين حضروا ربع الدية» وثلث الدية؛ ونصف الدية» والدية كاملة؛ فللأول ربع الدية» لأنه هلك من فوقه ثلاثة؛ وللثانى ثلث الدية؛ وللثالث نصف الدية؛ وللرابع الدية كاملة. فأبوا أن يرضوا؛ فأتوا النبى كَلِ. وهو عند مقام إبراهيم؛ فقصوا عليه القصة فأجازه رسول الله ككل 7 . ولعل من المناسب أن نذكر السبب فى هذا التقسيم. فنقول: إن الأول لا يجب له من الدية إلا الربع؛ لأن هلاكه كان بسبب ازدحام الأربعة على الزبية؛ وبسبب نزول الثانى؛ ثم الثالث؛ ثم الرابع فوقه؛ فوجدت أسباب أربعة لدية واحدة فتوزع الدية على )١(‏ الزبية: الحفرة التى تحفر ليصطاد بها الأسد. (؟) التفئة هنا معناها حين ذلك أى فى وقته المناسب ‏ (؟) نيل الأوطار جلا ص75 . كل رده أربعة أسباب؛ ويخص كل سبب ربع» والازدحام سبب واضح لا يوجد ما ينقضه؛ فيجب الذى يقابله؛ والثلاثة الأخرى ينقضها أنه هو الذى جذبهم فيذهب ثلاثة الأرباع والثانى كانت بالنسبة له أسباب ثلاثة: الازدحام» وسقوط الاثنين الآخرين عليه» ويسقط ما يقابلهماء ويبقى الثلث» وهكذا الثالك والرابع7 . والظاهر أنه جمع هذه الديات من مجموع قبائل الأربع بقدر متساو» ثم وزع الجميع ذلك التوزيع العادل» أو على الأقل لا يمكن أن يكون توزيع خيرا منه» وأطيب للنفوس من مثله . 7- وفى هذه الحقيقة إن الأقسام الثلاثة التى ذكرناها للسنة بالنسبة للقرآن الكريم تتحقق فى عقوبات الجرائم» فمن السنة ما هو تقرير للكتاب فى باب الجرائم» ومن ذلك الأحاديث الدالة على التخيير بين القود والعفو وأخذ الدية فى القتل العمد؛ فهى مقررة لاية القتصاصء. ولذلك قال ابن عباس : كان فى بنى إسرائيل القصاص » ولم تكن الدية» فقال لهذه الأمة: ف كتب عَلَيَكُم القصاص في القتلى الْحر بالْحرَ# الآية» ظ فَمَن عفي له من أخيه شيء 04" قال: فالعفو أن يقبل فى العمد الدية» والاتباع بالمعروف يتبع الطالب بمعروف» ويؤدى إليه المطلوب بإحسان #9 ذلك تخفيف من ربكم وَرَحْمَة 74" فيما كتب على من قبلكم . وعلى ذلك يكون قوله لله : «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين» إما أن يفتدى» وإما أن يقتل» مقررا لمعنى آية القصاص على ما قررها مترجم القرآن الكريم ابن عباس رضى الله تعالى عنه. ومن الأحكام المقررة أيضا ما جاء فى أحكام القصاص من السنة فى بيان أن جريمة دم المسلم ودم المعاهد, ودم العبد» كدم الحر على سواءء فإن كل هذه الأحاديث» وإنها لكثيرة مقررة لما اشتملت عليه الآية الكريمة من معنى القصاص» من مثل قوله كة: «ألا من قتل نفسا معاهدة لها ذمة الله ورسوله. فقد أخفر ذمة رسول الله ولا يرح رائحة الجنة» وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين خخحريفا» ومثل قوله يك «من قتل عبده قتلناه» ومن جدع عبده جدعناه» ومن خصى عبده خصيناه» ومنها قتل الرجل بالمرأة» وقتل المرأة بالرجل» إلى آخر ما جاء فى صحاح السنة مما لا نحصيه فى هذا المقام . ش 4- ومن السنة المبيئة لما جاء القرآن الكريم من تفصيل أحكام الديات وبيان مقاديرها بيانا شافيا لا بيان بعده. < (7) الكتاب المذكور صره"77 . )١(‏ البقرة: ١1/8‏ . (؟) البقرة : 7/4 . ١67 ومن السنة المبينة أيضا ما جاء فى ديات الجروح والقصاص» فإن قوله تعالى : ا وَالْجِرُوح قصاص 2174 فيها إجمال بينته السنة» ومما بينته السنة أحوال القتل الخطأ وديته» وأحكام القتل الذى يكون بين الخطأ والعمد. وما يكون فيه دية» فكل ذلك بيان للقرآن الكريم» وحد لمعانى ما اشتمل عليه من نصوص محكمة فى هذا المقام . وبينت السنة من يستحق من الدية ومن لا يستحق. ومن تجب عليهم الدية أهم العاقلة أم القاتل» والأحوال التى تجب فيها على القاتل» والأحوال التى تجب على العاقلة . ثم بينت السنة أحكام الجرائم المزدوجة التى تقع من الجانى والمجنى عليه معاء كمن يعض رجلا فتنزع ثنيته منه فى أثناء العضةء وهكذا تبين السنة أحكاما تفصيلية كثيرة لمجمل القرآن الكريم. 84- وقد أتت السنة بأحكام كثيرة زائدة عما بينه القرآن الكريم إجمالا أو تفصيلاء وإن كان جملة ما جاءت به لا يخرج عن القرآن الكريم» ويدخل فى ضمن كلياته العامةء لأن القرآن الكريم» وإن لم يفصل كل شىء تفصيلاء هو الكلى العام. وما ترك من أبواب الفقه فهو داخل فى عمومهء وإن لم يذكر بخصوصه. ومن هذه الأحكام التى بينتها السنة دفع الصائل» والدفاع عن النفس» وعقوبة من يكشف عورات الناس» ومن ذلك ما روى عن سهل بن سعد أن رجلا اطلع فى ثقب فى باب رسول الله لَه ومع رسول يله مدرى يرجل به رأسهء فقال له: «لو أعلم أنك تنظر لطعنت به فى عينك» إنما جعل الإذن من أجل البصر). وروى عن أبى هريرة أن رسول الله يَكهِ قال: «لو أن رجلا اطلع فى قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه فلا دية ولا قصاص» . ٠‏ 77- والسنة هى التى بينت طريق إثبات الجرائم الخاصة بالقصاص فهى التى بينت أن القصاص يثبت بالإقرار» ويثبت بشهادة رجلين. وقد روى مسلم والنسائى فى هذا: أن رجلا جاء إلى النبى يليه بحبشىء فقال له: إن هذا قتل أخى., قال: «كيف قتلته»» قال: ضربت رأسه بالفأس» ولم أرد قتله. قال: «هل لك ما تؤدى ديته»» قال: لاء قال: «أفرأيت إن أزسلتك تسأل الناس تجمع ديته» قال: لا. قال: «فمواليك يعطونه ديته». قال: لا. قال للرجل: خذه. فخرج به ليقتله» فقال رسول الله ككل «أما إن قتله كان مثله»» فبلغ به الرجل حيث سمع قول النبى كلد فقال له: هو ذا فمر فيه ما شئتء» فقال رسول الله كَل: «أرسله يبوء بإثم صاحيه وإثمه فيكون من أصحاب النار) . . 868 : المائدة‎ )١( الندلا ولقد قر النبى كَل أن الشهادة فى القصاص رجلان ولم يثبت أنه سوغ شهادة رجل وامرأتين . وقد روى عن رافع بن خديج قال: أصبح رجل من الأنصار بخيبر مقتولا. فانطلق أولياؤه إلى النبى عليه فذكروا ذلك لهء فقال: «لكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم»» فقالوا: يا رسول الله لم يكن ثم أحد من المسلمينء وإنما هم يهود قد يجترئون على أعظم من هذاء قال: «فاختاروا منهم خمسين فاستحلفوهم»» فوداه النبى يللِلٌ من عنده. ومن هذا النص وغسيره يتبين كيف كان النبى يلْةٌ يبين العقوبات بيانا عمليا تطبيقياء ويتبين أيضا من هذا النص ما قرره الإسلام من أنه لا يطل دم فى الإسلامء إذ إنه لم يمكن معرفة الجانى»ء حتى يقتص منه. أو تكون الدية عليهء وتبين أن القتل لا يوجب القودء لو كان ثمة عفوء ومع أن المسئولية لم تتبين على أحدء فإن بيت المال يتحمل الدية فلا يذهب دم هدرا فى الإسلام» ويقال قيدت الجريمة ضد مجهول. -١‏ وقد بينت السنة القسامة» واعتبرتها طريقا من طرائق إثبات الجريمة. فقد روى عمرو بن شعيب أن رسول الله كَلْدٌ قال: «البينة على من ادعى» واليمين على من أنكر إلا فى القسامة».والقسامة أن يحلف خمسون من القرية أو الى الذى ظهر فيه القتيل» فإن حلفوا وججبت الدية فى بيت المال وإن أبوا وجبت عليهم الدية» فإنه يروى عن أبى سلمة» وسليمان بن يسار عن رجل من الأنصار: «أن النبى يَكلِلهِ اتجه لليهود الذين ظهر القتيل من الأنصار بينهم» وأمرهم أن يحلف منهم خمسون رجلاء فأبواء فقال للأنصار: استحقوا. فجعلها رسول الله يَلِيَهِ دية على اليهود.ء لأنه وجد بين أظهرهم».. وصيغة اليمين التى توجه لكل رجل من الخمسين هى أن يحلف أنه ما قتله» ولا عرف له قاتلا. وإن هذه الطريقة تؤدى إلى أن تتعاون الجماعة فى أن تمنع الجريمة فى حيهاء أو فى قريتهاء وإن وقعت فإنها تتعاون على كشفهاء لأن الجهل بالمجرم يوجد نوعا من الغرم على الجميع» وإنه من النادر ألا يعلم الجانى واحد من خمسين رجلا من الحى الذى هو فيهء فإن الناس كثيرا ما يؤثرون الصمت رهبة من الجانى» أو إيثارا للعافية» أو تخاذلاء ولكن إن حلف تكلم» وإن تكلم أمكن تتبع المجرم وتعرف آثاره. والانتهاء إلى محاكمته» وقتله أو أخذ الدية منه . 3"5- والسنة هى التى بينت حد الشرب» وهى التى بينت طريقة إثبات الحدود فى الحملة» وطريق درثئها بالشبهة. وماهية الجريمة فيهاء وحد الرجم قد ذكر فى السنةء ولم يذكر فى القرآن الكريم. 2015 وقد بينت أثر حق الله فى الحدود الخالصة حقا لله تعالى» كالزنى والشرب. وأثر حق العبد فى الحدود التى للعبد _فيها حق» وهى أنها لا يسمع الإثبات _فيها إلا بالتخاصم» ومتى يجوز العفو ومتى لا يجوزء فى بيان واضح بين. وبالجملة فإن النبى له قد تركناء ولم يكن شىء يحتاج إلى بيان قد تركه من غير بيان» فبلغ رسالاات ربهء وترك فينا ما إن أخذنا به لا نضل من بعده أبداء ترك فينا كتاب اللّه وستته عله . الإسلام العامة التى تتعرف بالقياس . القياس 7- إن الحوادث لا تتناهى» والنصوص تتناهى» فلا يمكن أن يوجد قانون شامل -شمولا كليا لكل الوقائع وا-لحوادث» بحيث لا تخرج عنه -صغيرة ولا كبيرة إلا ثابت . والقياس إلحاق مالا نص فيه بما فيه نص ف فى الحكم الشرعى المنصوص عليه» لاشتراكهما فى علة الحكمء هذا هو تعريف القياس» وهو فى جملته خضوع لقانون التماثل» الذى يوجب أن تكون الأمور المتمائلة حكمها واحدء لآن قضية الاشتراك فى العلة أوجدت تماثلا بين الفعلين من حيث المعنى الشرعى المعتبر الذى أوجب الحكمء فيجب أن يكون اتحاد فى النتيجة وهو الحكم. والقياس على هذا النحو مشتق من أمر فطرى تقره بداهة العقول» لآن أساسه ربط ما بين الأشياء المتماثلة إن توافرت أسبابهاء» ووجدت الصفات المتحدة المكونة لهاء وإذا تم التمائل فلابد أن يقترن به لا محالة التساوى فى الحكم على القدر الذى توجبه المماثلة» وأن الاستدلال العقلى فى كل ما تنتجه البراهين المنطقية قائم على ربط الممائلة بين الأمورء ليتوافر الشرط فى إنتاج المقدمات فتنتجهاء فإن هذه المقدمات لا تنتج نتائجها المقررة الثابتة إلا بالاعتماد على البدهية المقررة الثابتة»ء وهى أن التمائثل يوجب التساوى فى الحكم. ولقد وجدنا القرآن الكريم يستعمل قانون التساوى فى الأحكام لتشابه الصفات والأفعال فى كل تشبيهاته؛ وإرشاداته» فيقول جلت قدرته: « أفلم يسيرًوا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الّذينَ من قبلهم , دمر اللّه عليهم وللكافرين نحل أمثالها 42 .3 وبين افتراق الأحكام عند عدم التساوى فى مثل قوله تعالى: ام حسب الدين اجترحوا السيئات أن نحلم كالذين آمنوا وعمُوا الصالحات سواء , محياهم وممائهم 4( 2 وقوله تعالى : 9م تجعل الْذِين آمنوا وَعَمِلُوا الصّالحات كَالْمُفسدينَ في الأرض أم تجعل الْمقِينَ كَالفجَارٍ 20 274 . ولقد قال المزنى صاحب الشافعى فى هذا المعنى : «الفقهاء من عصر الرسول كك إلى يومنا استعملوا المقاييس فى جميع الأحكام فى أمر دينهمء وأجمعوا على أن نظير الحق حق2» ونظير الباطل باطل» فلا يجوز لأحد إنكار القياس» لأنه التشبيه بالأمور. والتمثيل عليها» . 4- هذا هو القياس فى حقيقته ومعناه» ولا نريد أن نتكلم فى اختلاف بعض المقهاء على الجمهور الأعظم. ونفيهم اعتباره حجة إسلامية» ولا فى تفصيل أحكامه.» وتعرف العلة» ومقدار قوة الاحتجاج. فإن ذلك له موضعه من علم الأصول وليس له موضع فى بحثناء وأن القياس بلا شك يعمل به فى عقوبات جرائم التعزيرء لأنها كلها مبنية على تقدير ولى الأمر أو تقدير القاضى الذى يفوض إليه ذلك. وإن بعض عقوبات جرائم التعزير» قد عرفت من الأحكام القرآنية والأحاديث النبوية العامة والخاصة» وورد عن النبى كلل عقوبات مختلفة فيهاء وورد كذلك عن الصحابة وخصوصا عمر بن الخطاب عقوبات مختلفة فى أبواب من الجرائم غير الثابتة بالنصوص القرآنية والأحاديث الشريفة» وإن الصحابة الذين تلقوا الهدى المحمدى عن محمد بن عبد الله وفت نزول الوحى هم أعلم الناس بالشريعة. ولذلك أجمع الأئمة الأربعة على الأخذ بهديهم على أنه حجة إذا لم تكن حجة من كتاب الله تعالى» ولذلك يقول الشافعى رضى الله عنه: «رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا» . وعلى ذلك يصح القياس عليها ما دام الأصل فيها هو الردع» وحفظ المصالح العامة والقيام على * شئون الناس قياما صالحا عادلا. 06- وعلى ذلك يكون ثبوت التعزير بالقياس أمرا لا محل للنزاع فيه؛ لأنه مينى على التقدير» وقد وضع الحد الأعلى للعقاب فى الحدود والقتصاص» فيسهل من بعذه القياس . ولكن هل تثبت التدود والقصاص بأخياس؟ نقد قال بعضهم إنها ثم تثبت بالقياس ؛ أجاز لما بن جل أن يفضي رايد يس القضاء اقباس إل . 78: )اص‎ . 5١ : الجاشية‎ )5( 2.231١ : محمد‎ )١( ١655 الرأى الذى أجيز القضاء بمقتضى لهء ولقد قال الإمام عمر فى كتاب القضاء الذى أرسله إلى أبى موسى الأشعرى عندما ولى قضاء البصرة: «قس الأشباه بالأشباه» . وفوق هذا فإن الصحابة أثبتوا مقدار الحد فى الشرب بالقياس» إذ قال النبى كَل فى الشرب: «اضربوه أو اجلدوه» ولم يحدد مقدارا» وحدد الصحابة المقدار بالرأى» وقد قرر وجه الرأى على بن أبى طالب رضى الله عنه إذ قال: إنه إذا شرب سكرء وإذا سكر هذى» وإذا هذى افترى» فحدوه حد المفترى. وقال بعض الفقهاء: إن الحدود والقصاص والكفارات لا تثبت فى جرائم بالقياس» بل هى ثابتة فى جرائم معينة لا يجوز القياس عليهاء فحد السرقة مثلا لا يثبت إلا فى السرقةء فلا يثبت فى الغصبء. ولا يثبت فى نبش القبوره ولا يثبت فى الأموال غير المحرزة. وكذلك حد الزنى ثبت فى الواقعة التى تتكون من علاقة الرجل بالمرأة علاقة غير شاذة» فلا تقاس عليها أحوال الشذوذ الجنسى؛ لأن الحد ثبت فى هذه الجريمة مقدرا لهاء فلا يقاس عليها غيرهاء لأن تلك العلاقات الشاذة - وإن كانت معاصى بالاتفاق - لم يرد فيها العقاب المقدر المحدودء ولا تنطبق على مرتكبها كلمة زان» أو زانية. وعلى ذلك تكون هذه المعاضى داخلة فى باب التعزير. ولا تدخل فى باب العقوبات المقدرة. وكذلك القذف» وردت الآثار بأنه فى الرمى بالزنى؛ فلا يقاس على الرمى بالزنى الرمى بتلك العلاقات الشاذة؛ لأن تلك العقوية المقدرة وردت فى الرمى بواقعة الزنى» فلا يقاس عليها الرمى فى غيره. هذا توضيح ذلك الرأىء وحجته أن الأمور المقدرة لا يدخل فيها القياس» والعقوبات فى الحدود والقصاص مقدرة» والمقدرات لا تعرف عللهاء فلا يقاس عليهاء ولا يقاس أيضا على موضوعهاء لأن العقوبة مقترنة بالموضوع» وبما أنه لا يعرف وجه التقدير المعين فى الموضوع فلا يقاس عليه غيره» فما دام القياس فى أصل. التقدير غير معقول» وأيضا فإن الحدود والقصاص عقوبات تدرأ بالشبهات كما أمر النبى لو ولا يصح أن تثبت فى أصل موضوعها بدليل شرعى فيه شبهة» والقياس مهما تكن قوة الاحتجاج به فإنه دليل غير قطعى » فلا يثبت به حد فى موضوع حد من الحدود. وأيضا فإن الدود فى أصل معناها أمر مرسوم لنوع معين من الجرائم» فطبيعة أصله توجب منع القياس؟؛ لأنها حق الله تعالى» وهو سبحانه أعلم بحقه؛ فلا يصح أن تفرض حقوق لله لم يبينها الله تعالى. 5”- والحق فى القضية أن القياس فى الحدود والقصاص والكفارات قياس على يدل موضعهاء بيد أنه فى بعض الأحوال يكون القياس فى العقوبة بينا إلى درجة أن يقارب النص. فإنه فى هذه الحال لا يرد عليه تلك الاعتراضات مثل قياس عقوبة شبه العمد على عقوبة القتل خطأ بالنسبة للكفارة» فإن قتل المؤمن خطأ يوجب الدية ويوجب الكفارة» والدية تكون على العاقلة. وهى دية مخففة على ما سنبين. وجناية القتل شبه العمد توجب الدية وديته تكون مغلظة كما ورد فى الأثرء ولكن أتجب فيه الكفارة أم لا تجب إذا كان المقتول مؤمنا. قال أبو حنيفة وأصحابه لا تجب الكفارة» لأنها وردت فى القتل الخطأ ولا يقاس شبه العمد على الخطأء لأن الكفارة فيها ستر الذنوب» واللّه سبحانه هدد القاتل عمدا فقال: « ومن يقتل مؤمنا متَعَمّدا فجزاوه جَهَنّم خَالدًا فيها .2١(4‏ فلا يكفر ذنبه عتق رقبة» بل لا يكفره إلا بالنار» وذلك على أصل الحنفية من أن الكفارات لا تكون فى الآثام التى لا يكفرها إلا التوبة أو عقاب يوم القيامة. وقال الشافعى وغيره: تجب فى شبه العمد الكفارة بعتق رقبة مؤمنة» إن كان المقعول مؤمناء لأن الكفارة إن وجبت فى الخطأ فأولى أن تثبت فى شبه العمدء. وهو أولى» فهو فى نظرهم قياس بين أو دلالة الأولى. هذا شأن القياس فى العقوبة» أما القياس فى الجريمة» فإنه واضح أن هذه الأدلة السابقة غير واردة؛ لأن التقدير هو الأمر الذى لا يرد فيه القياس» ولكن موضوع التقدير لم يرد فيه القياس» اللهم إلا إذا قلنا: إن هذه العقوبة تعبدية ليست معقولة المعنى» ولكن الحقيقة غير ذلك». بل هى عقوبات معقولة المعنى» وإذا كانت معقولة المعنى فى ارتباطها بموضوعها من حيث إنها علاج لداء معين» وهى حاسمة لادته فى المجتمع أو على الأقل مخففة لويلاته فيه» فلماذا لا تكون صالحة لعلاج ما يشبهه من الأدواءء وله كل مظاهره. فإذا كان الجلد مائة. عقوبة رادعة للزنى» فلماذا لا تكون عقوبة رادعة للعلاقة الشاذة بين رجل ورجلء أو للعلاقة الشاذة بين رجل وأنثى؟!! إنا لا نعتقد أن ذلك ينال التقدير فى شىء؛ ولكنه يعمم العقاب فى كل موضوع يكون مشابها للموضوع الذى كان فيه العقاب؛ لأن الحد حكم وهو حكم معلل ليس حكما تعبدياء فيصح أن يتعدى موضوعه إلى ما يشبهه فى معناه. وكون الحدود حقا لله تعالى لا يقتضى أن تكون فى أصل شرعيتها تعبدية» بل إنها كانت لتطهير المجتمع من الرجس» وما كانت تسميتها حدوداء إلا لكونها حق المجتمع» وليست العقوبات لحق شخصء وإن كونها حقا للمجتمع يجعلها معقولة المعنى أكثر من غيرها. . 9# : النساء‎ )١( لحل 7- وهل يصح القياس فى طرق الإثبات بالنسبة للجرائم المقدرة العقاب» والجرائم غير المقدرة العقاب». وإن ذلك ينتهى بنا إلى النظر فى أمرين: أحدهما : قياس الإثبات فى إحدى جرائم الحدود على الإثبات فى أخرى. قال الحنفية: يجوز القياس فى ذلك» ولذلك أوجبوا فى الإقرار بالحدود أن يتكرر الإقرار بتكرر الشهادة» ويتكرر الإقرار مرتين؛ وذلك لأن النبى يِه طلب الإقرار من الزانى. الذى أقر - أربع مرات» فلم يكتف بالإقرار مرة واحدة» فكان التكرار أربعا بمقدار عدد الشهود وهم أربعة» فإذا كان الشهود اثنين فى غير الزنى» فيجب إذن أن يتكرر الإقرار مرتين فى الحدود غير الزنى . وبعض الفقهاء توسع فى الاستدلال للجرائم» فلم يكتف بالبينة والإقرار بل أثبت بالقرائن» ومن هؤلاء بعض الحنابلة» ولكنهم لا يثبتون بها فى الحدود والقصاصء لأنها تدرأ بالشبهات» ولكنها تثبت فى جرائم التعزيرء بل إن ابن القيم يأخذ بالقرائن حتى فى جرائم الحدودء ويذكر أن ذلك مأثور عن الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عنهمء ويقول فى ذلك : «قد حكم أصير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه والصحابة معه برجم المرأة التى ظهر بها حمل» ولا زوج لها ولا سيد» وذهب إليه مالك وأحمد فى واضح روايته اعتمادا على القرينة» وحكم به عمر وابن مسعود رضى الله عنهماء ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة بوجوب الحد برائحة الخمر من الرجل» أو قيئه خمراء اعتمادا على القرينة الظاهرة» ولم يزل الأئمة والخلفاء يحكمون بالقطع إذا وجد المال المسروق مع المتهم» وهذه القرينة أقوى من البيئة والإقرار» فإنهما خبران يتطرق إليهما الصدق والكذب» ووجود المال معه صريح لا يتطرق إليه أى شبهة. وهل يشك أحد رأى قتيلا يتشحط فى دمه. وآخر قائم على رأسه بالسكين أنه قتله. لا سيما إذا عرف بعداوتهء ولهذا جوز جمهور العلماء لولى القتيل أن يحلف خمسين يمينا أن ذلك الرجل قتلهء ثم قال مالك وأحمد: يقتل بهء وقال الشافعى: يقضى عليه بدية. وكذلك إذا رأينا رجلا مكشوف الرأس وليس ذلك عادته. وآخر هارب قدامه» بيده عمامة. وعلى رأسه عمامة حكمنا له بالعمامة التى بيد الهارب. .2102 وهكذا يسترسل ابن القيم فى بيان قوة الإثبات فى القرائن القاطعة» وقول بعض الأئمة بالقرائن فى جرائم الحدود والقصاص» وقول أكثرهم فى الاستدلال بها فى كل شىء. : ولكن الحنفية أنكروا الاستدلال بالقرائن فى مسائل القضاءء وذلك بحث له موضعه فى كتب المرافعات الشرعية. . ا‎ ١ 5 الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية ص‎ )١( 59 الإجماع - الإجماع اتفاق المجتهدين فى عصر من العصور على حكم من الأحكام الشرعية معتمدين فى ذلك على نص من القرآن والسنة» أو على قياس صحيح على خلاف فى الأخير» ولقد قال فى تعريفه القرافى فى شرح تنقيح الفصول: هو اتفاق أهل الحل والعقد من هذه الأمة فى أمر من الأمورء ونعنى بالاتفاق الاشتراك» إما فى القول أو الفعل أو الاعتقادء وبأهل الحل والعقد المجتهدين فى الأحكام الشرعية . وهنا يرد سؤال: إذا كان الإجماع لابد أن يكون له سند من الكتاب والسنة أو القياس على الخلاف فى القياس» فكيف يعد حجة قائمة بذاتها؟ إنه يرجع فى ذلك إلى سنده» فإن كان سنئده الكتاب فالحجة فى الكتاب» وإن كان سنده السنة فالحجة فى السنة» وبذلك لا تكون ثمة حاجة إلى حجة رابعة تسمى الإجماع. والجواب عن ذلك الاعتراض الوارد بأنه إذا ثبتت المسألة بالإجماع لا يسأل عن سندهاء وإن كان مفروضا واجب التقدير حتمياء فما كان للعلماء أجمعين أن يتفقوا على أمر إلا إذا كان معتمذا على سند حتماء لابد أن يكون سندا لا مجال لاختلاف الأنظار فيه» ولذلك أنكر بعضهم أن يكون القياس سندا للإجماع» لأن القياس يتجاذب العلة فيه الأنظار المختلفة» فبعد أن يتفق عليه الفقهاء المجتهدون جميعا فى كل البقاع الإسلامية فى عصر من العصور. ٠‏ وإن للوإجماع فائدة أخرى هى أن السند قد يكون ظنيا كحديث آحاد فإذا انعقد الإجماع على الاستدلال به كان ما انتهى إليه الإجماع قطعيا؛ ذلك لأن الإجماع زكى السند وقواه إلى درجة أن صار مدلوله قطعيا لا يجوز إتكار ما اشتمل عليه من حكم» إذ إن الإجماع على دلالة نص جعله فى مرتبة الأمر الذى فهم من الدين بالضرورة. ولذلك قالوا إنه إذا تعارض نص انعقد الإجماع على الحكم الذى يدل عليه مع نص آخر لم ينعقد الإجماع على حكمه - قدم الأول» لأنه قد زكاه الإجماع . 4- والإجماع على النحو الذى بيناء لم يختلف العلماء فى قوة دلالته وإن اختلفوا فى من هم العلماء الذين ينعقد بهم الإجماع» والاختلاف الجوهرى بينهم هو فى وقوعه» فالشافعى وأحمد يكادان ينكران وقوعه إلا فى عهد الصحابة» وفى أصول الفرائض دون سواهاء ككون الصلاة خمساء وكأوقاتها» وصيام رمضان ووجوب الزكاة وغير ذلك» ولقد كان الإمام أحمد يقول: من ادعى الإجماع فهو كاذب» ولكن يقول لا نعلم الناس اختلفواء أو لم يبلغنا» وكان يقول: «لا ينبغى لأحد أن يدعى الإجماع لعل الناس اختلفوا» . ين والشافعى الذى يعد أول من حرر معنى الإجماع كان ينكر الإجماع فى مناظراته» ولا يسلم به إلا فى أصول الفرائض . وفى الحقيقة أن الفقهاء فى جدلهم الفقهى كان كل واحد من المختلفين يدعى الإجماع على ما يدعيهء ويحسب أن اتفاق الآراء فى بلده يسوغ له أن يدعى الإجماع على ما يقولء ولعل أدق الفقهاء كان مالكا عندما كان يتكلم محتجا بالإجماع» فقد كان يقول: «الأمر المجتمع عليه عندناء ولا يكون مجتمعا عليه عندهم,» إلا إذا كان الأمر مجمعا عليه عند الجميع كما قال الشافعى». ٠‏ 54- ويجمع الفقهاء على اختلاف مذاهبهم إلا الشيعة - على أن الصحابة أجمعواء وكثير من المسائل الفقهية قد أجمعوا عليهاء ونرى بعض العقوبات قد ثبتت بإجماع الصحابة» فحد الشارب قد أجمعوا عليه» وثبت بإجماعهم». وأصل الحد موضع إجماعء وإن كانوا قد اختلفوا أهو أربعون جلدة أم ثمانون جلدة» وإنه وإن ثبت بخبر آحاد قد قواه الإجماع وثبته مما يدل على أن العقوبة فيه قد ثبتت بالتواتر» ومن المسائل التى ثبتت بالإجماع قتال المرتدين» واعتبار مانع الزكاة إن كان من جماعة لها قوة ومنعة من المرتدين» وأجمع الصحابة على أن القتل بالسوط وما يشبهه مما لا يقتل به عادة لا قصاص فيه. وهكذا فكل هذه الأحكام ادعى فيها الإجماع. -١‏ وإنه يجب التنبيه إلى أن الذين ينعقد بهم الأجماع هم علماء الأمة المجتهدون فى عصر من العصورء مهما تتناءى الديار وتتباعد اللأمصارء ولذلك كان الشافعى وأحمد وغيرهم يناقشون فى وجودهء والشافعى ناقش فى إمكان وجوده فى كتاب جماع العلم. ولقد سلموا بإجماع الصحابة خصوصا فى عهد عمر رضى الله عنه» لأنه رضى الله عنه كان قد منع علماء الصحابة من أن يخرجوا إلى الأمصارء حتى ينتفع من علمهمء ولكيلا يفتن الناس بهم»ء فكان الإجماع ممكناء وعمر رضى الله عنه كان يعرض الأمر عليهم» ويبدى رأيه فيهء فإن وافقوه انعقد الإجماع. وإن لم يوافقوه جادلوه» فإما عدل عن رأيه وإما اقتنعوا برأيه» وإما خالف من خالف. ونفذ رأى الأكثرينء فكان الإجماع بهذا ممكنا وثابتاء وله وقائع مقررة ثابتة» ولكن من بعد الصحابة كان الإجماع بعيد الحصول. ولذا اتهم أحمد بالكذب من يدعيه مالم يكن أساسه إجماع الصحابة . 47- ولقد توهم بعض الذين يكتبون فى الفقه أن الإجماع ينعقد بإجماع أعضاء المجالس النيابية فى عصرناء وقد يسمى هذا إجماعا نيابياء وقد يسمى إجماعا سياسياء ولكن لا يمكن أن يسمى إجماعا فقهياء لأنه ليس إجماع المجتهدين» وإنما هو إجماع غير المجتهدين» وإذا كان بعض الفقهاء عبر عن الذين ينعقد الإجماع بهم بأنهم أهل الحل والعقدء فقد فسر قوله بأنهم الفقهاء المجتهدونء وعلى فرض أن رجال الشورى ١ كانوا جميعا من فقهاء الإسلام المجتهدين؛ فليسوا هم جميع الفقهاء المجتهدين» إذ هم الفقهاء الذين انتخبواء وليس انتخابهم دليلا على أنهم الفقهاء وحدهمء وإنه فى إحدى مناقشات الشافعى فى بيان عدم إمكان الإجماع فى عصره كان يقرر أنه إذا فرض أن أهل الإجماع هم الذين يتكونون ممن نصبهم أهل كل بلد فقيها يرجع إليهء فإن أى بلد لم يجمع فقهاؤه على أن عالما من العلماء أفقههمء ولننقل كلام مناظر الشافعى ورد الشافعى» يقول الشافعى: من أهل العلم الذين إذا أجمعوا قامت بإجماعهم حجة؟ فيقول المناظر: هم من نصبه أهل بلد من البلدان فقيها رضوا قوله وقبلوا حكمه» فيرد الفقه. وينسبونه إلى الجهلء أو إلى أنه لا يحل له أن يفتى» ولا يحل لأحد أن يقبل قوله» وقد علمت تفرق أهل كل بلد بينهمء ثم علمت تفرق أهل كل بلد فى غيرهم» فقلنا إن أهل مكة من كان لا يخالف قوله عطاء» ومنهم من كان يختار عليه» ثم أفتى الزنجى بن خالد فكان منهم من يقدمه فى الفقهء ومنهم من ميل إللى قرام سعديد بن سالمء وأصحاب كل واحد من هؤلاء يضعفون الآخرء ويتجاوزون القصد(١)‏ وهب أن أعضاء ء مجلس الشورى هم جميعا من المجتهدين» وهم وحدهم أهل الاجتهاد فى بلد من البلدان الإسلامية. فهل هم كانوا فقهاء المسلمين؟ فلا يمكن إذن أن ينعقد بهم إجماع. وإن إجماع أعضاء المجالس النيابية ليس أساسه دراسة فقهية» بل أساسه دراسة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية» ولا يعتمدون فى إجماعهم على سند من الكتاب أو . السنة أو القياس الفقهى الصحيحء إنما يعتمدون على ما يرونه دافعا لحاجة وقتية» وليس ذلك شأن المسائل الفقهية على الإجماعء إذ إن المسائل الفقية الثابتة بالإجماع تتكون من مجموعها أحكام لا تجوز مخالفتهاء وليس ذلك شأن أعمال مجالس الشورىء إنما هى أمور مهما يطل زمن بقائها فليس حجة فى كل الأزمان. 747- هذا أمر وجب علينا أن نحررهء لأن بعض الكتاب من فقهاء المسلمين ذكر هذاء فتعلق به غيره» وظن أن إجماع أعضاء المجالس النيابية» أو إجماع أكثرهم يجعل اللوائح والقوانين صادرة بحكم الإجماع الفقهى الإسلامى» وقد تبين أن ذلك بعيد كل البعد عن معانى الإجماع الفقهى» والله سبحانه وتعالى هو الموفق. الاستحسان والمصلحة والذرائع والعرف - هذه المصادر الفقهية تلتقى جميعها فى معنى واحد وهو المصلحة» فمهما تختلف أسماؤهاء فأساسها واحدء ومعناها واحدء. وقد كان الإمام مالك رضى الله عنه ١ وأصحابه الذين تلقوا عليه يعدون الاستحسان كلمة عامة تشمل هذه الأمور الأربعة» ويقول مالك فى ذلك: «الاستحسان تسعة أعشار العلم»» والإمام الشافعى رضى الله تعالى عنه عندما أبطل الاستحسان» وكتب كتابا فى ذلك سمههء كتاب إبطال الاستحسان كان يقصد بهجومه كل هذه المعانى» وهى بشكل عام تشمل كل استنباط لم يكن أساسه الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس» وإن لم يكن نص ولا إجماع فليس إلا القياس «والقول بالاستحسان قول بالتشهى» عند الشافعئ . ولنعرف هذه الكلمات الاصطلاحية تعريفا موجزا غير مفصلين شيئا منها. الاستحسيان : 065- الاستحسان هو أن يحكم المجتهد فى المسألة بغير ما حكم به فى نظائرها لسبب اقتضى العدول» والاستحسان لا يكون إلا حيث لا نص» فلا استحسان فى موضع النصء إئما الاستحسان يكون عندما يكون القياس» ولكن رؤى أن القياس مناف للمصلحة» فيكون الاستحسان.ء وأبو حنيفة وأصحابه يردون الاستحسان الذى يخالف القياس إلى قياس آخرء ويسمى القياس الآخر قياس الاستحسان وهو قياس تختفى علته ولكنه يكون أقوى تأثيراء ويقول الشاطبى فى الاستحسان: «ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس» فَإِن من استحسن لم يرجع إلى ذوقه وتشهيه. وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع فى الجملة فى أمثال تلك الأشياء المفروضة» كالمسائل التى يقتضى القياس فيها أمراء إلا أن ذلك يؤدى إلى فوت مصلحة من جهة أخرىء» أو جلب مفسدة لذلك» وكثيرا ما يتفق مع الأصل الضرورى أو مع الحاجى أو مع التكميلى أويكون إجراء القياس مطلقا فى الضرورى يؤدى إلى الحرج والمشقة فى بعض موارده» فيستثنى موضع الحرج؟. ولنضرب لذلك مثلاء إذا جرح شخص آخر جرحاء فإن مقتضى القواعد أن تكون العقوبة القصاص صورة ومعنى» وهذا أمر ضرورىء ولكن القصاص غير ممكن» لأنه لا يمكن وجود الجرح المماثل تماماء فيكون الاستحسان حينئذ أن تكون الدية» ويصح أن يكون بجوار ذلك تعزيرء وكذلك إذا ضرب شخص آخر فشلت يده فى الضربة» لا يمكن القصاص» فيكون الاستحسان الدية لتعذر القصاصء ولقد قال اين العربى من فقهاء المالكية: «الاستحسان إيثار ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثناء والترخيص لمعارضة ما يعارض به فى بعض مقتضياته. وقسمه أقساما أربعةء» وهى ترك الدليى للعرف» وتركه للإجماعء وتركه للمصلحةء وتركه للتيسير ورفع المشقة وإيثار التوسعة»237 . : 807١ الاعتصام للشاطبى ج ”7 ص‎ )١( 1 من هذا نجد أن الاستحسان باب من أبواب المصلحة» وهو الأخذ بها فى مقابل القياس» أى يكون فى المسألة الجزئية دليلان: من القياس» والمصلحة الواضحة» وفى الأخذ بالقياس ضيق وحرج» فيترك الأخذ بالقياس لهذا الضيق والحرج» ويقول أبو حنيفة: إن ترك القياس يكون اعتمادا على قياس آخر أقوى تأثيرا. المصلحة المرسلة : 7 - والمصلحة هى ما يسمى عند المالكية بالمصلحة المرسلة» وهى المصلحة التى لا يشهد لها دليل خاص بالإلغاء ولا بالاعتبارء وإذا كانت المصلحة يشهد لها دليل خاص بالاعتبار» فإنها تكون داخلة فى القياس» وإذا كان يشهد دليل بمنعهاء فهى لا تعد من المصلحة فى شىء» بل تعد هوى جامحا لا يلتفت إليه. وعلى ذلك يكون الفرق بين المصلحة المرسلة والقياسء أن القياس يعتمد على نص خاص يحمل عليه» أما المصلحة فلا تعتمد إلا على كونها مصلحة فى ذاتهاء والشارع ما جاء إلا لمصالح العباد» فحيئما كانت المصلحة المناسية لأحكام الشرع فثمة حكم الله تعالى. والفرق بين المصلحة والاستحسان» أن المصلحة لا يكون فى الموضوع دليل سواهاء أما الاستحسان فيكون فى الموضوع دليل آخرء وهو القياسء ولكن يؤدى الأحذ به إلى تفويت تلك المصلحة» فيعدل عن القياس إلى الأخذ بها. وإن الأخذ بالمصالح المرسلة هو مذهب مالك وأحمدء لأن السياسة الشرعية تقوم على الأخذ بالمصالح جملة. وفى الواقع أن المصالح عند الجميع معتبرة» ولكن موضع الاختلاف فى اعتبارها أصلا قائما بذاته يعد دليلا مستقلاء فالحنفية والشافعية أدخلوا المصالح فى أبواب القياس» والمالكية والحنابلة اعتبروها وحدها دليلا مستقلا لا يلتفت إلى إلحاقها بغيرها من الأدلة» ولذلك قال القرافى ما نصه: «المصلحة المرسلة غيرنا يصرح بإنكارهاء ولكن عند التفريع نجدهم يعللون بمطلق المصلحة. ولا يطالبون أنفسهم عند المفروق والجوامع بإبداء الشاهد لها باعتبارهاء» بل يعتمدون على مجرد المناسبة» وهذا هو المصلحة المرسلة»7١2.‏ وقد اشترط الفقهاء الذين اعتبروا المصلحة أصلا قائما بذاته شروطا ثلاثة: أولها : أن تكون المصلحة ملائمة لمقاصد الشارع فى الجملة» بحيث لا تنافى أصلا من أصولهء ولا دليلا من أدلته القطعية» بل تكون متفقة مع المصالح التى قصد الشارع إلى تحصيلهاء بأن تكون من جنسها أو قريبة منها وليست غريبة عنها. ١٠١ تنقيح الفصول ص‎ )١( و1 ثانيها : أن تكون معقولة فى ذاتهاء جرت على المناسبات المعقولة التى إذا عرضت على أهل العقول تلقتها بالقبول. ثالشها : أن يكون فى الأخذ بها رفع حرج لازم فى الدين» فلو سم يؤخحذ بالمصلحة المعقولة فى موضعها لكان الناس فى حرج7!" . -١417‏ وإن أحكاما كثيرة خاصة بالجرائم كانت مبنية على المصالح. فقد كان الفاروق عمر رضى الله عنه يرى أن عقوبة اللبن المغشوش أن يراق تأديبا للغاش» وليفوت عليه مقصده. ذلك على المصلحة احتراما لشعائر الله تعالى فى هذا الشهر المبارك . وجور الصحابة ومن بيعدهم التابيعون والفقهاء نفى أهل الدعارة والفساد دفعا لفسادهمء ومنعا لشرهمء فينفون من الأرض إلى حيث يؤمن شرهم» ويدفع ضررهم» وإن تلك العقوبة قد دفعت إليها المصلحة بلا ريب. وقد بنى الصحابة على المصلحة عقوبة الشذوذ الجنسىء فقرروا حرقهم بالنار كما أفتى الفاروق عمر والإمام على رضى الله عنهما. ومما بناه الفقهاء على المصلحة عدم عقوبة من يجد رجلا مع أهله فيقتله إذا ثبت ذلك» فقد جاء فى أعلام الموقعين أن عمر بن الخطاب بينمسا هو يتغذى إذ جاءه رجل يعدو وفى يده سيف ملطخ بدم ووراءه قوم يعدون» فجاء حتى جلس مع عمر رضى الله عنهء فجاء الآخرون فقالوا: يا أمير المؤمنين إن هذا قتل صاحبناء فقال عمر رضى الله عنه: ماذا تقول؟ فقال: يا أمير المؤمنين إنى ضربت فخذى امرأتى» فإن كان بينهما أحد فقد قتلته» فقال عمر رضى الله عنه: ما تقولون؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين إنه ضرب السيف فوقع فى وسط الرجل وفخذى المرأة» فأخذ عمر رضى الله عنه من الرجل سيفه » فهزه» ثم دفعه إليه» وقال: إن عادوا فعل. دل هذا على أن من يرى شخصا يفسق بأهله يجوز قتله» وقد اشترط على إعفاء القاتل من القصاص أن يشهد أربعة بالمواقعة ليتبين أن القتل كان بحق؛ لأن تسويغ القتل مبنى على الزنى» والزنى لا يثبت إلا بأربعة شهود. ومهما يكن من الأمر فإن المقرر الشابت الذى لا مساغ لإنكاره أن ذلك الحكم مأخحوذ من المصلحة التى من شأنها حماية النسل» والمحافظة على العرض»: وإن القوانين الحالية قد أخذت بما يقارب هذا. )١(‏ هذه القيود مأخوذة من كتاب الاعتصام للشاطبى جلا ص7 7١‏ وما يليها. ١ سد الذرائع : 4 - هذه هى المصلحة المرسلة التى اعتبرها مالك وأحمد أصلا من أصول استنباط الفقه الإسلامى. وقد تبين مقدار تأثيره فى تقرير العقوبات واعتبار ما يمسها جريمة» وبناء العقوبة عليها باعتبارها دافعة للضرر. أما سد الذرائع فمعنام. دفع الوسائل التى تؤدى إلى المفاسد. والأخذ بالوسائل التى تؤدى إلى المصالحء ومؤدى هذا الأصل أن وسنيلة المحرم تكون حراماء ووسيلة الواجب تكون واجبةء فالفاحشة حرام» والنظر إلى عورة الأجنبية حرام؛ لأنه يؤدى إلى الفاحشةء» والاحتكار حرام» فما يؤدى إليه يكون حراماء فيحرم تلقى السلع قبل أن وبيان ذلك أن موارد الأحكام قسمان: مقاصد. وهى الأمور المكونة للمصالح والمفاسد فى أنفسهاء أى التى هى فى حد ذاتها مصالح أو مفاسد» ووسائل» وهى الطرق المفضية إليهاء وحكمها كحكم ما أفضت إليه من تحريم أو تحليل» غير أنها أخفض رتب من المقاصد فى حكمهاء ويقول القرافى: «الوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل» وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل» وإلى ما هو متوسط متوسطة1(7. 4- هذا هو الأصل فى حقيقتهء والقصد من تقريره كما نرى هو دفع المفاسدء بدفع وسائلهاء وجلب المصالح. بالأخذ بوسائلهاء وإن المفاسد فى ذاتها جريمةء ووسائلها بلا شك تكون جريمة إذ تعينت أن تكون وسيلة لجريمة. ولقد قسم العلماء الذرائع من حيث إفضاؤها إلى المفاسد التى هى الأصل فى الجريمة إلى أربعة أقسام . القسم الأول : ما يكون أداؤه إلى المفسدة قطعا كحفر البئر خلف باب الدار فى الظلام بحيث يقع الداخحل فيه » وهذا بلا شك حرام. القسم الثانى : بأن يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا كحفر البثر بموضع لا يؤدى القسم الثالث : ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرا بحيث يغلب على الظن الراجح أن يؤدى إليهاء كبيع السلاح فى وقت الفتن» وكبيع العنب للخمارء وكتلقى السلع الذى يؤدى إلى الاحتكار غالباء وغير ذلك مما يغلب على الظن أنه يؤدى إلى المفسدة على سبيل الظن» لا على سبيل القطع. وهذا القسم تكون الوسيلة فيه جريمة. ولكن دون جريمة الأول» أن الأول قطععى وهذه ظنية . )١(‏ الفروق ج7 - ص5”. ١ا/ك‎ القسسم الرابع : أن يكون أداؤه إلى المفسدة كثيراء ولكن كثرته لم تبلغ حد أن تحمل العقل على مظنة المفسدة فيه دائماء كالبيوع التى قد تتخذ فى كثير من الأحيان سبلا إلى الربا. أحدهما : النظر إلى أصل الإذن» وأصل الإذن كان لمصلحة راجحة للفاعل» ولذا أجازه الشارع منه. والثانى : المفسدة التى كثرت» وإن لم تكن غالبة. ولقد نظر أبو حنيفة والشافعى إلى أصل الإذن» ولذلك كان التصرف عندهما جائزا؛ وذلك لأن العلم والظن بوجود المفسدة منتفيان» ولا يبنى المنع إلا على أحدهماء فبقى الإذن من غير معارض يقوم على أساس علمى . وأيضا فإنه لا سسبيل لأن نحمل عمل العامل وزر المفسلة»؛ لأنه لم يقصدها ولم يكن مقصرا فى الاحتياط لتجنبهاء لأنها ليست غالبة» وإن كانت كثيرة فإنها لم تصل إلى درجة الغالب» حتى يعد عدم الاحتياط تقصيرا يوجب ضمان العدوان» أو ضمان التقصير. والإذن فى الفعل هو الأصل فلا يترك حتى يوجد دليل من قطع أو ظن غالب» ولم يوجد. لئلاثة أمور: ْ أولها : أنه ينظر إلى الواقع لا إلى المقصدء وقد وجد أن المفاسد المترتبة على الفعل كثيرةء وإن كانت قابلة للتخلف. فكانت المفسدة قريبة » وكان من الواجب ملاحظتهاء والاحتياط لها عند العمل» والكثرة فى المفاسد تصل فى الاحتياط إلى درجة الأمور الظنية الغالبة» إذ إنها تشارك غلبة الظن فى كثرة المفاسد المترتبة» ومن المقرر فقها أن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح . ثانيها : أنه فى هذه الحال تعارض أصلان. الأصل الأول الإذن» والأصل الثانى صيانة الإنسان عن الإضرار بغيره وإيلامهء ويرجح الأصل الثانى لكثرة المفاسد المترتبة فيكون المنع للزجر سدا لذرائع الشر. الثها : أن الآثار الصحاح قل وردت بتحريم أمور كانت فى الأصل مأذونا فيهاء لأنها تؤدى فى كثير من الأحوال إلى مفاسد. وإن لم تكن مقطوعا بهاء فنهى رسول الله مَكِيِهِ عن الخلوة بالأجنبية» وأن تسافر المرأة من غير ذى رحم محرم» ونهى عن بناء المساجد على القبورء حتى لا تعبد الموتى» وحرمت خطية المعتدة» حتى لا تكذب فى //ا1 وم العدة» وعن هدية المدين للدائن» وفى كل هذا كان النهى خشية المفاسد التى تترتب على هذه الأمور إن لم يكن الترتب بغلبة الظن أو العلم القاطع . وقد قال الشاطبى فى هذا المقام: «الشريعة مبنية على الاحتياطء والآخذ بالحزم» والتحرز عما عسى أن يكون طريقا لمفسدة»20 . 5- وإن الجرائم التى يعتبر فيها ما تؤدى إليه كثيرة» ويكون العقاب عليها لا تؤدى إليه من أذى» منها بيع المأكولات الفاسدة» فإنها تؤدى إلى مفاسد قد يترتب عليها موت الآكلين لهاء ومنع بيع السلاح أيام الفتن» ومنها اقتناء السلاح فى هذه الأيام» ومنها حفر الحفر فى الطرق العامة» ومنها سب الأصنام إذا كان يترتب على ذلك سب الله سبحانه وتعالىء» كما قال تعالى: 9 ولا تَسبُوا الّذينَ يُدعون من دون الله فيَسبُوا الله عدوا ا بغير علم 4” 0 ومنها أن الدائن لا يقبل هدية المدين»ء حتى لا يؤدى ذلك إلى الرباء ومنها النهى عن الاحتكارء وهكذا كل ما يؤدى إلى الجريمة جريمة» وما يؤدى إلى الفساد فسادء ومثله فى المقابل كل ما يؤدى إلى المصلحة» مصلحة» وكل ما يؤدى إلى الواجب» واجب. وإن فقهاء المسلمين قد أجازوا بعض المحرمات لحلب مصلحة أكبر ما فيها من ضررء وقد ضربوا لذلك أمثلة منها: () دفع مال لمن يحاربون المسلمين ليكون فداء لأسرى المسلمين» فإن أصل دفع المال لمن يحارب المسلمين لا يجوز لا فيه من تقوية له» وفى تقويته الضرر بالمسلمين» ولكنه أجيز لأنه يتحقق من ورائه دفع ضرر أكبرء وهو رق المسلمين» وفيه نمع مؤكد بإطلاق سراحهم» وجعلهم قوة للمسلمين. (ب) دفع شخص مالا لآخر على سبيل الرشوة ونحوها ليتقى به معصية بريد أن يوقعها به» وضررها أشد من ضرر دفع المال إليه» ولذلك فضل بيان نتكلم فيه على جريمة الرشوة فى موضعها من القول عندما نتكلم فى الجرائم الخاصة . (ج) دفع مال لدولة محاربة لدفع أذاهاء إذا لم تكن لجماعة المسلمين قوة يستطيعون بها حماية الشوكة وحفظ الحوزة. (د) ومن ذلك ما ذكره الشاطبى بقوله: ومن ذلك الرشوة على دفع الظلم إذا لم يقدر على دفعه إلا بدفعهاء وإعطاء امال لمانعى الحج حتى يؤدوا خراجاء وكل ذلك انتفاع أو دفع ضرر التمكين من المعصية27 . وإن هذه المحرمات التى أبيحت للذرائع لم تكن فى أصلها محرمة لذاتهاء بل . 544 الكتاب المذكور ص‎ )9( ٠. 1١4 : الأنعام‎ )1( . 7١" الموافقات للشاطبى ج 7 ص‎ )١( ١4 كانت محرمة لغيرهاء فلما كانت مؤدية إلى المفاسد كانت حراماء وكان فعلها جريمة. ولما أدت إلى منفعة صارت جائزة جلبا لهذه المصلحة . ولم تكن محرمة بنص شرعى قاطع لذاتها حتى يجىء ناس يستبيحون بعض المحرمات باسم المصلحةء وباسم دقع الضرر الموهوم . العرف : -0١‏ العرف هو الأمر الذى تتفق عليه الجماعة من الناس فى محيط حياتهاء والعادة هى العمل المتكرر من الآحاد والجماعات» وإذا اعتادت الجماعة أمرا صار عرفا لهاء فعادة الجماعة وعرفها متلاقيان فى المؤدى» وإن اختلفا مفهوما. وإن الفقه الحنفى والفقه المالكى كلاهما يأخذ بالعرف ويعتبره أصلا من الأصول الفقهية فيما لا يكون فيه نص قطعى» وإذا كانت المصالح دعامة الفقه الإسلامى فيما يتعلق بمعاملات الناس حيث لا نص» فإن مراعاة العرف الذى لا فساد فيه ضرب من ضروب المصلحة لا يصح أن يتركه الفقيه» بل يجب الأخذ به. والعرف بالنسبة للأوامر القرآنية والنبوية أقسام ثلاثة: أولها : عرف يأخذ به الفقهاء كلهم» وهو العرف الذى يكون الأخذ به استجابة لأمر من الأمور الشرعية كعرف البلد فى النقد. أو كالعرف فى تأجيل بعض الصداق إلى أقرب الأجلين: الطلاق أو الوفاة» وكالعرف الذى يسوغ للمرأة أن تأخحذ من مال زوجها بغير إذنه ما يكفيها وولدها بالمعروف». والعرف الذى يسوغ للوالد أن يأخذ من مال ولده ما يكفيهء فإن هذه الأعراف تومئ إليها النصوص الدينية والوصايا النبوية. ثانيها : العرف الذى يكون فيه أخذ بأمر نص الشارع على تحريمه نصا قاطعاء أن يكون فيه إهمال لواجب ثبت بنص قطعى لا يقبل التخصيص» فإن هذا النوع من العرف لا يحترم ولا يؤخذ بهء بل هو فساد عام يجب التعاون على القضاء عليهء ويكون ذلك من قبيل التعاون على البر والتقوى». والسكوت عنه سكوت عن الأمر بالمعروف والنهى عن المتكرء والرضا به تعاون على الإثم والعدوان. الثها : العرف الذى لم يثبت نهى عنهء ولا إرشاد إليه ولا إيماء بالعمل بنص» فإن المالكية والحنفية يأخذون بهء ويعتبرونه أصلا مستقيما. والعرف العام عند الحنفية يخصص عام النصوص إذا كانت ظنية» ويقيد المطلق» والعرف الخاص يقدم على القياس . أما المالكية فإنهم يأخذون بالعرف باعتباره ضربا من ضروب المصلحة . لحن 7- والعرف له أثر بلا شك فى تحريم الأقوال وتحريم الأفعال إذا لم يكن فيها نص بالتحريم أو الإباحة» فلفظ من الألفاظ قد يكون سبا فى بعض الأحوال والأعراف» ولا يكون سبا فى عرف آخرء وفى عصر آخر. وفى الأفعال ما تحدث من الإنسان بالنسبة لال غيره» ولا يعد اعتذاء يسيب العرف والمصلحة» فمن يرى شاة لغيره توشك أن تنفق» فيذبحها حتى يمكن الانتفاع بها لا يعد قد اعتدى على غيره» ومن رأى حريقا يوشك أن يشب فيطفئه لا يعد قد اعتدى على حرمة المنزل إذا دخل لذلك الغرضء ومن رأى جدار غيره يوشك أن ينقض وخشى منه الضرر فهدمه لا يعد معتديا فى العرف». ولا يعد مرتكبا جريمة» ومن رأى زرع غيره يوشك أن يتلف وقد جاءت نوبة الماء» ولم يوجد من يسقيه فسقاه لا يعد معتدياء لأنه فى هذه الأحوال وأشباهها يكون الإذن ثبت بالعرف» والإذن فى العرف متغير» فلا يكون الفعل إجراما يعاقب عليه» بل يكون خيرا يستحق الثواب. 507؟- هذه كلمات موجزة فى بيان معانى الاستحسانء والمصلحة المرسلة وسد الذرائع» والعرف». ومدى الأخذ بها عند الفقهاءء وكلها كما نرى يرجع إلى المصلحة. ولذا جمعناها فى قرن واحدء ففيها جميعا وحدة مشتركة». وهى ملاحظة المصلحة. فالاستحسان اتجه إلى الأخذ بالمصلحة فى مقابل القياس» لما عساه يفوت بالقياس من مصلحة. والحنفية اجتهدوا فى أن يبنوا تلك المصلحة على القياس» ولذلك سموا الاستحسان قياسا خفيا علته غير ظاهرةء ولكنها أقوى تأثيرا من الخفية» لما فيها من معنى المصلحةء أما المالكية فاعتبروا الأخذ بالمصلحة الحقيقية استحسانا يترك به القياس من غير أن يحاولوا ما حاوله الحنفية من محاولة درج المصلحة فى ضمن قياس . والمصالح المرسلة لم يأخذ بها إلا المالكية والحنابلة» وهى اتجاه إلى المصلحة التى تتناسب مع مقاصد الشرع الإسلامى ولم تعارض نصا من نصوصه» ولا أصلا من أصولهء ويقررون أنه حيثما تكون مصلحةء فثم شرع الله . وسد الذرائع أو الأحذ بالذرائع يلاحظ فيها المصلحة أيضاء لأنها إن أدت إلى مفسدة وجب سدهاء وإن أدت إلى مصلحة واجبة وجب تحصيلهاء فالذرائع سدا وفتحا يلاحظ فيها درء المفاسد وجلب المصالح وتحقق المقاصد الإسلامية التى يكون تحققها رحمة بالناس أجمعين. أما العرف الذى لا يعد مخالفا للشرع فالأخذ به مصلحة. لأنه فى أكثر أحواله يتفق مع المصلحة الظاهرة البينة» ولأن العرف يقتضى إلف الناس لا يكون من مقتضياته» ومخالفته تؤدى إلى الحرج والمشقة» وهما مرفوعان فى حكم الإسلام» إذ 14 الناس ويألفونه» لا ما يكرهونه ويبغضونه. ما دام البغض والحب لا يؤديان إلى مفسدة؛ ولأن العرف إذا لم يكن على رذيلة أو يؤدى إلى مفسدة- وهو العرف المحترم - يكون احترامه مقويا للجماعة رابطا بينهم» إذ يكون متصلا بتقاليدهم المعقولة غير المرذولة ومآثرهم الاجتماعية» ومخالفته هدم لهذه المآثر» وتلك التقاليد المحترمة» وفك للوحدة. وبعد ذكر هذه اللأصول الأربعة المبنية على المصلحة ننتقل إلى الاستصحاب. الاستصحاب 14- وإن هذا الأصل يتفق مع المقررات الحديثة فى العلم الجنائى من أن الإباحة ثابتة لا تحريم فيها للأفعال حتى يجىء النص القانونى الذى يحرم الفعل» وينص على العقاب»ء فإن بقاء الإباحة الأصلية أو بقاء الحكم الأصلى حتى يوجد ما يغيره» أو يقوم الدليل على خلافه» هو ما يسمى الاستصحاب فى عرف الأصوليين. ولذلك يعرف الأصوليون ذلك الأصل أنه استدامة إثبات ما يكون ثابتاء» أو نفى ما يكون منفياء أى بقاء الحكم الثابت أو المنفى كما هو حتى يقوم دليل على تغيير الحال» وهذه الاستدامة لا تثبت بدليل إيجابى» بل تثبت لعدم وجود دليل مغير. والفقهاء يتخذون الاستصحاب حجة. وإن اختلفوا فى مقدار الأخذ به ما بين مكثر ومقل» ويعتبرونه الدليل إذا لم يكن فى الموضوع دليل بالأمر والنهى» فمقدار الفتيا به عدم وجود الدليل» أو على الأقل عدم ظهوره. 06- ولقد قسم الفقهاء الاستصحاب إلى قسمين : أحدهما : استصحاب البراءة» وهو بقاء الذمة على ما كانت عليه حتى يقوم الدليل المثبت حمّاء» كحال المذكر للدعوى فحاله حال استصحاب البراءة» وكمن يرتكب فعلا لم يجئ نص بأنه منهى عنهء فكذلك حاله حال براءة أصلية» إذا لم يقم دليل على إثبات أن الفعل جريمة بأى نوع من أنواع التجريم؛ وذلك لأن الفقه الإسلامى يقول: الأصل فى الأشياء الإباحة حتى يوجد دليل التحريم» وذلك لقوله تعالى: هو الذي حَلَقَ لَكُم ما في الأرض جميعا 74'؟2. ولأنه لا عقاب ولا إثم إلا بإعلام من الشارع» ولذا يقول سبحانه: (إومًا كنا معدن حت بت رَسُولاً 5ح 234 . وثانيهما : استصحاب الوصف المثبت للحكم حتى يوجد دليل على خلافه» كمن يكون فى يده شىء على أنه ملك لف فإن هذه الملكية تحترم حتى يقوم الدليل على خلافهاء فليس لشخص أن يذهب ويأخذ ما فى يد الغير مدعيا أنه ملكه من غير أن . 20316 : الحج : 9/8 . (5) البقرة : 759 . (*) الإسراء‎ )١( ليل يثبت هذه الملكيةء ولا يطالب ذو اليد بإثبات الملكية إنما يطالب من ليس الشىء فى يده بإثبات الملكية» لأن استصحاب الوصف وهو الاستيلاء عليه بوصف الملكية ما زال قائما لم يثبت دليل على تغييره. وكالمفقود إذا غاب» فإنه كان على وصف وقت أن فارق أهلهء وهو حياته» فيستمر ذلك الوصف قائما يأخذ أحكامه حتى يقوم الدليل على خلافه» ولذلك تستمر زوجته فى عصمته. ويستمر ماله فى ملكيته» وكل أمر من أموره 57- والفقهاء قد اختلفوا فى مدى الأخذ بالاستصحابء فقد أكثر منه الظاهرية والإمامية؛ لأنهم ضيقوا نطاق الاستدلال؛ لأنهم لم يأخذوا إلا بالنصوص والإجماع» فكان لابد أن يفتحوا من ناحية أخرى» فكانت تلك الناحية هى الاستصحاب» وتوسع الشافعى فيه توسعا أكثر من الحنفية والمالكية» ولكنه دون الظاهرية» إذ هو فتح باب القياس» ولم يفتحوه هم -_- فوسعوا أكثر منه فى الاستصحاب» والمالكية والحنفية لم يأخذوا به بالقدر الذى أخذ به أولعك . وقد قسموا الأخذ بالاستصحاب إلى قسمين : أحدهما : الأخذ به فى الدفع» ويكاد الفقهاء يجمعون عليه. وثانيهما : الأخذ به للإثبات» وقد قرر الذين وسعوه ولم يضيقوا بأبيه أنهم يأخذون به فى الدفع والإثبات معا. والدفع معناه أن يمنع ثبوت حكم مبنى على تغيير الحال القائمة» فإذا غاب شخص غيبة منقطعة» ولم نعلم حاله أهو حى أم ميتء» فإنه يفرض حياء ولذلك تستمر ملكيته لأمواله» ولا يصح أن تثبت له أى أحكام مبنية على حالة الوفاة» لآن الأصل القائم. هو حال الحياة» فيبقى كل شىء مبنيا على الحياة قائما بالنسبة لما هو ثابت بالفعل على ذمته» وهذا قدر متفق عليه بين الفقهاء . ومعنى الإثبات أن تثبت أحكام جديدة لم تكن ثابتة ب بسبب الاستصحاب» ففى مثالنا السابق لو مات له أحد أقاربه لا يرث منه حتى تتأكد حياته» وذلك على نظر الذين يقولون إنه يصلح للدفعء ولا يصلح للوثيات؛ لأن إثبات أحكام جديدة مبنية على الحال أما الآخرون فيقولون ما دمت قد فرضت الحال القديمة قائمة فافرض كل ما يترتب عليها. وعلى ذلك يكون فرض الحياة موجبا لمنع الغير من أن يستولى على ماله» وإثيات مال جديد له - ما دام الفرض الموجب لذلك المال قد ثبت - أمر يتفق مع المنطق الذى قام عليه الدفع» فلا يصح أن يفرض فى المثل السابق أن المفقود حى وميت معاء ديل -١ 617‏ هذا هو معنى الاستصحابء» وإنه بتطبيقه على الأحكام الجنائية يتحقق أمران: أولهما: أن البراءة الأصلية تكون ثابتة حتى يقوم دليل مغير لهذه البراءة» فإذا وقع من شخص فعل كان ينطبق عليه ما يوجب حكما تعزيرياء وفعله لا يدخل فى الجرائم المنتصوص عليها أو التى نهى عنها ولى الأمر من قبل» فإن الفعل لا يكون موضع عقاب» إذ الإباحة الأصلية قائمة» ولا تنقض إلا بنص شرعى مانع» أو بأمر من ولى الأمر مبنى على المصلحة الإسلامية المؤكدة» فإذا باع بعض الأشخاص وغالى فى الأسعار فى بيعه مستغلا قلة الأقوات لهذه المغالاة فإنه لا عقاب عليه ما دام ولى لأمر لم يحد الأسعار حدا ناهيا عن الزيادة عليهاء لأنه قبل ذلك يكون الفعل بمقتضى استصحاب الإباحة الأصلية موضع البراءة» وإن كان يؤاخذ على فعله دينيا لاا قضائيا. الأمر الثانى : أنه لا يصح لولى الأمر أن يعاقب على أفعال سابقة على أمره ونهيه ما دام تحريمها لم يقم على أساس من النصوص والمقررات التى أجمع عليها الفقهاء؛ وذلك لأنها إذ فعلت كانت مبنية على أساس شرعى هو أصل الاستصحاب بالنسبة للإباحة الأصلية» فإنه ما دام الاستصحاب الدافع أصلا شرعيا قائما بذاته متفقا عليه من الفقهاء أجمعين فإنه إذا خالفه الحاكم يكون قد خالف أمرا مجمعا عليه من الفقهاء أجمعين» إذ هو مدار الاستدلال حيث لا دليل سواه»ء وما يسوغ لولى الأمر أن يخالف أصلا شرعيا مقرراء وإلا كان إثمه أكبر من إِثُم من يعاقبه. تفسير النصوص 4- النصوص الجنائية هى النصوص الآمرة التى تعد مخالفتها معصيةء والنصوص الناهية التى تعد مخالفتها معصية أيضاء وشرط المعصية التى تتكون من المخالفة أن تكون مما يجرى عليه الإثبات بين يدى القضاء من غير تجسس ولا كشف ٠‏ للأستارء وهذه النصوص هى نصوص القرآن الكريم ونصوص الأحاديث النبوية الشريفة» أما أفعال النبى كَلكَِهّ وتقريراته» فلأن أساسها وقائع يؤخذ تفسيرها من ذاتها؛ لأن الوقائع تفسر نفسهاء وليس وراء تفسيرها تفسير. وهذه النصوص الحنائية لتفسيرها مرتبتان: إحداهما : استخراج الأحكام من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة) وذلك بالمناهج السابقة»ء وهى القياس والاستحسان والمصالح المرسلة» والاستصحاب والعرف» فإن هذه وإن كانت تعد أصولا فى ذاتها هى طرائق لتفسير النصوص الأصلية» وهى القرآن والسنة ومعاقد الإجماع. فليس كل واحد منها إلا طريقا لتعرف غايات الشارع ومراميه» ومقاصده من ذلك الشرع الشريف» فالقياس طريق لمعرفة الحكم الشرعى من النص بحمله عليه» وذلك بتعرف العلة التى هى مناط الحكم فهو تفسير "اما فقهى لنص شرعى» ولا يزال القياس طريقا من طرق فهم القوانين» وكذلك الاستحسان والمصالح والعسرف» هى طرائق لتطبيق القواعد المقررة فيها النصوص. من مثل قوله تعالى : «إوما جعل عليكم في الددين من حرج 7# "١‏ ومثل قوله تعالى: <إ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر 0 ومثل قوله كله : «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن»2» ومثلٍ قوله تعالى: وما أرسلتاك إلا رحمة للعالمين ٠‏ لزت 0274 ومثل قوله تعالى : (يا يها اناس قد جاءتكم مُوعظة من ربكم وشقاء لما في الصّدورٍ وَهدَى ورَحمَة للمؤسين 50> 4 240 ومثل قوله تعالى : «إِذ ) الله يأمر بالْعدل والإحسان وإيتاء ذي القربئ وينهئ عن الفحشاء والمدكر والبغي يعظكم لَعَلْكُم تَذَكرُونَ 4" “2. وهكذا فإن هذه النصوص وأشباهها كونت قواعد مقررة تستنبط منها الأحكام المصلحية المناسبة الملائمة لمقاصد الشارع الإسلامى. فهذه المناهج كلها طرق من طرق التفسيرءوإن المجموعة الفقهية التى تكونت فى مذهب من المذاهب الإسلامية هى مجموعة ما وصل إليه فقهاء هذا المذهب من تفسير للنصوص الفقهية على ضوء المبادئ العامة المقررة فى الفقة الإسلامى. المرتبة الثانية : همى استخراج المعانى التى تدل عليها ألفاظ النصوص بذاتها من غير قياس ولا حمل على النصوصء. ومن غير اتجاه إلى القواعد العامة وتطبيقها على الوقائع» واستخلاص أحكام على ضوئها من القرآن الكريم والحديث التبوى الشريف» بل يتعرف الحكم من النص مباشرة» ويتعرف من الآية القرآنية أو الحديث النبوى» وذلك كدلالة اللفظ العام وقوة هذه الدلالة. ودلالة الخاص وقوة دلالتهء وكبيان الطريق لفهم اللفظ المشتركء فإن كل هذه طرق لمقاصد الألفاظ ذاتها . 4- ولقد قام الفقه فى كل المذاهب الإسلامية على النوعين من التفسيرء فكل مذهب مجموع من التفسيرات لمدى ما تدل عليه النصوص فى نظره كما أشرناء ولم يضنوا ببيان طرق التفسير لألفاظ القرآن وألفاظ الحديث» ومدى ما يستنبط منها فى دائرة الألفاظ نفسهاء لا فى دائرة المقاصد العامة أو الحمل على النصوص» واستعانوا فى ذلك بعلوم اللغة والمقررات فى هذه العلوم من دلالات الألفاظ . وإن ما وصلوا إليه يفيد كل من يريد تعرف الأحكام من النصوص سواء أكانت هذه النصوص دينية أم كانت نصوصا فى قوانين وضعية» لأنها تعرف لمعانى الألفاظ المحكمة. وإنا قد وجدنا أنه شاع استعمال هذه الألفاظ فى ته تفسير القوانين» بعد أن عنيت كلية الحقوق بجامعة القاهرة بدراسة علم )١(‏ الحج :8لا . (0) البقرة : ١88‏ . (*") الأنبياء : لا (5) يونس: /ا6. (05) التحل : 185 أصول الفقه الذى عنى علماؤه بهذا الجزء من الدراسة» وإنا لهذا نذكر ذلك الجزء مجملا فى طرق التفسير مشيرين بوجه خاص إلى ما يطبق منه فى تة تفسير العقوبات الشرعية . ش معانى الألفاظ الألفاظ من حيث قوة الدلالة : -٠‏ إن الدلالة إما أن تفهم من عبارة الألفاظ» وإما أن تفهم من مطويات هذه الألفاظ أو إشارتهاء ونؤجل الآن الكلام فى التفسير من هذه الناحية الأخيرة» ونقتصر على قوة الدلالة فى الألفاظ ذاتهاء فإن الألفاظ فى قوة دلالاتها مراتب مختلفة . ويمكن قيام التكليف بمقتضاهاء وألفاظ أخرى ليست لها هذه الخاصة من الوضوحء وإن ذلك يجرى فى ألفاظ القوانين الوضعية» كما يجرى فى النصوص القرآنية والأحاديث النبوية» ولذلك اقترنت تلك القوانين بالمذكرات التفسيرية: تحرر المقاصدء وتوضح ما عساه أن يكون مغلقا من العبارات أو الاصطلاحات الجديدة التى أتى بها القانون» مع ذلك بعد هذا التفسير القانونى يكون فى عبارات القانون ما يحتمل عدة تفسيرات يتولى القضاء تحرير المقاصد العادلة فيهاء فيختار من التفسير ما يراه أقرب إلى تحقيق مقاصد الوزن فى ذاته» ويحقق العدالة الحقيقية فى القضايا التى تعرض بين يديه» ويتحرى أن يكون حكمه فيها عدلا وفضلا يرد الحق إلى تنصابه, ووراء تفسير القضاء العملى تفسير الشراح النظرى» ونجىء النظريات المختلفة فى هذا التفسير ما يبن مضيق وموسع. وما بين متجه إلى دائرة الإباحة من غير تحريم» ومتنجه إلى التحريم لحماية المجتمع ايتداء . وكذلك النصوص فى الشريعة الإسلامية» بيد أن الشريعة قد تم بيانها بانتقال النبى وَل إلى الرفيق الأعلى» فلا يوجد نص قرآنى يتعلق بالتكليفات لم يبينه النبى َكل بالقول أو العمل» وإذا خفى بعض العبارات على بعض الفقهاء فمنشأ ذلك أنه لا يعلم السنة كلها ولكن مجموعها يعلمه مجموع العلماء ء فكل الفقهاء من الصحابة والتابعين يعلمون جميع السنة. فعلمها كلها لا يغيب عن علمهم أجمعين» وإن كان يغيب عن علم بعضهمء ولكن ما جهله فريق يعلمه فريق. والألفاظ الواضحة معانيها التى يمكن ١‏ ستخلاص الحكم الشرعى منها با لطلب أو النهى أقسام أربعة مختلفة المراتب فى قوة الدلالة: أولها : وهو أدناها رتبة فى قوة الدلالة» الظاهرء والأعلى منه النص والأعلى من النص المفسر» والرتبة العليا المحكمء ولنتكلم فى كل واحد من هذه الأقسام من حيث خواصهء ومرتبته من غيره. 1/6 الظاهر : أ- اللفظ الظاهر هو الكلام الذى يدل على معنى بين واضحء وإن لم يسبق الكلام لأجل هذا المعنى» فدلالة اللفظ على هذا المعنى غير المقصود دلالة لفظية» ولكنها ما قصدت بالقصد الأول» بل جاءت الدلالة تابعة لمقصد آخر» مثل قوله تعالى : «وإن خفكم ألا نَفسطُوا في الْيَامَئْ فانكحوا ما طَاب لَكُم من النساء متتئ وثلاث ورباع فَإِنْ خفتم ألا تعدُوا فوَاحدة 374 . فاللفظ قد سبق كما تدل العبارات لإثبات الاحتياط فى القسط فى معاملة اليتامى من النساء ولكنه يدل بظاهره على إباحة التعدد مثنى وثلاث ورباع» ويدل بظاهره أيضا على أن العدد لا يصح أن يزيد على ذلكء ويدل بظاهره ثالشا على أن العدالة شرط فى الإباحة من ناحية الدينء» إذ العدالة أمر لا يمكن إثباته قبل الزواج» وهى من الأمور.النفسية للمتزوج» حتى يقوم دليل يمكن إثباتهء وذلك لا يكون إلا بعد الزواج بالفعل» ولذلك كان اشتراط العدالة شرطا دينياء ولا يمكن أن يكون قضائيا. ومن الظاهر أيضا قوله تعالى: 9 وكتبنا علَيهم فيها أن النفس بالتّفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأَذْنَ بالأذن الس بالمسن وَالْجِرُوحَ قصاص 2"(4. فهى قد سيقت للتنديد باليهود الذين تركوا أحكام التوراة وراءهم ظهرياء ولكنها فى الوقت ذاته ظاهرة فى وجوب هذا القصاص فى القرآن الكريم؛ لأنه اعتبره حكم الله تعالى» إذ ختمه سبحانه وتعالى بقوله: القَمَن تصدق به فَهَوَ كَقَارةٌ له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولتك هم الظالمون 274 . وحكم الظاهر ثبوت ما انتظمهء والحكم بمقتضى ما يدل عليه عملاء فالآية السابقة أفادت أحكامهاء فأفادت الأولى حكم التعدد إلى أربع» وأفادت الثانية حل البيع» وتحريم الرباء وأفادت الثالثة عقوبات القصاص» وأن العفو عن القصاص يكفر الذنوب» إذ يقول سبحانه: #فمن تصدق به فهو كقَارة له 40, وإنه مع ذلك يقبل التخصيص» ويقبل التأويل» ويقبل النسخ» فكان الاحتمال يدخله من هذه النواحى. النص : 1- والنص مرتبة أقوى من الظاهر وهو دلالة اللفظ على ما سيق له مثل التفرقة بين البيع والربا فى الآية السابقة» ومثل قوله تعالى: ظ والسارق والسارقَة فَاقصَُوا أَيديهُمَا جزاء بما كُسبًا نالا من الله 74 *؟» وقوله تعالى الزّائية والراني فَاجلدوا كل وَاحدر منْهُمَا ماه جلّدة ولا تَأَحُدْكُم بهما رَفَة في دين الله إن كسم تؤمنون بالله والْيُوْم الآخر م20 ” : المائدة : 6غ . (6) المائدة : 8" . 0 النور‎ )6 - 5١ . 7 النساء‎ )١( كما وقوله تعالى : «( واّذين يرمون المحصنات ثم لم يأثوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثَمَانِينَ جِلّدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولك هم الفاسقون +« : م .. وهكذا كل نصوص الحدود والقتصاص. فإنها نص فى معانيهاء وكذلك نصوص الديات الواردة فى السنة فإنها مسوقة لمعانيهاء» سواء أكانت نصوص أحاديث أم كانت إقرارات لأعمال واقعية» وقضاء قضى به بعض الصحابة» كما فى حديث الزبية. وإن النص فى دلالته على الحكم أقوى من الظاهرء ولكنه يقبل التخصيص مثله. ويقبل التأويل إذا كان من الألفاظ التى يكون عمومها قابلا للتتخصيصء» ويقبل النسخء ولكن يعمل به حتى يقوم الدليل على النسخ» وليس لأحد أن يدعى أن النسخ الذى يقبله هو ثابت فى كل عصرهء بل إنه ثابت فى عصر النبوة فقط»ء أما بعد انتقال النبى علد فلا نسخ إلا إذا كان مستندا إلى عصر النبوة فقطء 00 اليوم أكملت لكم ديتكم ومنت ليم متي ورَضيت لَكمْلإسلام دينا74". وإذا كانت -قد تمتء فلا ولأن النص أقوى فى دلالته من الظاهر - إذا تعارض الظاهر مع النص أحذ النص؟؛ لأنه أقوى فى دلالته من الظاهرء والأقوى دلالة يقدم على غيرهءٍ ومن قبيل ذلك قوله تعالى: ايا يها الّْذِين آمنوا إِنمَا الْحَمر والمَيسر والأنصاب وَالأزلام رجس مَن عمل الشيطان فاجصبوه لَعلَكُم تفلحون 52 إِنّما ريد الشيطان أن يُوقع بيتَكُم العداوة والبغضاء ء في الخمر والمبسر ويصدكم عن ذكر الله وَعَنٍ الصلاة هَل أنم مُهُوَ ١40‏ 0( فهى نص فى التحريم فلا يكون قوله تعالى : ف( ليس عَلَى الذين آمنوا وعملُوا الصّالحات جتاح فيما طَعموا إذَا ما انّقوا وآمنوا وعملُوا الصّالحات ثم انَقَوا وآمنوا ثم انّقَوا وَأَحَسنوا واللهُ يحب المحسدين +2 474 . معارضا له؛ فإنها ما سيقت لتحليل كل طعامء كما يدل ظاهر اللفظء وإنما سيقت لبيان منزلة التقوى» وأن المتقى ليس هو الذى يحرم على نفسه طيبات ما أحل اللّه» إنما المتقى من يعمل الصالحات» ويحسن عملها ويتقى الله ويؤمن بالله حق الإيمان» ولذلك لما سيق شارب خمر إلى الفاروق عمر وسأله: لم شربتها؟ واستدل بهذه الآية أقام عليه عمر رضى اللّه عنه حد الشرب» وزاده بضعة أسواط» وقال: إنها لسوء التأويل» ثم قال له: «لو اتقيت الله ما طعمتها». المفسسر: *55- هو اللفظ الدال على معناه المقصود من السياق» وقد بين معناه من دليل آخرء وقد يكون اللفظ فى أصله مجملاء فيجىء النص الآخر فيفسره» مثل الأمر بالدية )١(‏ النور : © . (؟) المائدة : " (؟) المائدة :94.2 .2 9١‏ . (5) المائدة "91 . /ا4 ا فى القتل الخطاء فقد قال تعالى: «إودية مَلْمَةَ إل أهله .2١74‏ وجاء الحديث النبوى الشريف فبين مقدارهاء وحدودها. وأنواعهاء فكان النص الثانى مفسرا للأول» وكالأمر بالزكاة» فإنه مجمل» وقد فسرته السنة الشريفة. فكان التفسير أو التفصيل بالألفاظ مفسرة أو مفصلة» وكذلك حد السرقة نص فى وجوب الحد ولكنه قابل للتخصيص »2 ولذلك خصص بالسرقة لنصاب ومن -مال محرزء كما 'ورد منسوبا إلى النبى عَللِةِ: ١‏ قطع فى كثر ولا ثمر»ء وما نسب إلى النبى وَلِْةْ من أنه قال: «لا قطع فى أقل من عشرة دراهم» وهكذاء فإن كل هذه نصوص مفسرة. ومثل هذه النصوص ما يجىء فى القانون وتفسره المذكرة التفسيرية التى تقترن بالقانون» فإنها تكون محررة لمعانى القانون مبعدة له عن كل معنى الاحتمال والتأويل. وإن اللفظ المفسر أقوى _فى دلالته على المعنى من الظاهر والنصء -فإنه لا يحتمل التأويل ولا يحتمل التخصيص» ولكنه يحتمل النسخ» ولذا لو تعارض مع واحد من النوعين السابقين قدم عليه المحكم: 85- هو اللفظ الدال على المقصود الذى سيق لهء وهو واضح فى معناه لا يقبل تأويلا ولا تخصيصاء ولكن قد اقترن به ما يدل على أنه غير قابل للنسخ. مثل قوله َك «الجهاد ماض إلى يوم القيامة»» ومثل قوله تعالى بالنسبة لمرتكب جريمة القذف: 99 ولا تقبلوا لهم شهادة أبَدا2"74. فإن اقنران هذا النهى بكلمة أبدا دل على أنه نص محكم لا يقبل النسخء بل لقد قال الحنفية إنه لا يقبل الاستثناء» فكل محدود فى قذف لا تقبل شهادته ولو تاب وأناب» لآن عدم قبول الشهادة عقوبة دنيوية » ويتبع عدم قبول شهادته ألا يصح تعيينه فى أى منصب قضائى» وخالف فى ذلك الشافعى ؛ فقرر أنه إن تاب تقبل شهادته وذلك لقوله تعالى: ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولكتك هم القاسقون 1ه إل الْذِين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن اللّه ؛ غفور رَحيم 2204219 . فقال: إن الاستشناء ء من الكلام كله فتقبل شهادته. وقال الحنفية : إن الاستثناء ء من الجزء الأخير فقطء وهو فى قوله تعالى: #وأولتك هم الَّاسقون *. وسبب عدم قابلية النص للنسخ أحيانا يكون من ذات النص» كما ذكرنا من التعبير - بأبدا - وفى قوله عليه الصلاة والسلام: «الجهاد ماض إلى يوم القيامة»» وقد يكون عدم قابلية النص للنسخ بوفاة النبى كَكلِهّ من غير أن يشبت بأى طريق من طرق الثبوت نسخه ) ويسمى النوع الأول محكما لعينه» ويسمى النوع الثانى محكما لغيره» )١(‏ النساء : 915 ., (9) النور : 6 . 6 النور : 5 اه 184 لأن عدم قابلية النسخ ما جاءت من ذات النص» وإنما جاءت من أمر خارجى. وإن كان النص فى ذاته محتملا. 6- هذه هى الألفاظ الواضحة فى مبانيهاء وأقسامهاء ونرى أن كل هذه الألفاظ واضحة بينة» ولكن مراتبها أتت من ناحية أخرى من حيث كونها مسوقة لما تدل عليه الألفاظ بذاتهاء أو غير مسوقة» ومن ناحية قبولها للتخصيص وللتأويل وعدم قبولهاء ثم أخيرا من ناحية كونها منسوخة أو غير منسوخةء أو بالتعبير الدقيق قابلة للنسخ أو غير قابلة. وإنه من المقررات أن كل نص من هذه النصوص يعمل به فيما تدل عليه الألفاظ, وما يتضح من العبارات» وإنما فائدة التقسيم تكون عند وجود التعارض» فيقدم أقواها دلالة على غيره» فيقدم المحكم على ما عداه» ويقدم المفسر على النصء والنص على الظاهرء وبعبارة عامة يقدم ما يكون أقل احتمالا لغير المعنى الواضح على ما يكون أكثر احتمالا. 7- وإنه يقابل الواضح غير الواضحء وهو الذى لا يتضح معناه مطلقاء أو لا يتضح معناه فى بعض المدلولات التى قد تدخل فى معناه» فغير الواضح قد يكون كذلك لأنه غير بين فى ذاته» وقد اختص به علم الله تعالى» وهذا بحمد الله لا يدخل فى باب التكليفات» بل فى غيره كالحروف المقطعة فى أوائل السور مثل: ضن. كهيقص. حم عسق - إلى آخره فإن هذه غير واضحة المعنى لناء وقد اختص بها علم الله سبحانه وتعالى» وعلم نبيه الأمين صلوات الله وسلامه عليه. وقد يكون عدم الوضوح سببه أمر آخرء جاء فى تطبيق النص على بعض مدلولاته» وعندئذ يتحرى فى تعرف مدى النص»ء وذلك بالموازنة بين المعنى الذى يدل عليه اللفظ بوضوح.ء والمدلولات التى -قد يشملهاء أيتحقق _فيها هذا المعنى أم لا يتحقق» وفى هذه الحال لا يكون الخفاء من ذات اللفظء وإنما يكون من ناحية تطبيقه على بعض الجزئيات التى يحتمل أن يكون مشتملا لها. ولقد قسم العلماء الألفاظ التى لا تتضح معانيها اتضاحا تاما إلى أقسام أربعة هى مقابلة الأقسام السابقة»وهى ضدهاء وهى: الخفى» والمجمل» والمشكل» والمتشابه. الخفىيى: 17 5- هو ما خفى معناه فى بعض مدلوله لعارض غير الصيغة» ويقول فخر الإسلام البزدوى فى تعريف الخفى: هو ما اشتبه معناهء وخفى مراده بعارض غير الصيغة لا ينال إلا بالطلب «وذلك مأخوذ من قولهم: اختفى فلان أى استتر فى مصرهء بحيلة عارضة من غير تبديل فى نفسهء فصار لا يدرك إلا بالطلب». 169 ولعل اختلاف القضاء والفقه فى تفسير القوانين الحديثة سببه من هذا القبيل» وهو أن يكون النص فى ذاته واضحا بيناء ولكن يكون فى بعض الجزئيات ما يختفى شموله له»ء فيكون عمل الفقيه أو القضاء الاجتهاد بالموازنة بين المعنى الظاهر الذى يدل النص عليه والمعنى الذى اشتبه شمول النص لهء فإن تقاريت المعانى أو اتحدت ثبت» وإن اختلفت أو تباعدت فإن حكم النص لا يشبت» وذلك كثير فى القوانين الحديثة» ولذلك اختلفت نظريات التفسيرء واختلفت أنظار القضاء. 4- ومن الأمثلة التى ساقها الفقهاء للخفى دخول الطرار والنباش فى مدلول لفظ 9 والسارق والسَارقة 4 . فإن السارق هو الذى يأخذ مالا مملوكا فى خلسة على أن يكون ذلك المال فى حرز مثله» ولا يكون معرضا للضياعء والطرار هو الذى يأخذ مال الغير فى خفة وهم أيقاظ. كأولئتك (النشالين) الذين يأخحذون المال من جيوب الناس فى خفة» وعلى غفلة منهم» فهو لا يستغل لطلام؛ ولكن يستغل الغفلة ومهارته» والنباش هو الذى ينبش القبور ليأخذ أكفان الموتى وقد اشتبه العلماء فى اعتبار هذين من السراق» لأن لهما اسما غير اسم السارق» فلا يدعون سارقين» وما دام لهم عنوان غير السرقة. فإنهم لا يدخلون فى عموم كلمة السارق» ومن جهة ثانية فإن الطرار يأخذ نهاراء وإن كان الناس لا يشعرون ولا يحسون. فالخلسة ناشئة من عدم التيقظ. لا من أصل العمل» وكذلك النباش لا يطلق عليه سارق» وما يسرقه لا يعد _مملوكا لحى» وما دام _حد السرقة لا يقام إلا بالخصومة» فلا يمكن إقامة الحدء وفوق ذلك فإن الكفن لا يعد فى حرزء حتى يعد آخذه سارقاء وبهذا النظر قال أبو حنيفة ومحمدء فقد قرر أن حد السرقة لا ينطبق على الطرار والنياش . وذهب أبو يوسف والآئمة الثلاثة» مالك والشافعى وأحمدء إلى أن كلمة السارق يدخل فى عمومها النباش والطرارء لتحقق معنى السرقة من كليهماء وإذا كان الناس قد أطلقوا اسما آخرء فهو ينبئ عن الاستنكار أشد استنكار» ولأن الطرار يتحقق فيه أخحذ مال محرز فى حرز مثله مملوك للغيرهء فلا يكون سارقا بلا ريب» والعرف يعتبره سارقاء لأنه لا يفرق بين من يستشر بظلام الليل ليأخذء أو يختفى بأى نوع من أنواع الاختفاء» وبين من يستغل سرعة يده وخفتها لاستغلال غفلات الناس ولو كانوا أيقاظا . والنباش يقصد إلى مال محرز إذ كل حرز بما يليق بمثلهء وهو مال على حكم ملك الميت» وله مطالب من جهة العبادء وهم أولياء الميت» ومن يسرق منه كمن يسرق من التركة قبل سداد ديونهاء وقد كانت مستغرقة بالديون فإنها تعد على حكم ملك المورثء ويقوم الولى والوصى بالمطالبة فيهاء فإننا لو نظرنا إلى الملكية للحى 1 فى ذاتها لوجدنا الدائنين غير مالكين» ولوجدنا الورثة غير مالكين أيضا على مقتضى مذهب أبى حنيفة» ولكن على التحقيق الملكية ثابتة» والمطالب من العباد قائم باسم المتوفى. ونرى من هذا أن الخفاء جاء فى التطبيق لا من أصل اللفظء فإن لفظ سارق واضح فى معناه» ولكن عرض فى التطبيق ما جعل تحقيق التطبيق يحتاج إلى نظر» ولابد للقضاء من أن يرجح أحد النظرين على الآخر إن كان مجتهداء أو يختار ولى الأمر أحد النظرين. 4- ومن الأمثلة التى عرض لها الخفاء أيضا عند التطبيق» قوله يلي : «لا يرث القاتل شيئا» فإن كلمة القاتل واضحة فى معناها بينة فى مرماهاء لا شبهة فى أنها تنطبق على القتل العمدء ولكن أتنطبق على الخطأء أو القتل بالتسبب» أو القتل بالمشاركة أو التحريض. أو المعاونةء أيا كانت المعاونة؟ إن ذلك كله موضع نظر العلماءء ولا شك أنه بسبب هذا قد عرض الخفاءء والأساس فى وصف الشخص بأنه قاتل» العبرة بقيام الفعل به قاصدا أو غير قاصدء بالمباشرة أم بالواسطة» وبذلك قال الشافعى» فقد قال: كل من يتصف بأنه قاتل لا يرث شيكاء سواء أكان القتل بالمباشرة أم كان بالتسبب» وسواء أكان مقصودا أم كان غير مقصودء فإنه يحرم من الميراث» لأن كلمة قاتل بعمومها تنطبق عليهء ونرى أنه نظر إلى ظاهر اللفظء وطبقه تطبيقا حرفياء وعلى ذلك لا يرث القاتل -عنده ولو كان القتل عدلا من غير عدوان. والمالكية نظروا إلى معنى القصد إلى القتل» وكون القتل عدواناء فهم نظروا إلى معنيين: السببية فى القتل ولو لم تكن -مباشرة» والاعتداء فى القتلء فلو كان القتل عدلا أو دفاعا عن النفس أو بعذر فإنه يرث» بشرط أن يكون ممن يتحملون مسئولية الجرائم من ناحية العقاب» فلا يمنع القتل العدل» ولا قتل المجنون والصبى من الميراث» وكذلك لا يمنع من الميراث القتل الخطأء أيا كان نوع الخطأء لأنه غير مقصودء هذا نظر المالكية. أما نظر الحنفية» فقد قالوا إن العبرة فى السببية بالمباشرة لا مجرد القصدء ويشترط مع هذه السببية ألا يكون القتل عدلا وألا يكون بعذر»ء وأن يكون من مكلف. وبمقتضى هذا المذهب يكون القتل الخطأ مانعا من الميراث إذا كان من مكلف» والقتل بالتسبب غير مانع من الميراث؛ ولو كان مقصودا وكان عدواناء لأنها نظرت إلى السببية فى المباشرة؛ فهى التى تجعل الشخص موص وفا بأنه قاتل» وبذلك تحقق سببية المنع من الميراث . والإمام أحمد رضى الله عنه قرر أن القتل المانع من الميراث هو القتل الذى قرر له الشارع الإسلامى عقوبة» لأن الشارع ما قرر فيه عقوبة إلا إذا كان قد اعتبر وصفه بأنه حل قاتل وصفا شرعيا صحيحاء وإذا كان القتل الذى يشتمل على عقوبة تبرر ذلك الوصف فإنه يجرى عليه حكمه وهو الحرمان من الميراث. ومن هذا نرى كيف كان الخفاء لا فى أصل اللفظ. بل كان الخفاء من ناحية تطبيقه فى الحوادث الجزئية . وإن ذلك النوع من الخفاء يقع فى القوانين الحاضرة كما قلناء ولذا كانت النظريات الفقهية المختلفة فى التفسيرء وكان اختلاف القضاء فى تحقيق الاأوصاف التى تنطبق عليها المواد القانونية. المشكل : 3"- المشكل هو الذى خفى معناه بسبب فى ذات اللفظء لا بأمر عرض فى التطبيق كالخفى» ولقد قال شمس الأئمة السرخسى: والمشكل مأخوذ من قولهم: «أشكل على كذا أى دخل فى أشكاله وأمثاله». وهو اسم لما يشتبه المراد منه بدخوله فى أشكاله على وجه لا يعرف المراد منه إلا بدليل يتميز به من بين سائر الأشكال والأشبافىف فهو يختلف عن الخفى من حيث إنه لا يستبين المراد منه بظاهر اللفظ. بل لابد من الاستعانة بدليل آخر ليعرف المراد معرفة تامة» أما الخفى فإن لفظه واضح»ء والخفاء هو فى انطباقه على بعض الجزئيات. ومثال المشكل المشترك وهو الذى يدل على أحد معنيين أو معان على سبيل التبادل مثل كلمة عين» فإنها تدل على الجارحة وتدل على عين المال» وتدل على الذات» وتدل على الجاسوس. وتعين واحد منها فى الكلام يكون بقرينة قائمة» أو بدليل من خارج الكلام أو من داخله. ومثال ذلك لفظ - قرء - فإنه قد ورد فى قوله تعالى: «والمطلّقات يتربصن بأنفسهن نَلاثَةَ قُرُوء ولا يحل لَهِنَ أن يَكَحْسَ ما حَلَقَ الله في أرحامهن 104 . فقد فسر الشافعية القرء بأنه الحيض. وفسر الحنفية وغيرهم القرء بأنه الطهرء وكان ترجيح كل واحد على الآخر بدليل خارجى»ء واللفظ فى ذاته صالح للمعنيين» وحجة الحنفية فى تفسيرهم له بالحيض» قول النبى يَلكِْة: «طلاق الأمة اثنتان وعدتها حيضتان». فإن هذا الحديث إن صح يكون دليلا على أن المراد بالقرء هو الحيضة» ولكن لا يعترف الشافعى بصحة نسبة هذا الحديث إلى النبى عله . وقد استدل الحنفية أيضا بقوله تعالى: «إولا يحل لَهِنَ أن يكتمن ما حَلَق الله في أرحامهن 14" وما خلقه الله فى أرحامهن هو الحيضء وليس الطهرء فكان المناسب أن . البقرة : 558 . (9) البقرة : 4؟:؟‎ )١( دحل حسية إيجابية» لا بأمور سلبية» وإذا كانت كذلك فإن الأنسب فى مثل هذه العبارة أن تكون القروء للحيضات لا للأطهارءولأن الأقراء فى لغة النبى يليه تبتعمل فى الحيضات. فقد قال النبى يَكية: «دعى الصلاة أيام أقرائك» والصلاة لا تترك إلا فى أيام الحيضات . : وحجة الشافعى فى ترجيحه تفسير القرء بالأطهار قوله تعالى: «إ فَطلَقُوهن لعدتهن 2١١4‏ أى فى عدتهن. والطلاق السنى غير البدعى لا يكون إلا فى حالة الأطهارء فدل هذا على أن العدة تكون بالأطهارء لا بالحيضات» ولأن كلمة القرء أقرب أن تفسر بمعنى الطهر لا بالحيض؛ وذلك لأن القرء معناه الضم والجمعء ولا شك أن مدة الطهر هى مدة تجمع الدم فى الرحمء ومدة الحيض هى مدة لفظه وإلقائه» فكان المناسب أن تكون كلمة القرءء المراد بها الطهر. لأن ذلك التفسير أقرب إلى أصل الاشتقاق . ونرى من هذا كيف يحاول الفقهاء أن يزيلوا ما حسبوه إشكالا فى هذا اللفظ. وبعد أن فسر ذلك التفسير مستعينا فيه بالسنة النبوية لا يكون ثمة إشكال فيه فالإشكال فى أصل الاشتراك فى المعنىء ولكن بضم المأثور إلى المنتصوصء. وبضم الأدلة بعضها إلى بعض يزول الإشكال. -١‏ وقد يكون من العبارات التى فرض فيها الفقهاء والمفسرون إشكالا قوله تعالى : « واللأتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا َأمْسَكُوهنَ في الببوت حت يتوقاهن الموات أو يجعل الله لْهِنَ سبيلاً لق وانلذان يأتيانها منككم فَآذُوهُما قن ابا وأصِلَحًا فأعْرِضوا عَنْهُمَا إن اللَّهَ كان نابا رَحيما 27 204 . فالآية الأولى صريحة فى أن اللاتى يقعن فى الفاحشة من النساء يضيق عليهن» فلا يخرجن من بيوتهن» حتى يكون لهن أحد الفرضين: الموتء أو أن يجعل الله لهن سبيلا بالزواج» والآاية الثانية صريحة فى أن أى اثنين يرتكبان الفاحشة يؤذيان أى يضربان مثلاء وليس فى الآية ما يمنع من أنهما ذكر وأنثى. خلافا لمن قال إنهما ذكران» وقد كثر هذا النظر فى أقوال المفسرينء ولا نجد دليلا يعين ذلك النظر الذى يقرر أنهما ذكران. ش والأقرب إلى المعقولء وإلى ما كان عليه العرب هو أنهما ذكر وأنثى» لأن ذلك الشذوذ لم يكن معروفا عند العرب» ولما رأوه فى الشام عند الفتح فى عهد أبى بكر الصديق وعمر رضى الله عنهما كان من الأمور الشاذة فأرسل خالد بن الوليد يستفتى فيه» ويتعرف حكمه. . 35 (؟) النساء : هذ‎ 21١ : الطلاق‎ )١( ١97‏ دم ومهما يكن فقد اضطربت أقوال الفقهاء فى الجمع بين هاتين الآيتين وآية حد الزنى» وهى قوله تعالى: ل الزانية والرّاني فَاجلدوا كل واحد مَنْهما مائةَ جلَدّة 2١74‏ الآية. فالأكثرون على أن هذه الآية نسخت الآيتين السابقتين. وإنه يبدو لنا بادى الرأى أنه لا نسخ؛ لأنه لا يصار إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع» أو نص على النسخ. ومثل ذلك فى القوانين الوضعيةء كمثل إلغاء القوانين فإنه لا يلغى قانون, إلا إذا نص فى الشانى على إلغاء الأول» أو تواردا على موضوع واحد بحكمين متناقضين لا يمكن الجمع بينهماء فإنه فى هذه الحالة يكون الثانى ملغيا لاوا ويكون هذا إلغاء ضمنيا. وكذلك الأمر فى النسخ» لا يصار إليه إلا إذا توارد لنصان بحكمين متناقضين فى موضوع واحد. والأمر هنا ليس كذلك. إذ الأحكام متلاقية غيرمتنافرة ولا متناقضة» فالآية الأولى: «إواللأتي يأتين القاحشة * اللآية» بينت حكما خاصا للنساء» وهو أن من يأتى بفاحشة من النساء تحبس فى البيت فلا تخرج منه إلا متزوجة أو ميتة» والآية الثانية بينت حكما يشمل الذكور والإناث » وهو الأذى» والآية الثالئة» وهى قوله تعالى: الزانية والراني فاجلدوا كل واحد مَنْهما ماثة جلدة 4 بينت مقدار الأذى» وعلى ذلك لا تناقض -فى الأحكامء بل -فيها تلاق واضح » فلا نسخ» ويخرج من مجموع الآيات حكمان واضحان بينان: أحدهما : أن الزانيين يجلدان مائة جلدة. والثانى : أن النساء يحبسن فى البيوت حتى يتوفاهن الموت». أو يجعل الله لهن سبيلاء وإن هذا الحبس فى البيوت بالنسبة للنساء يقابله التغريب بعد الجلد بالنسبة للرجال. - وإنه يبدو من المثلين السابقين أن الإشكال فى النصوص الإسلامية ليس معناه إيهاما لا يفهم معه الحكمء بل معناه احتمال فى اللفظ أو فى الأسلوب. يجعل المعنى لا يفهم إلا بعد التأويل والترجيح» وبذلك يعد من قبيل الخفاء النسبى» لا من قبيل الإبهام الذى يحتاج إلى تفسير من السنة النبوية إن كان قرآناء وبعد التفسير مهما تكن أوجه النظر فيه مختلفة يكون النص بينا واضحا مكشوفا لكل ذى نظر فيه . وإن ذلك واقع فى القوانين الوضعية, فإنه فى كثير من الأحيان يشكل اللفظ ويستغلق» ويحتاج الفقهاء والقضاء إلى الرجوع إلى الأعمال التحضيرية ليزول الإغلاق» أو إلى المصدر التاريخى» أو تعرف مقاصد واضع القانون من مطوى العبارات والتناسق الفكرى بينهاء أو القضاء بما يكون أقرب إلى الحق والعدل فئ ذاته» واللفظ يحتمله. 345 المجمل: 78- هو النص الذى ينطوى فى معناه -عدة أحوال وأحكام قد جمعت فيهء ولا يمكن معرفتها إلا بمبين. ولقد قال فى بيان معناه البزدوى فى أصوله: المجمل هو ما ازدحمت فيه المعانى» واشتبه المراد اشتباها لا يدرك بنفس العبارة» بل بالرجوع إلى الاستفسارء ثم الطلب والتأمل» ومن هذا يتبين أن الفرق بين المجمل والمشكل والخفى» أن المجمل لا يمكن معرفة معناه ه من ذات اللفظء بل لابد فى فهم معنى المسجمل؛ وإدراك صوره المختلفة وجزئياته المتشعبة من مبين يوضح المعنى» ويفصله تفصيلاء ويبقى بعد هذا البيان التفصيلى موضع لتأمل المتأملين» وتدبر المفكرين» وإن أكثر العبارات القرآنية مجمل قد بينتها السنةء فالصلاة أمر القرآن بها أمرا إجمالياء وقد بينتها السنة من بعد ذلك بيانا وافيا شافياء والزكاة قد ذكرها القرآن الكريم مجملة ثم بينتها السنة» والحج قد بين النبى كلد مناسكه. وقال: «خذوا عنى مناسككم! وهكذا. والبيوع ذكرت مجملة ثم بينتها السنة أيضا بيانا تفصيليا ينظم التعامل بين بنى الإنسان. . . وهكذا. وكذلك فى أحكاء الجنايات» فقد نص القرآن الكريم على وجوب الدية وفصلت السنة مقدارهاء وبينت أحوالهاء وذكر القرآن الكريم أن الجروح قصاص. وبينت أحكام الشجاج المختلفة وهكذا لا نجد مجملا قد ذكر فى القرآن إلا بينته السنة بتفصيل أحكامه وأحواله تفصيلا لا يدع موضع إبهام من بعدهء وإنه يعتبر من المجمل اللفظ المشترك فى القرآن الكريم» إذا كانت معرفة أحد معنييه لا تمكن بالسنة أو لا يعرف معناه إلا بالنص . وإنه بعد بيان المجمل يصير مفسرا عند الأكثرين» فلا يدخله التأويل ولا يدخله التخصيص» وقبل معرفة بيانه قد يعتبر مبهما بالنسبة لمن لا يعرف» حتى يعرف البيان» وبيان المجمل لا يمكن أن يتأآخر عن وقت العمرء وقد يتأخر عن وقت الخطاب» ولقد قال بعض الفقهاء: إن المجمل بعد بيانه» قد يكون ظاهراء وقد يكون نصا مفسراء وقد يكون محكماء فلا يتحقق فيه واحد من هذه الأقسام ذ فقطء وقد قال أبو زيد الدبوسى بعد البيان يلزمه مأ يلزم المفسر أو الام بل لنقد ثيل: إنه بعد البيان قد صميو مشكان يحتاج إلى التأمل» وقد ذكروا لذلك مثلا حديث الرباء وهو قوله كللة: «الذهب بالذهب» والفضة بالفضة. والبر بالبر» والشعير بالشعيرء والملح بالملح» والتمر بالتمر 'مثئلا بمثلء سواء بسواءء يدا بيدء فإذا اختلفت هذه الأشياء فبيعوا كيف شئتم إذا كان يذا بيد). فإنهم يعدون هذا الحديث تفصيلا لمجمل كلمة الريا فى قوله تعالى: « الذين يأكلون ابا لا يقومون إِلذَّ كَمَا يقوم الذي يتخبَطه الشيطان من الْمْسَ 274 . وإنه يعد ذلك مشكلا يحتاج إلى تعرف علته» وذلك ليتعدى إلى ما يشابه هذه الأصناف» وقد اختلف العلماء فى العلة7) . والحق فى مسألة الربا أن نص القرآن ليس فيه فيه مجملء» وإن كان فيه خفاء فالذى يبينه هو قول النبى يله فى خطبة الوداع : «ألا وإن ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أبداً به ربا عمى العباس بن عبد المطلب» فالربا المذكور فى القرآن هو ربا الديون» وأن يكون التأجيل فى الدين فى نظير زيادة» ولذا قال تعالى فى خختام آية الريا: وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون 74 "' ويسمى هذا النوع من الربا النسيئة» ويقصر ابن عباس الربا المحرم عليه أما الربا الثانى المذكور فى هذا الحديث» فهو ما يسمى فى عرف العلماء بريا البيوع» والغرض منه جعل هذه الأمور الستة وما يشبهها - على اختلاف العلماء فى حدود ما يشبهها - ليست محل اتجار إلا فى دائرة معينة لا تعدوها؛ لأن بعضها لا يصلح سلعة يتجر فيهاء وهو الذهب والفضةء فهما لتقويم قيم الأشياء ووزنهاء وبعضها توسعة الاتجار فيها بلا قيد ولا شرط يؤدى إلى احتكارهاء أو حرمان طائفة من الناس منها. 0 المتشابه : 4أ- هو الذى يخفى معناه» ولا سبيل لأن تدركه عقول العلماء»ء كما أنه لم يوجد ما يفسره من كتاب أو سنة» فإنه ليس للعقل البشرى فيه إلا التسليم والتفويض لله )١(‏ البقرة : ه () اختلف العلماء فى العلة على أقوال أربعة : أولها : قول الظاهرية إن الحديث غير معلل» فلا يتعدى الحكم هذه الأصناف» بل هو مقصور عليها لا يثبت فى غيرها. وثانيها : قول الحنفية إن العلة الكاملة هى اتحاد الجنس والتقدير بأن يكون مكيلا أو موزونا من جدس واحدء وحينئذ يحرم التأجيل وتحرم الزيادة. والعلة الناقصة الاتحاد فى أحدهماء فإذا اختلف الجنس واتحد التقدير بأن كانا مكيلين أو موزونين» فإن الفضل يحلء والنساء يحرمء أى تحل الزيادة ولا يحل التأجيل » وهذا غير ما جرى العرف على التباين بين صنفيهما كالحديد بالذهب. وثالثها : قول الشافعية إن العلة هى الطعام أو الثمنية» فالأشياء التى يتحقق فيها تكون محلا للربا. ورابعها : قول حذاق المالكية؛ إن العلة هى الثمنية فى الأثمان وفى غيرها الطعم مع الصلاحية للادخار. () البقرة : 4 05 رب العالمين» والإقرار بالعجز والقصورء ولا بد لنا فى هذا الموضع من أن نتكلم فى أمرين : أولهما : وجود المتشابه فى القرآن» وإن ذلك مسلم بلا ريب لا شك فيهء وذلك لقو تعالى: 3 الذي أل عليك الكتاب منه آيات محكمات م الكتاب وأخر أوية إلا اللّه والرأسخون ١‏ في اعلم رو آمنًا به ل م عند ص وما إل نوا الاب +22 ربا لا ترغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وَهَبْ لَنَا من لَدنك رحمة إِنَك أنت الْوَهَاب «جه 704 . ولكن يختلف العلماء فى مدى المتشابهء فيقول ابن حزم: إنه لا متشابه فى القرآن إلا فى الحروف المقطعة فى أوائل السورء 1 الكريم؛ أى قسم الله تعالى فى مثل قوله تعالى: فلا أقُسم بيوم القيامة 1 274 ظ والشمس وضحاهاء] + والقمر إذا تلاها 20 94"©. . إلخ. وبعض العلماء يقول إن المتشابه هو ما ذكره ابن حزمء والآيات القرآنية التي توهم التشبيه مثل قوله تعالى: #يد الله فوق أيديهم” “)» ومثل قوله تعالى: 8 الرّحمن على العرش استوئ +2 2274 . وهكذا. وقد اختلف العلماء قديما وحديثا فى هذه الآيات» فبعضهم أولهاء وبذلك أخرجها من نطاق المتشابهء وبعضهم فوض فيهاء وبذلك أبقاها فى حدود المتشابه» فإن الذين أولوها يدخلونها بعد تأويلها فى الخفى مثلاء ولا تدخل فى باب المتشابه. إذ إنهم لم يقفوا فيها موقف التسليم والتفويض, وما داموا كذلك فهم لم يدخلوها فى حدود المتشايه . الأمر الثاتى : أن الآيات التى اشتملت على التكاليف وبيان الأحكام التى هى قوام الشريعة الإسلامية ليس فيها شىء من المتشابه قطاء بل كلها بِيّن واضح إما فى ذات نفسهء وإما ببيان النبى يَلكِيِ؛ِ لأن النبى يِه قال: «تركتكم على المحجة البيضاء التى ليلها كنهارها» ولا يمكن أن يكون فى التكليف شىء غير واضح ولا بين» أو على الأقل لا يمكن العقل أن يصل إلى معناهاء ومع ذلك يكون ما تركنا عليه النبى مَل محجة واضحة. ١ : الشمس‎ )9( . ١ آل عمران : 4 86 . (؟) القيامة:‎ )١( (5) الفعح : 3٠١‏ . (6) طه : ه 0- هذه هى أقسام النصوص القرآئية والأحاديث النبوية الشريفة من حيث دلالتها على الأحكام عامةء وقد ضربنا الأمثال» وخصصنا بالذكر أمثلة فى العقوبات الإسلامية. ليعلم القارئ الكريم مدى عناية الكتاب والسنة ببيان أحكام الجرائم وعقويتهء وليعلموا أن شطرا كثيرا من أحكام الجرائم وعقوبتها قد جاء بها النص الإسلامى فى الكتاب أو السنة فلم تترك الشريعة أمور الناس سدى. التأويل: - بيد أننا لم نذكر شيئا أشرنا إليه فى عدة مواضع. وهو التأويل» فقد ذكرنا أن أقساما كثيرة تقبل التأويل» فذكرنا أن الظاهر والنص كلاهما يقبل التأويل» وأن الخفى والمشكل والمجمل بعد بيانهما أو فهمهما أيضا يقبل التأويل على خلاف فى بعضها. فما هو ذلك التأويل؟ . لقد فهم بعض الكتاب فى الفقه أن التأويل يتلاقى فى معناه مع تعليل الأحكامء وهذا ليس المقصود من التأويل؛ لأن تعليل الأحكام معناه إعمال النص كما ورد فى موضعه» ولكن مع ذلك تستخرج علة الحكم» ليطبق الحكم فى كل موضع تتحقق فيه العلة» فهو ليس إخراجا للفظ عن ظاهره وتعديته إلى علة. أما التأويل فهو إخراج اللفظ عن ظاهر معناه إلى معنى آخر يحتمله» ولكنه ليس هو الظاهر فيه. وشروط هذا التأويل ثلاثة : أولها : أن يكون اللفظ محتملا للمعنى الذى يؤول إليهء فلا يكون غريبا عنه كل الغرابة . ثانيها : أن يكون هناك موجب للتأويل» بأن يكون ظاهر النص مخالفا لقاعدة مقررة معلومة من الدين بالضرورة» أو مخالفا لنص أقوى منه سنداء كأن يخالف الحديث قرآناء ويكون الحديث قابلا للتأويل فيؤول بدل أن يرد وأن يكون النص مخالفا لما هو أقوى منه دلالة» كأن يكون المؤول ظاهرا والذى يخالفه نص فى الموضوعء أو يكون اللفظ نصا فى الموضوع والذى يخالفه مفسر وهو أقوى منه دلالةء فإنه فى كل هذه الصور يؤول. والشرط الثالث : ألا يكون التأويل من غير سند» بل لابد أن يكون له سند أقوى من ذات النص الذى أول. 11"- هذا وإن التأويل قسمان: تأويل الآيات والأحاديث الموهمة التشبيه كتأويل اليد بمعنى السلطان أو القوة فى قوله تعالى: «إ يد الله فق أَيدِيهم 21(4. وبمعنى السخاء 00 : الفتح‎ )١( لاحل والجود فى قوله تعالى: 8 بَلَ يَدَاهُ مبسوطتان ينفق كيف يشاء .2١(4‏ ومثل تفسير الاستواء بالاستيلاء فى قوله تعالى: 8 الرَحَمن على العرش استوئ +427 274. فإن هذا كله باب من أبواب التفسير أوجبه التنزيه المطلق لذات الله العلية عن أن تكون مشابهة للحوادث» لأنه سبحانه: ليس كمثله شيء 274 . وقد أوجب العقل هذا التأويل» وهو مستوف لكل شروط التأويل التى أشرنا إليه. على أنه يجب أن نقرر أن بعض العلماء يقولون: إن هذا لا يعد تأويلا؛ لأنه مجاز مشهورء والمجاز المشهور يكون فهمه من ظاهر النص لا من تأويله» فالعربى إذا قيل له وضع الأمير يده على المدينة - يفهم منه بسط سلطانه واستيلاءه عليهاء فيكون من ظاهر اللفظ أن يفهم من قوله تعالى: ليد الله فَوقَ أيديهم». قدرة الله تعالى وسلطانه» وأن ذلك العهد عهد مع الله تعالى ذى الجبروت» والباعث على هذا التأويل هو التنزيه المطلق كما نوهنا. القسم الثانى من التأويل هو تأويل النصوص الخاصة بالأحكام التكليفية» وهذا التأويل الباعث عليه هو التوفيق بين أحكام الآيات والأحاديث التى يكون فى ظاهرها اختلاف» فيكون التأويل لإعمال النصين» فإن من المقررات فى تفسير النصوص» أن إعمال اللفظ أولى من إهماله» فكان من مقتضى تلك القاعدة ف فى التفسير أن يؤول أحد النصين ليمكن إعمال النصين. ومن التأويل تخصص اللفظ العام» بل إن ذلك أوضح أبواب التأويل فى النصوص الواردة فى الأحكام التكليفية» ومن التأويل أيضا تقيبد المطلق. ومن أمثلة تخصيص العام أن الله سبحانه وتعالى أباح السيع بقوله تعالى : «وأحَل الله ابيع وحم الريا 47# . وبقوله تعالى: «إيا يها لين آمنوا لا تأكلُوا أَموالَكم بَكُم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم 004 . ونهى النبى يَكهٌ عن تلقى السلع فكان ذلك البيع حراما بمقتضى هذا النهى» ويكون هذا فيه تخصيص لآية الإباحة للبيع» وكذلك نهى النبى ل عن التغرير فى البيع» ونهيه عن البيوع التى تؤدى إلى احتكار أقوات الناس» وهكذا فإن كل ذلك البيع فيه تخصيص للحل العام» وهو باب من أبواب التأويل كما ذكرنا. ومن ذلك أيضا قوله تعالى: ظ وأؤلات الأحمال أَجِلْهنَ أن يضعن حمَلَهنَ 4 (0) فإن ظاهر النص أن وضع الحمل تنتهى به العدة سواء أكانت عدة طلاق أم كانت عدة وفاة» فالحامل عدتها بوضع الحمل» ٠‏ سواء أكانت العدة الوفاة زوجها أم لطلاقهاء وقوله تعالى: ‏ والّذين و منكم ويَدَرونَ أَزْوَاجَا يتريّصن بأنفسهن أربعة أشهرٍ )١(‏ المائدة : 58 . (؟) طه: 68 . (*) الشورى : ١‏ (:) البقرة : 8/ا؟ . (6) النساء : 022059 (5) الطلاق : 2 ا 00000 وعشرا 2704 . وهى تفيد أن عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرء سواء أكانت المتوفى عنها زوجها حاملا أم كانت غير حامل» ولما كان ذلك التعارض إذا أعمل الظاهر فى الآيتين خصصت أية عدة الوفاة بأنها إذا لم تكن المعتدة حاملا. ومن أمثلة تقييد المطلق قوله تعالى : «إحرمت عليكم المَُ والدم ولَحُمْ الختزير وما أهل لغيرٍ الله به 74" مع قوله تعالى : : قل لأ أجد في ما أوحي إِلي محرا على طاعم يطعم إلا أن يكون ميتة أو دما مُسفُوحا أو لَحْم ختزير فَإنّهُ رجْس أو فسا ُهل لغيْرِ اله به ج50©. فإن الدم ذكر فى الاية الأولى مطلقاء وفى الآية الشانية مقيدا بأنه مسفوحء وقد اتحد موضوع الحكمء فوجب أن يقيد المطلق بالقيد الذى ذكر فى المقيد. وقوله تعالى فى كفارة القتل الخطأ: « فتحرير رقب مؤمنة ودية مُسَلَمَةٌ إلى أهْله 404 . فإنه ذكرت الرقبة التى تعتق فى كفارة القتل الخطأ بأنها رقبة مؤمنة» ولكن كانت مطلقة فى كفارة اليمين» » وفى كفارة الظهار. والظهار جريمة شخصية يقول فيها الرجل الزوجه أنت على كظهر أمى ؛ أو يشبهها بإحدى محارمه. بأن يقول: أنت أختى » أو نحو ذلك» فإنه لا يقربها إلا إذا أعتق رقبة» أو صام ستين يوماء أو أطعم ستين مسكيناء وفى حال الإطلاق قال جمهور الفقهاء: إن المطلق يحمل على المقيد. الدلالات - ما ذكرناه هو ما تؤديه الألفاظ. ومدى قوة الوضوح فى النصوصء وحمل النصوص بعضها على بعض عند تفسيرهاء واستنياط الحكم منهاء وما تؤديه النصوص من معان هو دلالات هذه النصوصء غير أن هذه الدلالات مختلفة الاتجاه» ومتشعيةء وللفظ الواحد عدة دلالات كلها يشع منه. ويقسمها فقهاء الحنفية إلى أربعة أقسام : دلالة العبارة» ودلالة الإشارة» ودلالة النص» ودلالة الاقتضاء . وزاد جمهور الفقهاء دلالة خامسة هى مفهوم الممخالفة . ولنشر إلى كل نوع من هذه الأنواع بكلمة موضحة مع بعض الأمثلة. دلالة العبارة : 6 - هى المعنى المفهوم من اللفظ. سواء أكان اللفظ ظاهرا فيها أم كان نصاء سواء أكان محكما أم كان غير محكمء ٠‏ فكل ما نفهم من ذات اللفظ الذى وضع له مهما كانت قوة دلالة اللفظ عليه يعد دلالة عبارة. وذلك مثل التصوص السابقة كلهاء ومثل قوله ٠ البقرة : 784 (؟) المائدة:‎ )١( 7 : الأتعام : 140 . (5) النساء‎ )( "٠ تعالى : فَاجتنبوا الرّجس من الأونّان واجتنبوا قول لزُور204, فإنه يفهم بدلالة العبارة أن شهادة الزور جريمة» ومثل قوله تعالى: « والّذين لا يشهدون الزور وإذا مرّوا باللّغو مَرُوا كراما ججح 74 . فإنه يفهم من العبارة تحريم شهادة الزورء لأن الآية مسوقة لأوصاف المؤمنين» فدل هذا على أن شهادة الزور حرام عليهم» ولا تتفق مع الإيمان» وعلى ذلك يكون على ولى الأمر أن يضع لها عقابا زاجرا. ومن ذلك أيضا قوله تعالى: إن الذين يأكلوت أموال اليتامئ ظَلْما إِنَمَا أكون في بطونهم ارا وَسيَصلوتَ سعيرا +ج) 204 فإن عبارة النص تفيد أن من أشنع الظلم أكل أموال اليتامى ظلماء وإن هذا يستفاد منه أن ذلك جريمة توجب عقابا دنيويا يتولاه ولى الأمر بوضع عقوبة زاجرة مع العقاب الأخروى الذى يتولاه الديان يوم القيامة. إشارة النص : 4- هى ما يدل عليه اللفظ بغير عبارته» ولكنه يجىء نتيجة لهذه العبارة» فهى تفهم من نظم الكلام» ولكن لا تستفاد من العبارة ذاتها. مثال ذلك قوله تعالى: «إفإن خفتم ألا تعدلُوا فُواحدة 4 . يفهم منه بالعبارة أنه لا يحل له أن يتزوج أكثر من واحدة إذا تأكد أنه لا يعدل بين أزواجه. ويفهم بالإشارة أن العدل مع الزوجة واجب دائماء سواء أكان متزوجا واحدة أم أكثر» وأن ظلم الزوجة حرامء وأنه يصح لولى الأمر أن يضع عقوبة تعزيرية لمن يؤذى زوجته. ومن ذلك قوله تعالى: 8 وعلى المولود له ررقن وكسوتهن بالْمعرُوف 2004 فإن هذا الأمر أفاد بعبارته أن نفقة المولود على والدى وأفاد بإشارته أن الولد تابع للأب تبعية تشبه تبعية الملك والاختصاصء إذ يقول عن الآبء» إنه المولود له. وإذا كان للأب نوع اختصاص بولده فإنه يفهم بالإشارة أيضا أن مال الولد يكون للأب شبهة ملكء ولذلك لو أخذه لا يعد سارقاء ولا تقطع يده» ويزكى هذا الفهم قوله كَِْهّ: «أنت ومالك لأبيك» فإنه أفاد نوع ملكية للأب فى مال ابنه» فلا يقطع فيه. ومن ذلك اتحريم التسزوير بقوله تعالى فى آية المداينة والأمر بكتابة الديون: «ايا يها الْذِينَ آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مُسمى فَاكْبُو وليكتب بيكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما عَلَمَه الله يكحب ولْيمللٍ الذي عليه الحق ولق الله به ولا بحس منه شينا 974 . فإن وصف الكاتب بالعدل يفيد أنه يجب أن يكون المكتوب صحيحاء وذلك 2203١ : الفرقان : ”ل . (*) النساء‎ )9( . 7٠0 : الحج‎ )١( ” : النساء : "ا . (0) البقرة: 337 , (0) البقرة‎ )5( ١ بالعبارة» وتفيد بالإشارة أن التزوير فى الكتاب حرامء وهو جريمة يجب على ولى الأمر أن يضع لها عقوبة تعزيرية» إذ اشترط أن يكون الكاتب عدلاء وألا يبخس المملى منه وإن إشارات النصوص معان منطقية تترتب على مدلولات الأآلفاظ». وبها يتفاودت الكلام فى مراتب البللاغة وتتفاوت العقول فى إدراك إشارات النصوص» وعبارة النصوص قد تتضح الأحكام منهاء ويفهمها الفقيه وغير الفقيهء أما إشارات النصوص فإنه لا يفهمها إلا الفقيه فى الشريعة» والفقيه فى اللغة أيضا. دلالة النص : -١‏ وتسمى دلالة الموافقة» كما تسمى دلالة الأولى» كما يسميها بعض الفقهاء القياس الجلى» وتكون إذا كان اللفظ يدل على حكم واقعة بعبارته» وحكم واقعة أخحرى يفهم بهذا النصء لأنها أوغل فى معنى الحكم ومرماه) ويضربون لذلك شو يل «فلا تقل لَّهُما أف ولا تنهرهما وقل لَهما قَولاً كريما 2 واخفض لَهُمَا جتاح الل من الرّحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا 276 274" . إن هذا النص يفيد بعارته ريم أن يقول لهسم أف؛ وإذا كان قول أف لهما حراماء فبالأولى ضربهما أو شتمهماء أو إيذاؤهما بأى نوع من الأذى يكون أقوى من كلمة أف. ويعبارة أدق: إن النهى عن.قوله - أف - يترتب عليه حتما النهى عن كل أذى. إذ كلمة أف أدنى أنواع الأذى. والنهى عن أقل الآثام نهى عن كثيرهاء فالنهى عن أقل الأذى نهى عن كل أنواع الأذى. وإن هذه الدلالة تفهم من النص بمقتضى حكم اللغة» لا بمقتضى الاستنياط. فالفرق بين دلالة النص والقياس أن القياس لا يعرف حكمه إلا بالاستنباط» بينما دلالة النص تعرف من غير استنباطاء بل إنه يستوى فى إدراكها الفقيه وغير الفقيه» ولا يختص ' إدراكها بالفقيه» وكقتصى بمقتضى النص السابق يكون شتم الآباء أو ضربهم له مزيد من عقوبية غير مطلق الضربء ويكون على ولى الأمر أن يضع فى تعزيراته ما يجعل مرتبة إيذاء الوالدين أقوى من غيرهاء فتكون العقوبة أشد. 9 ومن دلالة النص منع تبديد مال اليتامى» أو إتلافه» أوالتقصير فى المحافظة عليه من قوله تعالى: «إإِنّ الّذين يأَكُلُونَ أموال الْيَامَئ ظَلْما إِنّمَا يأكلوت في بطونهم تار 04 . فإن هذا النص يفيد بعبارته النهى عن أكل مال اليتيم وتضييعه عليه بأخذه لنفسهء وهذا 1 : الإسراء : 2# 55 . (؟) النساء‎ )١( إن يفهم منه من غير محاولة استنباط منع تبديد أموال اليتيم » والتقصير فى المحافظة عليه ويصح أن توضع لذلك العقوبات التعزيرية. ومن دلالة النص أن يقام حد قطع الطريق على الردء؛ وهو الذى يعاون قطاع الطريق» وإن لم يكن منهمء وذلك الحد هو المنصوص عليه فى قوله تعالى: إِنّمَا جزاء لين يحاربوت الله ورسوله ويسعون في الأرض فَسادا أن يقلُوا 274 . إلى آخر الآية» فعبارة النص تفيد أن من اتفقوا على قطع الطريق» وعملوا على تنفيذ اتفاقهم يطبق عليهم هذا العذاب بالفعلء أما الذين يعاونونهم متفقين معهم على المعاونة» بأن يجهلوا الطريق على الشرطة التى ذهبت» أو يخذلوا من يحاربهم» فإنهم يدخلون بدلالة النص فى ضمن المحاربين ويستحقون هذا العقاب لتوافر معنى المحاربة فيهم» وهى إخافة الطريق وقطع السبيل» ولأن ما يفعلونه؛ بالاتفاق معهمء فيتحقق فيهم الاتفاق على هذه الجريمة» وإن ذلك يثبت من غير حاجة إلى استنباطء ولذا يثبت بدلالة النص» لأن العبارة لا تسجله» ولكن يدخل فى المعنى من حيث القصد المؤدى. ومن أمثلة دلالة النص ما جاء فى قوله تعالى : طإ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إل خَطنًا ومن قَمَلَ مؤمنا حَطَنًا فَمَحرِير رقب مؤمنةر ودية مسلَمة إلى أهله 274 . فهذا النص أفاد بعسبارته وجوب العتق فى القتل الخطأء وأفاد بدلالة النص وجوب العتق فى القتل العمد؛ إذا لم يئبت فيه القود بأن كان بغير آلة من شأنها أن تقتل. لأنه إذا كان العتق فى القتل الخطأ واجبا فهو فى القتل العمد أوجب» لأن السبب فى وجوب الكفارة هو جريمة القتل» وهذا متحقق فى العمد بأكثر مما هو متحقق فى الخطأء إذ الخطأ فعل من غير قصدء والعمد فعل معه قصد. ش ومن دلالة النص التخيير بين الدية والقصاص فى قوله تعالى : «( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فَمَن تصدق به فهو كَمَارة ه74 2 فقد فهم بالعبارة أن للمجنى عليه حق القصاص» وحق العفو » ونفهم بالأولى أن له حق الدية إن تنازل عن القصاصء لأن من له حق فى القصاص له بالأولى الدية إن ترك القصاصء كما أن له العفو .عنهما جميعا. وهكذا نجد أن الجرائم فى هذه الأمثلة كلها كانت تفهم عقوبتها بدلالة النص» أى من مفهومهء لا من منطوقه. +6 : المائدة : "ان (؟) النساء : 55 . (9) المائدة‎ )١( دلالة الاقتضاء : - والرابعة من الدلالات دلالة الاقتضاءء وهى الدلالة لا بمنطوق اللفظء ولا بمفهومه, بل تكون الدلالة فيه من كل أمر لا يستقيم اللفظ على معناه إلا بتقديره.ء مثل قول النبى كَلِيهُ: «رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» فإن الأمور الواقعة لا ترفع» فلا يمكن أن يستقيم المعنى إلا بتقدير مطوى فى القول وهو الإثم» فالمعنى رفع عن أمتى إثم الخطأ والنسيان .... إلخ. ومن أمثلة الدلالة بالاققضاء قوله تعالى: إفمن عفي لَه من أخيه شيء فَائبَاعَ بالمعروف وأداء إِلَيّه يإحسان 2174 فإنه يدل على جواز أن يكون العفو فى نظير مال» وهو الدية أوغيرهاء وذلك واضح فى قول النبى كلل : «من قتل له قتيل فله إحدى ثلاث: القصاص أو العفو أو الديةء فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه» . والثشابت بالاقتضاء ليس ثابتا بأصل العبارة» ولكنه ثابت » لآن صحة الكلام واستقامته تقتضيهء ففى المثال السابق لا يستقيم قوله تعالى: ‏ فَائبَاعَ بالمعروف وأداء إِلَيه بإحسان ©. إلا إذا فرض وقدر أنه طولب المالء وأن هذا العفو فيه مال» وكذلك فى المثال الأول لا يستقيم معنى الرفع للوقائع التى وقعت خطأ أو نسيانا أو بإكراه» لأن ما وقع لا يرفع فلابد من تقدير شىء مطوىء وهو الإثم» وهكذا يكون المقتضى ليس جزءا من الكلام» ولكن نسق الكلام يقتضيه . وتقدير المقتضى مع أنه ليس من الكلام يصير له حكم المنطوق بهء وكأنه مذكور فى الكلام غير مطوى فيه. ومن دلالة الاقتضاء قوله تعالى: 9 حرمت عَلَيِكُم الميتة والدم ولحم الختزير 74" . فإن هذه ليس التحريم فى ذواتهاء وإنما التحريم فى أكلها والانتفاع بها فى أى نوع من أنواع الانتفاع ‏ ولا يستقيم الكلام إلا بهذا. .ومن ذلك أيضا قول النبى وَلكِْة: «كل المسلم على المسلم حرامء دمه وماله وعرضه»ء فالحرمة لا تنصب إلا على الاعتداء» فلابد ليستقيم النص من تقدير الا_عتداء. وهكذا غير ذلك من دلالاات اللفظ على أمور لا تفهم باللفظء ولكن له قوة هذه الدلالات فى إثبات العقوبات *77- هذه الدلالات ليست مرتبة واحدة فى قوتهاء فدلالات الألفاظ الصريحة ليس لها قوة واحدة فى إثباتهاء فقد أشرنا إلى أن المحكم أقوى من المفسرهء والمفسر (0) البقرة : ١7/8‏ . (9) المائدة : ”ا . أقوى من النصء» والنص أقوى من الظاهرء وكذلك الدلالات الأخرى ليست فى مرتبة واحدة فدلالة العبارة أقوى من دلالة الإشارة» ودلالة الإشارة أقوى من دلالة النص» والأخيرة أقوى من الاقتضاء. وتثبت هذه المراتب» فى أنه عند التعارض يقدم الأقوى على الأدنى منه» فعند التعارض يقدم المحكم على المفسرء والمفسر على النصء والنص على الظاهر» وما فيه خماء بعد بيانه يلحق بواحد من المعانى» فيكون له قوتهء ودلالة العبارة مقدمة على دلالة الإشارة» لأنها صريحة فى الدلالة» واضحة فى معناهاء والأخرى ليس لها هذا الوضصوحء» وإذا تعارضت الإشارة مع دلالة النص قدمتء لأنها دلالة بالمنطوق». والأخرى دلالة بالمفهوم. وما يفهم بالنظم أقوى فى الدلالة مما يؤخذ فى فحوى الكلام» ودلالة النص أقوى من دلالة الاقتضاءء لأنها أوضح فى المؤدى» وأبين» ولا يحتاج العقل فى إدراكها إلى أى قدر من التأمل . 14- هذه هى الدلالاات فى مراتبهاء وفى تعارضهاء ولكن هل تثبت العقوبات بكل هذه الطرق من البيان, إنه بلا شك يثبت ينبت بها اتتحليل والتحريم» ويشبت بها حق ولى الأمر فى التعزير عليها » فحق العقاب بلا ريب يثبت بهاء فبدلالة النص يثبت ضرب أحد الأبوين جريمة أكبر من مجرد ضربء ونهر الأبوين معصية مطلقا ولو كان ذلك مباحا فى بعض الأحوال بالنسبة لغيرهما من الناس» وإن لولى الأمر أن يفرض عقوبة فيها غلظة بالنسبة لمن يؤذى أبويه. بحيث تكون عقوبته أشد من عقوبة من يؤذى غيرهما من الناس . وإنه من المتفق عليه أن الدلالات التى تكون بالعبارة سواء أكانت بظاهر اللفظ» أم بالنص - تثبت بها العقوبات كلهاء سواء أكانت حدودا أم كانت قصاصاء أم كانت دون ذلك» وهوما يعطاه ولى الأمر والقاضى من سلطان التعزير. 65- وكذلك الدلالات التى تبنى على اللفظ. أو تكون فى حكم اللفظ وتفهم من غير إعمال فكرء ولذلك قالوا: إن الحدود التى تدرأ بالشبهات تفهم بدلالة النص » وقد قال فى ذلك صاحب كشف الأسرار: «ومثال إثبات الحدود بها إيجاب حد قطاع الطريق على الردءء لأن عبارة النص هى المحاربة» وصورة ذلك بمباشرة القتال» ومعناه لغة العدوان والتخويف على وجه ينقطع به الطريق» وهذا معنى معلوم بالمحاربة لغة والردء مباشر لذلك كالقاتل» ولهذا اشتركوا فى الغنيمة (أى فى القتال الحلال) فيقام الحد على الردء بدلالة النص» وإيجاب الرجم على غير ماعز. ومعلوم أنه لم يرجم لأنه ماعز» وصحابى» بل رجم لأنه زنى فى حالة الإحصان. فيثبت هذا الحكم فى حق غيره بدلالة النص2272 . . كشف الأسرار ج" ص - 5 : طبع استانبول‎ )١( ومن ثبوت الحد بدلالة النص وجوب حد القذف على من رمى رجلا محصنا بالزنى وذلك لقوله تعالى: « والّدين يرْمُونَ المخصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثَمَانِينَ جلْدَة 2374 . فإن منطوق اللفظ فى رمى المحصنات ومفهومه ينطبق على من يرمى الرجل للتساوى فى معنى النص» وذلك واضح ولذا فهم بفحوى الكلام. ومن ثبوت الحد بدلالة النص» ثبوت حد الزنى فى العبد بأنه نصف حد الحرء بتنصيف الحد بالنسبة للأمة» إذ يقول الله تعالى فيهم: «فإِذَا أحصن فَإن أَتَينَ بقاحشة فَعَليهن نصف ما عَلَى المحصتات من العذاب 2"74. فإن هذا النص أفاد بعبارته أن حد الأمة نصف حد الحرةء والتساوى بين العبد والأمة فى الحقوق والواجبات كان من دلالة النص» أو مفهوم الموافقة أن يكون هذا التنصيف بالنسبة للعبد. 17- وتثبت أيضا بدلالة النص الكفارات وهى عقوبات دينية» ومن ذلك كفارة الإفطار فى رمضانء فقد ورد النص بن من جسامع فى نهار رمفصان عليه كثارة عتق رقبة» فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين» فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناء و فهم الحنفية بدلالة النص أن هذه العقوبة تكون على من لطر قي مشان سما يقير الجماعء وقد قال فى ذلك صاحب كشف الأسرار: روى أن أعرابيا جاء إلى رسول الله يبد وهو ينتف شعرهء ويقول: هلكتء. وأهلكت . فقال مهم «ماذا صنعت؟». فقال: واقعت أهلى فى نهار رمضان متعمدذا. فقال كلد «اعتق رقبة». فضرب بيده على صفحة عنقه وقال: لا أملك إلا رقبتى هذهء فقال عليه الصلاة والسلام: «صم شهرين متتابعين»» فقال: هل أتيت ما أتيت إلا من الصومء فقال: «أطعم ستين مسكيناء» فقال: لا أجد .. وإن سؤال الأعرابى وهو قوله واقعت امرأتى فى نهار رمضان وقع عن الجناية على الصوم بدليل قوله هلكت وأهلكت. ومعلوم أن المواقعة عينها لم تكن جناية» لأنها وقعت على محل مملوك» فإذا كان قد نص على جريمة هى مواقعة امرأته فلأنها فى ذلك الوقت تؤدى إلى معنى آخرء وهو الجناية على الصوم» ويفهم ذلك من الكلام لغةء لأنه لما اشتهرت فرضية الصوم فى رمضانء اشتهر أن معناه الإمساك عن قضاء الشهوتين» عرف كل واحد من أهل اللسان أن المواقعة فى ذلك الوقت جناية على الصوم. وأن المقصود من السؤال حكم الجناية» فكان المفهوم من قوله واقعت فى رمضان لغة الإفطارء كما كان المفهوم من قوله تعالى: #فلا تقل لهما أف4. المنع من الإيذاءء» ثم إن رسول الله كَكِْةِ أجاب عن السؤال فكان جوابه بيانا لحكم الجناية الذى هو الغرض من السؤال» لأن الجواب يكون مبنيا على السؤال وتخصوصا من . النور : 5 . (؟) النساء : 36. () كشف الأسرار ج7؟ ص17 0 بتصرف قليل‎ )١( ومن هنا نرى أن الكفارات وهى عقوبات دينية مقدرة - وبعض الفقهاء جعلها عقوبات ينفذها القضاء - تثبت بدلالة النص كما تثبت بالنص. /741- ومن إثبات الحدود بدلالة النصء» مسألة حد اللواطة» فقد أثبته أبو يوسف وطائفة كبيرة من الفقهاء بدلالة النص» وذلك أن النص الذى يثبت حد الزنى» وهو قوله تعالى: ط الرَانيةُ والزاني فَاجَلدُوا كُلَ واحد مَنْهما ماثّة جَلْدَة ولا تأخذكم بهم رأفَةَ في دين الله إن كنتم تؤمنون باللّه وَاليُوْم الآخر21(4. يثبت منه بالعبارة حد الزنى» ويثبت منه بدلالة النص عند أبى يوسف وطائفة كبيرة من الفقهاء حد اللواطة» لأن الزنى اسم لفعل معلوم. هو قضاء الشهوة الجسدية فى موضع محرم مشتهى » وهذا المعنى متحقق بعناصره كلها فى اللواطة» والاختلاف بينهما فى أن الزنى يطلق إذا كان المحل محل تناسل وحرث» أما اللواطة فليست كذلك» وما اختصت به من معنى يجعله فى باب الفجور أكثر زيادة فى التحريم إذ هو كما قال فخر الإسلام البزدوى: «فى الحرمة فوق الزنى» وفى سفح الماء فوقه وفى الشهوة مثله» وبهذا كله يتحقق معنى التحريم» وآن تكون عقوبته مثله على الأقل» ويزكى المماثلة أو الاتحاد بين العملين ما قرره الفقهاء من وجوب الاغتسال فى اللواطة كالاغتسال فى الوطء. وقد خالف فى ذلك أبو حنيفة ولم يثبت الحد فى اللواطة؛ وليس معناه أنه يخالف فى دلالة النص على الحدود» إنما موضع الخلاف فى أنه يفهم من حد الزنى بدلالة النص حد اللواطة» لأنه يرى أنهما حقيقتان متباينتان فى طبيعتهما تمام التباين» فلا يشبت لأحدهما ما يثبت للآخرء وفى الزنى معنى ليس فى اللواطة» إذ إن الزنى يؤدى إلى الحملء والحمل من سفاح إما أن يؤدى إلى إهلاك النفس البشرية بالإجهاض» وإما أن يؤدى إلى الهلاك المعنوى» وذلك بإنجاب أولاد لا آباء لهم ساقطى الاعتبار فى المجتمع فيكونون كلا عليه» ويكون منهم الشذاذ» ومرتكبو الجرائم» ومن يكون بشكل عام حربا على أمن ال مجتمع وفضائله» وخصوصا أنهم ينبتون فى منابت سوء» لاراعى يرعاهم. ولا كالئّ يحميهم من الرذائل» ولذا يقول فخر الإسلام البزدوى : «إن ولد الزنى هالك حكما لعدم من يقوم عصاحه) وليس المعنى فى تحريم الزنى هو فقط ضياع الماع فإن ضياع الماء قد يكون بالعزل» وذلك ليس بحرام فى حدود معينة» ولم يجعل الشارع عليه عقوبة تكون حدا أو ما يشبه الحد. وليس ذلك الشذوذ الجنسى ماثلا للزنى من حيث الشهوة» لأنه ليس فى الطبع داع فطرى إليه» بل الطبع مانع له وهو ضد الفطرة وضد الطبع ؛ وإن أبا حنيفة يسلم بأنه حرامء بل يسلم بأنه من أقبح المحرمات» لا يقل تحريما عن الزنى» ولكن الحدود لا تثبت بمجرد التحريم» بل . 7 : النور‎ )١( لابد من نص صريح من الشارعء أو ما يشبه النص الصريح» وهذه الجريمة فى جملة معانيها لا تنطبق عليها من كل الوجوه معانى الزنى» حتى تدخل فى عمومه أو بدلالة 4- وإن الفقهاء يقررون أن عقوبات الدماء قد تثبت بدلالة النص» فقد أثبت الشافعية» الكفارة وهى عتق رقبة فى القتل العمد بدلالة النص» لأنها إن ثبتت فى القتل الخطأ فدلالة النص توجب ثبوتها فى القتل العمد كما نوهنا من قبل» وأبو حنيفة قد قرر أن شبه العمد تجب فيه الكفارة بدلالة النص» لأنه يشتمل على معنى الخطأ وزيادة» وشبه العمد عند أبى حنيفة هو القتل بغير محدد معد للقتل فالقتل عمدا بحجر كبير» أو بعصا غليظة من شأنها أن تقتل» وإن لم تكن معدة للقتل» فإن هذا القتل فى مرتبة بين الخطأ أو العمد. وإذا كانت الكفارة ثبتت فى العمدء فهى أولى أن تثبت فيه. ومن النصوص التى هى موضع نظر فى دلالتها على عقوبة القتل العمد دلالة النص» وقوله كَللِّ: «لا قود إلا بالسيف» فإن هذا النص يستفاد منه أمران: أحدهما : أن القصاص لا يكون إلا بالسيف» وهو صريح فيه» ودل عليه بعبارته» والقصاص يوجب المساواة بين الجريمة والعقابء فيجب بمقتضى هذا أن تكون اجرعة بآلة هى السيف» وهى المحدد» ولذا فهم أبو حنيفة من هذا بمقتضى دلالة النص أن القصاص لا يكون إلا إذا كان القتل بمحددء فالقتل إذن بغير محدد لا يوجب القودء لأنه لا يمكن المماثلة فيه بين الجريمة والعقاب» ولقد قال فى ذلك فخر الإسلام البزدوى: «لاقود إلا بالسيف» أراد به الضرب بالسيف. ولهذا الفعل معنى مقصود وهو الجحناية بالحراح أو ما يشبهه. والحكم جزاء يبتنى على الممائلة فى الحناية» وكان ثابتا بذلك المعنى 237 , وقد خالف أبو يوسف ومحمد شيخهما فى ذلك, وقررا أن الضرب بكل مالا يطيقه الجسم عادة» ومن شأنه أن يقتل يعد عمداء وذلك لأن المعنى فى تقرير العقوبة لأنها زجر عن الاعتداء على الأنفس المقصودء وإن القتل بهذه الآلات فيه هذا الاعتداءء فتتحقق تلك العقوبة التى توجب الردع والزجر. وهذا رأى جمهور الفقهاء؛ وقد قال صاحب كشف الأسرار فى توجيه هذا الرأى : #قالوا إنا نعلم أن القصاص وجب فى عقوبة ارتكاب الجناية زجرا عن انتهاك حرمة النفس. وصيانة حياتها قبل ارتكاب الجريمة» فإن الله تعالى شرعه زاجرا عن مباشرة القتل فى قوله تعالى: ظ ولَكُم في القصاص حياة2"74. وانتهاك حرمتها إنما يحصل با لا تطيق النفس احتماله» ولا تبقى معهء لأنها إذا أتلفت بذلك فقد انتهكت . 1١/9 : أصول فخر الإسلام البزدوى ج” ص5١ . (0) البقرة‎ )١( حرمتهاء وإنه يذكر ما يفيد أن القتل بآلة غليظة لا تجرح أفتك فى القتل من مباشرته بآلة تجرحء فيقول: القتل بحجر الرحا والأسطوانة العظيمة مثلا أكمل فى الحناية من الجرح» لأن مالا تطيق النفس احتماله مزهق للروح بنفسه؛ء والفعل الجارح مزهق للروح بالجراحة» فالجرح وسيلة يتوصل بها إلى إزهاق الروح» وما يكون عاملا بنفسه أبلغ ثما يكون عاملا بالسراية» ولما كان هذا أتّم فى المعنى المعتبر» وهو عدم احتمال البنية» يثبت فيه الحكم بالدلالة» كما فى الضرب مع التأفيف» وكما يثبت فى القتل بالرمح والسكين27 , 8- وفى الحق أن الخلاف فى هذه المسألة لا يمكن أن يبنى على دلالة النص من الحديث: «لا قود إلا بالسيف» فإن الاختلاف فى فهم العبارة من دلالة النص على ذلك النحو يدل على أن المعنى لا يفهم من النص بطريق التبادرء كفهم المعنى من اللفظ يمجرد ذكرها. وإلا ما كان ذلك الاختلاف» وإنما الخلاف فى هذه القضية مبنى على اعتبار الشبهة فى تغير الآلة» وكونها فى ذاتها لم توضع للقتل» فأبو حنيفة اعتبر القتل بآلة غير حادة فيه شبهة» ولا يثبت القصاص مع الشبهة» كما لا يثبت الحد مع الشبهة وذلك لأن النص «(لا قود إلا بالسيف»», فيه ما يومئ إلى أن القتل الموجب للقود يجب أن يكون بما يشبه السيفء فكان هذا دليلا على سقوط القصاص فى القتل بغيره» ولكنه يجعل القتل بغيره موضع شبهة فى إمكان القود فيه. والجمهور لم يلتفت إلى الآلة ما دام قصد القتل متوافرا ثابتاء فلا شبهة حينئذ» ولا فرق بين الضرب برحى تقتل لا محالة؛ والضرب بالسيف. - والمقتضى لا يدل بذاته إنما يدل بالنظم الذى اقتضامء فإنه حينئذ» قد يدل على العقوية أو إسقاطهاء فقوله يَكيْة:ْ «رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»؛. يدل على أن عقوبة القود مرفوعة عن القتل الخطأء وبعبارة عامة عقوبة القصاص تكون مرفوعة عن القتل الخطأء لأن القصد غير متوافر» إذ قصد الإثم غير موجودء وما دام قصد الإثم غير موجود لعدم اعتبار الشارع ذلك الفعل إثما بدلالة الاقتضاء فلا قصاص أيضاء وكذلك يرفع إثم الفعل الذى أكره عليه الشخص إذا كان الفعل نتيجة إكراه» فإذا أكرهت امرأة على الزنى لا تعد زانية» ويرفع عنها إثم الزنى» ويكون المكره - عليه إثمها وإثمه» وتكون عليه العقوبة وحده ولا عقوبة عليها فى الدنيا ولا فى الآخرة» ونرى من هذا أن دلالة الاقتضاء أسقطت العقوبة عن المخطئ والمكره. وإنه إذا كان الإكراه ملجئا فإن جرائم الأفعال من المكره غير معتبرة» ويسند الفعل إلى من أكرههء فمن أكره امرأته على الزنى كان عليه إثم الزنى» وإن لم يكن هو الذى )١(‏ كشف الأسرار ج؟ ص/01497. 02 باشره» ومن أكره رجلا على سرقة كان هو الذى عليه إثم السرقة وإن لم يكن هو السارق» ومن أكره رجلا على أن ينضم إلى عصابة تقطع الطريق» كان عليه إثم قاطع الطريق» ويكون المكره فى كل هذه الجرائم عليه عقوبة شديدة زاجرة» وإن لم تكن هى ' ذات الحد الذى يقع على مرتكب هذه الجرائم» بل عقوبته تكون تعزيرية» ويجب أن تكون غليظة تتناسب مع جرمهء وإذا كثر منه الفساد على ذلك» وانتشر فساده فإنه يكون لولى الأمر أو للقاضى أن يعزره بالقتل على ما سنبين إن شاء الله تعالى عند الكلام فى العقوبة . دلالة المفهوم -0١‏ الدلالات السابقة كانت من الألفاظ. وإن لم تؤخذ من معانى الألفاظ ذاتهاء فهى مأخوذة من معانيها إما بطريق الملازمة كالإشارة» وإما عن طريق المساواة الواضحة البينة الجليةء أو الأولوية الظاهرة البينة» كما فى دلالة النص» وإما لآن استقامة الكلام اقتضت تقدير هذا المعنى» فصر المقدر واللفظ نفسه متلاقيين فى أداء المعنى أداء مستقيماء وهذا هو دلالة الاقتضاءء وفى المجمل كل هذه الدلالات إما من اللفظء وإما أن تكون موافقة لدلالة اللفظ أو لازمة له» أو متعاونة فى تحقيق معنامهء ولا تكون مضادة بين هذه الدلالات» ودلالة الألفاظ بمنطوقهاء إذ هى إما من المنطوق وإما لازمةء وإما مساوية» وإما مقارنة. ولكن هناك دلالة أخرى ليست من هذا النوع» بل هى دلالته على نقيض حكمه أو خلافه بشكل عام» وتسمى دلالة المفهوم . أو بعبارة أسلم وأدق تسمى دلالة مفهوم المخالفة» لأن بعض العلماء يسمى دلالة النص دلالة مفهوم . ولكنه يسميها دلالة مفهوم الموافقة» ويقابلها هذه وتسمى مفهوم المخالفة . دلالة مفهوم الخالفة : 5- يعرفها الأصوليون بأنها إثبات نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه إذا قيد الكلام بقيد يجعل الحكم مقصودا بهذا القيدء فإن النص يدل بمنطوقه على الحكم المنخصوص عليه. ويدل بالمفهو م المخالف عكسه فى غير موضع القيدء فإذا كان النص مفيدا الحل» فإنه بمفهومه يفيد لحري م إذا لم يكن القيد» فمثلا قوله تعالى: «ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المخصنات الْمؤمنات فمن ما ملكت أَيْمانَكُم من فَتَاَكُم المؤمنات 2274 . فهذا النص يفيد بمنطوقه حل الإماء فى حال عدم استطاعة الزواج من الحرة» ويفيل بمفهومه تحرد م الزواج من الأمة فى حال استطاعة الحرة» وكذلك قوله )١(‏ النساء : ه "٠ تعالى: ف حرمت عَلَيِكم الْميْنَهُ والدم وحم الخنزير وما أُهلَ غير الله به 2١7‏ فهذا النص أفاد أن ما ذبح مقترنا باسم غير الله كالصنم ونحوه فهو حرام. ويفيد بمفهومه أن ما ذبح ولم يذكر فيه اسم الله فهو حلال» وهكذا نجد المنطوق يفيد الحكم فى حال معينة مقيدة بأمر من الأمور ونجد أنه يستفاد من هذا النص نقيض الحكم . 191- ومفهوم المخالفة لم يعتبره الحنفية طريقا من طرق التفسير فى النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والآثار السلفية» وبعبارة عامة لم يعتبروه طريقا من طرق فهم الأحكام من النصوص»ء واستدلوا لذلك بأدلة. أولها : أن النصوص الشرعية الكثيرة واردة بما يدل على فساد القول لو أخذ بالمفهوم» من ذلك قوله تعالى: إن عدّة الشهور عند الله اننا عَشَرٌ شهرا في كتاب الله يوم . خَلق السّموات والأرض منها أَربعة حرم ذلك الدين الْقَيّم فلا تَظلموا فيهن أُنفسكم274. فلو أخذ بمفهوم المخالفة فى هذا الموضع لكان مؤدى الكلام أن الظلم حرام فى الأشهر الحرم» وغير حرام فيما عداهاء ومع أنه من المقرر الثابت الذى لا مجال للشك فيه أن الظلم حرام فى كل الأوقات» وهو حرام بمقتضى النصوصء وبمقتضى الفطرة البشرية» وقد جاءت الأديان لمنع الظلم» ولإقامة الحق. ومنها قوله تعالى: 9 ولا تَقُوآن لشيء إِنّي فاعل ذلك غَدا 20 إِلاّ أن يشَاء الله 74©. فالنهى عن أن يقول إنى فاعل إلا أن يقول إن شاء الله هنا مقيد بأن فعله فى الغدء مع أن النهى عن ذلك ثابت فى كل الأوقات» ولو أخذ بمفهوم المخالفة لكان يباح للشخص أن يقول إنى فاعل ذلك بعد شهر من غير أن يقول إن شاء الله ومنها أن النبى يلد قال: «لا يبولن أحد فى الماء الدائم» ولا يغتسلن فيه من الحنابة» فإنه بمنطوقه يفيد النهى عن البول فى الماء الساكن» والنهى عن الاغتسال فيه من الحناية. ويفيد بمفهومه حل الاغتسال بغير الجنابة منه» وحل البول فى غيره» والحق غير ذلك» فالبول فى الماء منهى عنه». والاغتسال فى الماء الراكد منهى عنه. سواء أكان من الجناية أم من غيرها. وإذا كانت النصوص الكثيرة يؤدى الأخذ فيها إلى معنى فاسد يناقض المقررات الشرعيةء فإن ذلك يدل على أن أسلوب القرآن والحديث لا يتسع لفهم الأحكام بهذه الطريقة»وفى ذلك فإن هذه الكثشرة تدل على احتمال دلالة النص بمفهومه على الضدء وتحتمل عدم دلالته» وعند الاحتمال على هذا النحو يكون الاعتماد فى الفهم على القرائن لا على أصل مفهوم المخالفة» وعلى ذلك لا يعد وحده طريقا من طرق التفسير. 2.55 2 5" : المائدة : "” . (؟) التوبة: 5” . (9) الكهف‎ )١( "1١ ثانيها : أن الأوصاف تذكر أحيانا لتقييد الحكمء وأحيانا للتنفير من الأمر وأحيانا للترغيب» وهكذاء فمثلا قوله تعالى فى المحرمات: «إ وأُمَهَات نسائكم وربائبكم اللأتي في حجوركم من نسائكم اللأتي دخلتم بهن فَإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم 104" . فهنا وصفان: أحدهما كون الربائب فى الحجورء والثانى كون الأم مدخولا بهاء أما الأخير فإنه بلا شك فيه تيد للحكم إذا تخاف كات امل ولكن هذا لم يثبت من والوصف الأول لا يمكن أن يؤخد بمفهوم مخالفته. لأن يكن الحل إذا لم : تكن الربيية فى حجره وذلك خلاف الإجماع» ولم يشذ عنه إلا ابن حزم الظاهرى». ولا يلتهفت إلى خلاقه). والوصف هنا الغرض منه التنفير من التزوج من الربيبة» وهو وصف غالب» لآنه فى الغالب تكون الربيبة فى حجر زوج أمها. ثالثها : أن الأحكام الشرعية فى نظر جمهور الفقهاء خلافا لمنافاة القياس معللة. الحكم المقيد دائما خخاليا من الحكمء لأنه قد يكون مما تتحقق فيه علة الحكمء فيكون من العبث أن يثبت فيه حكم بالنص يخالف ما تقتضيه علة هذا النص. 4- هذا نظر الحنفية» ومن مقتضاه آلا يحكم بمفهوم المخالفة فى النصوص مطلقاء بل يؤخذ بالدلالة المشتقة من المنطوق». أوالمتلاقية مع حكم المنطوق لا المخالفة له وعلى ذلك لا تفهم أحكام العقوبات الإسلامية بمفهوم المخالفة قط عند الحنفية» فمثلا قوله تعالى فى آية القصاص: 8 الْحر بالحر والْعبد بالْعبد والأنتئ بالأنفئ 204 لا يؤخذ بمفهومه المخالفء. لأن مؤدى هذا المفهوم ألا يقتل العبد بالحرء ولا الحر بالعبد» ولا الرجل بالآنشى ولا الأنثى بالرجل» ذلك غير صحيح» » بل النفس بالنفس إن هلكت» والعموم مفهوم من قوله تعالى: وكتبنا عليهم فيها أن الثفس بالتفس والعين بالعين 47 . .. إلخ» وقوله تعالى: «إمن أجل ذلك كبا علئ بني إسرائيل أَنَّهِ من قََل نفسا بغير نفس أَوَ فَسَاد في الأرض فَكَأَنَما قعل الئاس جَميعا 04 . إلى آخر النصوص . وإن نظر الحنفية فى هذا بلا شك سليم»ء وهذا احقياط حسن فى استخراج الأحكام من النصوص الدينية من كتاب وسنة» وخصوصا فيما يتعلق بالعقوبات. 65- ولقد نظر الشافعية والمالكية وبعض الحنابلة نظرا آخرء فقالوا إن التقييد بقيد لابد أن يكون لسبب» وذلك السبب إذا لم يثبت أنه للترغيب» ولا الترهيب» ولا 379/4 : النساء : 5 . (؟) النساء :537 . () البقرة‎ )١( ” : المائدة : 56 . (6) المائدة‎ )5( لأى مقصد بيانى آخرء فإنه يكون بلا شك لتقييد الحكم بحاله وحده لا يتجاوز إلى غيره» وذلك النص المقيد قد استفيد منه إيجاب وسلب» إيجاب يذكر الحكم فى موضع المنطوق». وسلب يسلبه فى غير المنطوق» والحكم إما حل وإما جرمة» فإن كان الحل مقيدا بهذا القيدء فإذا تخلف القيد يكون التحريمء وإذا كان الحكم بالمنطوق يفيد التحريم مع القيدء فإذا ذهب القيذ كان الإحلال» بمقتضى ما أفاده من سلب وإيجاب. ويستدل الشافعية لذلك بأنه هوالذى يتفق مع المنطق البيانى السليم» لأن الوصف أو الشرط أو الغاية» لا يمكن أن يكون لغير سبب باعث وإلا كان عيثاء وإذا انتفت المقاصد البيانية الأخرى من تنفير أو ترغيب أو نحوهماء لم يبق إلا تقييد محل الحكم بهذا القيدء فيكون الحكم بالسلب والإيجاب معا كما قررناءوإلا لم يكن للوصف من سبب . ذلك إذا لم يكن فى المحل دليل آخر. واستدلوا أيضا بأن بعض الأنصار فهم من قول النبى يلْةِ: «الماء بالماء» أى أن الاغتسال من الجنابة لا يكون بمجرد مواراة الحشفة» بل لابد من الإنزال» وإن ذلك بلا شك أخذ بمفهوم المخالفة» وأيضا قوله يلد «فى السائمة زكاة» فهم أن كل ماشية ليسبت سائمة - ترعى فى كلا مباح - لا يكون فيها الزكاة بهذا النص. خلافا لمالك الذى قال: (إن المعلوفة أيضا تجب فيها الزكاة» . كما استدلوا بما أجمع عليه الفقهاء من أن إباحة الزواج بالاماء مشروط بعدم القدرة على الزواج من الحرائر بقوله تعالى: 9 ومن لم يستطع منكم طولاً أن يتكح المحضتات الْمؤمنات فمن ما ملكت أيْمَانَكُم من فتَياتكم الْمُؤّمنَات 2١74‏ فدل هذا على أن الأخذ بمفهوم المخالفة أمر مقرر ثابت» وإلا كانت الأمة يجوز زواجها فى كل حال باعتبارها امرأة لا يقوم بها سبب من أسباب التحريم» وبمقتضى قوله تعالى: #وأحل لكم ما وراء ذلكم» . 57- ويشترط الذين أخذوا بمفهوم المخالفة ألا يكون للقيد الذى قيد به الكلام فائدة أخرى كالتنفير أوالترغيب كما بينا فى قوله تعالى : ط اللأتي في حجوركم من نُسائكم اللأتي دحتم بهن 4 » ومن ذلك قوله تعالئ: «ايا يها لين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مُضاعفَة 204 فإن الوصف هنا ليس للتقييد فى حمل الحكمء ولكنه لبيان مغبة الربا ومساوئه . ويشترطون أيضا آلا يقوم دليل خاص فى المحل الذى يثبت فيه مفهوم المخالفة دليل آخر مثبت من نص أو ما فى حكمه كما فى قوله تعالى: «[ الحر بالحر والعبد .١٠ : النساء : 56 . (5) آل عمران‎ )١( 1؟ الْعبد والأنتى أن فقد نبت القصاص بقثل اليد بالحرء والقصاص بقتل الرجل بالمرأة من ن أدلة أحرى والمفهومات أفاء كثيرة» منها مفهوم اللقب» ومفهوم الوصف؛ ومفهوم الشرط. ومفهوم الغاية» ومفهوم العدد. مفهوم اللقب ؛ موضع التص منفيا فيما عداء» وثالا محف قل ل 0 الو الواجد للم يحل عقوبته»» أى أن مطل الغنى القادر على أداء الدين ظلم يسوغ العقاب. فقالوا إنه يفهم من هذا أن لى غير القادر لا يعد ظلما ولا يسوغ العقاب» وإن هذا يؤخل بمفهوم المخالفة,» فالمنطوق أفاد العقاب. والمفهوم نفاه فى غير موضع العقاب. ومن ذلك أيضا قوله عليه الصلاة والسلام: «فى السائمة الزكاة» فإن هذا يفيد بمنطوقه وجوب إعطاء زكاة السائمة» والمخالفة نفى الوجوب. وفى الحق أن الأخذ بمفهوم اللقب لم يأخذ به إلا بعض الأصوليين من الحنابلة» وليس لهم نظر سليم فى ذلكء والأمثلة التى تساق فى هذا لا تدل على الأخذ بالمفهوم بل تدل على الوجوب فى موضع. وغيره مسكوت عنه» ولا وجوب إلا فى موضع النص» وما يقاس عليه» فوجوب العقوبة فى مطل الغنى» يجعل النص مقصورا عليه» فغير الغنى مسكوت عنهء وقد نص عليه القرآن الكريم بقوله: «وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة 374 , مفهوم الوصف : 4- هو أن يثبت الحكم بالمنطوق المقيد بالوصف بما جاء به اللفظء وأن يثبت النقيض إذا تخلف الوصف؛. ومن ذلك قوله تعالى: رن لم يستطع نكم طولا أن ينكح المحصنات الْمُؤْمنات فمن ما ملكت أَيْمَاَكُم من نياكم الْمَؤمنّات 04" فقد فهم من هذا أن نكاح الإماء يجوز إذا لم يستطع الحرةء وقد قيدت بأن تكون مؤمنة. وعلى ذلك لا يحل زواج الأمة الكتابية» وعلى هذا النظر الشافعى وكثير من الفقهاء» إذ يرون أن الأمة لا يجوز الزواج منها إلا إذا كانت مسلمة» ولكن لحية لم ادها بشهر, المخالفة هذاء واعتبروا قوله تعالى: © وأحل لَكُم ما وراء ذلَكُم أن تبتَغُوا بأموالكم مُحصنين غير مسافحين 204 فإن هذا الحل العام الثابت باللفظ الصريح لا يقيده مفهوم. 4 : البقرة : م7 . (5) النساء : 736 . (9) النساء‎ )١( مفهوم الشرط : 584 - هو ثبوت نقيض الحكم المعلتٍ على شرط أو المقترن بشرط عند عدم وجود الشرط» مثل قوله تعالى: «إوإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتّى يضعن حَمَلَهِنَ 2074, فإن هذا النص يفهم أن الإنفاق على المعتدة المطلقة مقيد بما إذا كانت حاملاء فإذا لم تكن حاملاء فإنه لا نفقة لهاء وبذلك قال الشافعى الذى يأخذ بمفهوم المخالفة فى الشرطء فلا تجب عنده إلا نفقة المعتدة من طلاق رجعى أو المعتدة من الحمل» ولكن الحنفية خالفوا فى ذلك» وقالوا إن نفقة المعتدة من طلاق تجب دائما إلا إذا أأسقطتها “الزوجة بإبرائه من حق المطالبة بهاء وقد أخذوا فى ذلك بعموم قوله تعالى: «ل لينفق ذو سعة مَن سعته ومن قُدرَ عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله 9 . مفهوم الغاية : ا هو ثبوت نقيض الحكم المقيد بغاية فيما بعد الغايةء, فمثلا ظاهر قوله تعالى : © وقاتلوهم حتَئ لا تكون فتنة ويَكُونَ الدين لله إن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين +32 74". يستفاد منه أن القتال أبيح لغاية» وهى منع الفتنة فى الدين» وأن يكون الناس أحرارا فى اختيار الدين الذى يرتضون.ء فإذا ذهبت الفتنة فى الدين وانتهت فقد انتهت الإباحة» ومن ذلك أيضا قوله تعالى : «١‏ فَإِن طَلَقَهَا فلا تحل لَه من بعد حتّى تدكح روجا غير 240 فإن هذا النص يستفاد منه أن تحريم المطلقة ثلاثا له غاية ينتهى عندهاء وهو أن تتزوج زوجا غيره.ء فإذا أحدثت الغاية كان الحل» والشافعية يأخحذون بهذا المفهوم . ولكن الحنفية ومعهم بعض بعض الفقهاء لا يأخذون به» ويقولون فى آية الطلاق إن الحل هو الأصل لصلاحية المرأة للعقدء ولكن التحريم كان مؤقتا بوقت» فيستمر ذلك التحريم العارض ما بقى القيدء فإن زال عاد الحل كما كان أولا. وكذلك فى آية الحرب, المنع هو الأصل» والإباحة لمنع الفتنة. مفهوم العدد : --١‏ وهو ثبوت نقيض الحكم المقيد بعدد عند عدم توافر هذا العددء مثال قوله تعالى فى شأن الزانيين: فاجلدوا كل واحد مَنهِمًا مائةَ جلّدة 4( “4 فإن هذا الحد أوجب الضرب ماتةء فالزيادة لا تحل» وكذلك النقص إلا أن تكون الزيادة فى نظير جرم آخرء . 1١91" : الطلاق :5 . (0) الطلاق : ل . () البقرة‎ )٠١( ” : البقرة :1 0" . (5) النور‎ )5( "16 وكذلك جاء النص » بتقدير عقوبة القذف بثمانين جلدة» فلا يصح لأحد أن يتجاوزهاء ولا أن ينقص ما دام ذلك حدا من .حدود الله وإن هذا المنع ليس إلا أخذا بمفهوم المخالفة إذ كانت العقوبة هى هذا القدر المقدر الذى لا يقبل الزيادة» ولا يقبل النقصان. والحنفية لا يعتبرون ذلك من الأخحذ بمفهوم المخالفةء إنما هو من قبيل التقدير بالعدد نفسهء فإذا كانت كفارة الظهار مثلا صيام ستين يوما متتابعة. فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا فإنه لا يكون آتيا بالكفارة من ينقص» وما يزيد لا يكون منهاء والزيادة هنا تجور؟ لأنها تطوع والصيام والصدقة يقبلانه» وأما فى العقوبة فالزيادة ظلمء والنقص إهمال لبعض الحد الذى حده الله سبحانه وتعالى» وجعله حقا له سبحانه وتعالى» فالزيادة إذن اعتداء على خق العبد والنقص اعتداء على حق الله تعالى» فليس فى الموضوع مفهوم مخالفة» إنما فيه النص فى الموضوع. 7١‏ وإنا لا تجد فى الأمثلة التى ساقها الذين أخذوا بالمفهوم المخالف عقوبة تقررت بالمفهوم المخالف قطء بأن يكون النص المقيد دالا على عدم العقاب فى حال وجود القيد» وكان مفهوم المخالفة موجيا عقاباءوإن ذلك غير متصورء لأن العقوبات المنصوص عليها فى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة عقوبات مقدرة» والعقوبات المقدرة لا يمكن أن يؤخذ فيها بمفهوم المخالفة. العقوبات» وإن الجرائم من حيث كونها معاصى قد جاء النهى عنها صريحا ومكررا فى أحوال كثيرة» وفى مواضع كثيرة من القرآن والسنة. وما كانت لتحارب الانحرافات الإنسانية بلحن القول وإشارته» بل إنها تحاربها صريحة» لكيلا تكون معذرة لمرتكب. القياس فى ا لعقويات *0”- تكلمنا فى القياس باعتباره أصلا من أصول الاستدلال»ومرجعا من مراجع الاستنباط» وطريقا من طرق فهم المصدرين الأصلين الكتاب والسنة» ولكن لم نتكلم فيه باعتباره طريقا لتقرير العقوبات الإسلامية» ولذلك :حاول أن نذكر جنبا من ذلك فى هذا الموضوع من القول: إن العقوبات الإسلامية قسمان: عقوبات مقدرة» وعقوبات غير مقدرة» ولكل طريق تعسرف بهء وقد بينا هذا التقسيم من قبل» فالعقوبات المقدرة وهى الحدود والقصاص لا يمكن أن تثبت إلا بالنص » فالحدود كلها قد بينت» والقصاص كله قد بين سواء أكان قصاصا فى الصورة والمعنى» أم كان قصاصا بالمعنى فقط . ولذلك قرر الفقهاء من الحنفية أن الحدود لا تثبت قط بالقياس» فلا تقاس جريمة على أخرى من جرائم الحدودء ويثبت فيها الحد بقياس جريمة على جريمة. وقالوا إن اللا الشافعى خالف ذلك فآثبت الحدود والكفارات بالقياس» وقد قال فى ذلك الشيخ البردوى.: صاحب كشف الأسرار: إثبات الحدود والكفارات بالقياس لا يجوز عندناء» وعند الشافعى رحمه الله تعالى يجوز؛ لأن القياس من دلائل الشرع» فيجوز أن تثبت به الحدود والكفارات» كما تنبت بالكتاب والسنة» لأن الدلائل التى قامت على صحة القياس لا تفصل بين موضع وموضع» فصح استعماله فى كل موضع إلى أن يمنع مانع. هذه أدلة الشافعية وتقرير كلامهم. أما الحنفية فقد ساقوا أدلة فى منع ثبوت العقوبة المقدرة بالقياس: أولها : أن الحدود شرعت عقوبة حقا لله تعالى» أو عقوبة على جناية محدودة.» وفيها معنى الزجر العام» وهى مقدرات شرعية» والمقدرات الشرعية لا يدخلها القياس» إذ إن التقديرات أمر لا يعرف إلا من الشارع الذى قدرهء فإذا كان الشارع قدر ثمانين جلدة عقوبة لجريمة معينة» فليس لأحد أن يقيس على هذه الجريمةء ويعطيها ذلك العدد الذى قدره الشارع؛ فلا تقاس جريمة اللواط على جريمة الزنى» ولا جريمة الرمى بها على الرمى بالزنى» ولا جريمة الاغتصاب على جريمة السرقة» وهكذا. ومثل الحدود فى ذلك الكفارات. ثانيها : أن معرفة العلة التى من أجلها كان الحكم فى الأصل وتمييزها من بين سائر الأوصاف لا يعرف على وجه اليقين» ولذا اختلف الفقهاء فى المسائل التى تثبت بالقياس اختلافا بعيداء وكثر الاخحتلاف فيهاء وإذا كان تمييز العلة من بين سائر الأوصاف غير ممكن على وجه الجزم إلا إذا كانت ثابتة بنص أو إجماعء فإنه يكون ثبوت التشابه بين الجريمة المقيسة والأصل المقيس عليه فيه شبهة» والنبى يَليْةٌ يقول: «ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم»» وإذا كان كذلك لا يشبت الحد بالقياس» والشبهة ليست فى أصل الدليل حتى يمكن قبولهاء إنما الشبهة فى أصل ثبوت المعنى الموجب للعقاب فى الجريمة الملحقة بجريمة الحدد المنصوص عليها. ثالثها : أن القياس استنباط بالرأى» والاستنباط بالرأى لا يدخل فى نطاقه حقوق الله تعالى» لأنه سبحانه هو الذى يبين حدوده ومداها وما تنطبق عليه» وهذه العقوبات فيها شدة. ولا يصح ثبوتها باراء العباد» وإلا وجد الظالمون من الولاة والحكام بابا لنشر مظالمهم باسم القياس على حدود الله تعالى» والله برىء منهم ومن أحكامهم. وإن فتح باب القياس عليها ينافى المعانى التى خصها سبحانه وتعالى بالذكر. -7٠ 4‏ هذه هى جرائم الحدود لا يصح القياس عليهاء أما العقوبات غير الحدود فيصح أن تكون الحدود ميزانا ضابطا للعقوبات التى تكون فى جريمة تشابهها بمعنى أن /1؟ العقوبة لا تزيد عليهاء ولا تساويهاء لكيلا يكون الحد فى غير جريمته» فالغصب يعاقب عليه» ولكن بعقوبة لا تكون كعقوبة السرقة» والسب يعاقب بعقوبة من جنس عقوبة القذف. ولكن لا تمائلها تماما من كل الوجوه. وهكذاء تتجانس العقوبة فى الجرائم التى تشبه جرائم الحدود من غير أن تثبت الحدود نفسهاء فإن الحدود وإن منع القياس فى جرائمها وفى عقوبتها يصح أن تكون أعلاما مرشدة لنوع العقاب فى هذا النوع من الجرائم. وليس هذا من معنى القياس فى شىء» وإن كان منه فليس فيه قياس جريمة على جريمة» ولا عقوبة على عقوبة» وإعطاء المقيس حكم المقيس عليه» ولكنه استرشاد من غير أن يتجاوز العبد حقه فى فرض حد من حدود الله فى غير موضع هذا لحد. -٠7 ٠‏ والجرائم التعزيرية يبين الإمام عقوبتهاء وكونها جريمة معروف بالقواعد العامة من الشرع الشريف» وقد بينا مقاصد الشارع العامة. وفى النصوص القرآئية والأحاديث النبوية بيان للمحرمات التى نهى الله عنها نهيا عاما ونهيا خاصا حتى لا يجد القارئ لهما معصية تضر إلا كان النص عليها من هذين الأصلين إما بعمومء وإما بخصوص . وإنما على ولى الأمر أن يضع عقوبة مناسبة للزمان والمكان لهذه المعاصى» وليس له أن يخترع معصية لم يجئ بأصلها كتاب أو سنة» إنما عليه أن يضع العقوبات الرادعة مسترشدا فى ذلك بهدى النبى يِه وما يراه مناسبا لزمانه» من غير أن يتجاوز الحدود الشرعية» إلا أن يكون فساد عام» فإنه يضع من الزواجر ما يمنعه» والتعزير أحيانا يصل إلى القتل . وقد يفرض التعزير إلى القاضى المجتهد أو إلى جماعة من القضة المجتهدين» وهؤلاء بلا شك بين أيديهم القياس يقيسون ما وسعهم الاجتهاد أن يقيسواء وقد أمر بذلك عمر بن الخطاب أبا موسى الأشعرى فى كتابه الذى يعد بحق دستور القضاء العادل.» فقد قال رضى الله عنه: «قس الأشباه والأمثال»» فالقاضى المجتهد له هذا القياس بلا خوف إذا فوض إليه ولى الأمر فى ذلك من غير أن يحد له العقوبات» فهو يقيس الجرائم بعضها على بعض» ويقيس العقوبات بعضها على بعض» ليتحقق العدل. ويستقيم الناس» ولا يتوهمن متوهم أن القاضى بقياسه يحرم فعلا لم يرد من الشارع ما يدل على أنه جريمة» لأن القاضى لا يقرر أن أمرا معينا معصيةء والشارع سلكه فى سلك المباحء وإنما القاضى يجىء إلى بعض المعاصى التى لم يرد عن الشارع عقاب فيهاء فيضع عليها عقوبة بتفويض من ولى الأمر» فالقياس لا يخلق جريمة» ولكنه يلحق عقوبة جريمة بجريمة أخرى فى عقوبتها. "1 حدود النصوص المقررة الثابتة» وإنه من الواجب أن نبين الحدود التى رسمت له بحيث لا يخرج عنها فيما يسن من هذه القوانين التى تفرض بها العقوبات على المعاصى» وإن هذا له بلا شك مقامه وخطره» ولذا نفرد له فصلا قائما بذاته . حدود ولى الأمر فى العقوبات التى يضعها 7" قلنا إن ولى الأمر ليس له أن يبتدع جريمة» كجريمة سب الملك أو الطعن فى ذاته» أو نحو ذلك» وقد هدد عمر بن عبد العزيز من هم بقتل من سبه بأنه يقتص له منه إن قتله» وكان على بن أبى طالب يسمع الطعن فى حكمه وهو على المنبر» فلا يعاقب أحذدا ممن طعنوا فى حكمه» وعمر بن الخطاب كان يجابه وهو على المنبر تمن يشك فى أمر من الأمور بالامتناع عن السمع والطاعة حتى يبين عمر وجه العدالة فيما فعل. وهكذاء فليس من المعاصى ما يسمى مخالفة الحاكم إذا كان الأمر فى معصية» وإذا قال النبى يَككلة: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» وقد قال النبى كَل : «لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق» وليس من الجرائم الطعن فى ذات الحاكم إلا إذا كان سبا فيكون فيه كسائر الناس . وعلى ذلك يجب أن تكون العقوبات التى يقررها على المعاصى المقررة فى الإسلام» وقد يقول قائل إنه قد يقيد المباحات لمصلحة الكافة كالتسعير أحياناء فإنه ليس إلا تقييدا لمباح شرعى» وهو البيع والشراء بالثمن الذى يقدره البائع» وإن لذلك القول مكانه فى الظاهرء والحقيقة أن ولى الأمر عندما توجب المصلحة عليه أن يقيد أمرا كان فى أصله مباحا هو فى الحقيقة لا يعد مباحاء لأن موضوع التقييد فى هذه الحال لا يكون من المباحات» إذ إن الشىء الواحد لا يمكن أن يكون مباحا فى كل الأحوال وفى كل الأزمان» فالأكل مثلا واجب بمقدار ما يسد الرمق» والمشى مباح فى ذاتهء ولكنه للسعى إلى صلاة الجمعة فى المسجد يكون واجبا؛ لأن مالا يتحقق الواجب إلا به يكون ' واجباء وهكذا فالتسعير عندما يتعين على ولى الأمر أن يفرضهء ويعاقب من يخرج عليه لا يعاقب حينئذ على مباحء إنما يعاقب على محرمء إذ إن إطلاق حرية البيع فى الأزمات يؤدى إلى غلاء الأقوات غلاء غير مطلق» لا يستطيع احتماله الفقير» و على الغنى» وقد يؤدى إلى جوع الفقراءء وذلك حرام» فما يؤدى إليه حرام» فيكون التسعير واجباء والإطلاق حراماء ويعاقب ولى الأمر من ارتكب حراماء فيكون العقاب على معصية لا على مباح» إذ وصف الإباحة قد زال عنه. وهكذا يكون عقابه على كل فساد» أوما يؤدى إلى فساد. -٠‏ وإن ثمة فيصلا فارقا بين حكم الحاكم المستمد من ينبوع الشرع» وحكم الحاكم الخارج عليه» وذلك الفيصل الفارق هو حكم الهوى» وحكم الشرع والء ‏ احلىق فإنَ كان الباعث على ما يسن من عقوبات هو الهوى؛ فهو حكم غير شرعي . وإن كان الباعث عليه مصلحة حقيقية من المصالح المعتبرة فى الإسلام التى لا تخالف نصا من نصوصه فهو حكم الشرع الذى يجب اتباعه» ولسنا نقصد من الهوى هوئ ولى الأمر حده. بل نقصد بالهوى ما يعم هوى ولى الأمر شخصياء وما يتعلق به الناس غير ملاحظ الحقائو تق الشرعية كأن يتملقهم بإسقاط حد من حدود الله تعالى» وهوى رجال الشورى الذى يرون تر- جيح ما يكون فيه مصالحهم الشخصية» وهوى الدهماء من الناس الذين لا يرعون حقوق الله وهوى أهل الشهوات الجامحة الذين خلعوا الربقة» وجانبوا كل فضيلة تحت أى لون من الألوان» وتحت أى اسم من الأسماء. وإن ذلك المقياس الضابط لم نيتدعه ابتداعاء بل أخذناه من نصوض القرآن الكريم والحديث النبوى الشريفء فقد قال تعالىٍ لداود مبينا له حدود سلطانه فى الحكم : «إيا داوود إن َعلناك خليقة في الأرض فَاحكُم بين النّاس بالْحقّ ولا تع الهو فيَضْلّك عن سبيل الله 274 . وقال تعالى لنبيه مصبينا له أيضا حدود السلطان العادل: «ثم جعلناك علئ شريعة من الأمر فَائبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون اه (2> إِنَّهُم أن يغنوا عنك من الله شيعا وإ الظالمين بعضهم أوليَاء بعض واللّه ولي الْمثّفِين 52 2204 . وقد روى البيهقى عن رسول الله كَللٍِ أنه قال: «ثلاث منجيات وثلاث مهلكات» فأما المنجيات فتقوى الله فى السر والعلنء والقول بالحق فى الرضا والسخط» والقصد فى الغنى والفقرء وأما المهلكات فهوى متبع »وشح مطاعء وإعجاب المرء بنفسهء وهى ' أشدهن» . وإن هذا الحديث. وتلك الآيات قبله توضح بجلاء أن الفيصل الفارق بين حكم القرآن» وجور السلطان هو الهوى والعدل» فإن كان العدل فهو حكم اللهء وإن كان الباعث الهوى سواء أكان هوى الحاكم أم هوى من حوله ومشيريه أم هوى أهل الفسادء فهو الظلم الجائرء وأشد ذرائع حكم الهوى إعجاب الحاكم برأيه» وتزيين المادحين الكاذبين له كل ما يقول» إن خيراء وإن شرا. 4-- وإن السبيل لأن يجانب ولى الأمر حكم الهوى هو أن يتعرف حكم الله ورسوله فى الأمر قبل أن يتجه فيه إلى أى اتجاه كان. فإن أهل الأهواء يتبعون أهواءهم وأهل الحق يتعرفرن قبل كل شىء حكم شرعهم. ولقد وصف الله تعالى الفريقين بقوله تعالى : «( ويقولون آمنا باللَه وبالرّسول وأطعنا نم يو فريق مَنْهُم من بعد ذلك وما أوليك بالمؤمنين 20> وإِذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم ب بينهم إذا فريق منهم معرضون +(22> وإن (0) اص 75١6١1١‏ . (؟) الجائية : 2238 1١9‏ . 50 يكن لَهُم الحق يأو ليه مذعبين ج(55> أفي قلوبهم مُرض أم اربوا م يَحَاهُونَ أن يحيف الله لهم ورَسوله بل أولتك هم الظّالمون رج إِنّمَا كان قول الْمؤمنين إذا دعوا إِلَى الله ورسوله ليحكم بيتهم أن يقولوا سمعنا وأَطَعنا وأولتك هم المقلحون 7ج 174" . وقد يدعى الذين ينحرفون عن أحكام القرآن والسنة من الولاة والحكام ومن حولهم» ومن يزين لهم ما يفعلون - أن ما يفعلونه هو المصلحة لا الهوى». وإن ذلك يجرى على ألسنة الظالمين دائماء وتجىء تلك الكلمة يبررون بها ما يرتكبون من مظالم يفرضونها على أنها عقوبة شرعية» لا يصلح الناس إلا ذاك أو هذا فى مصلحة الكافة. ولذلك كان لابد من ضابط فاصل بين ما هو مصلحة وما هو هوى للحاكم ومن حولهء أو هوى أهل الفساد على أى صورة كان مظهره. وإن الضابط الذى يفرق بين المصلحة والهوى هو كتاب الله وسنة رسوله يلق وعمل الذين تلقوا علم النبوة» وهم الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم؛ فبحكم القرآن الكريم وحكم النبى عَلَبِِْ وحكم الخلفاء ء الراشدين نستطيع أن نعرف الفارق بين المصلحة والهوى» فإن مبعثهما فى النفس دقيق» وأكثر الأهواء التى يفرضها الحكام المنحرفون على الناس يفرضونها ياسم المصلحة » حتى إنهم ليعدون وجودهم مع هذا الانحراف والشذوذ فى كل شىء مصلحة فى ذاته» ولو ارتكبوا أشد المفاسد والمفاجرء ولم يتركوا حرمة إلا انتهكوها. وإن الفرق بين المصلحة والهوى واضح بين لمن أراده» فالمصلحة فى الإسلام هى التى لا تخالف نصا من نصوص الشرع» وتكون ملائمة لمقاصد الشرع وغاياته» وتتجه فى شتى شعبها إلى المحافظة على الأمور الخمسة مجتمعة أو أحدهاء وهى النفس» والدين» والنسل» ولمال» والعقل. ويلاحظ فى هذه المصلحة تحقيق غايات الإسلام الكبرىء» وهى أن تكون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين» فليس من المصلحة فى شىء إذلال المسلمين» وليس من المصلحة أيضا مخالفة أحكام القرآن والسنة» فقد جاءت نصوصهما هداية ورحمة للمؤمنين» ولذا قال تعالى: يا أَيهَا النّاس قد جاءتكم مُوعظة من رَبَكُمْ وَشفَاءٌ لما في الصّدُورٍ وَهُدَى وَرَحَمَة للمؤْمنينَ 22 2"74. وقال تعالى : وما أَرسلناك إلا رحمة للعالمين جوج 274 . هذا حد المصلحة المعتبرة» وما خرج عن حدها المرسوم فهو الهوى الجامح» وليست المصالح المعتبرة حاكمة على النصوص القرآنية والهداية الربانية» إنما المصلحة المعتبرة المقررة هى التى تكون فى دائرة ما رسمه الله تعالى من حدودء وما ترك الله تعالى الناس سدىء كما قال تعالى: «أَيَحَسَب الإنسان أن يترّك سدى جك 47# . )١(‏ النور : /ا5 - 61١‏ . (0) يونس : لا60 . (*) الأنبياء : 37١1/‏ . (5) القيامة : ” 5١ ولقد حدث فى عصرالنبى كلد أنه جاء ناس يذكرون أنهم يعيشون فى أرض فيها برد شديد, وأنهم يستدفئون بالخمر تجرى حرارتها فى عروقهمء وأن الناس لا ينتهون عنهاء فأشار النبى كك بقتالهم. كما نوهنا من قبل» وما كان أمر النبى ككل فى غير مصلحتهم» بل إنه المصلحة الحقيقية المعتبرة» وشربهم الخمر هو الهوى الجامح». ولا يذهب بالهوى الجامح إلا البخع . 54 وإن المصالح التى أقرها الصحابة وخصوصا عمر بن الخطاب رضى الله عنهء كانت فى ظل القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة تستمد منهماء وتعمل على حمايتهما من العبث وإقامة الحق والقسطاس. فجمعهم القرآن الكريم فى مصحف كان المقصد الأول منه حفظ تواتر القرآن الكريم». لأنهم رأوا القراء يقتلون فى حروب الردةء فخشوا على القرآن الكريم أن ينقطع تواتره بموتهم . وتضمينهم الصناع كان لحفظ أموال الناس وخشية أن تؤكل بالباطل» وقتلهم الجماعة بالواحد كان القصد منه حماية الناس من أهل الفساد. إذ إن الرجل يستطيع إن لم تقتل الجماعة بالواحد - أن يستعين بغيره لكيلا يقتص منه. وكان عمر رضى الله عنه يشاطر الولاة الذين يتهمهم - فى أموالهم التى اكتسبوها فى مدة الولاية» لاختلاط كسبهم من أموالهم الخاصة بأموالهم التى استفادوها بالولاية» واعتبر الفقهاء ذلك من قبل المصلحة, إذ يكون فى ذلك صلاح الولاة ومنعهم من استغلال سلطان الولاية لجمع المال وجر المغانم وخيانة الأمانة. ويرى من هذا أن هذه المصلحة التى اعتبرها الإمام عمر من قبيل تحقيق المقاصد الشرعيةء لا الأهواء النفسية . وحكى عن الإمام عمر أيضا أنه أراق اللبن المغشوش بالماء تأديبا للغاش» وكان ذلك من قبيل المصلحة العامة» لكيلا يكون الغش وتفسد الصحةء ومن المصالح التى اعتبرها الفقهاء من بعد الصحابة أنه إذا خلا بيت المال» وارتفعت حاجات الجند وليس فيه ما يكفيهم فللإمام أن يوظف على الأغنياء ما يراه سادا لفراغ بيت المال»ء ثم له أن يجعل هذه الضريبة فى أوقات حصادد الغلات وجنى الثمار لكيلا يؤدى تخصيص الأغنياء إلى إيحاش قلوبهمء ووجه المصلحة أن الإمام العادل لو لم يفعل ذلك لضعفت شوكة المسلمين» وصارت البلاد عرضة للفتن» وعرضة للاستيلاء عليها من الطامعين فيها - ونرى هذه المصلحة أيضا لتحقيق المقاصد الإسلامية» وهى حماية الدولة والحوزة ورعاية المصالح العامة للمسلمين. يفف ومع المصالح التى اعتبرت أيضا أنه لو طبق الحرام الأرض أو ناحية منها يسعسر الانتقال منها» وانسدت طرق المكاسب الطيبة» ومست الحاجة إلى الزيادة عن طريق سد الرمق» فإنه يسوغ لآحاد الناس لا لجماعتهم إذا لم يستطيعوا تغيير الحال وتعذر عليهم الانتقال إلى أرض تقام فيها الشريعة» ويسهل الكسب الحلال أن ينالوا كارهين من بعض .هذه المكاسب الخبيثة» دفعا للضرورة وسدا للحاجة إذ لو لم يتناولوا لكانوا فى أشد ضيق وأكبر مشقة.ء فكانوا كالمضطر إذا خاف الموت إن لم يأكل من الميتة ولحم الخنزيرء بل لهم أن يتناولوا منها ما هو فوق الضرورة إلى موضع سد الحاجة» إذ لو اقتصر على الضرورة لتعطلت المكاسب والأعمال. ولاستمر الناس فى مقاساة ذلك إلى أن يهلكواء وفى ذلك ضياع الدين. بطلان كل حكم من ولى الأمر يخالف النص -7"٠‏ إنه لا يصح لولى الأمر فى تقرير عقوبة على أمر - أن يخالف نصا من نصوص الكتاب والسنة إلا إذا كان معتمدا على نص آخر أقوى دلالة» أو أعم شمولا أو أقوى سنداء ويعبارة عامة ليس له أن يخالف أمرا مقررا فى الإسلام قطء وإذا خالف بعض الحزتيات فلا بد أن يكون له سند أقوى اتصالا بالشرع من سند هذه الحزثيات نفسهاء وإلا كان تهجما على الشريعة وافتئاتا عليهاء فإنه يكون من الشرع ما يكون هدما لبيانه » ونقضا لمقرراته . وعلى ذلك يكون كل حكم مخالف للقرآن أو السنة» أو الأمور التى علمت من الدين بالضرورة - حكما باطلاء بل يكون هو فى ذاته معصيةء فإذا اعتبر الحاكم أمرا معصية» وليس فى مصادر الشريعة أو مواردها ما يبرر اعتباره كذلك» كقول بعض الحكام: «من قال لى اتق الله قطعت عنقه». فإن حكمه باطل وليس الفعل الذى اعتبره جريمة هو المعصية إنما قوله وحكمه هو المعصية الآثمة الفاجرة. وكذلك من يعتبر نقد تصرف من تصرفات الحكام الخارجين عن الدين جريمة يعاقب عليهاء فعمله هذا هو الجريمة التى يستحق عليها أكبر العقاب. وإن ربك لبالمرصاد»ء وهكذا لا يعتبر الحاكم شرعيا يحكم بحكم الإسلام إلا إذا جعل هواه وإرادته وتصرفاته تبعا للقرآن الكريم» كما قال النبى يَللِْةِ: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لماجئت به). -20١‏ وإن الأدلة التى تدل على بطلان الأحكام التى يجىء بها الحاكم مخالفا هدى القرآن وهدى النبى عَللِلدٌ كثيرة منها قوله تعالى: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إِذَا قَضَى اللّه ورسوله أَمرَا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم 22(4. فإن هذا النص الصريح ثبت أنه لا , ”5 0: الأحزاب‎ )١( يفف يجوز للمؤمن أن يختار شيئا يخالف أمر الله تعالى ورسوله» فإذا أمر اللّه تعالى أو رسوله بأمر فليس للمؤمن إلا أن يطيع» وليس له أن يتخير بين الطاعة والردء إذ إنه لازم حتم»وإن تأول فى الطاعة يجب أن يكون معتمدا على أمر آخر لله ولرسوله» فهو فى دائرة أوامر الإيمان لا يخرج عنها إلا إليها. ومنها قوله تعالى : «إيا أيها اين آمنوا أطيعوا الله وَأطيعوا الرسول وأو الأمرٍ منكم فإن تنازعتم في شيء فردوة إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ل أَحْسَن تأويلا 557 ألم تر إلى الدين يَرْعَمُوت نهم آمنُوا ما أنزل يك وما أنرل من قبل بريدون أن يتَحَاكَمُوا إلى الطَاغوت وقد أُمروا أن يكقروا به يريد الشَيطان أن يلم ضّلالا بعيد| 252 3 4 إلى أن قال سبحانه : «فلا ورك لا يؤسون حتّ يحكموك فيما شجر ينهم ل يدوا في أنشهم حرا ابت يسو فليما 30» 114 أولها : أن طاعة الله ورسوله واجية» فمن حرم أو أباح بغيرسند من كتاب اللّه تعالى وسنة رسوله فقد خالف الواجب المفروض وهو الطاعة المطلقة لله ولرسوله» ومن خالفهما لا يعد عمله شرعياء بل يكون باطلا بطلانا أصليا؛ لأن النبى كله يقول: «كل ما جاء على خلاف أمرنا فهو رد). ثانيها : أن مخالفة أوامر الله تعالى هى اتباع للهوى» واتباع الهوى هو سير فى طريق الطاغوت» والطاغفوت هو ظلم الطاغى» والشيطان الطاغى » الشيطان بطغيانه» والظلم بطغياته يتلاقيان فى طريق واحد. هو طريق الهوى والضلال. الفها : أن الإيمان يتقاضى حتما الاحتكام إلى شريعة القرآن» فلا يؤمن من يخالف فى حكمه شريعة اله ورسوله ؛ وقد أقسم سبحانه بذاته العلية على ذلك» فقال تعالى : « وَإِنّهِ سم لو تعلمون عظيم م +50 204 وليس لمؤمن تحلة من قسم الله تعالى بذاته المقدسة. ولا مقدس فى هذا الوجود غيرهاءوإن كل أمر يكون مناقضا للإيمان فهو رد على صاحبه» ويكون باطلا ولا مناص من الحكم ببطلانه . 5"- ومنها أن الله سبحانه وتعالى قد اعتبر الحكم بخلاف ما أمر يكون فسقاء ويكون ظلماء ويكون كفراء فقد قال سبحانه مرة: : ومن لم يحكم بما أنزل الله ولك هم الْقاسقون + 2"04. وقال سبحانه مرة أخرى: «ومن لم يَحكم بما أنزل الله قأولنك )١(‏ النساء :50-69 , (5) الواقعة : كلا . (9) الماتدة : لا نف هم الظَالمُون (2) .2١(4‏ وقال سبحانه وتعالى مرة ثالثة: « ومن لم يَحَكُم بمًا أنزل الله فأولتك هم الكافرون 22 24" . وإن أول المراتب المؤكدة ذ فى الحكم بغير ما أنزل الله هو الفسق» لأنه خروج عن الطاعة» ومفارقة الحكم الله تعالى. المرتبة الثانية وهى الأعلى من الأولى هى مرتبة الظلمء وتلك تتضمن أمرين: الفسق عن أمر الله ونهيه» وتتضمن أمرا ثانياء وهو الظلم لعياده» فالظلم فسق وتعد على العياد. والمرتبة الثالئة وهى التى تنزل بصاحبها فى أسفل سافلين» وهى الكفرء وذلك إذا اعتقد الحاكم ومن يوالونه أن حكمه هو العدل. وحكم الله تعالى هو الظلمء كما يجرى على ألسنة بعض الكتاب الذين لا يتحرجون فى ألفاظهم وتعبيراتهم عندما يقولون عن بعض القوانين الأوربية» إنها العدل المحض ويترددون فى الحكم على شريعة القرآن الكريم بأنها عادلة وإنهم إن اعتقدوا ذلك» هم بلا شك كافرون. 1”- ومنها: أن السنة بينت حدود ولى الأمر فى الطاعة» فقد روينا لك قول النبى كلّ: «لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق»» ولقد قال النبى تلد «إنما الطاعة فى المعروف» أى الأمر الذى تعرفه العقول. ولا تستنكره» ولقد قال سبحانه وتعالى فى شأن الولاة فيما معناه: «من أمركم بمعصية فلا سمع له ولا طاعة». ولقد قال أبو بكر خليفة رسول الله يلي «أطيعونى ما أطعت الله فيكم» فإن عصيت الله فلا طاعة لى عليكم». ولقد قال عمر بن الخطاب فى أول ولايته: «من رأى منكم فى اعوجاجا فليقومه» . ولقد كان عمر رضى الله عنه يعزل الولاة لشبهة الاعتداء على الناس والافئتات على حقوقهمء والحكم بينهم بغير ما أنزل الله تعالى . ويسبطل كل حكم خالف الشرع الشريف » ولو كان ذلك الحكم قد صدر عنه» فكم من مسائل حكم فيها ثم رجع عن حكمه» ؛ لأنه تبين له أنه ليس من الشرعء وكل ما ليس من الشرع فهو باطل» وهو الذى كان يقول: الرجوع إلى الحق خير من التمادى فى الباطل . > - #05 وإذا كان كل حكم خالف الشرع فهو باطل» وإذا حكم به ولى الأمر فهو باطل» فالعقوبات التى يقررها على الجرائم التى لم يقدر لها الشارع عقابا يجب أن تكون فى حدود الشرعء فالجرائم هى ما يعتبره الشارع جريمة فى نص خاص أو نص عام أو قضية كلية عامة علمت من مصادر الشريعة ومواردهاء وهى تسير على منطقهاء 5 : المائدة : 56 . (؟) المائدة‎ )١( لقف )06 ويجب أن تكون العقوبة غير خارجة عن دائرة الإسلامء وأن تكون فى حدود ثلاثة لا تتجاوزها. الحد الأول : أن تكون متناسبة مع الجريمة ما أمكن» وأن تكون بشكل عام رادعة» لا مكن ذا الفساد من الاستمرار على غيه فلا يستسهلها وألا تكون متجاوزة حد الاعتدال» فلا يعاقب على الجرم الصغير بالعقاب الكبيرء كبعض الأمراء الذين كانوا يعاقبون على الإدلاج بالليل - أى السير بالليل - بالقتل» فإن ذلك هو الظلم البين الذى لا ظلم بعدهء وما هو من الإسلام» إن هو إلا الحكمء وهو الفساد»وإن ادعى أن القصد منه دفع الفسادء وفوق ذلك يجب أن تكون العقوبة فى أضيق دائرة» لأن العقوبة فى الإصلاح الاجتماعى كالدواء لا يؤخذ منه إلا بقدرء والإصلاح الحقيقى فى تربية الوجدان كالغذاء الصالح ينمى الجماعة دائما. الحد الثانى : ألا يكون السبيل إلى تحقيق العقوبة نشر التجسس بين آحاد الآأمة فإن الله سبحانه وتعالى يقول: فإ يا أَيْهَا الّذين امنوا اجتنبوا كثيرا من الضّ إِنّ بعض الظّن إِنْم ولا تَجِسّسوا ولا يغتب بُعضكم بعضًا274. والنبى يل يقول: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» ولا تجسسواء وكونوا عباد الله إخوانا» فإذا إستترت الجريمة التى لا تضر أمن الدولة لا تحاول الكشف عنها إلا إذا ترتب على إخفائها ضياع حق الإنسان» فالجرائم التى يكون فيها اعتداء على الكافة من تعريض الدولة لخطرء وتكون العقوبة فيها حقا من: حقوق الله تعالى» أو حقا من حقوق الكافة ولو تعزيرية كما يقول الفقهاءء والتجسس فيها لا يجوزء لأن مضرة التجسس أشد من مضرة الجريمة نفسهاء ولآن الجريمة التى يكون فيها اعتداء شخصى ماألها الذبول من تلقاء نفسهاء إذ يقتلها جو الظلام الخانق» والتجسس فى ذاته يؤدى إلى ضرر خطير فى الجماعة؛ إذ تضعف الثقةء وينظر كل واحد إلى أخيه كأنه رقيب عليه» ويفتح فيه باب الكيد والكذب. ويجب أن نلاحظ أن خفاء المعاصى لا يضر العامة بمقدار ما يضر التجسس» ولقد قال النبى يَدلٌْ: «إن المعصية إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبهاء ولكن إذا ظهرت فلم تنكر أضرت العامة» . الحد الثالث : أن تكون العقوبة على المعاصى بأقل قدر يدفع الفسادء لأن العقوبة فى ذاتها أذى نزل بالجانى» وضرر يلحقهء ومنطق الإسلام فى الإضرار أن يدفع الضرر الكبير بالضرر الصغيرء فهى ضرورة لا يلجأ إليها إلا إذا تعينت علاجاء وأمكن إثباتها بطريق لا يقبل الاحتمال الناشىء عن دليل» من غير تجسس ولا كشف للأستار ما لم يكن فيهما اعتداء على حق شخصى لأحد من العباد أو تعريض الدولة لخطر. . ١١ : الحجرات‎ )١( الوالى الذى يشرع العقوبة 065- يجب أن يكون الوالى الذى يشرع العقوبة ويسنها نظاما - ملاحظا للنفع العام ولا يجعل للميول النفسية موضعا فى تقديره» فلا يغضب إلا لله ولا يشرع العقوبة إلا لله» بدفع الفساد فى الأرض . ولقد قسم ابن تيمية الولاة إلى أربعة أقسام» قسم من الولاة يغضبون لنفوسهم ولربهم» وقسم لا يغضبون لا لنفوسهم ولا لربهم» وقسم يغضبون لربهم ولا يغضبون لنفوسهم قطء والقسم الرابع يغضبون لأنفسهم لا لربهم. أما القسم الأول : فإن لهم جانب صلاح وجانب فسادء فصلاحهم أن يكونوا فى النظم التى يسنونها لا يفرضونها لحماية أنفسهمء ولا لحماية من يتصلون بهم» بل يفرضونها فقط لدفع الفساد العام» فيفرضون لله لا لغضب أنفسهمء فإن تجاوزوا ذلك إلى مراعاة حقوقهم وأنفسهم من غير ملاحظة حق الشرع وحق الكافة» فقد غلب والقسم الثانى : لا يصلحون للحكمء لآنهم لا يخمدون باطلاء ولا يرفعون حقاء إذ لا بد للحق من حمية تدفع إليهء وتحامى عليه» وتكلؤه. والقسم الثالث : هو الوسط الأمثل» وهو قسم الصالحين الأخيار من الولاة» وهم الذين يكون غضبهم لله تعالى» وعلى رأس هذا القسم فى الإسلام محمد بن عبد الله ومن بعده خلفاؤه الراشدون الأربعة» وجاء من بعدهم عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه» ولقد قالت السيدة عائشة رضى الله عنها ففى وصف النبى يللي : «ما ضرب رسول الله يليد بيده خادما له ولا امرأة ولا دابة ولا شيئا قط إلا أن يجاهد فى سبيل الله ولا نيل منه شىء لنفسه قطء إلا أن تنتهك حرمات اللّه» فإذا اتتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شىء حتى ينتقم لله . ولقد قال ابن تيمية فى أهل هذا القسم: «إنهم أرباب السياسة الكاملة - هم الذين قاموا بالواجبات وتركوا المحرمات» وهم الذين يعطون ما يصلح الدين بعطائه ولا يأخذون إلا ما أبيح لهمء ويغضبون لربهم إذا ما انتهكت محارمه» ويعفون عن حظوظهمء وهذه أخلاق رسول الله َكِْةِ فى بذله ودفعه» وهى أكمل الأمور وكل من كان إليها أقرب كان أفضل». والقسم الرابع : هو فساد كلهء فهو شر الخلق» يأخذ ولا يعطىء يجعل هواه حكماء ونفسه مقياس الحق والباطل» وذلك شر الحكام» وما يسنون بهذا الشعور الأنانى الأثر لا يعد نظاما دينياء لأنه شرع لهوى نفسهء لا مرضاة ربه. ا ؟ هذا هو الهدى السليم فى الحكم الذى يسن به العقاب التعزيرى» وما عداه هو من الهوى الذى يصيب أنفس الحاكمين». وبمقدار إصابته لنفوسهم يكون انحرافهم عن العدل فى العقوبات التى يسنونهاء إن قليلا فقليل وإن كثيرا فكثير. 0-7 #056- وهذا هو المنهاج القويم الذى يجب أن يسلكه الحاكم الذى يسن العقوبات التعزيرية» ويجب أن ننبه هنا إلى أن الإسلام عندما فوض ولى الأمر فى سن العقوبات فى الجرائم التعزيرية لم يترك الأمر له فرطا. يحرم ما يشاء من الأفعال» ويفرض فى العقوبات ما يشاء» فقد بينا أن الجرائم محدودة معرفة» وقد وردت النصوص بها فى نهى أو مخالفة أمرء أو منع للفسادء ولم يترك الشرع أمور الناس سدى» يتصرفون تحت سلطان شهواتهم» وما تهوى الأنفس» بل رسم لهم الحدود وبين لهم المناهج» وقد بين العقوبات فى الجرائم المشهورة التى لا تختلف عقوبتها باختلاف الأحوال ولاباختلاف الناس» وترك لإمام المسلمين القياس عليها. وقد بينا أن الإسلام ينهى عن اعتبار شهوات الحاكم قانونا» وقد قصصنا عليك أحسن القصص عن النبى يله والصحابة والخلفاء الراشدين ما يقطع بأن هوى الحاكم لا يمكن أن يكون قانوناء وإذا لوحظ أن بعض الحكام جعلوا لشهواتهم سلطانا فى الأفعال وعقوباتها فعملهم هنا ليس من الإسلام فى شىء. فليس لأحد إذن أن يدعى أن الإسلام ترك الأمر للملوك ليتحكموا فى رقاب الناس وأموالهم وأعراضهم وحرياتهم الدينية» بل إنه قيدهم بقيود تتبين مما سبق . -"١‏ وليس معنى التفويض لولى الأمر أن يكون له السلطة المطلقة فى التقدير لا معقب لقوله. وليس لأحد أن يوجه إليه لوما أو نقداء بل إن الأصل فى الحكم الإسلامى أنه قائم على الشورى. فولى الأمر فيه ليس ملكا ينال ملكه بالوراثة» بل إن الحكم فى الإسلام يقوم على الشورىء فليس فيه ملك وراثى» وإنما يختار الخليفة اختيارا حرا من بين المسلمين بشروط يجب مراعاتها. واختلف العلماء فيها ضيقا واتساعاء ولكنهم اتفقوا على أن يكون الاختيار بالمبايعة الحرة» فلا يتولى بوراثة» ولكن يتولى بتولية أهل الحل والعقد من المسلمين. وحكمه شورى أيضاء فالله تعالى يقول: 9 وأمرهم شورئ بينهم 204 ويقول سبحانه : وشاورهم في الأمَر فإذا عزمت فتوكّل على الله 274 فليس لرئيس الدولة أن ينفرد فى تقرير العقوبات التعزيرية» بل عليه أن يستشير أهل الشورى فى العقوبات التى يقررهاء ويرى أن تسود أحكام الدولةء وله أن يترك الأمر للقاضى إذا كان القاضى مجتهدا عالما بأصول الشريعة وحلالها وحرامها متشربا لروحها متغلغلا فى تعرف . 1١69 : الشورى : 7”8 . (0) آل عمران‎ )١( لف أسرارهاء وله مران قضائى» بحيث يضع لكل جريمة تعزيرية ما يكون عقابا ملائما لهاء ومتناسبا مع الضرر الذى ينشأ عنهاء سواء أكان ضررا شخصياء أم كان ضررا عاما. وعمر الفاروق كان ينهج ذلك المنهج. فكان فى العقوبات التى يسنها إصلاحا للرعية يستشير أهل شوراه الخاصة من علماء الصحابة» كعلى وابن عباس وغيرهما من علية الصحابة الذين امتازوا بفقه الإسلام» ومعرفة أحكامهء» ويفوض للقضاة فى أكثر الأحوال وخصوصا فى الجرائم التى تحدث فى أقاليمهم» ولم يحدث مثلها بين يديه فى المدينة. ولقد كان رضى الله عنه يعين قاضى الإقليم كما يعين واليهء فكان القضاة غير تابعين للولاة ليستطيعوا الحكم عليهم» بل كانوا تابعين له رأساء واستمر ذلك تقليدا إسلامياء يعين الخليفة القاضى الأول كما يعين الوالى» حتى بعد أن صارت الخلافة الإسلامية ملكا عضوضا يعض عليه بالنواجذ» وقد كان لذلك مزاياه ومغزاه. وليس لدارس النظم الإسلامية أن يأخذ الحكم الإسلامى فى العقوبات من أفعال الملوك الذين تسموا بأسماء الخلفاءء فإن أولئك قد انحرفوا عن أحكام القرآن والسنة إلى حكم الهوى والشهوةء وذلك نقيض الحكم القرآنى» ولا يصح أن يؤخذ النقيض دليلا على نقيضهء وحجة عليهء فإن ذلك ظلم للإسلام من الأخللاف الذين يكتبون تاريخه. وهو أكبر من ظلم الذين خالفوا حكمه. العقوبات التعزيرية واجبة على ولى الأمر وليست حقا 4” يثار هنا بحث: هل تعتبر العقوبات التعزيرية وفرضها حقا لولى الأمر بحيث يكون له أن يفرض العقوبة أو لا يفرضهاء وبحيث يسوغ له أن يهمل العقوبة على معصية يمكن أن يجرى عليها الإثبات من تجسس أو تكشف للأستار؟ للجواب عن ذلك نقسم الجرائم التى تكون عقوبتها تعزيرية إلى قسمين: جرائم على الأفراد»ء وجرائم على الكافة. أو جرائم هى معاص منهى عنهاء وضررها يعود على الكافة كالاحتكار والمغالاة فى الأسعارء ونحو ذلك من الجرائم العامة» ويتبين من هذا أن جرائم التعزير قسمان: جرائم العقوبة فيها حق للآحاد إذ الاعتداء وقع عليهم كالاعتداء بالسب والضربء وأكل أموالهم بالباطل بالاغتصاب أو النصب والاحتيال» وجرائم أخرى العقوبة فيها حق لله تعالى كالتجسس على الدولة وكالتقبيل. وكشف العورة فى الطرقات العامة ونحو ذلك من الجرائم التى يكون الاعتداء فيها على النظام العام وعلى الفضيلة الإنسانية. وهناك جرائم تجمع فى اعتدائها بين الحقين كالرمى بغير الزنى» وكالزنى الذى لا يثبت فيه حد التقادم مثلاء فإن هذه الجرائم التعزيرية يكون الاعتداء فيها حقا للعبد وحقا لله تعالى. احرف 6- وإنه من المقرر أن الجرائم التى يكون فيها اعتداء على حق العبد سواء أكان معه اعتداء على حق الله تعالى أم لم يكن» فإنه يجب على ولى الأمر أن يضع لها عقابا عادلا زاجرا شافيا لنفس المجنى عليه إن طلب المجنى عليه ذلك» وذلك لأنه جاء لإقامة العدل بين الناس وتنظيم أمورهم على أساس من المساواة» وأساس المساواة ألا يعتدى قوى على ضعيف. ولا من يستطيل لسانه بالأذى على العف الذى لا ينطق بالخناء وأن الظلم يجب أن يرفعء ولا يرفع الظلم عن العباد إلا بالاقتصاص لهم»ء وقد روى فى بعض الآثار أن النبى كله قال: «الدواوين ثلاثة: ديوان لا يغفره الله» وهو الإشراك بالله» يقول الله عز وجل: إن الله لا يغفر أن يشرّك به 277 وديوان لا يتركه وهو ظلم العباد فيما بينهم - حتى يقتص بعضهم من بعض . وديوان لا يعبأ الله تعالى به هو ظلم فيما بينهم وبين الله تعالى. فذاك إلى الله سبحانه إن شاء عذب به. وإن شاء تجاوز عنه؟ . إنه لو ترك ذلك الاعتداء من غير عقوبة لعم الفساد فى الأرض وصار كل واحد يعتدى على أخيه» وبذلك لا يكون عدل فى الأرض» ولقد وضع الإمام عمر نصب عينيه الانتصار للضعيف حتى يأخذ له حقهء فقد كان يقول رضى الله عنه: «القوى منكم ضعيف عندى حتى آخذ الحق منهء والضعيف منكم قوى عندى حتى آخذ الحق له). 5- هذه هى الجخرائم التى يكون فيها اعتداء على حقوق العياد. قد اتفق الفقهاء على أن وضع عقوبة رادعة فيهاء واجب. وليس لإمام أن يعفو فيهاء وإنما العفو بيد صاحب الحق كالقصاص» فإن شاء عفاء وإن شاء طلب العقاب. أما الجرائم التى تمحض فيها العقاب لغير حق العبد» كالزنى الذى لم يستوف الإثبات فيه نصاب أربعة شهود. أو كانت البينة فى غيره تقل عن اثنين» أو الجرم الذى سقطت العقوبة فيه بالتقادم» كالشارب الذى ثبت شربه» ولم يقدم للقاضى. ورائحة الخمر تنبعث من فيه أو الذى يشرب القليل من شراب لا يدخل فى عنوان كلمة الخمر عند الحنفية. وهكذا فإن هذه الجرائم عقوباتها تكون حقا لله تعالى» وكذلك عقوبة الذى يعرف بالإفساد وارتكاب المنكرات من غير أن يرتكب حدا من حدود الله تعالى أو ل يثبت ثبوتا شرعيا عليه حد من حدود الله . ففى هذه الصور أيكون العقاب واجباء أم يكون حقا للإمام» له أن يعاقب» وليس له أن يعاقب؟ . النساء :8ع‎ )١( ولقد ادعى الزيلعى أن الإجماع قد انعقد علىى وجوب العقاب بالنسبة للكبائر التى ليس فيها حد من حدود الله تعالى» فقد قال ما نصه: «روى أن النبى يَكِةٌ عزر ,رجلا قال لغيره:يا مخنث» وحبس رجلا للتهمة» وأجمعت الأمة على وجوبه فى كبيرة لا توجب الحدء أو جناية لا توجب الحد)(" . فإن هذا النص صريح فى أن الأمة قد أجمعت على وجوبه فى جرية لاا حد فيهاء ولكنه صرح بأن هذه الجريمة يجب أن تكون كبيرة من الكبائر» لا صغيرة من الصغائر» فإن المعاصى فى الكتاب والسنة تنقسم إلى كبائر وصغائر» وإن الاثم فى الكبائر بالوقوع فى إحداهاء والإثم فى الصغائر بالإكثار منها والإصرار على ارتكابهاء ومن الكبائر مثلاء الزنى ومقدماته» والشذوذ الجنسى» ومن الصغائر النظر إلى المرأة بشهوة ونحو ذلك . ولا شك أن العقوبات تكون على الكبائر» ولا تكون على الصغائر إلا إذا كان فى الصغائر اعتداء على حقوق الغير. -١‏ هذا ما صرح به الزيلعى» وهو يدل على أن التعزير واجب بالإجماع فى كل الكبائر التى يجرى فيها الإثبات» ولكن يظهر أن الحكم ليس موضع إجماع فى ظاهر الأحوال» لأنه روى عن الشافعى ما ظاهره غير ذلك» وهو رواية صحيحة» لأنها فى الأم برواية الربيع بن سليمان» وإن دل كلام الزيلعى على شىء بصريحه فهو يدل على أن التعزير واجب فى المذهب الحنفى بلا خلاف فيه» فقد انعقد الإجماع بين أئمة ذلك المذهب على هذا الرأى» وعلى هذا الرأى مالك وأحمد. أما الشافعى فقد خالفه فى الظاهر لا فى الجوهرء وقد جاء فى الأم ما نصه: (إن التعزير جائز لهء وذلك أن التعزير أدب لا حد من حدود الله تعالى» وقد يجوز تركه» ألا ترى أن أمورا قد فعلت على عهد رسول الله يل كانت فى غير حد فلم يضرب فيهاء منها الغلول فى سبيل الله» ولم يؤت بحد قط فعفاه». ثم يقول فى هذا أيضا ف: «التعزير كما وصفت إنما هو شىء إن رأى بعض الولاة أن يفعله على التأديب لا يأثم بتركه0 , .ويقول فى موضع آخر: الأدب (أى التعزير) أمر لم يبح له إلا بالرأى وحلال له تركه» ألا ترى أن رسول الله كَكِِِ قد ظهر على قوم قد غلوا فى سبيل الله تعالى فلم يعاقبهم» ولو كانت العقوبة تلزم لزوم الحد ما تركهم كما قال يَةٌ وقطع امرأة لها شرف فكلم فيهاء فقال تَكلِِ: «ولو سرقت فلانة - لامرأة شريفة - لقطعت يدها»9" . .35548 2 شرح التبيين جلا ص١7 . (0) الأم جا ص177‎ )١( . ١9١ الكتاب المذكور ص‎ )6( خرف 57" يتقرر من هذا أن فقهاء المسلمين فيما يتعلق بكون التعزير فى حقوق الله تعالى واجبا على الإمام أو حقا له قد اختلفوا فى ظاهر الأمر فى ذلك على رأيين: أولهما : رأى الجمهور أن التعزير واجب فى أصله على ولى الأمرء والخيار له فى تقدير العقوبات. على أنه مقيد فى ذلك بقيود شرعية تجب مراعاتها فليس مطلق الحرية من كل الوجوه حتى يحكم بما يرى من غير قيد يقيده. وثانيهما : ظاهر قول الشافعى أنه مخير بين العقاب وعدم العقاب» كما هو مخير فى تقدير العقاب مع هذه القيود المذكورة. وقد وضح ابن قدامة فى المغنى الرأيين» فقال: والتعزير فيما شرع فيه التعزير واجب إذا رآه الإمام» وبه قال مالك وأبو حنيفة» وقال الشافعى: ليس بواجب» لأن رجلا جاء إلى النبى يله فقال: إنى لقيت امرأة فأصبت منها دون أن أطأهاء فقال عليه الصلاة والسلام: «اختليت بها» فقال: نعم. فتلا عليه قوله الله تعالى: إن الحسنات يذهين السيئات 4 وقال فى الأنصار: «اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم» وقال رجل للنبى كَلَِةِ فى حكم حكم به للزبير: أن كان ابن عمتك» فغضب النبى مَلٌِ ولم يعزره على مقالته» وقال رجل: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله فلم يعزره. ولنا أن ما كان التعزير منصوصا عليه كوطء جارية امرأته» أو وطء جارية مشتركة. فيجب امتثال اللأمسر فيه» وما لم يكن منصوصا عليه إذا رأى الإمام المصلحة فيه أو علم أنه لا ينزجر إلا به وجب. لأنه زجر مشروع لحق الله تعالى فوجب الحد. 771- هذا هو الخلاف الذى تذكره كتب الفقه المقارن فى المذاهب المختلفة» ونرى أن كتب الحنفية تقول إنه قد انعقد الإجماع على وجوبه» وكتب الحنابلة وغيرهم تذكر الخلاف» والشافعى رضى الله عنه يجرى على قلمه ما يفيد أنه غير لازم . وفى الحق أننا لا نرى عند التحقيق أن ثمة خلافا جوهرياء والأقرب أن يكون الخلاف ليس فى ذات الموضع من حيث وجوب التعزير على الإمام إذا حدث ما يوجبه أو عدم وجوبهء فإنه بلا شك إذا حدث ما يوجب التعزير من الانزعاج» فإنه يكون واجيا؛ بأن حدث من شخص شر واستمر عليه؛ فإن الاستمرار على الفساد يوسب التعزيرء ولا يقول أحد إن ولى الأمر له أن يدرك الأشرار يعيثون فى الأرض من غير عقاب رادع يردع» وإلا فقد تخلى عن واجبه» وهو إقامة العدل. ومنع الفساد. وما كان لفقيه أن يقول إن ولى الأمر إذا رأى فسادا يعم يكون له أن يمتنع عن التعزير. .١١5 : هود‎ )١( غرف 4"- ولأجل بيان الأمر فى هذا الموضوع» نقول إن العقوبات على المعاصى. أو بالأحرى على الكبائر من المعاصى التى لا يكؤن لأحد من العباد حق فيها ليس أمرا فى ذاته حتماء ولم يقل أحد إنه فى ذاته أمر لازم» إنما العقوبة يلاحظ أن الباعث عليها أحد أمور ثلاثة» إما فساد يعم» وإما حمل على التوبة والرجوع إلى الجادة» فالعقوبة فيهما ليست لأخذه بما وقع منه» إنما هى لحمله على ألا يقع» فما ينبغى لإمام عدل أن يريد تعذيبا. وإما أن يكون الباعث على العقوبة هو الزجر العام بأن تكون الجريمة وقعت علناء وفى الجهر بها دعوة إلى الرذيلة» فيجب أن يككون بجوار الدعوة إلى الرذيلة السافرة عقوبة زاجرة. فإذا تحقق الموجب بواحدة من هذه الأمور الثلاثة وتحقق الشرط وجب العقاب» والشرط هو أن يمكن إثبات العقوبة من غير تجسسء وألا تكون خفية غير معلنة» وألا تكون التوبة النصوح قد سبقت العقاب» لأنه ليست المؤاخذة على الذنوب» إنما العقوبة لمنع تكرارهاء ولكيلا تكون أسوة سيئة بالارتكاب. ولذلك قال فقهاء الحنفية الذين شلدوا فى الوجوب ما نصه: إن إقامة التعزير مستحق على الإمام شرعاء وإذا علم أنه لا ينزجر إلا به» وما يكون مستحقا على المرء لا يتقيد بشرط ليس فى وسعه التحرز عنه(١؟.‏ فالوجوب إنما يكون فى حال ما إذا تعين لمنع الجريمة فى المستقبل ومنع الفساد فى اللأرض» وما دعت إليه المصلحة . 1 والحنابلة فى النقل الذى نقلناه عن المغنى والمالكية مثلهم يؤيدون وجوب التعزير فى موضع النص على التعزير من أثر صحيح» وفى موضع تستوجبه المصلحة؛ وتدعو إليه العدالة التى هى مطلب الجميع. وهذه المعانى بلا شك يقدرها الشافعى حق قدرهاء ولا يمكن أن يقول الشافعى إن الإمام له أن يترك التعزير» وقد تعين دفعا للفساد» ومنعا لاستمرار الجريمة» أو منعا لشيوعها بين الناس» إنما تفسير كلمة الشافعى: «حلال له تركه»» أو «قد يجوز تركه) إلى غير ذلك من العبارات» ليس المراد منها أنه ليس بواجب عليه إن تعين للانزجار ونحوه» فالمراد منه أنه مبنى على رأى الإمام وعلى تقديره»ء وأنه إذا عاقب فبرأيه الذى تدفع إليه المصلحة» وتوجبه العدالة ودفع الفساد»ء وإن ترك فإن المصلحة أوجبت ذلكء فالنبى يك عندما ترك عقاب من أقر بأنه كان منه بامرأة ما دون الوطءء لاحظ أنه قد تاب» وأن توبته النصوح قد جبت الذنب» بدليل أنه جاء يعترف ويطلب أن يطهر نفسهء ولأنه لاحظ أن العقاب قد يكون فيه إعلان لجريمة قدا ستترت» وكشف عن أمر . المبسوط جة ص0"‎ )١( وفرفا كان فى كن من الاستتارء ولأن النبى مَلٌَِْ وجد أن هذا كان منه لغيره» فوجب أن نسأل المرأة أرضيت بذلك أم لم ترض» وفى كل ذلك كشف لأستار قد يدفع كشفها إلى فساد أكثر من الفساد الذى يدفع بالعقابء بل إنه لإفساد يدفع بالعقاب فى هذه المسألة بالذات» بل العقاب إعلان له وفيه إفساد. ولما كان أصل التعزير مبنيا على تقدير ولى الأمر فى مقدار العقابء. وفى تقدير الفساد الذى يجب دفعهء ومقدار الدفع فى العقاب كان التعزير حققا اختياريا فى ظاهر الأمرء وهو فى حقيقته حق على ولى الأمر إن تعين سيبه. وفوق ذلك فإن التعزير فى أصل شرعته من قبيل الأمر بالمعروف والنهى عن المتكر وما كان مثل الشافعى رضى الله عنه يرى أنه غير واجب على الإمام إذا كان العقاب قد تعين دفعا للمذكر وحملا على المعروف» والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واجبان بإجماع المسلمين. 065- وإن العبارات التى سيقت للشافعى تنبئْ عن هذا المعنى» لأنها سيقت فيما إذا ترتب على إقامة التعزير موت الجانى» فقد قال: إن الإمام أو السلطان الذى أقامه تكون عليه الدية» بخلاف ما إذا مات جان فى أثناء توقيع عقوبة الحدء فإن السلطان لا يضمن ديته. وقد خالفه فى ذلك جمهور الفقهاء فقالوا: إن التعزير والحد كلاهما كانا فى سبيل تنفيذ حق» وما يكون فى سبيل تنفيذ حق لا ضمان فيه» فقرر الشافعى أن ثمة فرقا بين الحقين» فحق الحد لا يسع الإمام أن يخالفهء فلم يكن له أى نوع من أنواع الاختيار فى تنفيذه» وإلا كان معطلا لحد من حدود الله تعالى» وغير منفذ لأحكام القرآن الكريم والسنة النبوية» أما التعزير فإنه ما وجب إلا برأيه وما قدر إلا برأيه» فكان يسعه ألا يقيم إذا لم يكن الموجب» وكان يسعه ألا يعاقب بهذا القدر من العقاب» وكان يسعه أن ينظر إلى حال الشخص أيطيق أم لا يطيق» ففى وسط هذا المجال المتسع كان يستطيع أن يتفادى ما يؤدى إلى الموت. 5”- والخلاصة أنا نعتقد أن الفقهاء مجمعون كما قال الزيلعى على أن التعزير واجب إن تعين سببه» وأنه لا فرق بين نظر الشافعى ونظر غيره» وأنه إن لم يتعين الانزجارء بأن تاب توبة نصوحاء فإنه لا موجب للعقاب إن لم يكن فساد»ء فإنه بالاتفاق يكون لولى الأمر أن يترك العقاب» بل إن الترك يكون أولى» وذلك لما روى من أن النبى لل قال: «ادرءوا الحدود بالشبهات»» فإن كان له مخرج فخلوا سبيله» فإن الإمام يخطئ فى العفو خير من أن يخطئ فى العقوبة. وإننا قبل أن ننتهى من هذا المقام يجب أن نقرر أمرين أشرنا إليهما مرارا: أحدهما : أن العقوبات التعزيرية ليست عقابا دنيويا على ما يرتكب الشخص من كبائر ومعاص ارتكبها طائعا مختاراء فإن العقاب والحساب أمرهما إلى الله تعالى يوم وف القيامة» وليس لأحد أن يحاسب آخر على ما يرتكب من آثام فى جنب الله تعالى» إنما العقوبات التعزيرية شرعت لمنع استمرار ما ارتكب» وقد أشرنا إلى ذلك من قبل . ثأنيهما : أن الباعث على هذه العقوبة أمر تقديرى» وعقوباتها تقديرية» ولذلك يجب إذا وضعت التعزيرات فى قانون مسنون قد سطر فى مواد أن تكون العقوبات مرنة مرونة واضحة. بحيث تعطى القاضى فسحة تتسع لأشد الزواجرء وذلك لأن التعزير ملاحظ فيه أنه يختلف باختلاف الأشخاص.ء وباختلاف الأحوال» فرب جريمة ارتكبت مع شخص واستحقت أقصى العقاب فى حال أو بلد أو بيئة» لو ارتكبت من آخرء لكان له من نفسه لاثم لا يقل تعذيبه عما يؤثره فيه العقّاب» وقد يرى القاضى بوادر الندم ومظاهره» فيكون عليه أن يقبل عثرة المرتكب» وقد تكون الجريمة ارتكبت فى تسترء فيكون الواجب بقاؤها فى كنّها مستورة لا تفضحها وسائل التقاضى وما يجرى فيه من إعلان. 1 وإن هذا كله بلا شك فى غير الجرائم التى يكون فيها اعتداء على حقوق الأشخاصء أما هذه فإنه يجب أن تكون فيها الأحكام فيصلا للحق والباطل فيهاء والله خير الفاصلين. سريان العقوبات فى الشريعة سريان العقوبات فى الزمان : ظ 117"- من المقررات فى الفقه الحديث أنه لا وجعية فى قانون العقوبات إلا إذا كان فى الرجعية مصلحة للمتهم» فلا يطبق قانون العقوبات على الماضى فى موضوع كان مياحا قبله» ثم حرمه القانون» ورتب عليه عقاباء» وإذا كان القانون السابق يرتب عقابا خفيفاء ويرتب الثانى عقابا أغلظ فإنه لا يطبق على المتهم الذى لم يفصل فى أمره إلا القانون السابق» وإذا كان القانون السابق يعاقب على فعل» والقانون اللاحق لا يعاقب عليه فإنه لا يعاقب المتهم. لأن الفعل قد صار مباحا بحكم القانون الجديد» ولا عقاب على مباح» ولأن المفروض أن إلغاء العقاب قد اقتضته العدالة والمصلحة» فلا يكون من العدالة أو المصلحة الاستمرار فى الإجراءات حتى يتم العقاب», وكذلك إذا كان القانون السابق يعاقب عقوبة شديدةء» وخففها القانون اللاحق فإنه لا يطبق على المتهم إلا اللاحق؛ لأن التخفيف لابد أن يكون لأجل العدالة أو المصلحةء فلا يطبق على المتهم ما يخالفهما بأخذه بالعقاب الغليظ . - هذا ما يقرره فقهاء القانون الحديث وما يطبقه القضاءء ولذلك نظير فى الفقه الإسلامى» يتفق تمام الاتفاق فى بعض الأحوالء ويتفق فى الجملة فى غيرها. أما الأحوال التى يتفق فيها تمام الاتفاق فهى الأحوال التعزيرية التى يرى ولى الأمر فرضها إصلاحا للناس إذا رأى فى إطلاق المباح بالنسبة لها فسادا عاما لا يصح أن نوفا يستمرء كالمغالاة فى الأسعار؛ فإن العقوبات تتقرر من وقت ثبوتهاء ويجب إعلانها قبل تنفيذ العقوبة بالفعل» ومن ذلك طواف الرجال مع النساء فى البيت» ومنه التسعير» ومنه منع إنشاء الابار فى الطرق» ومنه إقامة حواجز فى الطرقات تمنع المرورء فإن العقوبات على هذه الأمور وما يشبهها لا بد أن يسبقها إنذار مانع» فإن أقدم أحد بعد الإنذار فقد حقت عليه كلمة العقاب. ولقد ذكر الفقهاء هذا المعنى» فقد جاء فى كتاب الأحكام السلطانية لأبى يعلى فى بيان ما للمحتسب» وهو المنفذ لأحكام الحسبة ما نصه: «وله أن يمنع الناس من مواقف الريب ومظان التهمة» ويقدم الإنكارء ولا يعجل بالتأديب قبل الإنذار) 217 . ونرى أنه يمنع من القيام بأى عقوبة من عقوبات الجرائم التى تؤدى إلى فسادء ولم يكن عليها نص خاص - قبل أن يقدم الإنكارء ويعجل بالإنذارء فلا تكون إذن عقوبة على الماضى . وقد ذكر الماوردى فى هذا المقام ما نقلناه من قبل من أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه نهى الرجال أن يطوفوا مع النساءء فرأى رجلا يطوف مع النساء فضريه بالدرة» فقال الرجل: والله إن كنت أحسنت لقد ظلمتنىء وإن كنت أسأت فما علمتنى. فقال عمر: أما شهدت عزمتى ألا يطوف الرجال مع النساء؟ فقال: ما شهدت لك عزمةء فألقى إليه الدرة» وقال له اقتص. . وقد ذكرنا من قبل هذا الخبر»ء وهو يدل على أن العقوبات على المحظورات التى يرى ولى الأمر منعها دفعا للفسادء وإن كانت فى أصلها من حيث فعل الآحاد أمرا مباحاء لا تكون العقوبات فيها على ما وقع من أفعال بل على ما سيقع بعد الإعلان» ومن ذلك مخالفة التسعيرء وأكثر العقوبات التعزيرية التتى تكون لعدم وجود نص عليها حكمها كذلك. 8- هذا هو القسم الأول» وهو العقوبات التعزيرية» ونرى فيه النص واضحا وجليا من أنه لا يطبق على الماضىء أما القسم الثانى الباقى وهو العقوبات المنصوص عليها فى الكتاب أو فى السنةء وهذه بعد ذيوع الإسلام وانتشاره لا يعذر جاهل بهاء مادام مقيما بدار الإسلام فإن الجهل بأحكام الإسلام لا يعد عذرا من أهل دار الإسلام» ولكن يعد عذرا لمن يقيم بغير دار الإسلامء ممن دخل فى الإسلامء وعلى ذلك تطبق هذه الأحكام من وقت أن أعلنت الحقائق الإسلامية» وقد أعلنت من وقت نزولها من السماء وتبليغها من محمد الرسول الأمين الذى أدى رسالة ربه» وبلغهاء وأتم بلاغهاء ولكن ذلك الإعلان لا يفرض العلم به إلا من المسلمين المقيمين فى الدار الإسلامية» كما (1) الأحكام السلطائية ص 777 . خرض ذكرناء أما غيرهم فإنه قد يعذر فى الجهل بهاء لأن الحجزات الفكرية والمادية تحول دون أن يعرف ما أحل الله وما حرم» فكان ذلك عذرا فى الجهل يوجد شبهة تمنع إقامة الحدود. واستيفاء القصاص : بصريح القرآن الكريم: قل لذن كرا إن هوا قر هم ما قد لف2006 ولأن النبى علد قال لعمرو بن العاص عندما أسلم : «إن الإسلام يجب ما قبله»)» ومقتضى هذا لا يحاسب الإسلام أحدا دخل فى الإسلام على ما كان منه من قبل. . فالنبى كلع لم يحاسب أبا سفيان ولا امرأته على ما كان منهماء كما لم يحاسب قاتل عمه حمزة الذى آله قتله أشد الألم وبكاه وحزن أبلغ الحزن لمقتله. “”- وإن النصوص القرآنية تومئ بما فيها إلى أن القوانين لا تطبق على الماضى» وذلك لأنها كانت تقرن التحريم الذى يرد على أمر كان شائعا فى الجحاهلية باستثناء ما كان قبل الإسلام» وقد أشرنا إلى بعض من ذلك . فحرم سبحانه وتعالى نكاح زوجات الآباء» وبين أنه فاحشة ومقت» ثم استثنى ما كان منهم فى الجاهلية؛ » فقال تعالى: «إولا تتكحوا ما تكح آباؤكم من النّساء إلا ما قد ملف إِنَّه كان فاحشة ومقتَا وساء ؛ سبيلاً 2ج 204 . وحرم سبحانه وتعالى الجمع بين الأختين فى عصمة واحدة» واستثنى من الإثم ما كان منهم فى الجاهلية» ولذا قال تعالى : 9 وآن تَجْمَعُوا بين الأَختَينِ إلا ما قَدْ سَلف74". وحرم سبحانه وتعالى ربا الجاهلية. ومنع سيحانه أن تستمر عقودٍ الريا ذات أثر فى الإسلام» ولكن رفع الوثم عما سلف» فقد قال تعالى : «الْذين يأكلون الربا لا يفومون ِل كما يقوم الذي يتحبّطه ليطا من الس ذلك بِأنّهم فَلُوا نما الع مل اليا وَل الله ابيع وحم الربا فمن جاءه موعظة مَن رب قانتهئ قله ما سلف وأَمره إلى الله ومن عاد فأوك أصحاب لثّار هم فيها خَالدون 2 404 . ومن هذا نرى قاعدة عامة» لا قضية جزئية» إذ إن النص جاء فى صيغة عامة» إذ يقول سبحانه: فمن جاءه موعظة مَن رَبّه فانتهئ فَلَه ما سلف 2204 وإن هذه الصيغة لها عموم لا يقتصر على موضع» لأنه يقول ما معناه: من جاءته موعظة بأمر أو نهى عن فعل كان منه فى الجاهلية فانتهى فإنه لا يعاقب على ما كان منه» ويكون العقاب على ما سيحدث منه من بعد ذلك. إذ يكون على العود القابل» دون الذى وقع فى الماضى . )١(‏ الأنفال: 4” . (0) النساء : . (") النساء : ا (:) البقرة : 8/ا؟7 . (0) البقرة : ا -”١‏ وبهذا يتبين من تلك النصوص وما يشبهها أنه كقاعدة عامة لا عقوبة على ما كان قبل الإسلام ما حرمه الإسلام» ولا عقوبة قبل نصوص العقاب» ولكن لوحظ أن وقائع حدثت قبل نزول الآيات بالعقوبات وكانت هذه الوقائع سبب نزولهاء ومع ذلك طبقت العقوبة على هذه الوقائع التى كانت قبل نزولهاء وإن كانت هى السبب فى النزول. ومن ذلك: أ - اللعان : فإنه يروى أن رجلا جاء إلى النبى يلل فقال: «يا رسول الله إن الرجل يجد الرجل مع أهله. فإن قتله قتلتموه» وإن تكلم ضربتموه وإنت سكت سكت على غيظ» اللهم بين» فنزل قوله تعالى : ف« واْذين يرمون أزواجهم وم يكن لهم شهداء إل أنفسهم فشَهادة أحدهم أرع : شهاداتٍ بالله نه لمن الصّادقين 31> والْخامسة أن لعنت اللّه عليه إن كان من الْكَاذبين وق ويدرا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إِنّه لمن الكَاذبِينَ 22> والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصّادقين 57> ب وقد طبق على هذه الواقعة التى كانت سيب السؤال» فكان التطبيق على الماضى - ومنها أن آية الظهار نزلت فى واقعة ظهار كانت قبل نزولهاء ثم نزلت لأجلهاء فطبقت على ما وقع قبلها من هذا الظهار ومن غيره» فإنه يروى أن امرأة أوس ابن الصامت جاءت إلى رسول الله يَلِّه فقالت: يا رسول الله طالت صحبتى مع زوجى» ونفضت له بطنى» وظاهر منى2"7» فقال رسول الله يكلم «حرمت عليه؛» قالت: أشكو إلى الله فاقتى - وكررت ما قالت أولا - ورسول الله كله يكرر: (حرمت عليه»؟» وكلما قال عليه الصلاة والسلام ذلك صاحت» وهتفت : إلى الله أشكو فاقتى » فأشكاها الله سيحانه وتعالى» ونزل قوله تعالى :طؤقد سمع اللّه قَول عي تجادلك في زوجها وتشتكي إِلَى الله واللّه يسمع تحاوركما إن الله سمِيع بصير +87 2ك الذين يظاهرون منكم من تسائهم ما هن أمُهَاتهم إن أَمهَانهُم إل اللأتي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا م من القول وزورا إن الله لعفو غفور 22> والذين يظاهروت من نسائهم َم يعودون لما قَالُوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسًا ذَلكُم توعظوث به واللهُ بما تعملُون خبير 21> فَمن لم يجد قَصيام شهرين متتابعين من قبل أن يماسا فم لم يسمَطع فإِطّْعَامُ سين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود اللّه وللكافرين عذاب أليم + اننا وقد طبق ذلك الحكم على الواقعة فطلب )١(‏ النور 5 -9. (0) الظهار أن يشبه الرجل امرأة فى تحريمها على نفسه بإحدى محارمه» فيقول مثلا أنت على كظهر أمى . وكان إذا قال ذلك حرمت عليه على التأبيد. (") المحادلة : ١‏ - ع . ليرفا من الرجل ما قررته الآية الكريمة عقوبة على الظهارء فكان ذلك تطبيقا للعقوبة على ما وقع قبل نزولهاء وهو يتنافى فى ظاهره مع ما قررنا. - ومنها ما قيل من أن آية الحرابة سبب نزولها حادثة العرنيين»ء وطبقت عليهم» ذلك أن قوما من عرينة قدموا المدينة ثم اجتووها فأمر رسول الله كَل لهم بإبل ومعها راعيهاء وأمرهم أن يشربوا ألبانها وأبوالهاء فلما انطلقواء وأصبحواء فقتلوا الراعى وسملوا عينيهء واستاقوا الإبل» فأمر رسول الله يك بأن يقتلوا ببعد الماء عنهم وتسمل أعينهم» ونزل قول الله تعالى : َإنّما جزاء الذين يحاربوة الله ورسوله ريسعود في الأرض فسادا أن يلوا أو يصلبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا لهم في الآخرة عذاب عظيم 174 . وقد قالوا: إن النبى كله طبق عليهم نص الآية إذ قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف . ””- ولنا فى هذه المسائل نظرء ولنبدأ بآخمرها؛ لأنها إن صحت تكون أوضح فى تنفيذ الحكم قبل النزول» ونظرنا فيها يقوم على أن كون النبى يك طبق الحكم قبل نزول الآية ليس معناه أن الحكم لم يشرع قبلهاء فإن فعل النبى كله شرعء إذ إنه وَل «وما ينطق عن الهُوئ +22 إن هو إلا وحي يوحئ +22 2"74, على أن الأكثرين من الرواة لم يعتبروا هذه الحادثة إن صحت سبب نزول الآية» لأن ما حكم به كان قصاصا - لما وقع منهم. فقد سرقوا وكرروا السرقةء وقتلوا الراعى» ومثلوا بهء فوقع بهم مثل ما وقع منهم. على أن لنا فى هذا الخبر نظرا آخرء ذلك أن الخبر - وإن لم يكن فى سنده نقد - لكن فى معناه نقدء ففى متنه شذوذ لا يتفق مع المقررات الإسلامية الشابتة من الدين بالضرورة» ففى الخبر أنه سمل أعينهم. وتركهم حتى يموتوا عطشاء بل إن الراوى يقول إنهم كانوا من شدة العطش يكدمون الأرض» ولئن استسيغ قطع الأيدى والأرجل» لأنهم سرقوا وقتلوا وبغواء وارتدوا بعد أن أسلموا - ليس بمستساغ فى الإسلام التمثيل بهم بسمل أعينهم» كما أنه ليس بمستساغ فى الإسلام تركهم يموتون عطشا حتى يكدموا الأرضءفإن الحديث الصحيح يقول: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة» والنبى مَل يقول: «إياكم والمثلة ولو بالكلب»» ولم يعرف أنه فى قتاله مثل بقتيل» مع أن خصومه كانوا يمثلون 4 المائدة : ا" . (9) النجم : ا‎ )١( خرف ولقد استشكل العلماء معنى هذا الخبرء وقد جاء فى فتح البارى لابن حجر «استشكل القاضى عياض عدم سقيهم الماء» للوجماع على أن من وجب عليه القتل فاستقى لا يمنع من الماء» وأجاب بأن ذلك لم يقع عن أمر النبى لكيه ولا وقع منه نهى عن سقيهم؟. ولهذا نرى أن هذا الخبر لا يمكن أن يكون صحيح النسبة إلى النبى كله لما فى متنه من شذوذء ومخالفته للأحاديث الصحيحة المجمع على معناهاء وبعض ما جاءت فيه يخالف المعلوم من الدين بالضرورة» وإن فرض أن الواقعة صحيحةء فإنه لا يمكن أن تكون عن أمر النبى يكل ولا دليل على أنها بلغته» ولم يستنكرهاء وعدم النقل لا يقتضى أنها بلغته ولم يستنكرء بل القريب إلى المعقول أن يكون قد استنكرء ولكن بلغتنا الواقعة» ولم يبلغنا الاستنكار. 5- وأما الظهار فإن الحكم الذى نزل بالتكفير عن الظهار بالإعتاق» أو بصوم شهرين متتابعين» أو بإطعام ستين مسكيناء لم يكن إلا تخفيفا من الحكم الذى كان قائماء لأن الحكم الذى كان قائما هو التحريم المؤبد الذى لم يكن منه مناص» وهذا حكم شديد على الرجل والمرأة معاء إذ إنه سيحرمهما من الحياة الزوجية على وجه التأبيد» فخفف الحكم بهذه الكفارة. فهى مساغ للتحليل بعد هذا التحريمء وعلى ذلك نستطيع أن نقول إن قاعدة أن أخف العقوبتين هى التى تطبق وهى التى سارت فى هذه المسألة» لأن الواقعة إما أن يطبق عليها الحكم السابق وهو التحريم المؤبد» وهو عقوبة قاسية» وإما أن يطيق عليها الحكم المخفف وهو هذه الكفارة» ‏ وبتطبيق تلك القاعدة وجبت الكفارة. وكذلك اللعان فقد كان تخفيفا من الحكم العام ذلك أن الحكم العام كان حد القذف» فمن يرمى امرأته بالزنى يعد قاذفا كمن يرمى محصنة غيرهاء فلا فرق بين زوجة وغير زوجةء فلما جاء اللعان كان تخفيفا من حد القذف فيتحالفان» وكل منهما يبرئ نفسه» هو يبرئ نفسه من الكذب» وهى تبرئ نفسها من تهمة الزنى» وإذا تم اللعان على هذا لم يكن من المستحسن أن تستمر الزوجية؛ لأن الثقة بين الرجل وأهله قل فقدت. فلا معنى لبقائها بعد فقّدها. وبهذا تطبق القاعدة المقررة أنه يعاقب المتهم بأخف العقوبتين» فطبقت قاعدة اللعان بدل حد القذف. 5 وإنه بالبناء على هذا نتتهى إلى أن عقوبات التعزير التى يقررها ولى الأمر يلاحظ فيها تلك القواعد المقررة فى القوانين الحديثةء وهى أنها لا تطبق على الماضى إذا كانت العقوبة الجديدة التى فرضها ولى الأمر بقانون أشد مما كان يطبق من قبل أو لم يكن ثمة عقاب قطء وإذا كان القانون التعزيرى السابق عقوبته أشد واللاحق عقوبته يحض أخف فإنه يطبق اللاحق» وإن ذلك هو ما سلكه القرآن الكريم» والهدى المحمدىء فإذا جاء ولى الأمر وخالف هذه القاعدة يكون مخالفا لمنهج الإسلام» إلا إذا كانت ثمة ضرورة ملجئة أوجبت ذلك.» فإن الضرورات تبيح المحظورات» والله سبحانه وتعالى ولى التوفيق. ؟- سريان العقوبات على المكان ه”- إن العقوبات الإسلامية بالنسبة للمكان قسمان: القسم الأول : وردت به النصوص الشرعية» وهو ما جاء به الكتاب والسنة من عقوبات مقدرة فى الحدود والقتصاص.ء وهذا القسم عام لكل البلدان» غير خاص ببلد إسلامى دون بلدء وكل من يحل فى الديار الإسلامية يسرى عليه حكمهء لا فرق فى ذلك بين مسلم وغير مسلم» ولا إقليم دون إقليم» ما دامت شروط العقوبة قد استوفيت من كل الوجوهء بيد أنه من قبيل الترخيص الدينى أباح أبو حنيفة لغير المسلم أن يشرب الخمر ويأكل الخنزيرء فشرب الخمر ليس جريمة من الذميين تستحق العقاب عند أبى حنيفة» وخالفه الشافعى رضى الله عنه مستمسكا بالقاعدة المأثورة «لهم ما لنا وعليهم ما علينا»» وإن شرب الخمر جريمة عليها عقاب بالنسبة للمسلم» فتكون أيضا جريمة عليها عقاب بالنسبة للذمى» وخصوصا أن الخمر حرام فى كل الأديان السماويةء لا فرق بين دين ودين» ولكنهم استباحوا ما حرم دينهم» فحق عليهم أن يؤحذوا بجرم ما حرم دينهم الذى ارتضواء ولأن هذه حدود الله تعالى قد وضعها لنظام الجماعة الإسلامية ليكون مجتمعا فاضلاء فلا يصح أن يفسد بارتكاب أمر أوجب الله تعالى حدا فيه من غير أن يعاقب عليه مرتكبه. ولأن الخمر أم الخباتث» وفسادها لا يقتصر على مرتكبها بل يتعداه إلى غيرهء وعلى ذلك يكون الشافعى قد اعتبر عقوبات الحدود والقصاص من النظام العام» فتسرى على سكان الدولة أجمعين. هذا نظر الشافعى بالنسبة لحد الشرب» وجريمة شرب الخمرهء أما أبو حنيفة فقد كان حريصا على احترام الحرية الدينية بأوسع ما يكون الاحترام» وقد نظر إلى تحريم الخمر تحريما دينيا على أنه أمر من أصل التدين» فلا يخاطب بتحريم الخمر إلا من يخاطب بالتكليفات الإسلامية» وغير المسلمين ممن استظلوا بظل الإسلام لا يسوغ لنا أن نجبرهم على أمور هى من التدين عندناء وإلا كان ذلك تدخلا فى حرياتهم الدينية» ولذا لم يجز أن نتدخل بالتفريق بين المجوسى وزوجته إذا كانت إحدى محارمه» بل إنه سوغ للقاضى المسلم أن يحكم بآثار هذا الزواج من نفقات» ويقرر أبو حنيفة أن مسلكه هذا هو مسلك السلف الصالح من الصحابة والتابعين» ويروى فى ذلك أن عمر بن عبد العزيز أرسل إلى الحسن البصرى يسأله لماذا يترك النصارى يأكلون الخنزير ويشربون 4" نطق الخمورء ويترك المجوس يتزوجون من بناتهم» فرد عليه الحسن البصرى «على هذا دفعوا الجزية» وعلى هذا أقرهم السلف. إنما أنت متبع لا مبتدع». 5”- ذانك رأيان بالنسية للخمر وإقامة حدها على غير المسلمين المستظلين بظل الإسلام» إن الجمهوز على الرأى الأول الذى يمنع الذميين من الخمرء ومن الخنزير» وإنه فى نظرى هو الأقرب إلى المصلحة. ذلك أن الخمر حرمت لا فيها من مفاسد تعود على الجماعة الإسلامية لا على آحادهاء ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى فيها حدا من الحدود الشرعية. ولم يتركه لولى الأمر يقدر فيه ما يشاء من العقوبات» بل تولاه هو بنوع العقاب». فكان مما ينطبق عليه قول فقهاء القانون فى عصرنا الحاضر إنه من النظام العام»؛ وفوق ذلك إن تحريم الخمر على غير المسلم وعقوبته عليها من قبيل سد الذرائع» فإنه إذا كان غير المسلم فى جوار المسلم ويشرب الخمرء فإنه بذلك يحرض شباب المسلمين عليها. فمن قبيل سد الذرائع أن يمنع منها كما يمنع المسلمء فوق أن شربه لها مئاف لما يجب أن تكون عليه الجماعة الفاضلة من بعد عن الموبقات» والخمر أمها جميعاء فكل جريمة صعبة على النفس يهون ارتكابها بكأس يتناولها من يبتغى الجريمة ويقصد إليها. /الالا- هذا هو القسم الأول من العقوبات الإسلامية يسرى على الأمة الإسلامية فى كل بقاع الدولة الإسلامية» لأنه جزء من الأحكام الدينية لا يختلف فى إقليم عن إقليم» ولا فى صقع دون صقعء ولافى شخص دون شخصء أو قبيل دون قبيل. أما القسم الثانى: فهو الذى لم تكن العقوبة فيه مقدرة بتقدير الشارع» بل هى مقدرة بتقدير ولى الأمرء وهذا النوع هو الذى تكون العقوبة فيه تعزيرية» ولا تكون مقدرة بنص شرعى . وإن هذا القسم لا يلزم أن يكون واحدا فى الأقاليم الإسلامية كلهاء بل قد تتعدد النظم فى الدولة الإسلامية كلها تبعا لعلاج الفساد فى كل إقليم بما يمكن أن يدفع بهء وعلى ذلك يصح أن يكون لكل إقليم عقاب تعزيرى يختلف قدرا عن العقاب فى إقليم آخرء بيد أنه يجب أن يلاحظ أمران: أولهما : أنه إذا كانت الجريمة معصية ثابتة مقررة بنهى ديتى أو مخالفة لأمر واجب كترك الزكاة» فإنه يجب أن يكون لها عقاب مقررء وإن اتحتلف تقدير ذلك العقاب باختلاف الأقاليم» فترك الزكاة مثلا جريمة يجب أن يكون لها عقاب» ولا يصح أن يخلو قانون إسلامى فى أى إقليم من الأقاليم الإسلامية من عقاب عليهاء وإن اختلف مقدار العقاب ونوعه فى إقليم عن إقليم» وفى قبيل عن قبيل» وإن خلا إقليم إسلامى من عقاب يعد ذلك الإقليم وواليه قد أباح ما حرم الله تعالى» وعلى ذلك تكون دائرة ؟:؟ اختلاف الأقاليم فى مقدار العقاب ونوعهء لا فى أصل العقاب الذى لا يصح أن يخلو منه إقليم تنفيذا لأمر الله تعالى الذى اعتبر هذا جريمة تستحق العقاب. هذه هى الجرائم التى يكون تحريمها موجيا لنص دينى» أو أمر من الأوامر المنصوص عليهاء لا بد لها من عقاب» وإن اختلف مقداره؛ أما الجرائم الأخرى التى لم يكن أساسها نصاء بل ثيتت لأنها تؤدى إلى فساد. كالاحتكار فى بعض الأوقات فإن البيع والشراء فى أصلهما من المباحات» والتسعير تقييد لهماء ولم يجىّ نص صريح بجوازه» ولكن قد يؤدى إطلاق البيع إلى حبس الأقوات فى أيدى الأغنياء» وعجز غيرهم عنهاء ففى هذه الحال يكون التسعير واجبا فى الإقليم الذى ظهرت فيه الحاجة إليه» وغير واجب ولا جائز فى الإقليم الذى لم تكن ثمة حاجة إليهء وتكون مخالفته جريمة فى البلد الذى كان التسعير فيهء ولا يكون جريمة فى البلد الذى لم يكن فيه تسعيرء وبذلك يكون ثمة اختلاف فى أصل العقاب, لا فى مقداره ولا فى نوعه. - الأمر الثانى : أنه إذا كان ولى الأمر العام هو الذى يتولى تقدير العقوبات التعزيرية فى المعاصى التى تكون موجبا لنص قرآنى أو حديث نبوى قد يتوحد العقاب فيها إذا رأى ذلك» فيصح أن يضع عقابا ثابتا مقررا فى كل الجرائم المتحدة فى الأقاليم الإسلامية كلهاء وقد يخالف بينها على حسب قوة الردع ومقدار أثرهء ونوع كل عقاب» وما ينتج فيه بالنسبة للأقاليم المناسبة المختلفة . وإذا ترك ولى الأمر أو رئيس الدولة الإسلامية الأول لولاة الأقاليم» ومجالسها الشورية الحق فى وضع العقوبات التعزيرية بما يرونه رادعا للمجرمين فى إقليمهم». داقعا للفساد فيهء فإن العقوبات تختلف لا محالة باختلاف الآقاليم على الغالب» إذ كل إقليم سيدرس الفساد فيه» وذرائع دفعه» غير مقيد بما تنتجه الدراسة فى الأقاليم الأخرىء إلا إذا توحد الداءء وتوحد الدواءء وتلاقت الأفهام». أو جمعها الإمام الأعظم بشوراه على أمر موحد جامع. . وإن الجرائم الزمنية الإقليمية» التى لم يكن أساسها نصا من الشرع مختلفة العقاب بلا شك باختلاف الأقاليم والقبائل» لأن اعتبار هذا النوع من الأفعال جرائم أمر يختلف باختلاف الأزمان» واختلاف البلدان كما نوهنا. 8- هذا ويلاحظ عموم الجرائم التعزيرية بالنسبة للأشخاص. سواء كانت إقليمية زمنية أم كانت عامة بأن كانت مخالفة لنص دينى كأكل الرباء وكالرشوة» وكالغش والتزوير» والأفعال الفاضحة التى يكون من شأنها التحريض على الفاحشة وإشاعتهاء فإن هذه الجرائم تعم عقوبتها أهل الأقليم الذى تظهر فيهء ولا يختلف نوع العقاب فيهاء ولا مقداره باختلاف الناس» ولكن يختلف باختلاف قوة الإجرام» فلا تكون العقوبة على طبقة من الناس دون طبقة» ولا على قبيل منهم دون قبيل» ولا على ودف جنس دون جنس» ولا تكون عقوية الكبير أقل من عقوبة الصغير» فلا تكون عقوبة الرشوة من ذى الجاه أو الحسيب النسيب أمرا هينا ليناء وتكون قاسية شديدة إذا كانت من غير ذى جاه فإن الجرائم تكبر بكبر الكبيرء وتصغر بصغر الصغير على ما سنبين إن شاء الله تعالى» وإذا كان الناس يتفاوتون قدرا وشرفاء فتفاوتهم فى الفضائل لا فى الرذائلل» فلا يبدو تفاوتهم إلا فيما يتسابقون فيه من مكارم لا فيما يتتهكون من حرمات» ذلك لأن العدالة القانونية» توجب أن يتساوى الناس فى أصل الجزاء القانونى إن ارتكبوا ما يوجب العقاب على نظر فى ذلك بالنسبة للقدر» وإن كان تفاوتت فهو تفاوت طردى لا عكسى» أى الجريمة تكبر من الكبير فيكبر معها العقاب» وتصغر من الصغير فيصغر معها العقاب. وذلك هو الإسلام على ما سنبين إن شاء الله تعالى. 74- وإنه يجب أن يعرف أن سكان الأقاليم - سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين - خاضعون كل الخضوع لأحكام القوانين التعزيرية كخضوعهم للعقوبات المنصوص عليها فى الكتاب والسنةء فالمقيم فى إقليم من الأقاليم الإسلامسية» ولو إقامة مؤقتة كالمستأمنين من التجار الذين يدخلون الديار الإسلامية ليقيموا فيها أمداء فإن الجرائم التى تقع من هؤلاء عقوبتها هى عقوبة جرائم المقيمين» على تفصيل سنبينه» وما حدث فى الماضى من أن الأجانب الذين كانوا يقيمون فى الديار كانوا يعاقبون فى الجرائم بقوانين بلدهمء وبقضاة ة منهم - فأمر ليس من الإسلام فى شىء فى نظر جمهور الفقهاءء وما كان مثل هذا إلا من تهاون ملوك المسلمين وضعفهم واستخذائهم وانخداعهم بالأوربيسين» وظنهم الخير فيهم» » وما كانوا لذلك أهلا فقد كانت تلك الامتيازات غلا فى الأعناق» ثم صارت ذريعة لتحكم الأجنبى ثم لاستعماره» وهاهى ذئ الدول الإسلامية تنفض ذلك الغبارء ولذلك ابتدأت بإلقاء ذلك الحمل» وقد أخذ الاستعمار من بعد ذلك ينكمش شيئا فشيئاء وسيزول بعون الله تعالى عن بلاد الإسلام. ش وإن السبب فى عموم العقوبات على الأشخاص مهما تختلف دولهم ماداموا يقيمون فى أهل إقليم إسلامى - أن العقوبات لدفع الفساد» ومنع نمو الشرء وحفظ الجماعة. فكل جريمة تقع هى فساد فى الأرض يجب دفعه» وهى فساد مهما يكن مصدرهء فلا تكون نفعا إن كانت من شخصء. وتكون فسادا إن كانت من غيره» وما دامت فسادا فى كل صورها فإنه يجب ألا يختلف بالنسبة للأشخاص عقابهاء فلا يصح أن تكون الرشوة من الأجنبى لا عقاب لها إلا بقانونه وبقاضيه» والرشوة من المسلم يكون عقابها من الوالى والقاضى المسلم» مادامت قد وقعت فى أرض الإسلام. هذا نظر جمهور الفقهاء وأبى يوسف من أصحاب أبى حنيفة» أما أبو حنيفة» فقد فرق بين المستأمن والذمى» فقرر أن الذمى تسرى عليه كل العقوبات الإسلامية لأن >32 له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين» على النحو الذى بيناه» أما المستأمن فقد قرر أن العقوبات التى تثبت حقا للعبد أو حق العبد فيها غالب» تثبت عليه» والعقوبات التى تكون حقا خالصا لله تعالى كحد الزنى أو التى يكون حق الله فيها غالبا كالسرقة» فإن العقوبة لا تكون على المستأمن فيهء» وحجة أبى حنيفة فى هذا أن المستأمن عندما دخل الديار الإسلامية تاجرا أو مقيما فيها إلى أمد محدود التزم فى دخوله قوانين العدالة والإنصاف» والمعاملة الحسنة وعدم الاعتداء على حقوق العبادء فكانت كل العقوبات التى تتقرر لحقوق العباد كالقصاصء أو يكون حق العبد فيها واضحا كالقذف» أما ما يكون حقا خالصا لله لله تعالى فإنه لم يلعزمه7!) لأن أساسه الولاية» ولا ولاية على المستأمن» لأن إقامته لمدة معلومة» وكأن أبا حنيفة نظر إلى أن الحدود التى تكون من حقوق الله على أنها من التدين» وهو لم يلتزم بالأمان الذى أخذ عليه أن ينفذ أحكام الإسلام فى العبادات . ولكن ذلك النظر الذى اتجه إليه الإمام الأعظم لا يتفق مع ما ينبغى أن تكون عليه أمور الدولة الإسلامية من قرار الأحكام ومنع الفساد؛ ذلك لأن هذه الحدود التى تثبت حقا لله تعالى هى لدفع الفساد فى الأرض» وإنه بالبداهة من يدخل ديار الإسلام يلتزم بعدم الإفساد فى الأرض» وإنه لغريب كل الغرابة أن يدخل ويسرق ويزنى ولا يعاقب» وذلك فساد بالبداهة» ولكن أبا حنيفة انساق وراء نزعته فى الحرية الدينية التى يقررها لغير المسلمين» فقال ذلك القولء ولكنه لا يتفق مع نظر الدول وحكم سيادتها المطلقة» بتنفيذ قوانينها ومنع العبث والفساد فيها. -”*0١‏ وقد يقول قائل: إن الممثلين السياسيين لا يخضعون فى العقوبات إلا لقوانين بلادهم» وبقضاتهم» وذلك عرف دولى أقرته أكثر الدول وارتضته» أفإذا استقر مثل هذا العرف وارتضاه حكام المسلمين لا تكون فيه مخالفة للإسلام؟ وإنى أقول فى الجواب عن ذلك: إن العقوبات التعزيرية التى لم يرد فى عقوبتها نص من كتاب أو سنة تخضع لهذا العهد بلا ريب» لأن تقريرها من حق ولى الأمرء وإن كان يجب أن يستوثق ولى الأمر من أن المجرم السياسى لا يفلت من عقاب» وما دام قد تعهل بعهد هو فى سلطانه» فعليه أن يفى بهء فقد قال تعالى: وَأوقُوا بالْعهد إِنّ العهد كان مستُولا 204 . هذا بشأن العقوبات التعزيرية» أما الحدود والقصاص فإنى أرى أن مصادر الشريعة ومواردها لا تسوغ الاتفاق على ترك المجرم الذى ارتكب ما يوجبها ليحاكم على أساس قانون آخحر»ء وبقاض آخرء لأن ذلك يؤدى إلى تعطيل حدود الله تعالى فى أرض . ”5 : فتح القدير ج ؛ ص50١١ » 65( . (9) الإسراء‎ )١( 316 شرطا يخالف ما فى كتاب الله سبحانه تعالى» ولقد قال النبى يقد : «كل شرط ليس فى كتاب اللّه فهو باطل. ولو كان ماأكة شرطكا. وقال عَللِلٌ أيضا: المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراماء أو حرم حلالا», وقال ع : «كل صلح جائز إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا». وتعطيل حدود الله تعالى حرام لا شك فيهء اللهم إلا إذا اعتبرنا الالتزام فى ذاته واجب الوفاء من غير ملاحظة سواه وهذا غير صحيح . 7" وإنه يللاحظ أن الإمام أبا حنيفة رضى الله عنه يرى ألا تقام عليهم الحدود التى هى حق حالص لله تعالى» أو حق الله تعالى غالب فيهاء وهنا يثار بحث هو العبرة ة فى تطبيق العقوبات الإسلامية: أهى معتبرة ة بالموطن والمكان أم هى معتبرة بالشخص؟ فقد انتهينا فى بحثنا على النحو السابق إلى أن الذين يقيمون فى ظل الدولة الإسلامية تطبق عليهم تلك العقوبات من غير نظر إلى الدولة التى ينتمون إليهاء لأنها دفع للفساد فى الأرض الإسلامية ودفع الفساد أمر واجب ملزم لكل من يقيمون بين أما المسلمون الذين يقيمون فى غير الدولة الإسلامية» فإن المقرر أن هذه العقوبات لا تطبق عليهم إذا ارتكبوها فى أرض أخرىء فلو زنى المسلم فى غير بلاد الإسلام لا يقام عليه حد الزنى إذا حجاء إلى دار الإسلام وأقر بالجريمة التى وقعت منه فى هذه البلادء وكذلك إذا سرق» وإذا قتل دما غير معصومء وذلك هو رأى أبى حنيفة وإن هذا الموضوع لدقته. وتعمق نظر فقهاء الإسلام إليه - لا بد أن نقرر آراءهم فيه ببعض التفصيل - فإن الإجمال لا يغنى غناء؛ وذلك لأن الأقوال فى هذا الموضوع عند فقهاء الإسلام ثلاثة أولها : رأى جمهور الفقهاء وهو عموم ولاية الدولة الإسلامية على المسلمين حيثما كانوا وأينما ثقفواء فمن يرتكب جريمة من المسلمين فى أى بقعة من الأرض فإن حكم الإسلام فى عنقه يتبعه أينما كان» وحيثما حل» فما دام فيه رصف الإسلام ثور ملتزم حكمه لا تذهبه عنه أحكام الإسلام إلا إذا خلع ربقة الإسلامء فإذا زنى فى أى أرض» ثم جاء فأقر أمام القاضى بزناه إقرارا لا شبهة فيه أقيم عليه الحدء ونفذ فيه. كذلك إذا ارتكب جريمة سرقة ثم أقر بها وادعاها المسروق منه أمام القاضى المسلم فى الأرض الإسلامية أقيم عليه الحدء وكذلك إذا قذف. وإذا قتل»وإذا جرحء وإذا لم يمكن التنفيذ وهو فى ديار الحرب ولا المقاضاة فيها فإن ذلك لا يمنع المقاضاة ولا يمنع : 33ظ> التنفيذ عندما يكون فى الديار الإسلامية» وتسرى عليه الولاية الإسلامية فعلاء كما هى سارية عليه بحكم الإسلام وانتمائه للمسلمين. وإن ذلك لا يطبق على المسلم فقطء بل يطبق على الذمى ما دام باقيا على ذميته راضيا بالولاية الإسلامية؛ فإذا ارتكب الذمى فى دار الحرب ما يوجب حداء وثبت بشروطه فى دار الإسلام أقيم عليه الحدء وإذا ارتكب ما يوجب القصاص أو أى عقوبة فى الشرع الإسلامى مقدرة أو غير مقدرة» وقد ثبت تحريم الفعل الموجب لها بنص» فإنه يعاقب فى دار الإسلام إذا ثبتت تلك الجريمة؛ وذلك لأنه بانتمائه للدولة الإسلامية بعقد الذمة» وبرضاه ببقائه تكون الولاية الإسلامية ثابتة عليه كما هى ثابتة على المسلم على سواءء ولا فرق بينهماء ولا تنخلع عنه تلك الولاية إلا إذا زالت عقدة الذمة التى جعلته من ضمن الرعايا للدولة الإسلامية» له ما للمسلمين» وعليه ما عليهم» لا فرق بينه وبين أحدهمء فهو حيثما حل يكون فى الولاية الإسلامية وهو خاضع لأحكام الإسلام» ولا مناص له من النضوع لها إلا باطراح عقد الذمة» وعدم عودته إلى الديار الإسلامية . وأما المستأمن إذا ارتكب جريمة فى غير الديار الإسلامية فإنه لا يسأل عنها فى الديار الإسلامية؛ لأنه لا ولاية للمسلمين عليه فى مدة إقامته فى ديار الحرب». ولا ولاية للدولة الإسلامية عليه» وإن سريان العقاب عليه فى أثناء إقامته فى ديار الإسلام إذا ارتكب جريمة فى تلك الديار إنما ذلك لأنه التزم تلك الأحكام فى تلك المدة المؤقتة» لا لأنه دخل فى ولاية المسلمين. هذا هو قول الجمهورء ومرماه عموم الولاية الإسلامية فى العقوبات بحيث تكون فى عنق من تكون عليه هذه الولاية أينما كان» وهو يرى عموم الولاية فى المكان وعمومها فى الأشخاص معاء فكما أن الولاية على كل من تظله أرض الإسلام» فهى أيضا ثابتة على كل من ينتمى إلى دولة إسلامية أينما كان». سواء أكان هذا ثابتا بمقتضى الإسلام» أم كان ثابتا بمقتضى عقد الذمة17 . وإن الأفعال تكون موضع عقاب ما دامت تستحق العقاب فى نظر الإسلام» ولو كانت لا تستحق العقاب فى البلاد التى وقعت فيهاء فالربا يستحق العقاب فى الشريعة الإسلامية» فإذا وقع فى بلد تبيحه ولا تعاقب عليه» فإن المسلم لا يعفى من العقاب فى الديار الإسلامية» ولو وقعت تلك الجريمة تخارجها. )١(‏ راجع هذا القول بتفصيله فى مواهب الجليل جا ص5 ”١‏ بالمدونة ج5١‏ ص١1‏ طبع الساسى؛ والمهذدب ج” ص7605 والمغنى ج١١‏ ص1:79 والشرح الكبير جه ص23787 وكلاهما طبعة المنار الآولى. ا" وقد يقال: لماذا تقام هذه العقوبات فى الديار الإسلامية» وقد وقعت فى غيرها؟ والسبب فيها دفع الفساد من الديار» والفساد ما كان فى ديار الإسلام بل كان فى دار الحرب» وهى رجس فى رجس. والجواب عن ذلك أن المسلم مخاطب بتحريم هذه الأفعال» وهو منهى عنها لما فيها من فسادء سواء أكان فى دار الإسلام أم كان فى غيرها لأنه لا يصح أن يكون المسلم مفسدا فى أى أرض كانء وما أبيح شىء فى دار الحرب إلا ما يكون متعلقا بأحكام الحرب» وقد أمرنا بالتقوى حتى فى الحرب ودفع الاعتداع» فقد قال: « فَمن اعتدئ عليكم فَاعتَدوا عليه بمثل ما اعتدئ عليكم ونوا الله وَاعلَمُوا أن الله مع الْمتّقين 2274 , 47 1- هذا توجيه القول الأول» أما القول الثانى» فهو قول أبى حنيفة وأصحابه رضى الله عنهم. وهو أنه لا عقوبة على مسلم أو ذمى يرتكب جريمة توجب حداء كما أنه لا قصاص على الجرائم التى تقع فى دار الحربء ولو كانت من مسلم أو ذمى» وإن كانت الدية تجب. وعلى هذا نقول: إن مقتضى مذهب الحنفية هذا أنه لا حد ولا قصاص فى جريمة تقع فى دار الحرب» ولكن يحل محل القصاص الدية إذا كان المقتول معصوم الدم. وهذا الرأى يقوم على أساسين: أحدهما : أن العبرة بشبوت الولاية الإسلامية الفعلية على الجانى عند ارتكابه. فلا عبرة فى إثبات العقاب بالولاية الحكمية» لأن العقاب جزاء فعل يقع على المرتكب». فلا بد عند الارتكاب من أن تملك الدولة الإسلامية توقيع ذلك العقاب عند الارتكاب» وإلا وقع خارجا عن طائلة العقاب» وهذا النظر يختلف عن نظر جمهور الفقهاء؛ لأن الجمهور ينظرون إلى الولاية الإسلامية الحكمية عند الارتكاب» والتنفيذ يكون عندما يحين وقت التنفيذ فلا يتجه إلى الولاية الفعلية إلا عند التنفيذ»ء وكأنه يشترط عند الجمهور لتوقيع العقاب ثبوت مجرد ولاية عند الارتكاب» وعند الحخنفية يشترط ثبوت ولاية قادرة على التنفيذ وقت الارتكاب» فإذا وقع الفعل فى بلاد الحرب» فهو قد وقع غير معاقب عليه» لعدم وجود من يملك العقاب ساعة الارتكاب. الأساس الثانى : أنه لا يذهب دم مسلم هدراء فإذا قتل مسلم أو ذمى فى دار الحرب مسلما أو ذمياء فإن القصاص غير ممكن ساعة الارتكاب فلا يثبت» ولكن تثبت الدية لكيلا يذهب الدم هدراء ودم المسلم معصوم لا يصح إتلافه» ولأن الدية تثبت فى ماله» وقد يكون له مال فى دار الإسلام فيمكن التنفيذ» فتكون الولاية الفعلية ثابتة بهذا المعنى» وقد وضح هذه المعانى الكاسانى» فقال رضى اللّه عنه: 0( البقرة : 4 "1 «إذا زنى فى دار الحرب أو سرق أو شرب الخمر أو قذف مسلما لا يؤخذ بشىء من ذلك؛ لأن الإمام لا يقدر على إقامة الحدود فى دار الحرب لعدم الولاية (أى الولاية الفعلية) ولو فعل شيئا من ذلك ثم رجع إلى دار الإسلام لا يقام عليه الحد أيضاء لأن الفعل لم يقع موجبا أصلا. . . وكذلك إذا قتل مسلما لا يؤخذ بالقصاص وإن كان عمدا لتعذر الاستيفاء إلا بالمنعة» ولأن كونه فى دار الحرب أورث شبهة فى الوجوب. والقصاص لا يجب مع الشبهة. ويضمن الدية خطأ كان أو عمداء وتكون فى ماله لا على العاقلة» لأن الدية تجب على القاتل ابتداء» لأن القتل وجد منهء ولهذا وجب القصاص والكفارة على القاتل» لا على غيره» وكذا الدية تجب عليه ابتداء وهو الصحيح» ثم العاقلة تتحمل عنه بطريق التعاون لما يصل إليها بحياته من المنافع» من النصر والشرف بكثرة العشائر والبر والإحسان لهم ونحو ذلك» وهذه المعانى لا تحصل عند اختلاف الدارين فلا تتحمل عنذئذ العاقلة) 17 . ويلاحظ أن هذا الرأى الذى قاله أبو حنيفة ومعه صاحبه محمد يطبق على كل الجرائم سواء أكانت جرائم على الأبدان أم كانت جرائم على الأموال» حتى إن العقود الربوية إذا انعقدت فى دار الحرب بين مسلمين أو بين ذميين» أو بين مسلمين وذميين أو حربيين فإنها تنفذ فى ديار الحرب, فالربا إذا وقم فى دار الحرب. ولو بين مسلمين لا يعاقب عليه فى دار الإسلام؛ لأن الرضا قد ثبت» ولأن الولاية الفعلية غير ثابتة. 4”- هذا تحرير قول الإمام أبى حنيفة وصاحبه محمد» وهو القول الثانى» أما القول الثالث فهو قول أبى يوسف رضى الله عنه» وهو يوافق الجمهور فى أمرين: أولهما : أن المستأمن إذا دخل دار الإسلام سرت عليه أحكام الإسلام. وثانيهما : أن المعاملات الربوية حرام فى دار الحرب من المسلمء كما هى حرام فى دار الإسلام» وحجته أن الربا -حرام» وأنه لا يحل للمسلم» وأنه حرام لذاته لا لغيره» وآن الحرام لذاته إذا دخل فى عقد لا يثبت ملكية فيه. إذ ليس من المعقول أن يكون فى ذاته حراماء ومع ذلك تثبت الملكية فيه - هذا بالنسبة للمسلمء أما الحربى فإن الربا حرام عليه حتى فى ديانته» فاليهودية والنصرانية فيهما التحريم الصريح للرباء والعقل أيضا يحرم الرباء لأنه أكل لمال الناس بالباطل» ولأنه كسب غيسر طبيعى» إذ النقد لا يلد النقد. هذان هما الأمران اللذان يتفق فيهما رأى أبى يوسف مع رأى الجمهورء أما مخالفته لرأى الجمهورء فهى فى أن الجرائم ليس لها عقوبات إلا الديات» وقد بينا وجهة نظر الفريقين فى هذا. 220 البدائع جلا ص١؟١.‏ >38 0 - هذا هو سريان القانون الجنائى الإسلامى على المكان بالنسبة للمسلمين مع غيرهم» وبالنسبة للمسلمين فيما بينهم» ومن يستظل بظلهم» ولكن الآن قد تقطع المسلمون دولا أو دويلات» كل دولة لها حوزة قائمة بذاتها من غير أن تتصل بأى نوع من الاتصال بغيرهاء وقد تكون بينها حرب. أو ما يشبه الحرب من سلم تنقطع فيه العلاقات. فتركيا مثلا تكاد تكون العلاقة بينها وبين أكثر الدول العربية منقطعة من الناحية الأدبية» لأنها توالى من خرب بعض ديار المسلمين» وأخرج أهلها عراة جياعا لا يملكون شيئاء فهل يصح مع هذه الحال أن تكون الأحكام الإسلامية سارية على كل المسلمين» فإذا كانت أحكام إحدى الدول الإسلامية مبنية على القرآن والسنة فيما يتعلق بالعقوبات فهل تسرى أحكامها على رعايا الدولة الأخرى التى تقيم إقامة مؤقتة فيها؟ وهل تسرى أحكامها على رعاياها التى تقيم فى الدولة الأخحرى التى لا تطبق هذه الأحكام؟ تلك مسألة نريد أن نأخذ حكمها من القياس على أقوال الفقهاءء لأنه لم تكن ثمة نصوص مروية عنهم فى مثل هذه الحالة» إذ الإسلام يفرض أن الجماعة الإسلامية تنتتهى إلى أمة واحدة ويجمعها نظام واحد فى العقوبات الأصلية المنصوص عليها فى الكتاب والسنة» وهى الحدود والقصاص والديات الواردة فى سنة رس وله يلَييةٌ والتى تعتبر تفسيرا بينا لما جاء فى الكتاب الكريم. وإنه لكى تكون الإجابة سديدة مشتقة من روح الإسلام والأحكام المقررة الثابتة التى استنبطها الفقهاء - يجب أن نفرق بين حالين: إحداهما : أن يكون رعايا الدولة التى لا تطبق أحكام الإسلام مقيمين إقامة مؤقتة فى ديار أخرى تقيم حكم الإسلام. والثانية : أن يكون رعايا الدولة التى لا تطبق حكم القانون الجنائى الإسلامى مقيمين فى ظل الدولة التى لا تطبق الإسلام» وتطبق القوانين الآوربية كتركيا مثلا. #6 - ولنتكلم فى حكم ما إذا كانت رعايا الدولة التى لا تطبق أحكام الإسلام يقيمون فى الديار التى تطبقهء وهنا نقرر أن أحكام القانون الجنائى الإسلامى يجب أن تسرى يحذافيرها على هؤلاء الرعايا؛ وذلك لأن هذه أحكام إسلامية مشتقة من الكتاب والسنة» والمسلم يدين بها حيثما كان. وأينما ثقف. وتعطيلها فى دياره» وعدم تنفيذها عليه فيها لا يقتضى أن يكون قد خلع ربقة الإسلام» إذ هو مأخوذ بأحكام الإسلام تنفذ عليه ما أمكن التنفيذ» واختلاف الدولة أو حوزة الملوك والأمراء أو الحكام بشكل عام لا يسوغ التحلل من أحكام الإسلام» لأنها ثابتة له بوصف أنه مسلم» لا بوصف آخرء ولأن الإسلام يعتبر المسلمين جميعا أمة واحدة لا فرق بين تركى وعربى ولا آرى وسامىء» بل الكل لآدم وآدم من تراب ولا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى. وأحكام الله ثابتة للجميع على سواء. الحا وإذا كان اتفاق بين الدولة التى تنفذ الأحكام والأخرى التى لا تنفذها على أن يعامل رعاياها بمقتضى أحكامهاء لا بمقتضى أحكام الإسلام فهو اتفاق باطل. وهو رد عليهاء لا تلتزم به إحداهما - لأنه اتفاق على تعطيل حدود الله وأحكامه. وكل اتفاق على ذلك فهو ردء لما ذكرنا من قوله كَللِْةِ: «المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا», وهذا الاتفاق من ذلك الصنف, وإذا كان الاتفاق يقع باطلا إذا كان بين المسلمين وغيرهم» فأولى ثم أولى أن يكون باطلا بين الدول الإسلامية فيما وتطبيق هذا الحكم ينتهى إلى أن الحكومة الحجازية إذا كانت تقيم الحدود فى بلادهاء فإن هذه الحدود تقام بها فى موسم الحج على كل حجاج بيت الله الحرام» لا فرق بين باكستانى وإيرانى وأفغانى ومصرى وإنجليزى وأمريكى» وتركى؛ فالجميع خاضعون فى هذا لمقتضى الحكم الإسلامى» وهم جميعا فى ضيافة الرحمن منزل هذه الأحكام . 17 هذا هو حكم الحال الأولى» أما الحال الثانية فهى أن يكون رعايا الدولة التى تطبق هم الذين يقيمون فى ظل الملك أو فى حوزة الأمير الذى لا يطبق كأن يرتكب سعودى فى تركيا ما يوجب حدا أو قصاصاء ولا تنفذ عليه عقوبته» وفى هذا الحال نقول: إن الخلاف الذى ذكرناه آنفا يجرى هناء فجمهور الفقهاء قرروا أنه ينفذ عليه الحكم الشرعى إذا ثبت عليه عندما يعود إلى الإقامة فى دولته التى تطبق الأحكام. فإذا سرق ولم يقم عليه حد السرقة. ثم أقر بالسرقة حتى عاد إلى دولته فإنه يقام عليه الحدء وكذلك إذا زنى» وكذلك إذا قذف مسلما حرا لم يقم عليه حد القذف حتى إذا جاء إلى الديار التى تقيم الحدود فإنه يقام عليه الحدء وهكذا... لأن نظر الجمهور متجه إلى شخص المرتكب» وإذا كان الذى يرتكب ما يوجب الحدود فى دار الحرب يقام عليه الحد - إذا عاد إلى دار الإسلام - فإنه يكون أولى إذا كان الارتكاب فى ديار إسلامية وإن كانت لا تطيق الحدود. هذا تطبيق قول الجمهورء أما الحنفية فإنه بمقتضى تطبيق قواعد مذهبهم لا يقام الحد إذا '-ختلفت الحوزة» وكانت -حدى الدولتين تطبق أحكام الإ-سلام والأخرى لا تطبق» وذلك لسيبين: أولهما : ما قررناه من أن الأصل عندهم فى تنفيذ الأحكام الإسلامية هو الولاية الفعلية لا الولاية الحكمية» فإذا وقع الفعل الموجب للحد أو القصاصء والوالى الذى يقسيم الحدود يستطيع التنفيذ وقت الوقوع فإن الفعل يقع فى الوجود موجبا لهذا العقاب. وإذا كان الحكم لا يمكن تنفيذه من الوالى الذى ينفذ الحكم الإسلامى وقت الارتكاب لا يثبت العقاب لأنه نشأ غير موجب للحد أو القصاص. اله" السبب الثانى : أن الديار الإسلامية التى تطبق أحكام الإسلام ينطبق عليها وصف أنها دار العدل» والأخرى تشبه دار البغى» ومن المقرر فى الفقه الحنفى أن الحدود إذا ارتكبت فى دار البغى» لا تنفذ إذا أقر بها المرتكب فى دار العدل» لا يقام الحد. لأن الشرط كما قلنا عند الحنفية لثبوت العقوبة الإسلامية على الفعل - تحقق القدرة على التنفيذ وقت الارتكاب» ولو صار المرتكب بعد ذلك فى حال يمكن تنفيذ الحكم عليه. وقد يسأل سائل: لماذا اعتبرت ديار الذى ينفذ الأحكام الإسلامية دار العدل. واعتبرت اللأخرى تشبه دار بغى أو دار بغى حقيقة؟ والجواب عن ذلك أن من المقررات أن الطائفة التى لا تنفذ أحكام الإسلام تعد فى نظامها وترتيبها غير عادلة» وذلك لقوله تعالى : ل ومن لم يحكم بمًا أنزل الله فَأُولَك هم الظَالمُونَ 23(4, والطائفة التى تنفذ أحكام الله تعالى: تعد عادلة» وعلى المسلم أن يلجأ إلى من ينفذ أحكام الله تعالى فهى المعاذ» وهى الملجأء وهى المنقذ من الضلالء» وإذا كانت لا تنفذها وتجاهر» فهى باغية» أو على الأقل تعد كالباغية. هذا ما انتهينا إليه فى تخريج هذه القضية على ما قرره الفقهاء» وهو تخريج بين واضح يكاد يكون نصاء وليس استنباطاء والله سبحانه وتعالى خير الفاصلين. سريان القانون على الأشخاص بلا تفرقة 4- إن القانون الإسلامى الجنائى فى تطبيقه لا يفرق بين الناس فى الطبقات فالكل سواء أمام القانون لا فرق بين -شريف وضعيف» ولا غنى وفقير» ولا عربى ولا أعجمى» ولا حاكم ولا محكوم» فالناس يتفاوتون فى الفضل» وكل ذى فضل له فضله. ولكن فى العقاب هم سواء إن كان منهم سبب للعقاب» ولقد وردت بذلك النصوص الدينية المقررة لمبدأ التساوى المطلق فى الأحكام القانونية» ولقد قال تعالى: «إيَأيهَا اناس إِنَا حفاكم من ذكرٍ وأنتئ وجَعلَناكُم شعُوبا وقبائل لتعَارقُوا إن أَكْرمَكُمْ عند الله أتقاكم 274 ولقد قال يك «كلكم لآدم» وآدم من تراب» لا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى». وقد قال يَليْْةّ أيضا: «الناس سواسية كأسنان المشط). ولقد أهم قريشا شأن المسخزومية التى سرقت عقب فتح مكة والإسلام مازال جديدا بين قريش» فكلموا أسامة بن زيد حب رسول الله ككةِ ليشفع فى شأنهاء فقال عليه الصلاة والسلام مستنكرا لائما: (أتشفع فى حد من حدود الله ثم وقف خطيبا يقرر مبدأ المساواة بين الناس فى أحكام الشرع الإسلامى فقال يَلِْةِ: «أيها الناس إنما .١7 : المائدة : 58 . (؟) الحجرات‎ )١( "1 أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه» وإذا سرق الضعيف قطعوه. وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها». وهذا قول حازم قاطع بأنه لا تفاوت فى العقوبة إذا تفاوتت الأنساب؛ لأن الجريمة واحدة» وهى تضع صاحب النسب الشريف حتى يقتص منه» فالحريمة صغار ولا اعتبار للرفعة فى موضع الصغارء وإذا كان لها اعتبار فلتكبر الجريمة ويكبر معها العقاب. ولقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقرر أن القوى ضعيف حتى يأخذ الحق منه» والضعيف قوى حتى يأخذ الحق له وكان يقبل أن يقتص منه إذا آذى إنسانا بغير حق» وكان ينهى الأمراء عن أن يضربوا أبشار الناس» ويهددهم وهو الصادق فى عزمته أنهم إن ضربوا الناس ليأخذنهم بحكم القصاصء وقد نفذ ذلك فعلا عندما علم أن ابن عمرو بن العاص ضرب مصرياء» لأنه سبقه » فأحضره» وأعطى السوط للمصرى ليقتص من ابن عمرو» وكان كلما سكت قال: زد ابن الأكرمين» وكان يكرر هذه الكلمة؛ لأن وهكذا ما كان يفلت من العقاب أحد لشرفه» ولا يخرج عن حكم الإسلام أحد لنسبه» وإن النبى عل كان ينادى قومه بذلك النداء الحخازم». ٠‏ فيقول: «يا معشر قريش لا يأتينى الناس بالأعمال» وتأتونى بالأنساب» . ولقد قال عمر بن الخطاب: «لوددت أنى وإياكم فى سفينة فى لحة البحر تذهب بنا شرقا وغرباء فلن يعجز الناس أن يولوا رجلا منهم» فإن استقام اتبعوه » وإن ضعف قتلوه» فقال طلحة بن عبيد الله : وما عليك لوقلت: وإن تعوج عزلوه» قال: «لا. القتل أنكل لمن بعده» . هذا بيان عموم الأحكام على الأشخاصء. ولكن شمولها للحكام يحتاج إلى بعض التفصيل » نذكره فيما يلى : سريان العقوبات على الحكام 4”- وإن مبدأً المساواة فى العقاب إن وقعت الجريمة قد قرره الفقهاء» مقتبسين ذلك من الهدى المحمدى» فلم يجعلوا لأحد امتيازا فى الإجرام» ولو كان ذلك هو الإمام الأعظم الذى ليس فوقه أحد من الولاة بحكم منصبهء وقد اتفقوا على ذلك». وإن اختلفوا فى التنفيذء لا فى أصل استحقاق العقاب»ء فإذا ارتكب الإمام جريمة قصاص أو حدا استحق العقاب» وقد قرروا ذلك جميعاء ولكنهم اختلفوا فى تنفيذ الحدودء لا فى أصل استحقاق العقاب» فليس للإمام الأعظم شخصية مصونة لا تمس » إنما شخصه يتساوى مع الحم اء أمام شرع اللّه تعالى. بع الشميع على سواء أمام شرع الله تمالى ردنا وقد قرر الحنفية مع جمهور الفقهاء إنه إذا ارتكب ما يوجب القصاص وجب عليه القصاص . ولكن إذا ارتكب ما يوجب الحد لا ينفذ فيه حكم الحد عند الحنفية» إن كان يستحقهء وهذه المسألة قد ورد حكمها فى الجامع الصغيرء وقد نقلها شهاب الدين شلبى» فقال: «صورتها فيه (أى فى الجامع الصغير) محمد عن يعقوب عن أبى حنيفة فى الإمام الذى ليس فوقه أحد إذا صنع شيئا يجب فيه الحد- فلا حدء وأما القصاص والمال أخذ به». وفسر الفقيه أبو الليث فى شرحه الجامع الصغير الإمام الذى ليس فوقه إمام بالخليفة فقال: «اعلم أنه إذا قذف إنسانا أو زنى أو شرب الخمر فيؤاخذ به عليه فى الدنياء ولآن هذه الحدود تفوض إقامتها واستيفاؤها إلى الإمام لكونها حق الله تعالى](2 , وإن السبب الذى يستفاد من هذا الكلام أن ولى الأمر مؤاخذ مؤاخحذة تامة من الناحية الأخروية فى كل ما يرتكب» وأنه يستحق العقاب الدنيوى فى كل ما يجرم فيه ولكن لا يقام عليه الحد. وينفذ عليه القصاص فى الأبدان» والاعتداء فى الأموال» أى أن القاضى الذى ينفذ شرع الله إذا رفعت إليه تهمة موجهة لولى الأمر الذى ليس فوقه أحد إلا رب العالمين» فإن القاضى يسير فى الدعوى ويثبتها إذا كانت تتعلق بالدماء أو الأموال» أما إذا كانت تتعلق بالحدود فإنه لا يسير فيهاء والأساس فى الاختلاف بين الحد والقصاصء ومثله الأموالء أن الحد حق الله تعالى» وحقوق الله تعالى يتولى تنفيذها ولى الأمر بما خوله اللّه تعالى من سلطان. وهو لا ينفذها على نفسهء أما الدماء والأموال» فهىٍ حقوق العباد» وإن ذلك الحق ثابت ابتداء للعبادء فقد قال تعالى: ف ومن قُتل مظلوما ققد جَعَلنَا لوليه سلْطَانا فلا يُسْرف في الْقَل إِنّهُ كان مَصورًا م 2©0, فالمطالبة والتنفيذ يكون من صاحب الحق» وهو أمر استمده من حكم الله القاهر فوق عباده وليس للقاضى فيه إلا المعاونة على إظهاره. وإذا كان الحد لا يمكن تنفيذه على الإمام لأنه هو الذى ينفذه - لا يثبت لما ذكرنا من أن نظرية الحنفية أن الأساس فى إثبات الحدود هو إمكان تنفيذها وقت ارتكاب سبيهاء أما القصاص فإن تنفيذه ممكن. وليس فيه إلا القدرة على التنفيذ من المجنى عليه . وقد وضح كمال الدين , بن الهمام طريق التنفيذ. فيين أن جمهور المسلمين من واجبهم منعة المظلومء وحقوق العباد كالقصاص» وضمان المتلفات واجبة» لأن حق استيفائها لمن له الحق فيكون الإمام فيه كغيره» وإن احتاج إلى المنعق فالمسلمون منعته » . ١8ص حاشية تبيين الحقائق‎ )١( ٠. زفة الإسراء رضن‎ اناا فيقدر بهم على الاستيفاء. فكان الوجوب مقيدا؛ وبهذا يعلم أنه يجوز استيفاء القتصاص بدون قضاء لتمكن الولى من الاستيفاء لأنه شرط)20؟ . وبهذا يتبين أن مقتضى المذهب الحنفى أن جماهير المسلمين هم الذين يحمون المجنى عليه وهم الذين يعينونه على تنفيذ القصاص من أمير المؤمنين» ولو كان مننتخبا انتخابا حراء وإن هذا يدل على أن قانون الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يوجب على جمهور الأمة أن يمنع الإمام الأكبر من الظلم إن أرادهء فإن هذا هو التطبيق الحق لمقتضى الأمر بالمعروف والنهى عن المتكرء وحمل الحاكم على العدل حملاء الذى ورد به الأمر العام فى مثل قول النبى كَكّْ: «لتأمرن بالمعروف» ولتنهون عن المنكر أو لتأطرن على الحق أطرا) . ش إذا كان هذا نظر الحنفية» فلماذا لم يمكنوا المسلمين من أن يقيموا عليه الحدء كما كان لهم أن يقتصوا منه إذا اعتدى على أحدء لأنه إذا كانت العبرة بأن الحدود حق الله تعالى» فالمسلمون يتولون إقامة حق الله تعالىء» كما تولوا تمكين المجنى عليه من أن يقتص؟ والحواب عن ذلك أن ولى الأمر هوالنائب فى إقامة الحدود. وليس من المعقول أن يتولى أحد من المسلمين تنفيذ الحد؛ لأن ذلك يؤدى إلى الفوضىء» والمسلمون .لا يمكن أن يجتمعوا ليقيموا الحد. إذ لا سبيل إلى اجتماغهم» وعندئذ يكفى قيام البعض عن الكل» وعندئذ يتصور أن يقوم رجل فيعتدى على الإمام الأعظم باسم أنه ارتكب حدا أو شاع عنه أنه ارتكب حداء وتلك هى الفوضىء واضطراب حبل الأمورء بخلاف القصاص والأموال» فإن الذى يتولى القصاص معين. وهو المجنى عليه أو وليه؛ وعمل الناس فى ذلك هو إعانته على استيفاء حقه. هذا نظر أبى حنيفة وأصحابه» أما جمهور الفقهاء فقد قالوا: يعاقب بكل العقوبات المقدرة لا فرق بين حد أو قصاصء ولا بين حقوق الله تعالى وحوق العباد» لأنه مسئول عن جرائمه ككل الناس» وإن خير النبيين محمدا يي كان يعلن استحقاقه العقاب إن كان منه ما يوجبه» وكان يدعو الناس إلى القصاص منهء ولقد قال فى ذلك لله وهو يدعو الناس إلى القصاص منهء وقد ظهر فيه الإعياء» وأحس أنه مرض الموت: «يا أيها الناس من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهرى فليستقد منه» ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضى فليستقد منه» ومن أخذت له مالا فهذا مالى فليأخذ منه» ولا يخش الشحناء فإنها ليست من شأنى» آلا وإن أحبكم إلى من أخذ منى حقا إن كان له أو حللنى فلقيت ربى وأنا طيب النفس)29© . .١16!ص‎ ” فتح القدير جج ص١١١ . هق تاريخ اين الآثير ج‎ )١( >” وإذا قيل إن ذلك فى حقوق العباد فحقوق الله أولى بالمؤاخذة» لأنها إصلاح المجتمع» وإهمالها إشاعة للفساد ونشر لهء ولا يصح أن يؤاخذ عامة الناس ولا يؤاخذ من يلى أمر الناس» وهو يليها للإصلاح لا للإفساد. وعدم إمكان التنفيذ لا يستدعى السقوط. وإنه إذا لم ينفذ عليه الحد لبطشه وقوته وسلطانه فليس ذلك بموجب سقوط الحد عليه» بل يستمر فى عنقه حتى يمكن التنفيذ فيه إن بدا فيه ضعفء أو أدال الله تعالى من دولته الظالمة التى تستبيح الحرمات» وترتكب المتكرات. وإن تنفيذ الحدود ليس إليه وحدهء فإذا أهمل التنفيذ يكون لغيره» وهو القاضى الذى يناط به ذلك. -0١‏ على أن التنفيذ ليس مستحيلاء بل هو ممكن. بأن يتولاه القاضى كما أشرناء أو الولاة الذين هم دون الحاكم الجانى» وقد يقول قائل: إن التنفيذ لا سبيل إليه إلا أن يكون هو المنفذء لأن الولاة ليس لهم سلطان فى التقاضى» وذلك السلطان للقاضى الذى يتولى بأمره وهو نائب عنه ويتولى السلطان من قبله. فكيف ينفذ الحكم فيمن ولاه هوء وله عزله. والأحكام تنفذ تحت سلطانه. فله منع التنفبذ فى أى وقت شاءء وإن خالف عصىء وله عزل المنفذ. وقد أجاب الفقهاء عن ذلك بأن القاضى إذ ينفذ عليه حد الله إذا أراد أن ينفذ إنما ينفذ حكم الله تعالى» وإنه ليس وكيلهء وإنما هو كم على مصلحة المسلمين» وإقامة الحق بينهم بولاية عامة يتولاهاء ولنشر بكلمة مفصلة لهذين الأمرين: أما الأمر الأول : وهو كونه ينفذ حكم الله لا حكمه. فبيانه أن من المقررات الشرعية أن الحدود والقصاص وغيرهما من العقوبات التى تكون مأخوذة من النص الدينى من الكتاب أو السنة - الخطاب فيها عام لجماعة المسلمين» يخضع لها الأميرء وغير الأميرء والحاكم وغير الحاكم» والحاكم تبعاته بالنسبة لها أشق» فولاية الحكم بها ثابتة للأمة مجتمعة. ولكنها ككل الفروض الكفائية لا يقوم بها الجميع» ولكن يقوم بها البتعض» وهو من يخصص لها بمقتضى مواهب تأهله وتخصصه. كالجهاد فرض على الآمة مجتمعة» ولكن يقوم به القادر عليه» ومن يكون متجها بتخصصه لفنون القتال وتعرف أساليبه ومناهجه وخططه. وهكذا. وعلى ذلك لا يصح لنا أن نقول إن هذه الأحكام تصدر عن ولى الأمر الأعلىء بل هى صادرة عن الواحد القهار الذى تعلو له كل الوجوه فى الدنيا كمنا ستعنو له فى الآخرة؛ فقد قال سيحانه: 9 وعنت الوجوه للحي القيُوم وقد حاب من حمل ظَلْمًا 1707 22214 فليس التشريع إلى الحاكم حتى يعفى مما شرع وحتى يجعل نفسه فوق التشريع . . ١١١: طه‎ )١( كه" 7*- وأما الأمر الثانى : وهو أن القاضى لا يتولى سلطان الحكم والتنفيذ منه» وإن كان يتولى ولايته بأمره - فذلك أمر مقرر ثابت فى الفقه الإسلامى. ذلك لأن القضاء كسائر الولايات فرض كفائى هو واجب على الآمة» ويقوم به من يتخصص لفقه الأحكام» وطرق القضاء ومناهج الاستدلال» وعلى الأمة أن تعين هؤلاء بتهيئة أسباب التخصص لهمء. وعلى الحاكم الذى تتلاقى فيه كل الواجبات الكفائية الخاصة بتنظيم المجتمع ودفع الفساد عنهء أن يمكن لمن يصلح للقضاء من تولى شئونه» فإذا تولى ذلك القاضى بتمكين ولى الأمرء فليس معنى ذلك أنه نائب عنه؛ لأنه ما تولى عن شخصه. ولكن تولى القيام بفرض كفائى تخصص فيهء وولى الأمر وضعه من الأمر الذى تهيأ له ولو لم يفعل كان آثما ومعطلا لفرض كفائى» وإن وسده لغير أهله كان آثما مفسدا. وليست هذه الحقيقة فرضا فقهيا نفرضهء ونخرج عليه أقوال الفقهاء. بل إن فقهاء المسلمين صرحوا بهء فقد جاء فى الأحكام السلطانية لأبى يعلى ما نصه: «إذا ولاه صار ناظرا للمسلمين لا عمن ولاه» فيكون (أى القاضى) فى حكم الإمام فى كل بلد»(3© . هذا نص صريح فى أن القاضى يصير ناظرا لمصلحة المسلمين» ولا يكون فى قضائه نائبا عمن ولاه. لأنه منفذ لأحكام الله قاض بها. ولكن من الإنصاف أن نقول إن اعتباره نائبا أو غير نائب موضع -_خلاف». وعلى فرض نيابته» فمن المتفق عليه أنه لا ينفذ أحكامه ولا يقيد بما يسن من أحكامه إن كانت على خلاف كتاب الله تعالى» لأنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الله كما قال رسول الله َل «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكرهء إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة». كما اتفقوا أنه لا يعزل إذا مات ولى اللأمرء فليس كالشأن فى الوكيل. وقد قال أبو يعلى فى بيان هذا الخلاف: «وإذا صحت الولاية - أى ولاية القضاء - فقد قيل إن نظر المولى» والمولى كالوكالة» لأنه استنابة ولم يلزم المقام عليها من جهة المولى وللمولى عزله متى شاءء وللمولى الانعزال عنها إذا شاء» غير أن الأولى ألا يعزله إلا بعذرء وألا يعتزل إلا من عذرء لما فى هذه الولاية من حقوق المسلمين. وقد قيل ليس للمولى عزله ما كان مقيما على الشرائط» لأنه بالولاية يصير ناظرا للمسلمين على سبيل المصلحة؛» لا عن الإمام» ويفارق الموكل» فإن له عزل وكيله» لانه ينظر فى حق موكله خاصة)("' . )220 الأحكام السلطانية ص ١ه‏ . زفق الكتاب المذكور ص4 8 /اة ؟ 05 *0"- وبهذا النص يتبين أن ولايه القاضى عامة عند جمهور الفقهاءء وأنه غير قابل للعزل على رأى الأكثرين منهم مادام مستوفيا شروط القضاءء إلا إذا فقد شروطا منها وثبت فقده لهء فإنه حينئذ يستحق العزل» وروى أنه إذا فسق بعد عدالة انعزل من تلقاء نفسه» وصار قضاؤه باطلاء ولكن خالف ذلك الحنفية؛ واعتيروا قضاءه صحيحاء وكان ولى الأمر آثما إذا ثبت فسقه ولم يعزله» بل تركه يقضى بين الناس مع ففسقهء وكان الأساس فى ذلك الرأى هو توزيع الولايات على أساس مستقر ثابت» فلا تكون الأمور فوضى؛ فإنه خير للناس أن يكون لهم قاض ولو كان فاسقاء من أن يخلو أمرهم من قاض تنفذ أحكامه . وإن قول الفقهاء الذين يقرون أن القاضى ليس نائبا عمن ولاه وإنما هو قائم بمصلحة عامة». قد مكنه ولى الأمر منها - هو الأساس لنظرية فصل السلطات» وقد رأيت أن فقهاء المسلمين وصلوا إليها وقرروها فى أحكامهمء وإن لم يفصلوا القول فيها تفصيلاء ولقد أكد أصحاب هذا النظر تفكيرهم بأن العزل لا يجوز إلا إذا فقد شروط تولية القضاء. جرائم الأمراء : 14- ما تكلمنا فيه هو الجريمة إذا كانت من الولى الأعظم الذى ليس فوقه أحدء أما غيره من الولاة كأمراء الأقاليم: فإنهم كغيرهم من الناس باتفاق الفقهاء. فلا فرق بينهم وبين غيرهم» ولا فرق فى أحكامهم بين حق الله تعالى وحق العباد» فالحدود تقام عليهم» كما تقام على غيرهم» والقسصاص والأموال تستوفى منهم كما تستوفى من سائر الناس» ولم يخالف الحنفية الجمهور فى ذلك؛ لأن الحديث ثابت فيه بالنص» ولم يقم مانع من تنفيذه وقت ارتكابه موجبهء فوقع ما وقع منه موجبا حده صالحا للتنفيذ وقت الوقوعء فتحقق الشرط عند الحنفية» إذ إن الوالى الذى ليس فوقه أحد هو الذى ينفذ الأحكام على غيره من الولاة الذين هم دونه» والذين هم نوابه فى شأن القضاة كما بينا؛ فقد علمت مأ فيه. 06- وقد عنى الخلفاء منذ العهد الأول بالمراقبة الشديدة للولاة» والتشديد عليهم فيما يتعلق بحدود الله تعالى وحقوق العبادء ولقد هم عمر بن الخطاب أن يقيم الحد على المغيرة بن شعبة» وقد كان من الولاة» وما منعه من إقامة الحد إلا أنه لم يثبت عليه؛ ولم تستوف الشهادة التى أقيمت عليه نصابها. وأما حقوق العباد التى يعتدى عليها الولاة فقد عنى بها الخلفاء الأولون» وجعلوا حق الضعيف قويا حتى يناله من الوالى أو المتغلب». أيا كانت صفته وسبب تغليه» وسواء أكان التغلب لنسب أو قوة أو اتصال بالولاة. فحنا ولم تكثر جرائم الولاة فى عهد الراشدين» ولذلك لم يقيموا قاضيا خاصا بالمظالم ومعاقبة الولاة الذين يظلمون ويرتكبون الجرائم؛ لأن الإسلام كان غضا طاهراء وظهور الدين فى الولاة بين واضح يقود الجميع إلى التناصف» ولأن الخلفاء الراشدين الأربعة كانوا مثلا عالية لولاتهم» فلم يرتعوا فى ظلمء فخشى الولاة حسابهم . ومن بعد الراشدين كثرت مظالم الولاة» إذ قست قلوبهم» وعتوا فى الظلمء وصار لا يكفيهم إلا أقوى الأيدى» فكان عمر بن عبد العزيز أول من انتدب لهذا الأمر وتولى بنفسه القضاء فيها وردها إلى أهلها وقال فيه رضى الله عنه فيما قال فى إحدى خطبهء فلقد قال طيب الله ثراه: لأوصيكم بتقوى الله فإنه لا يقبل غيرهاء ولا يرحم إلا أهلهاء وقد كان قوم من الولاة منعوا الحق حتى اشترى منهم شراء» وبذلوا الباطل حتى افتدى منهم فداءء والله لولا سنة من الحق أميتت فأحييتهاء وسنة من الباطل أحييت فأمتهاء ما باليت أن أعيش فواقاء لم آخرتكم يصلح لكم دنياكم» إن امرءا ما بينه وبين آدم إلا الموت لمعرق فى الموت» ولقد أقام الخلفاء الذين كثر الظلم فى عهدهم قاضيا للمظالم سموه والى المظالم أو ناظر المظالم» وقد قال أبو يعلى فى وصفه: "من شروط الناظر فيها أن يكون جليل القدرء نافذ الأمرء عظيم الهيبة» ظاهر العفة» قليل الطمع. كثير الورع» لأنه يحتاج فى نظره إلى سطوة الحماة» وتثبت القضاةء فاحتاج إلى الجمع بين صفتى الفريقين. وقد أوجبوا أن يكون لوالى المظالم مجلس يعاونه فى النظرء ويعينه على إدراك الحق. وتنفيذه» ويكون هذا المجلس مكونا من:. أولا : من الحماة والأعوان لجذب القوى وتقويم الجرىء. ثانيا : من القضاة والحكام لتعرف ما يثبت لديهم من حقوق لم تنفذ لقوة المحكوم عليه أو سلطانه. ثالثا : من الفقهاء ليرجع إليهم فيما أشكل» ويسألهم عما اشتبه. ورابعا : من الكتاب ليثبتوا ما يجرى بين الخصوم وما يوجه لهم من حقوق. وما يثبت عليهم منها»(" . 5- هذا هو مجاس لمظالم» وقد ذكر أبو يعلى فى الأحكام السلطانية اختصاص مجلس المظالم فذكر أنها عشرة أقسامء منها النظر فى تعدى الولاة على الرعية» وقد قال فى ذلك: ويشتمل النظر فى المظالم على عشرة أقسام : . الأحكام السلطانية للماوردى وسيرة عمر بن العزيز لعبد الله بن عبد الحكم‎ )١( . 7١ص (؟) الأحكام السلطانية‎ اا الأول : النظر فى تعدى الولاة على الرعية فيتصفح عن أحوالهم» ليقويهم إن أنصفواء ويستبدل بهم إن لم ينصفوا. الثانى : أجور العمال فيما يجتبون من الأموال» فيرجع فيه إلى القوانين العادلة فى دواوين الأئمة» فيحمل الناس عليهاء وينظر فيما استزادوه» فإن رفعوه إلى بيت الأموال أمر برده» وإن أخذوه لأنفسهم استرجعه لأربابه . الثالث : كتاب الدواوين» لأنهم أمناء المسلمين على بيوت الأموال فيما يستوفونه ويوفونه» فيتصفح أحوالهم فيما وكل إليهم من زيادة أو نقصان(١2.‏ وهكذا يعد العشرة» وأكثرها ليس من موضوعنا. ولكن من هذه البقية من العشرة واحد لابد من ذكره» وهو رد الغصوب. فقد قال فى رد الغصوب: والغصوب ضربان: أحدهما : غصوب سلطانية قد تغلب عليها ولاة الجورء كالأاملاك المقبوضة من أربابها تعديا على أهلها - فإن علم به والى المظالم عند تصفح الأمور أمر برده قبل التظلم إليه» وإن لم يعلم به فهو موقوف على تظلم أربابه» ويجوز أن يرجع فيه عند تظلمهم إلى ديوان السلطنةء فإن وجد فيه ذكر قبضه من مالكه عمل به وأمر بردها إليه» ولم يرجع فيه إلى بينة تشهد به. وكان ما وجدوه فى الديوان كافيا. الضرب الثانى : من الغصوب ما تغلب عليه ذوو الأيدى القوية» وتصرفوا فيه تصرف المالكين بالقهر والغلبة» وهو موقوف على تظلم أربابه» ولا ينتزع من أحدهم إلا بأحد أمور أربعة: إما باعتراف الغاصبء وإما بعلم والى المظالمء فيجوز له أن يحكم بعلمه؛ على اختلاف فيه» وإما بينة تشهد على الغاصب بغصبهء وإما بتظاهر الأخيار التى ينتفى عنها التواطوؤ على الكذب, لأنه إذا جاز للشهود أن يشهدوا فى الأملاك بظاهر الأخبار. كان حكم ولاة المظالم بذلك أحق. 17 7- هذه نظرة الإسلام إلى جرائم الحكام. فلم يخلع عليهم صفة التنزيه عن الإجرام» وإذا أجرموا لم يعفهم من العذاب. فالناس جميعا أمام شرع الله تعالى سواء لا فرق بين أمير ولو كان الإمام الأعظمء وأصغر صغيرء فجعلوا العقاب متساوياء لأنهم جميعا سواء أمام حكم الواحد القهار الذى هو فوق الجميعء فإذا كان الإمام الأعظم الذى ليس فوقه أحد من العبادء ففوقه رب العالمين. وإذا كان الحنفية قد قرروا أنه لا ينفذ فيه الحد فسيبه قياس فقهى عندهمء. وهو أنه المطالب بتنفيذ الحدودء والمسئول عن تنفيذهاء لا يتصور أن يكون مطالبا ومطالبا معاء ومع ذلك قرروا أنه مستحق للعقاب. واتفقوا مع الفقهاء على تنفيذ حقوق العبادء كما اتفقوا على إقامة الحدود على من دون الإمام الأعظم من الولاة. . "١ص الكتاب المذكور‎ )١( الس ولم يكتف العادلون من الحكام بذلك» بل أوجدوا ما سمى فى تاريخ الفقه قاضى المظالم كما ذكرء وهو ينظر فيما ينزل بالناس من الولاة الظالمين أو الأقوياء الغاشمين ليحموا الضعيف» ويردوا إليه حقوقه. وقد أوجب الفقهاء أن يكون مجلس والى المظالم مكونا من العناصر التى ذكرناهاء ليكون الضمان الكامل لكل الضعفاءء ولكيلا ترمض نفس مسلمة بظلم لا تجد من يعين على دفعه. 4- هذا هو شرع الله تعالى الديان» الواحد القهارء الذى تعنو له الوجوه. ويجب أن تعنو لأحكامه النفوس مهما تكن قوية مسيطرة أو حاكمة. ولا نعلم قانونا من قوانين العقوبات فى الععصر الحاضر وصل إلى هذا القدر من المساواة المطلقة فى تطبيق قوانين العقوبات» فإن رئيس الدولة فيها لا يعاقب بعقوبة الناس. ولا يفرض فيه ما يفرض فى كل الناس . وقد يقول قائل: إن هذه آراء فقهية لم يحققها العمل» ولم يظهر منها شىء»ء وحكام المسلمين فى كل العصور كانوا مظهرا للطغيان والاستهتار والإمعان فى الشهوات المردية . والموبقات التى أذلت المسلمين؟ والجواب عن ذلك أن الفقهاء قد قرروا الشرع الشريف» وما يرمى إليه» ولم يكتفوا بتقرير حقيقة الشرعء بل أشاروا إلى ما ينبغى أن يقوم به المسلمون عند تعطيل الأحكام والحدودء وأخحذ أموال الناس» وانتهاك حرماتهم والاعتداء على أموالهمء فقد قرروا فيما قرروا أنه إذا لم يجد الضعيف معونة فى تنفيذ حقوقه قبل الوالى الأعظم. فإن على المسلمين أن ينصروه» لأنهم أهل منعته. ولكن المسلمين قصرواء فلم يعملوا على حماية الحقوق والحدود من الولاة الظالمين» ولم تنفذ بذلك أحكام الله بالنسبة للولاة» فى كثير من الأحيان» ولم يحملهم المسلمون على تنفيذهاء ولا يعاب قانون من القوانين لعدم تطبيقه» وإنما يعاب الذين لم يطبقوه» فلا يعاب الشرع الإسلامى لإهماله إنما يعاب الذين أهملوه. 84”- إن الإسلام لا يعفى ذوى المناصب من عقاب» ولكن قد يقول قائل إن بعض ذوى المناصب يجب أن يعاملوا معاملة استثنائية كأعضاء المجالس النيابية لأنه يخشى أن تكون التهمة الموجهة إليهم ليست حقيقية فى ذاتهاء ولكنها لمنعهم من حرية القول ومناقشة الحكام الذين يعتبرون مسئولين أمامهم. ونحن نقول: إن الإسلام يقرر هذه المعاملة الاستثنائية إذا كانت فى دائرة الاحتياط للنائتب حتى لا يؤاخذ بجرم وهو برىء. وحتى لا تتعطل أعمال المجالس النيابية» ولكن الاحتياط ليس معناه منع العقاب» وإن النظم التى وضعت قد تؤدى إلى منع العقاب»؛ فإن الحصانة النيابية قد رأيناها قد اتخذت لحماية النائب من العقاب إذا كان من الحزب الغالب» وقد يكون مجرما آثماء قد استطال على الناس بفضل انتمائه "6 إلى حزب الحكومة الغالب» وبذلك ينتهى الأمر إلى أن تكون تلك الحصانة ليست حصنا لحرية القول» بل هى حصن للإجرام تحميه وتؤيده. ولذلك يجب التفكير فى نظام يحل محل الحصانة للاحتياط من الاتهام الباطل» ولكيلا يوجد ذلك التمييز بين الناس فى الجريمة والعقاب. الدولة الإسلامية وغير الإسلامية © ذكرنا أن القانون الإسلامى فى العقوبات يسرى على كل سكان الدولة الإسلامية» على خلاف بين الحنفية والجمهور فى جريانه على المستأمنين» وهم الأجانب الذين ما زالوا مستمسكين برعويتهم الأجنبية» وانتمائهم إليها. كما ذكرنا أن جمهور الفقهاء يرون أن الحدود وسائر العقوبات تسرى على المسلمين والذميين» إذا ارتكبوا جريمة فى أثناء الإقامة فى غير الديار الإسلامية» وقد فصلنا القول فى ذلك تفصيلا. ولكن ما حدود الدولة الإسلاميةء أو يعبارة أدق متى يعتبر الإقليم إسلاميا ومتى يعتبر غير إسلامى» وعلى حد تعبير الفقهاء متى يعتبر الإقليم من دار الإسلام» ومتى يعتبر من دار الحرب؛ وذلك لأنهم يسمون ديار غير المسلمين دار حرب» إذ إن الحروب فى عهد الاستنباط الفقهى كانت مستمرة قائمة على قدم وساق يرصدون للمسلمين كل مرصد» ويهاجمونهم إن لم يهاجمواء ولذلك اتخذ المسلمون الهجوم سبيلا للدفاع» لأنهم سيؤكلون إن لم يحاريوا. ومهما تكن التسمية» فإنه من الواجب علينا فى هذا المقام أن نحدد معنى الديار الإسلامية أو الدولة الإسلامية. "01١‏ لقد تصدى لذلك الفقهاء عندما تكلموا فى الجهاد والسير ليبينوا مدى تطبيق الأحكام الإسلامية» فقد قرر أبو حنيفة أنه لابد لاعتبار الإقليم من غير دار الإسلام - من تحقق ثلاثة شروط: أولها : ظهور الأحكام غير الإسلامية بأن يكون القانون المسيطر قانونا غير إسلامى» والأحكام التى تنفذ أحكاما مناقضة للأحكام الإسلامية» بأن كان الإسلام يحرم الرباء والقوانين المسيطرة تبيحه» والقرآن الكريم يحرم الزنى» والقوانين تبيحه» ويحرم الخمر والخنزير والقمار» والقوانين المنفذة تبيح هذه الشيائث للجميع . ثانيها : أن تكون متاخمة لديار غير المسلمين لتكون ممنوعة على المسلمين بذلك الاتصال الجغرافى» فلو كان إقليم غير إسلامىء قد أحاطت به الأقاليم الإسلاميةء فإنه لا يعد دار حرب» وكذلك إذا كانت ثمة صحارى تتوسط الأقاليم الإسلامية» ولا سلطان لأحد عليها لا تعد ديارا غير إسلامية. وكذلك البحار التى تحيط بها الديار رض الإسلامية تعد من ديار الإسلام» وعلى ذلك تكون مياه البحار قريبة من الديار الإسلامية فى ولاية الإسلام» لا فى ضمان الديار الحربية. الثها : ألا يبقى فيها مسلم ولا ذمى آمنا بالأمان الأول» وهو أمان المسلمين27, ومعنى هذا الشرط هو ألا تكون إقامة المسلم أو الذمى الذى له ما للمسلمين وعليه ما عليهم ثابتة بمقتضى انتمائه .لأهل الإسلام وللدولة الإسلامية» بل تكون إقامته بعهد مع حكومة هذا الإقليم بألا تكون ولايته الإسلامية هى التى تحكم إقامته» بل تكون إقامته بولاية أخرى فعلية غير ولايته اللأصلية الحكمية. هذا رأى أبى حنيفة ومعه بعض الفقهاء فى معنى الديار غير الإسلامية» وعلى ذلك تكون الدار إسلامية عنده إذا كانت تطبق فيها أحكام الإسلام» أو كانت إقامة المسلمين والذميين فيها بمقتضى الولاية الإسلامية» وسلطان الحاكم المسلم» وتعد الصحارى والبحار التى تحيط بها الأقاليم الإسلامية من ديار الإسلام. 5" هذا نظر أبى حنيفة ومعه الفقهاء كما قررناء وقال أبو يوسف ومحمد» ومعهما بعض الفقهاء أيضا: إن العبرة بكون الدار دار إسلام» أو دارا غير إسلامية هو ظهور أحكام الإسلام فيهاء فإن كانت الأحكام الظاهرة أحكاما إسلامية فهى دار إسلام» وإن كانت غير إسلامية فهى دار غير إسلامية» أو دار حرب كما يعبر الفقهاء . وحجة هذا الرأى أن الأصل فى تسمية الدار وأحكامها أن تكون مشتقة من الحقيقة المقررة لمعنى الإسلام» ولمعنى الكفرء فتسمى دار إسلام إذا ظهر فيها الإسلام بأحكامه ونظمهء كما تسمى الجنة دار السلام» لما فيها من السلامة والأمن من العذاب» وجهنم دار البوار» لما فيها من معنى الهلاك والعذاب. 7”- ولقد بين الكاسانى فى البدائع وجهة نظر أبى حنيفة بيانا محكماء فلنترك له الكلمة. «وجه قول أبى حنيفة رحمه الله أن المقصود من إضافة الدار إلى الإسلام والكفر ليس هو عين الإسلام والكفرء وإنما المقصود هو الأمن والخوف. ومعناه أن الأمان إن كان للمسلمين فيها على الإطلاق» والخوف للكفرة على الإطلاق فهى دار الإسلام» وإن كان الأمان فيها للكفرة على الإطلاق والخوف للمسلمين على الإطلاق فهى دار الكفرء والأحكام مبنية على الأمان والخوف لا على الإسلام والكفرء فكان اعتبار الأمان والخوف أولى» فما لم تقع الحاجة للمسلمين إلى الاستئمان بقى الأمن الثابت فيها على الإطلاق» فلا تصير دار الكفرء وكذا الأمن الثابت على الإطلاق لا يزول إلا بالمتاخمة لدار الحرب؛ فتوقف صيرورتها دار الحرب على وجودهما معا. : ١١١ هذه الشروط مذكورة فى البدائع جلا ص‎ )١( نلف ويقول فى رد دليل الصاحبين ومن معهما: «وإن إضافة الدار إلى الإسلام احتمل أن يكون لما قلتم» واحتمل أن يكون لما قلناء وهو ثبوت الأمن على الإطلاق للمسلمين» وإنما ثبت للكفرة بعارض الذمة والاستئمان» فإن كانت الإضافة لما قلتم تصير دار الكفربما قلتم» وإن كانت الإضافة لما قلنا لا تصير دار الكفر إلا بما قلنا فلا تصير ما به دار الإسلام بيقين دار الكفر بالشك والاحتمال على الأصل المعهود. إن الثابت بيقين لا يزول بالشك والاحتمال؛ بخلاف دار الكفره حيث تصير دار الإسلام بظهور أحكام الإسلام فيها؛ لأن هناك الترجيح لجانب الإسلام». ومعنى هذا الكلام الأخير - أنه يجب الاحتياط لانتقال الدار من دار إسلام إلى دار حرب» فهو يقول: إن كلمة دار إسلام تحتمل أن يكون المعنى أن أحكام الإسلام ظاهرة فيهاء وتحتمل أن يكون المعنى أن المسلم آمن فيها غير خائف». وكلمة دار كفر أو حرب يحتمل أن يكون معناها أن أحكام الكفر ظاهرة فيهاء أو أن المسلم فيها غير أمن وخائف. وعلى الاحتمال الأول يكون ظهور أحكام الكفر كافيا لانتقال الديار من الإسلام إلى غير الإسلام» وعلى المعنى الثانى لا تنتقل الدار إلا بزوال الأمن والمتاخمة» وعند الاحتمال لا يزول وصف الدار بأنها دار إسلام» لأن وصف الإسلام لها ثابت بيقين» فلا يزول إلا بيقين»: ولا يزول بالاحتمال أوالشك . 4- هذا جوهر الخلاف» وأدلته» وننتهى من هذا إلى أن فى الفقه الإسلامى فى تفسير معنى دار الإسلام ودار غير الإسلام - رأيين: أحدهما : ينظر إلى الأحكام والنظمء فإن كانت إسلامية فالديار إسلامية» وإن كانت الأحكام والنظم غير إسلامية فالديار ليست إسلامية ولو وصفت بأنها إسلامية. الرأى الثانى : ينظر إلى أمن المسلم وولايته» فإن كان المسلم آمنا فى الدار التى فيها بأمن الإسلام الأول. فالدار دار إسلام. ولعل ثانى الرأيين يكتفى فيه باعتبار الأكثرية» فإن كانت الأكثرية إسلامية فالدار دار إسلام وإن كانت الأحكام والنظم غير إسلامية» فتركيا دار إسلام وإن كانت نظمها ليست إسلامية» والرأى الآخر ينظر إلى الأحكام ولا يعتبر الكثرة. ولعل ثمرة الخلاف بين الرأيين تظهر فى عصرنا هذاء فانه على تطبيق رأ», أبى حنيفة تكون الأقاليم الإسلامية من أقصى المغرب إلى سهول تركستان وباكستان ديارا إسلامية» لآنها وإن كان سكانها لا يطبقون أحكام الإسلام فإنهم يعيشون بأمان الإسلام الأول» وبذلك تكون الديار ديارا إسلامية» وبتطبيق رأى أبى يوسف ومحمد ومن معهما من الفقهاء تكون الأقاليم الإسلامية لا تعد دار إسلام» بل دار حرب» لأنها لا تظهر فيها أحكام الإسلام ولا تطبق. 55 وإنما نميل إلى رأى أبى حنيفة ومن معه من الفقهاء فنعتبر كل الديار التى أكثرها مسلمون من ديار الإسلام» ولو أنها لا تطبق أحكام الإسلام» وإنا لنرجو أن تظهر أحكام القرآن والسنة فى كل البقاع الإسلامية لتكون دار إسلام بإجماع الفقهاء» لا برأى مختلف فيه من آرائهم» وهو رأى فقيه واحدء وإن كان كبيراء والله سبحانه وتعالى هو الحكم العدل اللطيف الخبير. تسليم المجر مين 6- انتهينا من الكلام السابق إلى اعتبار البلاد الإسلامية كلها دولة واحدة» أو على التحقيق أمة واحدة» وإن اختلفت حوزات الملوك وتباينت الأراضى وتباعدت الأقاليم» وأن الذين يخالفونهم يعدون دولا أخرىء أو أمما أخرى غير أمتهم» وانتهينا إلى بيان الحدود التى تجعل مكانا ما من دار الإسلام أو غير دار الإسلام» ولكن ونحن نتكلم فى سريان القانون على المكان» والمحاجزات التى تقوم بين الدول» وتنفيذ أحكام الإسلام لابد أن نتكلم فى تسليم المجرمين» وإن تسليم المجرمين له حالان: إحداهما: تسليم المجرمين الذى يجرمون فى الديار الإسلامية» وقد اختلفت حوزات ملوكهاء وصار كل إقليم إسلامى دولة قائمة بذاتهاء وقد تكون فى حرب مع أخرى» وتكون إحداهما هى الباغية» ولا توجد دولة جامعة تطبق قوله تعالى: « فَقَاتلُوا الي تبغي حتَّئ تفيء إِلَى أَمْر الله فإن فاءت فأصلحوا بيتهمًا بالعدل وَأَقْسطُوا إن الله يحب الْمقسطين 4( . والثانية : حال تسليم المجرمين بالدنسبة لغير المسلمين» أى للدول التى لا تعد إسلامية» لأآن كثرة رعاياها ليست مسلمة» وهى لا تنفذ أحكام الإسلام» ولا تدخل فى ولاية إسلامية . هاتان حالان لابد من أن نبين بالإجمال الحكم فيهما. 7- أما الأولى» وهى حال تسليم المجرمين بالنسبة للدول الإسلامية فيما بينهاء فإن لذلك موضعه من القول فى عصرناء لأن المسلمين تفرقواء ولم تكن دولة جامعةء ولا دولة كبيرة تعد رمزا للجامعة الإسلامية التى تربط الأقاليم الإسلامية بعضها ببعض ولو بصورة رمزية. وإن فقهاء المسلمين قد تصدوا لحكم هذه الحالة» وإن لم يكن الأمر قد انقسم فى عهد الاستنباط ذلك الانقسام الذى نراه الآن» بل كان هناك الخلافة جامعة للأمرء ولقد تكلموا فى صورتين: . 4 : الحعجرات‎ )١( >36 إحداهما : إذا ارتكب جريمة فى أحد الأقاليم الإسلامية» ثم فر إلى إقليم آخرء فإنه بلا شك يجب أن يقام عليه العقاب الذى يكون جزاء لما ارتكب إذا استوفيت الشروط لإنزال العقاب فى البلد الذى فر إليهء بأن علمه المجنى عليه أو أولياؤه الذين فر منهم » فذهبوا وراءم» ورفعوا الدعوى. وأقاموا الأدلة»أو أقر هو فإنه بلا شك يحكم عليه القاضى» لأنه مسلم يقضى على مسلمء ولأن اختلاف الحوزات التى أنشأها الملوك لا يؤثر فى الحكم الإسلامى المقرر الذى لا مساغ لتعطيله بسبب ذلك الاختلاف. ولآن القاضى المسلم له أن يحكم ما أنزل الله بين غمير المسلمين إذا ججاءرا إليه لقوله تعالى: © فإن جاءوك فاحكم ب بينهم أو أعرض ) عنهم 2374 فكيف لا يحكم بما أنزل الله على : مسلمين جاءا ييحتكمان إل إليه» ولأن هذه معاونة على إقامة الحق والعدل والبرء وقد قال تعالى: ط وتعَاونُوا على البر وَالتَََئ ولا تَعَاونُوا علَى الاثم والعُدوَان 74"©. والسكوت من غير قضاء سكوت على الظلمء وقد نهينا عنه نهيا غير قابل للاستثناء. وهذا الحكم عام يشمل كل أنواع الأحكام سواء أكان الفرار من حد أم كان الفرار من حق من حقوق العبادء وسواء أكان جناية أم كان حقا ماليا متى ثبت ذلك أمام القاضى الذى فر إلى مصرهء الذى انتقل إليه . وإذا كان قد فر من إقليم لا يقيم حدود الله ولا ينفذ الشريعة إلى إقليم آخر ينفذهاء فإن ذلك لا يمنع قاضى المصر الذى ينفذ أحكام الشريعة من تنفيذهاء لأن ذلك هو الأصلء فإذا كان الإقليم الذى خرج منه الجانى لا ينفذ عقوبة قطع اليد فى السرقة» والإقليم الذى يخرج إليه ينفذهء وكان التقاضى أمام قاضى الأخير فإنه ينفذهء وكذلك الأمر بالنسبة لسائر الحدودء مع ملاحظة خلاف الحنفية بالنسبة للقصاص. إذ العبرة بتنفيذ أحكام الشريعة دون سواها. /71- هذه هى الصورة الأولى» وهى خاصة بما إذا هرب» ولم يكن قد حكم عليه أو كان قد حكم عليه وأراد الأولياء أن يتحاكموا فى هذا إلى حكم الإقليم الآخر الذى ينفذ الشرع . أما الصورة الأخرى. وهى ما إذا حكم عليه فى بلده. ففر من وجه العدالة إلى بلد إسلامى آخر. وأرادوا تسليمه إلى حكومة بلده لتنفذ فيه الحكم الذى حكمت به أو طلبت إليها أن تنفذ هى هذا الحكمء كأن ارتكب ما يوجب القصاص وحكم عليه » فطلبت حكومة الإقليم الذى تظله أن تسلمه الحكومة الأخرىء أو طلبت أن تنفذ هى الحكم. )١(‏ المائدة : 7م . (9) المائدة : ” املح فبالنسبة للأمر الأول» فإنه إذا كان الحكم فيه تنفيذ لأحكام الشريعة من غير مجاوزة لحدودهاء فإنه كما يظهر من منطق الفقه الإسلامى يجب تسليمه» لأنه تعاون على البر والتقوى» وليس تعاونا على الإثم والعدوان» وليس لحكم مسلم أن يعين ظالما على الفرار من حكم العدالة» وإذا كان ثمة اتفاق على هذا الأساس فهو اتفاق موثق لحكم الشرع يؤكد وجوب تنفيذه» وإن كانت قوانين الإقليم الذنى حصلت الجريمة فيه ليست قائمة على الشرع الشريف» والعقوبة التى أصدرتها محاكم ليست عقوبة فى ذاتها عادلة» كأن تكون العقوبة أكبر من الجريمة كأن يشرع فى قتل فيحكم عليه بالإعدام من غير فساد فى الأرض» ولا خحوف من أن يؤدى بقاؤه إلى فسادء فإنه يجب على الحاكم المسلم الذى ينفذ حكم الشرع ألا يسلمهء لأنه إعانة على الإثم والعدوان وكل اتفاق يبرر ذلك لا يكون اتفاقا لأنه يحل دم امرئ مسلم بغير حق» وقد سبق أن قررنا أن الشريعة الإسلامية تقرر أن كل شرط يكون على غير ما جاء فى هذا الشرع فهو باطل» ولو كان مائة شرطء. وقد قال فى ذلك عليه الصلاة والسلام: «كل شرط ليس فى كتاب الله فهو باطل» ولو كان مائة شرط). هذا إذا كانت الحكومة التى حدثت فيها الجريمة تطالب بتسليم المحكوم عليه» أما إذا كانت لا تطالب بتسليمه» ولكنها تطالب بتنفيذ الحكم الذى حكم به قاضيها فيه» فلا شك فى أنها لا تنفذه إلا إذا كان متفقا مع الشريعة. - وإن فقهاء المسلمين قد تكلموا فى هذا الجزءء وهو ما يسمى كتاب القاضى إلى القاضى» وهو يكون سواء اختلفت حكومات الأقاليم الإسلامية أم لم تختلف» فإذا حكم قاضى مصرء فهرب المحكوم عليه إلى مصر آخرء فإن القاضى الذى أصدر الحكم يرسل صورة حكمه بالأدلة التى قام عليها الحكم إلى القاضى الذى هرب الجانى إلى مصره» ويطلب منه تنفيذ هذا الحكم. وكتاب القاضى إلى القاضى على هذا الوجه ثابت منتج فى كل الحقوق المالية وما يشبههاء أما فى العقوبات على الجرائم» فهو على تفصيل» وقد قال صاحب المغنى: لأجمعت الأمة على كتاب القاضى إلى القاضىء لأن الحاجة إلى قبوله داعية» فإن من له حق فى بلد غير بلده لا يمكنه إثباته والمطالبة به إلا بكتاب القاضى فوجب قبوله». ومع اتفاق الفقهاء على أن كتاب القاضى إلى القاضى يجب الأخذ بهء لكن قد قرر بعض الفقهاء أنه لا يصح الأخذ به فى حدود الله تعالى» لأن الحدود تدرأ بالشبيهات: ويقولون إن من الشيهات أن يكون القاضى المنفذ هو الذى كان بين يديه الإثبات. ولأن جرائم الحدود جرائم للانزجار والردع العام» وإنها تؤدى هذه الغاية إذا كان العقاب مكان التنفيذ. ينها ولكن هناك قول فى مذهب الشافعى يعتبر كتاب القاضى مقبولا فى كل أنواع الأقضية بما فيها الحدود» وبهذا قال مالك رضى الله عنه» وحجته أن الحدود حقوق الله ثابتة» فكما أن كتاب القاضى إلى القاضى تنفذ به حقوق العباد» فحقوق الله تعالى أحق بالتنفيذ» ولآن ديار الإسلام لا يصح أن تعطل فيها الحدود التى قامت على أسبابها الأدلة» ولو امتنع تنفيذها بكتاب القاضى إلى القاضى لأدى ذلك إلى أن تتعطل الحدود بخروج الجانى من إقليم إلى إقليم . هذا هو خلاف الفقهاء بالنسبة للحدود» أما بالنسبة للجرائم الأخرى التى ليست حدوداء فقد قال الشافعى ومالك فيها: إن كتاب القاضى يوجب التنفيك فيهاء سواء أكانت عقوبات بدنية أم كانت عقوبات مالية. وعلى ذلك يكون مذهب مالك ومذهب بمقتضى هذا الكتاب . وقال أبوحنيفة وألحمد وجمهور من فقهاء اللأمصار: إن كتاب القاضى إلى القاضى لا تنفذ به العقوبات البدنية» وإنما تنفذ به الديات» فتقرر به أحكام الديات» وأرش الجروح» ولكن لا يكون به القصاص» سواء أكان فى النفس أم كان فيما دون النفس » ولقد جاء عند الزيلعى فى كتاب القاضى إلى القاضى ما نصه: «ويكتب القاضى إلى القاضى فى _غير حد وقودء وهذا استحسانء والقياس ألا يجوز... وجه الاستحسان ما روى أن عليا كرم الله وجهه أجازه لحاجة الناس إليه» ولأنه قد يتعذر على الإنسان الجمع بين شهوده وخصمه... ولا سيما إذا كان فى دار الغربة» ولا يجوز ذلك فى الحدود والقصاص» لما فيه من الشبهة بزيادة الاحتمال... ويدخل تحته (أى كتاب القاضى إلى القاضى) كل حق لا يسقط بالشبهة كالدين والتكاح والطلاق والشفعة والوكالة والوصية والوفاء والوراثة والقتل إذا كان موجبا للمال»27 . 8- هذه حال تسليم المجرمين بالنسبة للدولة الإسلامية فيما بينها والتى تعتبر من حيث الحكم الشرعى الإسلامى دارا واحدة» ولو اختلفت حوزات الملوك التى فرقت بين المسلمين» وتباينت بذلك حكوماتهمء وضعفت شوكتهم » وذهبت ريحهم . أما تسليم المجرمين فيما بين المسلمين وغيرهمء فلذلك صورتان: إحداهما : أن يجرم مسلم أو ذمى فى ديار الحرب عندهم بأن يقتل أحدا منهم. أو يسرق أو يزنى» ثم يعود إلى الديار الإسلامية» وقد ذكرنا فيما أسلفنا اختلاف الفقهاء فى ذلك بالنسبة للحدودء فقررنا أن الحنفية لا يقيمون عليه العقاب. فإن عاد إلى الديار )١(‏ تبيين الحقائق فى شرح كنز الدقائق جة ص”187 وراجع المهذب ومواهب الجليل والمغنى جة ص١9ء 5١94‏ الطبعة الثانية للمنار . 558 الإسلامية لا نعاقبه على ما اجترم هنالك» لأنهم يشترطون لثبوت العقاب أن تكون الولاية الإسلامية قائمة نافذة بالفعل وقت ارتكاب سبب العقابء لأن العقوبات تسند إلى أسبابهاء وإذا كان التنفيذ غير ممكن وقت السببء» فإنه لا يشثبت المسبب» وقد قال الجمهور: إنه يجب العقاب فى دار الإسلام إذا قام الدليل على وقوع الجريمة بإقراره أو بشهادة معينةء لأن المسلم مأخوذ بأحكام الإسلام أينما كان» وحيثما يقفا. الصورة الثانية : أن يجرم فى ديار الإسلام» ويفر إلى ديار الحربء» فإنه بلا شك لا يعاقب مادام هنالك» 0 وبينهم عهد يوجب ذلك كان لنا أن نطالبهم بمقتضى هذا العهد أن ب يسلموهء وإذا لم يكن بيننا وبينهم ذلك العهد فلا قبل لنا بأن نطالبهم بالتسليم إلا إذا جرى العرف الدولى على ذلك» فإن ذلك العرف يكون عهداء لأن المعروف عرفا كالمشروط شرطا. .ا”- وإذا كانوا هم قد اشترطوا ذلك الشرط علينا بأن نسلم إليهم المجرمين الذين يجرمون فى بلادهم ثم يفرون إلينا فهل نحترم ذلك الشرط؟ إن ذلك الشرط يحترم بلا ريب بالنسبة لغير المسلم المستأمن» وهو الذى يقيم فى الديار الإسلامية أمدا قصيرا من غير أن يتخلى عن رعيته لغير المسلمين» وذلك لأن هذا ولايته لغير الدولة الإسلامية» ومادامت ولايته لغير هذه الدولة فلا حرج فى أن يسلم إلى أهلهء ولم يوجد من قواعد الشرع الإسلامى ولا نصوصه ما يمنع الوفاء بمثل ذلك العهدء فهو داخل فى عموم العهود التى يجب الوفاء بها بمقتضى النصوص القرآنية المتضافرة الدالة على ذلك مثل قوله تعالى: وأَوفُوا بالعهد إِنَ الْعَهَدَ كان مُسئولا 2304 . ومثل قوله تعالى: 2 وأوَفُوا بعهَد الله إذَا عاهدتُم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً 04 . أما إذا كان الجانى مسلما أو ذمياء والذمى هو غير المسلم الذى يقيم فى ظل الدولة الإسلامية على أنه من رعاياها له ما للمسلمين وعليه ما عليهم - فإن الفقهاء قد اختلفوا فى أصل صحة شرط تسليم المسلم مطلقا حتى يجب الوفاء به» فقد قال مالك فى أحد قوليه» وأحمد: إن هذا الشرط صحيح يجب الوفقاء به. ويقول الشافعية : إن المسلم إذا كانت له عشيرة تحميه فى دار الحرب بحيث يؤمن بسببها أن يفتن فى دينه فإنه يجوز تسليمه» وإن لم تكن له هذه العشيرة» أو كانت» ولا تمنع عنه الفتنة فى الدين لا يجوز تنفيذ مثل هذا الشرطء وهناك قول للشافعى إنه يجب الوفاء به فى الرجال دون النساء . وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن ذلك الشرط باطل لا يسوغء لأن تنفيذ العقوبات من باب الولاية» ولا ولاية لغير المسلم على المسلم. ١ : الإسراء : #8 . (5) النحل‎ )١( 159 ١لا"‏ - والأصل فى النلاف فى هذه المسألة ما روى فى صلح الحديبية من أن النبى يه قبل من قريش أن من يخرج إلى النبى يك مسلما يرد إليهم» ومن يخرج من عند المسلمين مرتدا لا يردونه إلى النبى يَليِلِه حتى إنه يروى أن أبا جندل بن عمرو بن سهل قد جاء وكان قد أسلمء فرده عليه الصلاة والسلامء فصار ينادى: يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين يفتنوننى عن دينى . فقال له عليه الصلاة والسلام : «اصبر يأ أبا جندل واحتسب» فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا)27 , وقد استدل بهذا النص الحنابلة والمالكية فى إثبات أن مثل هذا الشرطء وهو تسليم المسلمين إلى غير المسلمين بشرط يجوزء وأن مثل هذا الشرط إذا أخذ كان عهدا واجب التنفيذء بدليل أن النبى يَلِْةٌ التزمه. وما دام النبى وَل قد التزمه فلا مناص لنا من اتباعه فى قبول مثل هذا الالتزام»ء ويكون اشتراطه غير مخالف لكتاب الله ولا لسنة رسوله كلد بل يكون اتباعاء ولا يكون ابتداعا. ويقول الشافعى فى هذا النص: إنه كان الشرط لازماء لأن أبا جندل ومن كان" معه لهم عشائر تحميهمء وتمنع الأذى عنهم وعلى ذلك يكون الشرط لازما فى مثل هذه الحال» ولا يكون لازما فى سواهاء ثم لا يكون لازما فى النساء مطلقاء لما فى المرأة من ضعف ذاتى» ولنص الآية الكريمة: «إيا أيها الّذين آمنوا إذا جاءكم الْمؤمنات مُهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإمانهن فإن عَلسْمُوُنَ مُوْمنَات فلا تَرْجمُوُنَ إلى الْكَارٍ لا هن حل لَهُمْ ولا هم يحلُون لَهِنَ 4(" . ”"- هذا نظر الشافعىء أما أبو حنيفة رضى الله عنهء فلم ينظر إلى صلح الحديبية ذلك النظرء بل نظر إليه على أنه موادعة فى حال حربء» وقد كان النبى عَكِنةِ بها آتاه الله سبحانه وتعالى من علم بالوحى - يعلم أنه سبيل لعزة الإسلامء وأنه لا يقر بهذا مبدأ يجعل لغير المسلم ولاية على المسلم» وقد وضح ذلك من قوله عليه الصلاة والسلام لأبى جندل: (إن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا»ء ولذلك ترتب على هذا الشرط ما قدره النبى يَلَِةٌ من أن هؤلاء المستضعفين خرجوا من سلطان المشركين» وكونوا قوة صارت تقطع السبيل عليهم فى متاجرهم مما جعلهم بلجأون إلى النبى كَل طالبين إليه أن يضم أولءئك إليه ليكونوا فى ولايته» ويسرى عليهم ما يسرى على النبى كَكةٌّ من التزامه لهم بالمهادنة . وإذا كان ذلك الصلح علاجا لحال خاصة استثنائية فإنه لا يكون قاعدة عامة يتقرر ثبوت حكمها فى عموم جزثياتها؛ لأن القواعد المقررة فى الإسلام أنه لا ولاية لغير 5” المسلم على المسلم». فقد قال تعالى: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين ماق هعاس سبيلا 2١7‏ وقال تعالى: لا يتُخذ الْمَؤمنُون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فيس من الله في شيء إلا أن هوا منهم تقاةَ ويُحَرَكُم الله سه 074 . ولقد حث القرآن الكريم كل الذين يقيمون فى ولاية غير المسلمين أن يهاجروا إلى المسلمين» فقال تعالى: ف إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم الوا فيم كنتم قَالوا نا مُستضعفين في الأرض فَالُوا ألم تكن أَرض اللّه واسعة فنهَاجروا فيها فَأُولَِك مأواهم جهنم وساءت مصيرا +(37* إلا المستضعفين من الرّجال والتساء وَالْولْدَان لا يستطيعون حيلة ولا يعحَدُونَ سبيلاً +0520 ولك عَسَى الله أن عقو عنْهم وكَانَ الله عفرا عورا ج(55) 204 . وإذا كان الشخص منهيا عن أن يقيم فى ديار غير إسلامية فهل يسوغ لحاكم مسلم أن يسلمه لهم ليحكموا به فى شرعهم. وفوق ذلك فإنه من غير المعقول أن يقبل شرط يكون فيه تسليم المسلم ليعيش فى ظل شرع غير شرع الله» ويحكم عليه بقانون غير قانون السماء المنزل فى القرآن الكريم» وإنه يجب أن يعلم أن ما جاء فى صلح الحديبية لا يمكن أن ينطبق على شروط تسليم المسلمين» لأن ما حدث من النبى يلد لم يكن تسليما للمؤمنين» ولكنه كان امتناعا عن قبولهمء وفرق بين التسليم والامتناع عن القبول» » على أنه حكم خاص فى حال خاصة استثنائية لا قاعدة عامة. “ا/ا”- وفى الحق أن الخلاف كما نوهنا فى أصل تسليم المسلم لغير المسلمين بمقتضى الشرطء لا فى تسليم المجرمين خاصة. ويظهر أن الفقهاء لم يتكلموا فى تسليم المجرمين» ولذلك كان كلامنا فى هذا استنباطاء ولو أردنا أن نستنبط حكما يتفق مع الأنظار كلها فى هذه المسألة لانتهينا إلى قاعدة مقررة ثابتة» وهى أنه لا يسلم مجرم حتى فى الديار غير الإسلامية ليعاقب بشريعة غير المسلمين» ويقضى عليه قاض غير مسلمء والقواعد الفقهية تسوغ لنا أن نقول إن ذلك متفق عليه بين فقهاء المسلمين أجمعين» وذلك للأدلة الآتية: أولها : اتفاق المسلمين على أنه لا يصح أن يقضى على المسلم قاض غير مسلمء بل إن جمهور الفقهاء لا يسوغ أن يعين فى الديار الإسلامية قاض من أهل الذمة يقضى بينهم» وقد حالف فى ذلك أبو حنيفة» وكان رأيه فى هذا غير رأى الجمهورء وإن تسليم الحاكم مسلما ليقضى فى أمره قاض غير مسلم لا يجوز. ,.99-91/ آل عمران :58 . (") النساء:‎ )0( 231١51١ : النساء‎ )١( ا" ثانيها : اتفق الفقهاء على أنه لا يصح أن يقضى على المسلم بشريعة ليست مشتقة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله» ولا يصح على هذا أن يسلم مسلم ليقضى فى أمره بغير الشرع الشريف. وليس لنا أن نثق من أنهم ينفذون فيه أحكام الشرعء ولو أعطوا على ذلك العهود ولموائيق. ثالثها : أن صلح الحديبية على فرض عمومه لا ينطبق على مثل هذه الحال» لأن الاتفاق لم يكن تسليم مسلم ليحاكم على مقتضى نظم الشرك ويقضى فيه قاضى الشرك؛ بل على أساس عدم قبوله يَِلْةٌ من يجىء إليه مسلماء لا أن يسلم أحد من أهل الإسلام ليحاكم بغير شرعه» ويقضى فيه قاض لا يخضع لنظامه. اما وبذلك ننتهى إلى أن اشتراط تسليم المجرمين من المسلمين إلى غير المسلمين لا يقره الشرع باتفاق الفقهاء. ولا يجرى فيه الاختلاف فى أصل اشتراط تسليم المسلمين فى أحوال الحروب. وكل ما قيل فى المسلم يقال فى الذمى الذى له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين» ولأنه رضى أن يحكم بالشريعة الإسلامية فى كل ما يتعلق بالتعامل والزواجر الاجتماعية» وأخذت عليه العهود والمواثيق بذلك» ولا يصح لحاكم مسلم أن يرضى بأن يترك حكم الله لحكم غير الله» ولآن الدولة الإسلامية عليها أن تحميه من كل ما تحمى منه المسلمء قدمه وماله وعرضه حرام كدم المسلم وعرضه على سواء. وكان فقهاء المسلمين يلتزمون ذلك التزاما دقيقاء حتى إن قازان قاتد التتار عندما هاجم دمشق أسر من المسلمين والذميين أسرىء» فذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية يخاطبه فى فك إسار المسلمين والذميين» فقبل القائد أن يفك إسار المسلمين» ورد رجاءه فى أسرى الذميين» فأصر.ابن تيمية على ضرورة فك أسر الفريقين» لأن الذميين لهم ما للمسلمين» وعليهم ما على المسلمين. الركن المادى 0”- الركن المادى هو الفعل أو القول الذى ترتب عليه الأذى ياحاد الناس أو الإفساد فى المجتمعء فركن الجريمة فى الزنى ذلك الفعل المفسد للنسل» وركن الجريمة فى الدماء الاعتداء بالفعل الذى يعرض النفس أو العضو للتلفء أو الضر بشكل عامء» وركن الجريمة فى القذف القول الذى يكون افتراء فيه رمى بالزنىء أو فيه سب بشكل عام إذا كان القذف يشمل ما يعد من جرائم الحد أو التعزير الذى يكون جريمة من جنس الافتراء» وهكذا. ويصح أن نقول فى تعريف ذلك الركن من أركان الجريمة الذى يعتبر صلبها أو عمودهاء بأنه الارتكاب بالفعل أو القول للأمر الذى ورد به النهى.ء وقررت له عقوبة يفف يطبقها القضاءء وبتعريف أعم من كل هذا: ارتكاب ما قرر الشارع له عقاباء ليشمل بذلك جرائم الترك. 1 ويعد جريمة ما كان مقصودا وما كان غير مقصودء وما يكون بالمباشرة» وما يكون بالسبب»ء فيدخل فى هذا العمد والخطأ والمباشر وغير المباشر لأن ذلك كله رتب له الشارع عقابا . والحد الفاصل بين الفعل الإجرامى وغير الإجرامى ليس هو القصد إنما هو فى الأذى أو الفساد الذى ترتب عليه» وفى العقابء فما لا فساد فيه ولا عقاب لا يعد جريمة» .وما فيه الفساد ويلزمه العقاب ولو أخرويا يعد جريمة فى لسان الشرع الإسلامى. 5/”- وفقهاء القانون الجنائى الحديث يتكلمون فى الفعل الإجرامى من وقت أن ينبت فى العقل فكرة يهم بتنفيذها إلى أن يتم التنفيذ بالفعل» أو يكون التخلف بأمر لا إرادة للمرتكب فيهء فيقرون أنه لا عقاب على ما يكون فى التفكير من غير أن يصحبه عمل» كما أنه لا عقاب فى ذات الأعمال التمهيدية أو التحضيرية إذا لم يبتدئ فى التنفيذ كإعداد الأداة التى يرتكب بها الجريمة» ويتكلمون فيها إذا ابتدأ فى التنفيذء ثم عدل بسلطان الضميرء أو الخوفء. كأن يأخذ البندقية ويترصد ثم يعدل مقلعا عما هم به من ذلك» ويقرورن أنه لا عقاب فى هذه المراتب» كما يذكرون حالة ما إذا هم بالتنفيذ وسار فيه وتمت كل خطواتهء لكن لم تتم الجريمة» لأمر لم يكن بإرادته» ويسمون ذلك شروعاء وقد وضعوا له عقابا دون عقاب الفعل الذى تم» ولكن يكون من جنسهء وقد نصت على ذلك المادة 57 من قانون العقوبات المصرى.» فقد جاء فيها: اليعاقب على الشروع فى الجنايات بالعقوبات الآتية» إلا إذا نص قانون على خلاف ذلك: بالأشغال الشاقة المؤبدة إذا كانت عقوية الجناية الإعدام. وبالأشغال الشاقة المؤقتة إذا كانت عقوبة الجناية الأشغال الشاقة المؤبدة» وبالاأشغال الشاقة المؤقتة مدة لا تزيد على نصف الحد الأقصى المقرر للعقوبة أو السجن إذا كانت عقوية الجناية الأشغال المؤقتة» وبالسجن مدة لا تزيد على نصف الحد الأقصى المقرر قانونا أو الحبس أو غرامة لا تزيد على خمسين جنيها مصرياء إذا كانت عقوبة الجناية السجن27" . وقد فرضوا صورة أخرى أن النية فى الإجرام والتنفيذ يتم» ولكن لا يكون ثمة نتيجة للجريمة كأن يتبين أن المجنى عليه قد مات قبل وقوع الجريمة» ولا يقررون لها عقاباء لأنه لا موضوع للإجرام فيها. لالا- وإن فقهاء الشريعة الإسلامية تصدوا بالبيان فى هذه الموضوعات وحللوها تحليلا علمياء ولا يهمنا أن يتفقوا فيها مع ما وصل إليه القانونيون من نتائج» إنما يهمنا (5) راجع فى هذا موجز القانون الجنائى للأستاذ الدكتور على راشد ص١5‏ . إوغف 04) أن نبين أنها كانت موك ضع دراسة لهم. ووصلوا فيها إلى نتائج اتفقوا فى بعضهاء واختلفوا فى بعضهاء ٠‏ كما يختلف شراح القوانين فى مدى ما تنطبق عليه عبارات القانون. لا عقاب على النيات : 7”4- وقد قرر الإسلام أنه لا عقاب على ما يكون فى القلب» ولا يخرج إلى العمل فإنه قد وردت الآثار المتضافرة التى تثبت أنه لا عقاب فى الدنيا ولا فى الآخرة عما توسوس به النفسء فقد ورد أن النبى يِل قال: (إن الله تعالى تجاوز لأمتى عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلماء ولقد قال 245 : امن هم بحسنئة فلم يفعلها كتبت له حسنة» ومن هم بسيئة فلم يفعلها لم يكتب له شىء». وإنه من القواعد المقررة أن الشريعة الإسلامية ظاهرية لا يكتشف فيها القضاء أمور النيات والبواعث» ولكن يحكم فيها بما ظهر ويترك لله ما بطن» ويقول الشافعى رضى الله عنه فى هذا المقام: «إن الله عز وجل ظاهر عليهم الحجة فيما جعل إليهم من الحكم فى الدنيا بألا يحكموا إلا بما ظهر من المحكوم عليه. ألا يجاوزوا أحسن ظاهره)217. ويقول: «وبذلك مضت أحكام رسول الله ولد فيما بين العباد من الحدود وجميع الحقوق» وأعلمهم جميع أحكامه على ما يظهر. وإن الله سان و بالسرائر»20؟ . 49- وإن الإسلام قد تمسك بذلك المبدأ أشد الاستمساك حتى مع المنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام ويخفون الكفرء عاملهم على أنهم مسلمون.ء ولم يحاول الكشف عن قلوبهم» والتنقيب عن خفايا نفوسهم مع أن أقوالهم وأعمالهم كانت تكشف عن خبيث ما تنطوى عليه» ولقد اتخذ الشافعى من معاملة النبى يَلِْدّ لهم دليلا على أنه لا يأخذ بالباطن. مع أنه كان يعلم بالوحى ذلك الباطن» ويقول رضى الله عنه فى ذلك: «الأحكام على الظاهرء والله ولى الغيب. من حكم بالإزكان27 جعل لنفسه ما حظر الله تعالى عليه ورسولهء لأن الله عز وجل إنما يتولى الشواب والعقاب على الغيب» لأنه لا يعلمه إلا هو جل ثناؤه. وكلف العباد أن يأخذوا من العباد بالظاهر. ولو كان لأحد أن يأخذ بباطن عليه دلالة كان ذلك لرسول الله ككل وما وصفت من هذا يدخل فى جميع العلمء فإن قال قائل: فما الذى دل على ما وصفت من أنه لا حكم بالباطن؟ قيل: كتاب الله تبارك وتعالى» ثم سنة رسول الله كَيْةِ وأمر الله تبارك . 570 الأم جلا صةا؟ . (؟) الأم جا لاا ص‎ )١( . الإزكان فهم الشىء بالظن من غير أدلة مادية» والاسم الزكانة‎ )9( 8 سام اس ولام وتعالى فى المنافقين» فقد قال لنبيه : ف إذا ادل المسنافون فو مشهد نك لرسول الله وال يِعلْمِ إن لرسوله واللّه يشهد إِنّ المنافقين لَكَاذِبوتَ + 22> انّحَدُوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله 2174 فأقرهم رسول الله كلل يتناكحون ويتوارثون» ويقسم لهم (أى من الغنائم) إذا حضروا القسمةء ويحكم لهم بأحكام المسلمين» وقد أخبر الله تعالى 78 عن كفرهم» وأخبر رسوله أنهم اتخذوا أيمانهم جنة من القتل بإظهار الإيمان7" . "- هذا هو الإسلام فى معاملته للمنافقين الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفرء وقد كانت أعمالهم ومفاسدهم شاهدة بخبث قلوبهم» حتى إن النبى لد كان يعرفهم واحدا واحداء والمسلمون يعرفونء وقد كانت منهم أعمال تفت فى عضد الجيوش الإسلامية» يثبطون عند الخروج للقتال» ويرجفون بالهزيمة عندما تشتد المعارك» ولا يخرجون مع المسلمين فى قتتال إلا إذا كانوا على ثقة من النصر»ء وفى الحسروب الشديدة لا يخرجونء» وقد قال الله تعالى فيهم فى الحروب وإثارتهم الفتن: #ولو أرادوا الخروج لأعَدوا لَه عدة ولكن كره الله انبعاتهم فَبَطهُم وقيل افعدوا مع القاعدين > أو خَرَجوا فيكم ما زادوكم إل حبَالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفشَة وفيكم سمَاعون لهم واللهُ عَليم بالظالمين 07> قد ابتغوا الفَة من قبل وكلبُوا لك الأُمُورَ حت جَاء الح وَظَهَر مر الله وهم كارهون 220 204 . ولقد اشتدت حال أولئك المنافقين» حتى إن بعض كبار المؤمنين يحث النبى كك على قتلهم» ومع ذلك يمتنع النبى الحر عن أن يمسهم بأذى حتى لا يكون التنقيب عن القلوب سنة من بعده» ويتشدد الفاروق عمر فى طلب قتل بعضهم ومحمد رسول الله يليد يعرض عنهء ويزداد أولئك المنافقون إمعانا فى الأذى» حتى تتبرم بهم بهم أسرهمء فيذهب أهل كل بيت فيه منافق إلى النبى يَلِ يستأذنونه فى قتلهء ومحمد يَكْةٌ يعرض ويقول: «أين عمرء لو قتلناهم يوم أراد عمر أن نقتلهم لأرعدت لهم أنوف هى اليوم تريد قتلهم» . هذه حقيقة يذكرها التاريخ لمحمد رسول الله . ويذكرها التاريخ للإسلام الحرء ومن احتقار العقول أن يقارن هذا بما كان من زعماء النصارى فى عهد قسطنطين عندما دخل الرومان فى المسيحية» وما كان من محاكم التفتيش فى القرون الأخيرة» وما يسلكه ساسة اليوم من نشر الجاسوسية والتنقيب عن الخواطر والقلوب» ولكن هكذا الإسلام» وسيستمر حجة على الناس إلى يوم القيامة . . 58- 55 : الأم جا ص١5 . (*) التوبة‎ )( . ” 4220١ : المنافقون‎ )١( >” التحضير للجرمة : -١‏ التمهيد للجريمة وأخذ العدة لها يأخحصذ حكم ذات الجريمة» فمن أعد المفاتيح لفتح الأبواب للسرقة لا يعد سارقاء ومن اشترى سلاحا لا يعد قاتلاء ومن أعد المخازن التى يحتكر فيها الأقوات لا يعد محتكراء وهكذا فالإعداد لآمر لا يعد ارتكابا لهذا الأمرء ولكنه بلا شك وسيلة لهذا الأمر. وهل يأثم إذا اتخذ هذه الوسائل بهذا القصدء إنه بلا شك يأثم فيما بينه وبين الله تعالى» أما فيما بينه وبين الناس فى الظاهر. . أيعد مرتكبا جريمة يجب منعها أم لا يعد مرتكبا لهذه الجريمة؟ لقد اتفق الفقهاء على تحريم بيع السلاح فى أيام الفتن» وعلى إثم من يفعل ذلك بقصد الفتن» لأن فعله ليس نية مجردة» ولكنها نية صحبها عمل واقترنت به» ولكن اختلفوا أيكون البيع نافذا فى حكم القضاء أم لاء قال بعض المالكية والحنابلة إن بيعه يكون باطلاء وقال الشافعية والحنفية: إن بيعه يكون صحيحاء وإنه على نظر بعض المالكية والحنايلة تكون الأعمال التحضيرية فى حكم المنع القضائىء وإن لم تكن جريمة كالجريمة التى ترتكب بهذه الآلات. وكذلك من دخل بيتا بقصد السرقة» ومعه كل الأدوات التى تكون للسرقة فإنه قد ارتكب جرماء وهو انتهاك حرمة المسكن,أو بلغة الإسلام دخل غير بيته بغير إذن صاحبه كما قال تعالى: « لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتَئ تستأنسوا وتسلَموا علئ أهلها 304 . 85- ولقد قرر ابن القيم أن الوساتل إلى الحرام حرام» وأن الأعمال التحضيرية بلا شك من وسائل الحرامء فتكون حراماء ويعاقب عليها ولكن بعقاب دون عقاب المجرم الأصلى» وإليك عبارته: «وسائل المحرمات فى كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتهاء وارتباطها بها - فوسائل المقصود تابعة للمقصودء وكلاهما مقصود لكنه مقصود قصد الغايات» وهى مقصودة قصد الوسائل» فإذا حرم الله شيئاء وله طرق ووسائل تفضى إليه» فإنه يحرمهاء ويمنع منها تحقيقا وتثبيتا له» ومنعا من أن يقرب حماه.ء ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضا للتحريم» وإغراء للنفوس به» وحكمته تعالى . وعلمه يأبى ذلك كل الإباء» بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك» فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شىء ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه لعد متناقضاء ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصودهء وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصله إليه» وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحهء فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التى هى أعلى درجات الحكمة والمصلحة . 39 : سورة النور‎ )١( هف والكمال» ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن لله تعالى ورسوله سد الذرائع امفضية إلى المحارم» بأن حرمها ونهى عنهاء والذريعة ما كانت وسيلة وطريقا إلى الشىء» '. من هذا يتبين أن المذهب الحنبلى بتصوير ابن القيم وشيخه ابن تيمية يعتبر وسائل الجرائم جرائم» وبذلك تكون الأعمال التحضيرية التى تعد لتكوين الجريمة وتنفيذها جرية . ومثل ذلك جاء المذهب المالكى» فقد قال القرافى فى تنقيح الأصول ما نصه: "الوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل». وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل» وإلى ما هو متوسط متوسطء وقد ذكرنا ذلك من قبل فى أصل سد الذرائع»7 . 58- وإنه بهذا التقرير ننتهى إلى أن التحضير للجريمة لا يعد أمرا غير معاقب عليه بإطلاق فى الفقة الإسلامى» وإن كان القانون كما تدل العبارات التى وردت فى شرح قانون العقوبات التى تحت أيدينا تعفية من العقاب. وفى الحقيقة» إن التحضير للجرائم فى الشريعة قد يكون جريمة فى ذاته كالخلوة بالأجنبية تمهيدا لارتكاب الفاحشة» وكالدخول فى البيت ليسرق» فإن هذه فى ذاتها جرائم» تستحق العقاب بالتعزير الذى يقرره الحاكم . فمن دخل دار غيره بغير إذن فقد ارتكب إثماء ومن اشترى الخمر فقد ارتكب إثماء. فالأعمال التحضيرية التى تكون من هذا القبيل تستحق العقاب الذى قرره ولى الأمرء وذلك باتفاق الفقهاء. | القسم الثانى : أعمال تحضيرية هى فى أصلها مباحة» ولكن كونها تحضيرا للجريمة يجعلها حراماء» وجريمة تستحق العقاب على خلاف فى ذلك. وإن الذى يؤخذ من منطق الفقهاء الذى أشرنا إليه أن الفقه المالكى والحنبلى يعتبرها جريمة» والفقه الشافعى والحنفى لا يعتبرها جريمة. وأساس الخلاف هو النظر إلى البواعث,» فالحنفية والشافعية لا ينظرون إلى البواعث فى التصرفات لأنها تتصل بالنيات؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد تجاوز عما توسوس به النفس» وما دام الأمر لم يكن فى ذاته عملا إجراميا بل هو فى دائرة المباح» فلا يتجاوز أنه وسوسة نفسية» وليس بعمل إجرامى. أما الحنابلة فيمضى منطق مذهبهم؛ وكذلك المالكية»يرون أن البواعث النفسية إذا بدا من العمل ما يدل على المقصدء وأنه متجه إليهء فإنها لا تكون خخواطر أو نيات مجردة» بل تكون عملا محرماء إذا أخذ طريقه إلى الحرام» والاحتياط لحرمات الله تعالى يوجب الضرب على يد الآثم من وقت ابتداء السير فى الطريق لكيلا يصل إلى غايته . .7841 إعلام الموقعين ج7٠ ص7١١ طبع الشيخ منير الدمشقى . (؟) راجع نبذة رقم‎ )١( يغف وإن الفقه الشافعى والحنفى على هذا يتلاقى مع الفقه الحديثء أما الفقه المالكى والحنيلى فإنه لا يتلاقى معه. ومهما يكن من الأمر فإن الفقهاء الذين يفهم من منطق مذاهبهم أنهم يرون عقوبة على التحضير فإن العقوبة التى تقدر له عقوبة تعزيرية لم يرد بها نص بل الأمر فيها إلى ولى الأمر. ا لشروع : 16- هذه كلمة اصطلاحية فى القوانين الحديثة, ولذلك لا بد لمعرفتها من الرجوع إلى أصحاب الاصطلاح الذين اصطلحوا عليهالء وقد عرفت الشروع المادة 6 من قانون العقوبات المصرىء بأنه البدء فى تنفيذ فعل بقصد ارتكاب جناية أو جنحة إذا أوقفت أو خاب أثره لأسباب لا دخل لإرادة الفاعل فيها. وإن التعريف على هذا الوضع يتضمن أمورا ثلاثة: أولها : أن يبتدئ فى تنفيذ الفعل» ولا يكتفى بمجرد التحضير . الجريمة . وإن هذه عناصر ثلاثة تجهب الإشارة إليهاء وبيان حكمها فى الشريعة. وقبل أن نخوض فى بيان ذلك يجب أن نقرر أن التفرقة بين التحضير والبدء فى التنفيذ تكون دقيقة أحياناء ولقد صور هذه الدقة الدكتور على راشد» فقال: «مثال ذلك حال من يضبط فى فناء منزلء معه الآلات التى تستعمل فى كسر المخزائن الحديدية.» ويشت أنه كان يسعى إلى سرقة خزانة من هذا القبيل موجودة فى داخل إحدى غرف المنزل» أو من يضبط وهو مسختف حاملا سلاحا ناريا فى زراعة ذرة وقت الأصيل بالقرب من مكان اعتاد أن يمشى فيه شخص معين جانبا من الليل» ويثبت أنه كان ينتظر حلول الظلام ليظطلق سلاحه النارى على هذا الشخص بقصد قتله» فى مثل هذه الأحوال يتعذر - دون شك - الجزم بما إذا كان الجانى ما زال فى مرحلة التحضير للجرية التى نواها أم أنه قد دخل فى مرحلة البدء بالتنفيذ» وهنا تبدو أهمية صياغة ضابط للتفرقة)(2 . 6- ولقد جعل فقهاء الشريعة من يكون فى مثل هذه اال التى ذكرها أن أبا عبد الله الزبيرى يرى وجوب تعزير من يوجد بجوار منزل ومعه مبرد ليستعمله فى قتح الباب»ء وثبت قصده للسرقة» أو كان معه ما ينقب به الخائط. مع ثبوت القصد . موجز القانون الجنائىي ص 5لا‎ )١( 57/8 للسرقة» كما قرر وجوب تعزير من يوجد مترصدا بجوار محل ليسرقه ويترصد لذلك غفوة الحارمر 237 . ولا شك أنه إذا قبض عليه فى هذه الحال يكون تفويت الجريمة بسبب لم يكن من قبله» فتكون كل شروط الشروع قائمة فيه» وكذلك الأمر فيمن ضرب ضرية بالسيف فأخطأت» أو صوب سهما إلى مجنى عليه فأخطأء أو ألقى قذيفة من بندقيته فأفلتت فإنه فى كل هذه الصور لا يترك الجانى كأن لم يحدث حدثاء بل يكون عليه عقاب يقدره ولى الأمرء ولكن ليس هو عقاب الجريمة» ولا هو من جنسهء فلا يقتص منه لا صورة ولا معنى» فلا يقاد للقتل» ولا يجبر على دفع دية» ولكن يكون عليه بسيب ذلك الفساد.» وبسبب ذلك الترويع» وبسبب قصد الشر والعمل على تنفيذه - عقوبة تعزيرية يقدرها ولى الأمرء كما يقدر الأمر فى الترصد للسرقة. ويلاحظ أن العقوبة فى هذه الأحوال وأشباهها ليست على النية المجردة؛ لأنها نية صحبها عمل» فالعقوبة على هذا العمل الذى كان إجراميا بما فيه من ترويع وإفزاع للآمنين» وبما فيه من قصد إجرامى انتقل من مرتبة التفكير إلى مرتبة التنفيذ» وفات التنفيذ بأمر لم يكن له فيه إرادة» بل بأمر فوق إرادته. 57- والعقوبات على الشروع عقوبات تعزيرية» سواء أكان الشروع فى ذاته جريمة كالقتل والخلوة عاريين» ولكن لم تتم الجريمة لمفاجأة مثلاء فإن هذا العمل فى ذاته معصية منهى عنها عليه عقوبة تعزيرية» أم كان العمل فى ذاته ليس جريمة. ولكن القصد هو الذى ألبسه لبوس الإجرام» كمن يترصد شخصا ليغفله وينشل منهء فإن الترصد فى ذاته دون أن يقع منه شىء ليس جرية إلا بقصده الذى لابسه. وإذا كانت عقوبات الشروع عقوبة تعزيرية فإنه يلاحظ فيها حينئذ أمران: أولهما : أن يكون الأمر فى تقديرها لولى الأمرء فإنه لم يرد فى مثلها من كتاب أو سنة عقوبة مقدرة» لأن العقوبات المقدرة كانت لحرائم واقعة بالفعل» لا لحرائم كانت بسبيل الوقوع إلا إذا كان الشروع يتضمن جريمة واقعة فى ضمن الجرائم المقدرة» كمن يلقى بسهم فيصيب عين المجنى عليه فيفقؤها ولا يقتله» مع ثبوت أن القصد قتلهء فإنه فى هذا الحال تكون ثمة عقوبتان: إحداهما : مقدرة. وفيها القصاص الثابت بقوله تعالى: #العين بالعين» والأخرى - تعزيرية غير مقدرة. الأمر الثانى : الذى يلاحظ فى عقوبة الشروع هو أن تكون دون العقوبة المقدرة» فلا يصح أن تكون عقوبة الشروع فى السرقة كعقوبة السرقة» لأن عقوبة الوسيلة تكون )غ2 الأحكام السلطانية للماوردى ص7 . الخفا أخف من عقوبة القصدء ولا يصح أن تكون عقوبة الشروع فى الزنى مثل عقوبة الزنى كما ذكرناء ولسيب آخرء وهو أن التعزير لا يصل إلى الحد الذى هو من جنسهء لا روى من أثر أن «من بلغ الحد فى غير حد فقد بغى وظلم». الجرمة الخائبة : /741- هى الجريمة التى تمت ولكن تبين أنه لا يوجد موضوع لاعتداءء. وإذ لا فساد ولا اعتداء» ونحن فى هذا أخذنا العنوان من القانون» ولكن وجدنا تعبيره ينطبق على بعض أحوال ذكرتها الشريعة وقد توافرت فيها عناصر الجريمة من حيث القصد والفعل» ولكن لم يتوافر الموضوع؛ لأن الموضوع لا اعتداء فيه ولا فسادء ولعل هذا الاسم يتحقق فى المعانى الشرعية أكثر من تحققه فى الأمثلة التى ذكروها للجرائم الخائبة» فقد ذكروا من الحرائم من يصوب أداة القتل» ويخطئ الهدف. فإن المعقول أن يكون هذا فيه شروع فى القتل» ولكن فات بأمر ليس فى إرادته . ولكنا نضرب مثلا للجريمة الخائبة من يصوب سهمه نحو شخص ليقتله يحسبه عدوا له وهو معصوم الدم» فتبين أنه شخص غير معصوم الدم» كمن يكون فى ميدان الجهاد وأراد أن يقتل زميلا لهء فرأى شبحا فى الليل ظنه غريمه فرماه فتبين أنه من العدو الذى يحاربه» وليس غريمه الذى يقصده بالقتل. وكمن يقصد إلى امرأة يزنى بها فتبين أنها زوجته» فتكون الجريمة واقعة» ولكن ليس فى الموضوع اعتداء ولا فسادء وكمن اغتصب مالا يظنه مالا لعدو لهء فتبين له أنه ماله وكمن يذهب ليسرق مالا فتقع يذه على مال له كان مغصوباء ففى كل هذه الصور وجد معنى الجريمة من حيث القصد والفعل» ولكن من حيث الموضوع يتبين أنه لا اعتداء على حسق أحد ولا فساد فى الموضوع وإن كان فى النية الفساد. ويقول ابن حزم: إن من ينوى ارتكاب جريمة» ويفعلها ثم يتبين أنه لا موضع لها يعد مجرما فى واقع الأمرء ولكن يكون مستسهلا للإجرام مستهينا بالفرائكض والفضائل» ويضرب لذلك مثلا: من يأتى امرأة يحسبها أجنبية؛؟ ويفعل فعلته على أنه زنى فيتبين أنها زوجته لا يعد زانيا بل يعد مستسهلا للزنى» ويقول فى ذلك: «ليس عليه إثم الزانى» ومن قذفه حد حد القذف. ولكن عليه إثم الزنى» وإن هذه النية لها أثرها فى العبادات فتفسدها)27' . العدول عن إتمام الجرمة : 848- إذا عدل مريد الجريمة عن إتمامها بعد أخذ الأسباب لهاء لا يعد فعله شروعا؛ لأن عدم تمام الجريمة بسبب جاء من قبله» لا بأمر خارج عن إرادته» سواء أكان . ١١9,ص الإحكام فى أصول الأحكام لابن حزم ج؛‎ )١( كنا العدول لخوف العاقبة» أم كان العدول لتيقظ ضميره وتوبته» ويضرب القانونيون لذلك مثلا من يقصد إلى قتل شخص ويصوب إليه سهمه أو رصاصته. ولكنه يعدل عن إرسال سهمه أو إطلاق رصاصته بمحض إرادته لدافع من الدوافع كالندم والتوبة» أو خشية العقاب. وفى السرقة بمن يتسلق جدار المنزل أو يقتحم بابه» ولكنه يرجع لخوف العقاب أو للندم والتوبة. والعدول الاختيارى قسمان: عدول سيبه منبعث من نفس المجرم كالشفقة والتوبة» وخوف العقاب ويسمى علماء القانون هذا النوع من العدول - العدول التلقائى» وهو اختيارى محض . | والقسم الثانى : عدول اخستيارى أيضاء ولكن سببه أمر خارجى كأن يعدل لسماعه وقع أقدام ويخشى أن يقبض عليه» أو يعدل السارق لشعوره باستيقاظ السكان» وهذا النوع من العدول.» هو بين الاختيارى والاضطرارى» فليس اختثيارا محضا ولا اضطرارا محضاء هو بينهماء وعلى هذا يكون العدول له أسباب ثلاثة يتنوع بسبيها: فالآول : العدول اضطراراء وهذا يعتبر شروعا. والثانى : عدول اختيارى محضء» وهذا يجعل الفعل التمهيدى لا جزاء عليه إلا إذا كان هو فى ذاته جريعة.ء كدخول منزل الغير. والثشالث : بين الاضطرارى والاختيارى» والأمر فيه عند الأكثرين من رجال القانون يوكل إلى القاضى ليرجح فيه أى الجانبين27". : 84- وإن الشريعة فى العدول الاختيارى» سواء أكان اختياريا محضاء أم كان اختياريا مشوبا باضطراب» تجعل الفعل غسير موجب للعقاب ما دام لم يدخل بالفعل فى جريمة» لأنه لا يتجاوز أنه هم بسيئة فلم يفعلهاء وذلك إذا لم تكن الأفعال فى ذاتها جريمة توجب العقاب» فإن العقوبة حينئذ لا تكون على الشروع فى جرية إنما تكون على جرية واقعة فعلا» وذلك كمن ينتهك حرمة مسكن بقصد السرقة» ثم يمتنع عن السرقة خوف العقاب». فإنه فى هذه لا عقوبة على السرقة» لا على سبيل الحد ولا على سبيل التعزير»ء لأنها لم تقع. وقد عدل عنها اختياراء ولكن ثمة عقوبة تعزيرية على انتهاك حرمة المسكن ودخوله من غير استئذان» وتلك معصية فى ذاتها تؤجب تعزيرا. هذا إذا عدل عن الجريمة خوف العقاب» ولكن إن عدل عن الجريمة ندما وتوبقا» أفيعاقب أم لا يعاقب إذا كان الأمر التمهيدى فى ذاته معصية؟. إن الأمر فى هذه المسألة يتجاذبه نظران: . ١948 - ١97ص موجز القانون الجنائى‎ )١( 54١ أحدهما : أن التوبة النصوح تجب ما قبلهاء فلا يكون ثمة عقاب. والنظر الثانى : أنه وقع منه فعلا معصيةء وهى ذات الأمر التمهيدى. ولذلك نتكلم ببعض التوضيح فى مقام التوبة فى ارتكاب الجرائم» فإن بعض الفقهاء قرر أنها تسقط العقاب فى بعض الأحوال» وبعض الفقهاء قرر أنها لا تسقطه بأى حال» مادامت الجريمة قد وقعت» وعلى الأول أن يكون التمهيد فى محل العفو. التوبة وأثرها فى الجريمة : ”> التوبة المانغة من الإقدام على الجريمة قبل وقوعها تجعل كل الأعمال التمهيدية كأن لم تكن إلا إذا كانت تلك الأعمال فى ذاتها معصية» فإنها تدخل فى يقول ابن القيم فى ذلك: (إن حقوق العباد لا تسقط بالتوبة بإجماع الفقهاءء وذلك أن أساس التوبة أولا: هو أداء ما عليه من حق الناس » وأما حقوق الله تعالى » وهى الحدود. فإنها لا تسقط بالتوية إذا كانت التوبة بعد القدرة عليه والتمكن منه) » ويقول فى ذلك أيضا رضى الله عنه: «الحدود لا تسقط بالتوبة بعد القدرة اتفاقا»(21 . أما إذا كانت التوبة قبل القدرة عليه» فإن ذلك موضع خلاف طويل. وابن القيم يرجح المذهب الحنبلى والشافعى» إذ يقرر أنه لا عقوبة إذا كانت التوبة قبل القدرة عليه ويعتبر ابن القيم الاعتراف حيث لا دليل سواه بل الصلاة توبة» ويقول فى ذلك: وإذا كان الله تعالى» لا يعذب تائباء فهكذا الحدود لا تقام على تائب». وقد نص الله سبحانه وتعالى على سقوط الحد عن المحاربين بالتوبة قبل القدرة عليهم»ء مع عظيم جرمهم» وذلك تنبيه على سقوط ما دون الحرابة بالتوبة الصحيحة بطريق الأولى. وفى سنن النسائى أن امرأة وقع عليها فى سواد الليل» وهى تعمد إلى المسجد - بمكروه على نفسهاء فاستغاثت يرجل مر عليهاء وفر صاحبهاء ثم مر عليها ذوو عدد» فاستغاثت بهم فأدركوا الرجل الذى كانت استغاثت به فأخذوىف وسبقهم الآخر فلم يدركوه» فجاءوا بالذى أخذوه يقودونه وسلم إليهاء فقال: أنا الذى أغثتك » وقد ذهب الآخرهء فأتوا به النبى مَكُِةٌه فأخبرته أنه هو الذى وقع عليهاء وأخبر القوم أنهم أدركوه يشتدء فقال: إنما كنت أغيثها على صاحبها فأدركنى هؤلاء فأخذونى» فقالت: كذب هو الذى وقع على» فأمر النبى ملكي بإقامة الحد فجاء رجل فقال: أنا الذى فعلت بها هذا الفعل» فاعترف» فاجتمع ثلاثة عند رسول الله يَكةٍ الذى وقع عليها 200 إعلام الموقعين ج؟ ص١ ١١‏ طبع الدمشقى . ديفا والذى أغاثها والمرأة فقال: «أما أنت فقد غفر الله لك». وقال للذى أغاثها قولا حسناء فطلب عمر إقامة الحد على الذى اعترف بالزنى» فأبى رسول الله يَلةٌ لأنه تاب؛ ويعلق ابن القيم على الحديث بقوله: ااسقوط الحد عن هذا المعترف إذا لم يتسع له نطاق أمير ولكن اتسع له نطاق الرءوف الرحيم بالمؤمنين. فقال: إنه تاب إلى اللّهء وأبى أن يحدهء ولا ريب أن الحسنة التى جاء بها من اعترافه طوعا واختيارا خشية من الله واحده» ولإنقاذ الرجل المسلم من الهلاك. وتعديم حياأة أخيه على حياته - أكبر من السيثة التى فعلهل. فقاوم هذا الدواء ذلك الداع وكان القدوة الصالحة فزال المرض وعاد القلب إلى حال الصحة فقيل له لا حاجة لنا بحدك. وإنما جعلناه طهرة ودواعء فإذا تطهرت بغيره فعفونا يسعك. فأى حكم أحسن من هذا الحكم. وأشد مطابقة للرحمة والحكمة والمصلحة. وبالله التوفيق)27 . -0١‏ هذا كلام ابن القيم فى هذا المقام» ويلاحظ فيه أن كلامه تناول مقامين بالنسبة للحدود: أولهما : الحدود قبل ثبوتهاء والتوبة عنهاء فإنه يذكر أنه يرى أن التوبة فيها تسقط الحدى وهو رأى الشافعى» واين حنيل. وقد واحه القول فيها توجيهاء وسنذكر أدلته إن شاء الله تعالى. والمقام الثانى : هو التوبة التى تكون بعد ثيوت الحدود وقبل إقامتهاء فقد ذكر أن الفقهاء قرروا أن التوبة لا تسقط الحد بالاتفاق» وفى ادعاء الاتفاق نظرء فقد ذكر عن الشافعى أن التوبة تقبل أيضاء وقد جاء ذلك القول فى التفسير الكبير للفخر الرازى» فقّدذ حاء فيه : «قال الشافعى رحمه الله تعالى: يحتمل أن يسقط كل حد لله تعالى بالتوبةء لأن ماعزا لما رجم أظهر توبته» فلما تمموا رجمه ذكروا ذلك لرسول الله 85 فقال عليه الصلاة والسلام: «هلا تركتموه». أو لفظا هذا معناه. وذلك يدل على أن التوبة تسقط عن المكلف على ما يتعلق بحق الله تعالى)7") . فهذا النص بلا ريب يفيد أن الشافعى رضى اللّه عنه يذكر أنه يحتمل سقوط الحد بالتوبة بعد ثبوت الحد والحكم به. 5- وتحرير الخلاف فى هذا الموضوع أن التوبة من حيث إسقاطها للعقوبة قبل الإثبات اختلف الفقهاء فيها على رأيين: . إعلام الموقعين ج ص" 3 /ا طبع منير الدمشقى‎ )١( . مفاتيح الغيب المشتهر بالتفسير الكبير ج ص79/8 طبعة الحسينية‎ )0( تذفن أحدهما : رأى الشافعى» وهو ما حررناه» ويوافقه بعض الحنابلة» أو هو وجه من وجوه المذهب الحنبلى» وحجته من ناحيتين: إحداهما : أن الله تعالى قال فى حد السرقة: «إفمن تاب من بعد ظلْمه وأصلّح فَإِنَ الله يتوب عليه 23(4. قال النبى يَكِِ: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له»» وإن ماعزا حكم عليه النبى يك بالحد» وحاول الهرب قال النبى يَلِ: «هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه»» فهذه النصوص تفيد أن التوبة النصوح تكفر الحدود؛ لأنها عقوبة دنيوية على الذنوب» وهى تكفرها فى الآخرق فأولي أن تكفرها فى الدنياء وأن الله سبحانه وتعالى قال: إلاً اين تابوا من قبل أن تقدروا عليُهم 74" . الثانية: أن التوبة تطهر النفسء. والحدود لتطهيرهاء فإذا كانت قد طهرت نفس الجانى بالتوبة» فلا موضع للحد بعد ذلك. ونرى من هذا التوجيه أن ذلك الرأى يتجه بالعقوبة إلى الناحية الفردية من حيث إنها إصلاح للجانى» ولا يتجه بها اتجاها اجتماعيا من حيث إنها للزجر العام ومنع الشرور والآثام من أن تظهر. الرأى الثانى : أن التوبة لا تسقط الحد بعد وقوع الجريمة» وهو رأى فى مذهب أحمدء وهو مذهب مالك والحنفية» وحجة ذلك الرأى تقوم على أصلين: أحدهما : أن جرائم الحدود تطهيرها بإقامة الحد نفسهء ولذلك كان الذين ٠‏ يرتكبون ما يوجب الحد يجيئون إلى الرسول يَكةٌ يعترفون بجرائمهم» ويطلبون تطهير نفوسهم بإقامة الحدء ولو كانت التوبة كافية لإسقاط الحد ما أقيم الحد على معترف» لأن الاعتراف وخصوصا إذا لم يسبق ادعاء كاف لإثبات التوبة وإثبات كونها توبة نصوحاء إذ فيه تعريض النفس للتلف». وقبول تلف النفس وإيثاره على السكوت دليل على التوبة أى دليل» ومع ذلك قد جاء عمرو بن سمرة يقول لرسول الله يكِْةِ: يا رسول الله سرقت حملا لبنى فلان فطهرنى. فأقام رسول الله َلِِ الحدء أفلا يدل كلامه هذا على التوبة» ومع ذلك لم يعفه النبى كله من العقاب. الأصل الثانى : أن هذه الحدود للزجر العام» ولو فتح هذا الباب فيها لأدى إلى تعطيل الحدود؛ إن هذه التوبة قد يدعيها كل مرتكب,. ولا يكاد يوجد مرتكب يجد سوط العقاب مصلتا على رأسهء وسيف الحد مشهورا عليه - ولا يدعى التوبة فى هذه الحال» وقد يعتبر الندم على ما ارتكب لما يراه من سوء المغبة» وقد يجول بخاطره نية عدم الرجوع إلى مثل هذا الجرمء ولكنها حال يوجدها ذات العقاب» وليست هى التوبة 6 : المائدة : 79. () المائدة‎ )١( 3242: التى يقبلها الله تعالى» إذ يقول سبحانه بعد أن قرر قبول توبة من وجب عليه الحدء وأقيم عليه : فإِنّما الوب على الله لين يعملون السوء بجهالة ثم يوون من قريب فأولك يتوب الله عليهِم وكان الله عليما حكيما 20> وليست التَوبة للدين يعملون السيتات حتى إذا حضر أحدهم الموت قَال إني ثبت تبت الآن ولا الْذين يموتون وهم كقار أولك أعتدنا لهم عذابًا أليما 7زم 274 , وإن الأصل الذى انبعث منه هذا الخلاف هو قوله تعالى فى حد المحاربة: 9 إلا الذي تَابُوا من قَبْلٍ أن تقدروا عَلَيْهم 4 . فقاس الشافعية على هؤلاء كل مرتكب للحدء وقصر الأكثرون من غير الشافعية إسقاط الحد فى التوبة على التى تكون قبل القدرة - على الحرابة؛ لآن كل مرتكب لحد يستطيع ادعاء التوبة» ويعلنها قبل القدرة عليهء ولقد قال ابن العربى فى هذا المقام ' موجها الكلام إلى الشافعية : ليا معشر الشافعية. أين الدقائق الفقهية والحكم الشرعية التى تستنبطونها فى غوامض المسائل» ألم تروا إلى المحارب المستبد بنفسه. المعتدى بسلاحه الذى يفتقر الإمام معه إلى الإيجاف بالخيل والركاب.» كيف أسقط جزاؤه بالتوبة استنزالا عن تلك الحالة» كما فعل بالكفار فى مغفرة جميع ما سلف استثلافا على الإسلام» فأما السارق والزانى وهما فى قبضة المسلمين ونحت يد الإمام فما الذى يسقط عنهم حكم ما وجب عليهمء وكيف يجوز أن يقاس على المحارب» وقد فرقت بينها الحكمة والحالة.» هذا ما لا يليق بمثلكم يا معشر المحققين»9 . وإنه يبدو من هذا أن قياس الحدود الأخرى على حد الحرابة قياس مع الفارق الكبير» إذ إن المحاريين لهم قوة وصولة. فيجب أن يشجعوا على التسليم» لتكفى الدولة مئونة إعداد القوة ة لنزالهم» وإنه إذا فك جمعهم سهلت مراقبة أحادهمء و صبح الشر فى حدود ضيقة يمكن القضاء عليها فى موطنها. 5977- وننتهى من هذا إلى أن إسقاط الحد بالتوبة بعد الإثبات والقدرة قول أصله فى الفقه الشافعى احتمال» نسبه الإمام الشافعى إلى فخر الدين الرازى فى التفسيرء كما نسبه إلى غيرهء ولكن يظهر أن الصحيح عند الشافعية خلافهء ولذا روى ابن القيم الإجماع على عدم قبول التوبة فى هذه الحال» وإلا تساقطت الحدود الإسلاميةء وتعطلت بادعاء التوبة فى كل حال يجب استيفاؤها. . ١720ص‎ ” النساء :-/31 2318 (0) المائدة : 8” . (5) تفسير القرطبى ج‎ )١( وموصع الخلاف هو التوبة قبل الإثيات والقدرة» فالإمام مالك والإمام أبو حنيفة لم يعتبرا هذه التوبة» والشافعى ووجه من الحنبلى اعتبرها. ولكن يجب أن نقرر هنا أن المذهب الحنفى ولو أنه يعتبر التوبة بعد ارتكاب الجريمة مسقطة للحد؛ قد قال قولا تطبيقه من الناحية العملية يقرب ذلك المذهب من المذهب الشافعى؛ ذلك أن المذهب الحنفى يعتبر التأخير مسقطا للحدء وإن التأخير لا يسقط الحد قبل الإثبات فقط. بل يسقط بعل الإثبات والحكمء وإنه بهذا يتقارب المذهبان من الناحية العملية» وإن كان بين المذهبين من الناحية النظرية فرق بين واضح . 15- هو الفعل الذى يتم به الجانى جريمته» وهو نتيجة للأعمال التى ايتدأهاء سواء أكانت أعمال الجوارح أم كانت فعل اللسانء فالقتل تنفيذ بإزهاق الروح» والجرح بإحداث الشجاج التى تصيب جسم المجنى عليه» والسرقة بأخذ المال من حرز مثله خلسة. أو فى غفلة من صاحبه على الخلاف فى مدلول كلمة السارق كما بينا من قبل» والقذف أو السب يكون بالقول الذى من شأنه الغض من كرامة المقذوف» وفقد اعتباره بين الناس إن صدق القائل . وهكذا يكون التنفيذ بكل قول أو فعل من شأنه أن يحدث الأذى أو الفساد اللذين القصد إلى الجريمة 05- وقد ذكرنا من قبل أن الجرائم قد تكون مقصودة» وقد تكون غير مقصودة. فإنه إذا كانت الجريمة فى حقيقة معناها هى إنزال الأذى بالغير» أو إحداث الفساد فى الأرض» فقّد تكون مقصودة» وقد تكون غير مقصودة. وقد أشرنا إلى الجرائم غير المقصودة. وذكرنا كيف يكون الفعل خطأء ومع ذلك يعد جريمة ليعاقب عليهء ونقلنا لك ما ذكره الفقهاء فى تعليل ذلك . والجرائم المقصودة يجب أن نبين فيها هنا معنى القصدء أهو القصد الجنائى أم هو مجرد القصد إلى الفعل؟ ولنفرق بين هاتين الحقيقتين: القصد الجنائى هو القصد إلى الفعل مع الرضا ونتائجه وطلبهاء كمن يتجه إلى شخص هو له عدو. ويضربه بسيفه ويقصد من الضرب قتله. ففى هذا الفعل يتوافر القصد إلى الفعل الذى هو مادة الجريمة. ويتوافر القصد الجنائى وهو طلب نتائج الضرب بالسيف . الحيفنا أما القصد المجرد إلى الفعل؛ فهو الإقدام على الفعل من غير قصد إلى نتائجه» أو من غير رضا بنتائجهء مثال ذلك من يضرب آخر بالسيف لعباء أو يطلب آخر إليه ماء فلا يعطيهء فيترتب على ذلك أن يموت الطالب عطشاء وفى هذه كانت الجريمة تركاء قصد إلى هذا التركء وإن لم يرد نتائجه. وقد تكون النتيجة مع الترك مقصودة وثابتة» كمن يحبس شخصا فى مكان ويمنع عنه الطعام والشراب حتى يموتء» فإن هذا قصد إلى الترك الذى هو الجريمة» وقصد مع ذلك إلى نتيجة الترك» وهو الموت بسبب العطش أو الجوع. هكذا. وقد يكون القصد إلى الفعل مع القصد إلى نتيجة معينة يريدهاء وذلك كأن يقصد إلى ضرب شخص مريدا نتيجة معينة وهى إيذاؤه بذات الضربء. فيترتب على ذلك موتهء ففى هذه الحال كان القصد الجنائى متوافراء ولكنه لم يكن هو النتيجة التى انتهى إليهاء بل انتهى إلى ما هو أشد مما قصد وأكبر مما طلب». وقد يكون العكس فيقصد إلى القتل مريدا له طالبا فينتهى بشج أو قطع عضوء فيعاقب عقوبة النتيجة التى انتهى إليها الفعل. وفى هذه الحال كان القصد أكبر من النتيجة. بينما فى الصورة السابقة كانت النتيجة أكبر من القصد. 7- وهنا يثار البحث: أتعتبر الجريمة فقط فى القصد الجنائى؛ أم يعتبر مجرد القصد إلى الفعل ووقوعه جريمة مقصودة؟ إن الفعل فى ذاته ما دام قد قصد إليه يعد جريمة فى ذاته؛ لأنه إذا كان الخطأ يجعل الفعل معتبرا جريمة. فبالأولى يكون الفعل المقصود جريمة ولكن فى حال الإكراه الملجئ. وهو الذى يكون بإتلاف الجسم أو المال أو إتلاف عضو من الأعضاء. وقد قال الفقهاء من الحنفية» أنه يكون قصد إلى الفعلء ولا عقاب عليه لأنه يكون كالآلة فى يد المكره» وقرروا أن المكره له قصد؛ وذلك لأنهم يفرقون بين الرضا والاختيارء الاختيار عندهم قصد إلى الفعل المجرد. والإكراه لا يعدم الاختيار على هذاء لأن المكره له اختيارء إذ هو مخير بين الفعل» وأن يقع الأذى به.» فيختار الفعل دفعا للأذى» ولكن الإكراه الملجئ مع أنه لا يعدم الاختيار هو يفسده فلا يجعله سليما خاليا من الشوائب» وغير الملجئ لا يؤثر فى الاختيار» بإعدام» ولا بإفساد. ولأجل ذلك كان الإكراه الملجئ مانعا من القصد إلى الإجرام فى أى صورة من الصورء وإن كان فيه قصد المفعل. 17- وإذا استثنينا حال الإكراه الملجئ على النحو السابق فإن القصد إلى الفعل فى ذاته يكون جريمة على ما بينا» لأن عنصر الإيذاء قد توافر وتكامل» والإفساد يتحقق بالفعل من غير تحقق من أن النية كانت متجهة إلى نتائج الفعل أو غير متجهة. فالأذى 7/1 يتحقق» والتبعة ثابتة» والعقل متكامل». فلا فرق بين فعل مقصود النتائج » وغير مقصود النتائج» إلا فى نوع العقاب. لا فى أصل العقاب. وذلك لأن جمهور الفقهاء قد قرروا أن عقوبة القتصاص لا تكون إلا إذا توافر القصد الجنائى بأن يقصد إلى الفعل طالبا نتائجه» أما إذا لم يتوافر ذلك فإن القصاص لا يثبت» بل تثبت عقوبة أخرى تعزيرية. ويثبت القصاص كذلك إذا قصد الفعل طالبا به نتيجة كبيرة كمن يضرب بآلة حادة قاصدا القتل» فتقطع اليدء ففى هذه الحال يثبت القصاص فى اليد لأن القصد الكبير» ينطوى فى ثناياه القصد الصغيرء فهو قد قصد إلى قطع اليد فى ضمن قصده إلى قتل النفس . 4- وإنه من الواجب علينا أن نشير فى هذا المقام إلى أقوال الفقهاء بالنسبة لقوة القصد المختار إلى الفعل من غير قصد النتائج ما دام غير مكره» ونقول فى هذا:إن أقوال الفقهاء بالنسبة للقصاص ثلاثة : أولها : قول الظاهرية» وهو أنه ما دام قد أقدم على سبب القتل أو غيره ثما يوجب القصاص. مريدا الفعل أو الترك» وانتهى الفعل بالنتيجة الحتمية التى تثبت له لا محالة» فإنه يجب القصاص؛ لأن من يقصد إلى الفعل الذى ينتج النتيجة حتماء فإنه يعد قاصدا فمن ضرب بالسيف ليجربه» وانتهى بالقتل» فهو قاتل قاصد للقتل» ومن ترك شخصا يطلب الماء وهو يعلم أنه إذا تركه سيموت عطشا ولا يوجد ماء قريب ينقع غلته» والتارك يعلم ذلك علما يقينا فإنه يعد قاتلا قاصدا للقتل» لأن النتيجة ملازمة للفعل أو الترك ملازمة تامة» والقصد إلى الملزوم قصد إلى لازمه. وإن الضرب الذى يفضى إلى الموت يعد قتلا مقصودا عند الظاهرية أيضاء إذا كان العمل الذى باشره من شأنه أن يكون فيه احتمال القتل؛ لأن قصد الاعتداء ثبت» وما دام قد قصد الاعتداء فلا بد أن يتحمل النتائج. ونجد ذلك القول ينتهى بنا إلى العبرة بالنتيجة ما دام قصد الفعل وباشره» والفعل قد انتهى إليها . وذلك كله إذا كانت الآلة التى استعملت من شأنها أن تميت» كالضرب يعصا غليظة ضربة قاتلة» فإنها وإن كانت ضربة أفضت إلى الموت يعد الشخص قاتلا قتلا عمدا يوجب القصاص ما دام قاتله» وإن صفعه على وجهه فمات كمداء أو نحو ذلك فلا شىء فى هذا إلا التعزير عند أهل الظاهر. 686 القول الثانى قول فى مذهب مالك. وهو قريب من هذاء فإن أكثر المالكية لا يعتبرون القصد إلى النتيجة مطلوبا ما دام الفعل من شأنه أن يؤدى إلى النتيجة التى ظهرت» وما دام قصد الاعتداء متحققا ثابتاء فالعبرة عند أكثر المالكية بقصد الاعتداء 584 وبالنتيجةء ولا عبرة بقصد النتيجة» ‏ لأنها لازمة للفعل. وما دامت لازمة له فإنه يفرض قصدهاء ويجب القصاص بحكم القصد للفعل الذى تترتب عليه النتيجة لا محالة» سواء أكانت الجريمة جريمة فعل» أم كانت جريمة ترك» فالنتيجة واحدة. ولكنهم استثنوا من ذلك التعميم قتل الوالد لولدهء -فإنه لا يقاد الوالد بولده إلا إذا ثبت القصد الجنائى» وقد صوروا ذلك بصورة يتضح منها القصد الجنائى. بأن يضجع ولده ويذبحهء فإن العاقل لا يفعل ذلك إلا إذا ثبت القصد الجنائى فى فعله» بخلاف ما إذا حذفه بالسيف فأصاب منه مقتلاء فقتل بسبب ذلكء» فإنه لا يقاد بهء لأن القصد الجنائى لا يثبت فى هذه الحال» إذ قد يكون الفعل غضبا أو تأديباء وما قصد الفعل إلى النتيجة قط . ولعل السبب فى ذلك الاستثناء هو أن الوالد أو الوالدة لا يفرض فيهما القصد إلى النتيجة بمجرد القصد إلى الفعل الذى تلزمه النتيجة غالباء وذلك لوفور شفقتهماء و.حرصهما على حياة ولدهماء كحرصهما على حياتهماء بل أشد. وإذا كان ذلك مفروضاء فإن تحميلهما نتيجة الفعل مع قيام الدليل من حالهما على عدم قصده مطلقا غير معقولء. فإنه يعد فعلهما كالخطأ. ولكن إن كان الفعل يدل على القصد الكامل للنتيجة كالصورة السابقة. فإنه يكون القصاص. -٠٠‏ والقول الثالث قول جمهور الفقهاءء وهو أنه لا يحمل الفاعل نتيجة فعله بالنسبة للقصاص إلا إذا قصد إلى النتيجة» ولكنهم لا ينقبون على القلوب ولا يكشفون الضمائرء بل يجعلون الالة دليلا على القصد. فمن ضرب بالة تقتل عادة لا يفرض فيه إلا أنه قصد القتل. ومن قتل بآلة لا تقتل عادة» فإنه لا يفرض فيه القتلء فمن ضرب بسوط فقتل فإنه لا يفرض فى فعله القتل» ومن ضرب بحجر كبير يفصل الأجزاءء فإنه يفرض فيه قصد النتيجة» وهى القصدء وهكذا. ولكن الفقهاء قد اختلفوا اختلافا كبيرا فى الآلة التى تعد دليلا على القصد إلى النتيجة» وذلك له موضعه عند الكلام فى الجرائم الخاصة وعقوبتها. --١‏ وإن العدوان المقصود هو الذى يعد جريمة توجب القصاص لأن فيها اعتداء على حق الحياة كلها أو بعضهاء ولكن هل يشترط لأجل استحقاق القصاص المباشرة أم يكفى التسبب المقصود المتعمدء ذلك أمر موضعه النظر فى العقوبة» وشروط استحقاقهاء فلنؤجله إلى موضعه. ولكن الأمر الذى لا بد من بيانه هنا هو بيان متى يكون الشخص مباشرا ومتى يكون متسببا؛ وهل جريمة الجماعة كجريمة الواحد» بمعنى أنه لو اشترك عدد فى جريمة يكون عليهم جميعا القصاص. أم لا يستوفى القصاص من العددء لعدم التساوى فى الجريمة والعقاب. ولنتكلم فى كل واحد من هذه الأقسام. 5 1 الحريمة المباشرة --١‏ الجريمة المباشرة هى التى يرتكبها الجانى بنفسه وينفذها بإرادته من غير توسط إرادة أخرى. سواء أكانت إرادة المجنى عليه أم إرادة غيره» فمن أخخحذ السيف وقتل شخصاء أو قطع يده فإنما ينفذ الجريمة بفعله وإرادته من غير أن تتوسط إرادة أخرى فى التنفيذ» ومن شهد على آخر بالقتل حتى نفذ الحكم فيه» فإنه يعد قاتلا بالتسبب لا بالمباشرة» ومن حرض آخر على القتل يعد قاتلا بالتسبب لا بالمباشرة» لأنه قد توسطت إرادته وإرادة أخرى». وهكذاء ومن حبس شخصا عن الماء حتى مات عطشا فهو قاتل بالمباشرة على خلاف فى ذلك» قد أشرنا إليه عند الكلام فى الحريمة بالترك. ومن حفر يكرا فتردى فيها إنسان. والحافر قد قصد إلى قتل هذا الإنسان يعد مرتكبا للجريمة بالتسبب» لأنه قد توسطت إرادة المجنى عليه فى التنفيذ وهكذا. ١‏ 5- وقد قسم صاحب المغنى الجريمة المباشرة إلى أربعة أقسام فى القتل» ويمكن تطبيق هذه الأقسام على ما دون القتل؛ لأنها تصدق فى كل جريمة يترتب عليها تلف الجسم كلهء أو تلف عضو من أعضائه. أو جرح يصيبه» وهذه الأقسام الأربعة هى: الأول : الضرب بمحدد يقتل أو يقطع غالباء كالضرب بالسيف أو بسكين» أو بغير ممحددء ولكنه يقتل أو يفرق الأجزاء أو يتلف الأعضاء» فى هذه الصور الثلاث المباشرة واضحة بينة» وإن كان الفقهاء قل اختلفوا فى وجوب القصاص» إذا كانت النتيجة ذهاب النفس. وقد أشرنا من قبل إلى هذا الخلاف. القسم الثانى : من أقسام المباشرة أن يمنع الجانى تنفس المجنى عليه مدة يترتب عليها تلف نفسهء وذلك بالخنق بحبل أو منديل» أو يعممه بوسادة أو شىء يضعه على فمه أو يخنقه بقبضة يدهء ففى كل هذه الصور يكون القتل بالمباشرة» وإذا ترتب على هذه الفعلة نتيمجة أخرى دون النفس كشلل لبعض أجزاء الجسمء أو للجسم كله فإن الجريمة تكون بالمباشرة» وإن ترتب عليها أذى فيما دون النفس. ؛ - 4- القسم الثالث : أن يلقى الجانى المجنى عليه فى مهلكة. وقد ذكر ابن قدامة فى المغنى أن ذلك القسم له أربعة أضرب: الضرب الأول : أن يلقيه من شاهق كرأس جبلء أو أعلى منزل. الضرب الثانى : أن يلقيه فى نارء» فيحترق» أو يحترق عضو من أعضائه» أو يلقيه فى ماء فيغرق» ولا يكون ثمة منجاة له من الغرق» بأن يكون الماء كثيرا من شأنه أن يغرق. الضرب الثالث : أن يجمع بينه وبين حيوان مفترس فى مكان ضيق» فإذا افترسه. أو قطع طرفا من أطراقهء فإن الجانى يعد مباشرا للجريعمة؛ لأنه لم يتوسط بين فعل 7 الجانى ووقوع الجريمة إرادة أخرى» إذ لا يعتبر للأسد إرادة توسطت بين فعل الجانى والنتيجة» ومثل ذلك إذا ألقاه مكتوفا أمام حيوان مفترس فافترسه. الضرب الرابع : أن يحبسه فى مكان ويمنع عنه الطعام والشراب مدة لا يبقى مثلها حياء وهذا يختلف باختلاف الزمان والأحوالء فإذا كان عطشان فى شدة الحر مات فى الزمن القليل» وإن كان وقت الحبس ريان والزمن بارد أو معتدل لم يمت إلا فى زمن طويل. ٠‏ 5- هذه أنواع ثلاثة من أنواع المباشرة» والقسم الثالث منها ذو أربع شعب. أما القسم الرابع : فهو أن يسقيه سما أو يؤكله شيئا قاتلاء وإن خلط السم يطعام فأكله المجنى عليه يعتبر الجانى مباشراء ما دام المجنى عليه لا يعرف أن فيه سماء ولم تقم بين يديه أمارات تدل على إرادة الفعل» فإنه وإن كانت للمجنى عليه إرادة فى الأكل. فإنه ما كان يعلم بما فى الطعام من سمء حتى تكون له إرادة فى النتيجة» وهى القتلء أو إتلاف عضو من أعضائه.» أو نزول أى ضرر به على أى صورة كان ذلك الضررء وقد خالف فى ذلك أبو حنيفة وأصحابه فلم يعتبروه قتلا بالمباشرة» لوجود إرادة للمجنى عليه237 , الجريمة بالتسبب 71 - الجريمة بالتسبب هى التى تتوسط فيها بين إرادة الجانى والنتتيجة إرادة 0 الا 37 1 ع 00 أخرى كما أشرنا فيما مضى» وقد قسم ابن قدامة ١‏ لتسبب إلى أربعة أقسام : القسم الأول : أن يكره شخص آخر على قتتل أو قطع عضو أو جرح إكراها ملجئاء بأن يكون فيه تهديد بإتلاف النفس أو تهديد بإتلاف عضو من الأعضاءء أو بضياع المال كلهء فإن التهديد بهذا يجعل المكره لا إرادة له» وإن كان له نوع اختيار ولو فاسدا عند أبى حنيفة وأصحابه . ففى هذه الحال يكون الجانى هو الذى تولى الإكراه والتهديدء لأنه وإن توسطت إرادة حرة بين الفعل والنتيجة فالتبعة على الأول» وإرادة المكره لا تعد إرادة حرة» لأنه لا اختيار له مطلقا عند جمهور الفقهاءء وله اختيار فاسد عند أبى حنيفة. وجمهور العلماء على أنه لا عقاب على الشخص الذى باشر الجريمة» ولكن أيعاقب من أكره عقاب المباشر للجريمة أم لا يعقاب على ذلك النحو؟ هذا موضع الخلاف بين الفقهاء. القسم الثانى : الشهادة التى تؤدى إلى تلف النفس أو العضوء ثم يتبين أنها شهادة زورء فإن الشاهدين قد ارتكبا شهادة الزورء وقد أدت هذه الشهادة إلى قتل النفس»ء أو .١(‏ ؟) هذه الأقسام الأربعة هى خلاصة أقسام ذكرها ابن قدامة فاختصرناها على ذلك النحوء بجمع الاثنين الأولين فى قسم. وحذف أحذ الأقسام ج١‏ ص”7577 . الطيعة الثانية للمنار. "9١ قطع اليد كالشهادة فى السرقة» أو إلى حد القذف كالشهادة فيهء ولم تكن النتيجة من فعلهماء بل من فعل غيرهماء وهو الحاكم الذى حكمء فالجريمة إذن لم تكن مباشرة» لأنه توسط بين الفعل أو القول والنتيجة إرادة أخرى. القسم الثالث : الحاكم إذا حكم بالقتل أو قطع عضو أو حد ظلماء وهو يعلم أنه ظلمء فإنه فى هذه الحال لا يباشر القتلء وربما لا يباشر القطع ولا الضرب, ولكنه قد ارتكب تلك الجريمة بالسبب» وإن لم تكن مباشرة. ْ القسم الرابع : القتل بتوكيل غيره» وهو ما يسمى فى لغة فقهاء القانون امجنائى القتل بالتحريض» ومثل التحريض التحريض على أى جريمة أخرى غير جرية القتل” ‏ . والمحرض بلا شك» وإن لم تكن الجريمة بفعله. وتوسطت إرادة أخرى مع إرادته يعد مرتكبا بهذا التحريض» ومشتركا فيهاء ولذلك عليه جزء من تبعاتهاء إن لم تكن تبعة الفعل» فتبعة التحريض . ١ /‏ 5- هذه أقسام تقريبية» لا تتحد فيها كل أنظار الفقهاء. فإن الأنظار تختلف فى هذه الأقسام اختلافا مبيناء وأشد الفقهاء تضييقا فى معنى المباشرة وتوسعة فى معنى التسبب هم الحنفية» بل إنهم ينفون تبعة الجريمة مطلقا فى بعض الأحوال» وأكثر الفقهاء توسعة فى معنى المباشرة وتضييقا فى معنى التسبب هم المالكية والحنابلة» وقد توسط الشافعية بين الفريقين. الاشتراك فى الجر يمة - الجريمة كما تقع من الواحد على مثله تقع من الجماعة على واحدءفقد تتضافر جماعة على قتل شخص» كأن يشترك اثنان فى قتل شخص بأن يوئقه أحدهما ويضربه الآخرء أو يضرباه ضربة رجل واحدء أو يتعاون عدة أشخاص على ارتكاب إثم القتل» بأن يباشره أحدهمء ويمنم المدافعين عنه اثنان أو أكثرء أو يقتل واحد ويكون هناك شخص يحرس الطريق ليمنع المغيثين حتى تتم الجريمة» فإن هذا يعد مشتركاء ويسمى ربيئة» ويعاقب عقوبة المباشر على رأى بعض الفقهاء؛ لأن الجريمة ما كانت لتنم لولا تضليله المغيئين. ونرى من هذه الصورء ومما سبق عند الكلام فى التسبب أن الاشتراك فى الجريمة قد يكون اشتراكا بالمباشرة بأن يكون الجميع مباشرين.» وقد يكون اشتراكا بالتسبب». وقد يكون اشتراكا بالمباشرة من بعض وبالتسبب من بعض آخرء وكل هذه الصور كان فيها الاشتراك» وإن تعددت ضروبه وأشكاله . )١(‏ المغنى الجزء السابع ص 140 طبع المنار الطبعة الثانية. "01 وكيفما كان الشكل فالجريمة من جماعة مثل الجريمة من واحدء وقد أفتى بذلك الصحابة واتفق عليه جمهورهم» حتى لقد قتل عمر بن الخطاب جماعة اشتركوا فى قتل واحدء وشدد فى ذلك» وقال رضى الله عنه: «لو تمالاً عليه أهل صنعاء لقتلتهم به» ولقد قتل على بن أبى طالب الجماعة بالواحد أيضا. ولقد اتبع جمهور الفقهاء الصحابة فى ذلك؛ لأنه لو لم يقتل الجماعة بالواحد لأدى إلى أن يستعين القاتل بغيره» لكيلا يقنص منه» وبذلك يستشرى الفساد فى الأرض» ويكون الأمر فى الحكم أمرا جاهلياء إذ يكون لذوى العصبيات أن يعيثوا فى الأرض فساداء فيذهب الحرث والنسل» وتكون الفوضى» ولذلك كان جمهور الصحابة يرون أن الشركاء فى جريمة يعدون جميعا مرتكبين للجريمة» وإن اختلفت أنصبتهم فى مقدار الارتكاب» ولم. يفصلوا القول فى مدى الاشتراك ومعناهء ولذا اختلف الفقهاء فيه من بعدهم. وإنه لبيان -مقدار جرائم الشركاء لا بد من التمييز بين من يبا-شر الجريمة ومن لا يباشرهاء فإنه بلا شك أول ما يكون الاتجاه إلى من يباشر الجريمة أولاء لأنه مادام فاعلا مختارا فإن التبعة تتجه إليه ابتداءء لأنه هو الذى ارتكب أكبر الجريمة» وتولى بالفعل تنفيذهاء والركن المادى» فإذا ارتكب شخص جريمة قتل» فإن التبعة تقع ابتداء عليه ثم ينظر بعد ذلك إلى من كانوا يعاونونه» إما بمنع الدفاع عن المجنى عليه وإما بمنع إغائته» وإما بغل يديه عن العمل ليتم تنفيذ المباشر للجريمة. وإن أبا حنيفة وأصحابه يقصرون عقوبة القصاص على من يباشر دون من يتسبب» ويضيقون مع ذلك معنى المباشرة» أما جمهور الفقهاء فإنهم يشركون المتسبب فى القصاصء كما اشترك فى الجريمة» وذلك فى حال ما إذا كان الاعتداء على النفس» ثم هل الاشتراك يوجب القصاص من الجماعة فى الأطراف كما أوجبه فى الاعتداء على النفس» إن ذلك ميدان اختلاف بين الفقهاءء لأنه لم يؤثر عن الصحابة فيه حكم قاطعء وإن أثرت فى القتل عبارات قاطعة فى الموضوع فكانت موضع خلاف بين الفقهاء كما نوهنا. الاشتراك فى القتل 8- الجوهر فى الموضوع أن الاشتراك فى الجريمة إذا كانت اعتداء على النفس اعتبر كل واحد من المشتركين مرتكبا لها مستحقا لعقوبتهاء فإذا قتل عشرة واحدا اعتبر كل واحد قاتلاء وعوقب عقوبة القاتل» ولم يخالف فى ذلك إلا الظاهرية» فقد قالوا: إن الجماعة لا يؤخذون بالواحد» ولا يعتبرون كل واحد منهم قاتلاء ورأيهم فى هذا قد بنى على أساس أن الإجماع لم ينعقدء فقد كان معاذ بن جبل يخالف عمر وعلياء ومعاذ صحابى جليل» لا يمكن أن يقال إن الإجماع قد انعقد مع خلافه» وينتهى الأمر بهذا ين بهذا إلى أن قتل الجماعة بالواحد رأى لبعض الصحابة لم ينعقد عليه إجماع. ورأى الصحابة ليس بحجة فى ذاته عند الظاهرية . وقد ذكر خلاف الظاهرية فى هذه المسألة ابن رشد فقال: وفقهاء الأمصار قالوا: يقتل الجماعة بالواحد» ومنهم مالك وأبو حنيفة والشافعى والثورى وأحمد وأبو ثور وغيرهم » سواء أكثرت الجماعة أم قلت. وبه قال عمر» حتى روى عنه أنه قال: «لو تمالاً أهل صنعاء عليه لقتلتهم جميعا» وقال داود وأهل الظاهر: تقتل الجماعة بالواحدء وهو قول ابن الزبير» وبه قال الزهرى» وروى عن جابر. ثم ذكر وجهة الفريقين فقال: «عمذة من قتل الجماعة بالواحد النظر إلى الملسة » فإنه مفهو م أن القتل إنما شرع لنفى القتل» كما نبه عليه الكتاب الكريم فى قوله تعالى : #ولكم في القصاص حيَاة ا أؤلي الأنبّاب ١4‏ '©. وإذا كان ذلك كذلك فلو لم تقتل الجماعة بالواحد لتذرع الناس بذلك إلى القتل» بأن يتعمدوا قتل الواحد بالجماعة» لكن للمعترض أن يقول: هذا إنما كان يلزم لو لم يقتل من الجماعة أحدء فأما إن قتل منهم واحدء وهو الذى كان من قبله إتلاف النفس غالياء فليس يلزم أن يبطل الحد» حتى يكون سببا للتسليط على إذهاب النفوس29؟ . -4٠‏ هذا جرهر الاختلاف فى أصل الاشتراك» ولننتقل بعد ذلك إلى مدى الاشتراك» فنقول: إن الحنفية كما نوهنا من قبل لا يعتبرون من القتل الموجب للقصاص إلا القتل المباشر الذى يكون عمداء فلا يعتبرون القتل بالتسبب موجبا للقصاص» وعلى ذلك يكون الاشتراك عندهم بالمباشرة دون سواهاء والمباشرة تكون بالضرب المشترك بالفعل. بأن يجرحه أحدهم. ويجرحه الثانى» ويج رحه الثالث» ومن مجموع جراحات الثلائة يكون الموت» ولو كان الجرح الأخير هو الذى اقترن به الموت. وقد صور ذلك الكاسانى فقال: «ولو جرحه أحدهما جراحة واحدة والآخر عشر جراحات» فالقصاص عليهماء ولا عيرة بكثرة الجراحات» لأن الإنسان قد يموت بجراحة واحدة» ولا يموت بمجراحات كثيرة20 . فالشرط فى نسبة الفعل إليهما أن يكون الضرب منهما مجتمعا ومتعاقبا وليست واحدة منهما تّميت بذاتهاء أما إذا كان الضرب متعاقسيا وكانت إحدى الضربات مميتة بذاتهاء فإن القتل ينسب إلى ضاربهاء ولا ينسب إلى الباقين. ولذلك لو أن أحدهما شق بطنه». والآخر جز رأسه نسب القتل إلى الثانى دون الأول» لأنه يمكن أن يعيش بعد شق بطنه بخيطهاء ولو جرحه أحدهما جراحة مثخنة لا )١(‏ البقرة : ١/4‏ . (1) بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد الحفيد. (*) البدائع ج لا ص79 . >5”33 يمكن أن يعيش معهاء ثم جرحه الآخر بعد ذلك جراحة مات عقبهاء فإن القاتل هو الأول» لأن جراحة الثانى كانت فى حكم اللغو من حيث عملية القتل» وإن كان عليه إثم يوجب العقاب . وهكذا نرى الحنفية اعتبروا المباشرة» وضيقوها فى أضيق دائرة» فاشترطوا العمل منهم جميعاء وأن يكون الموت نتيجة لعملهم جميعا. وإن يشبت أن عمل أحدهم كان كافيا للقتل» وكان هو السابق» أو كان هو الآخرء فإن الموت يسند إليه» لا يسند إليهماء وإن كان الآخر لا يبرأ من إثم» ولكنه لا يطالب بدية ولا قودء بل يعزرء وفى غير المباشرة لا يتصور الحنفية شركة . وحال عدم المباشرة التى توجب القود أو الدية عندهم هى حال الإكراه الملجئ الذى يكون فيه المكره كالآلة فى يد من أكرههء ولا يسمى الحنفية هذا تسببا بل يسمونه مباشرة لأن الشخص كما ذكرنا كالآلة فى يد من أكرهه. -١‏ هذا مذهب أبى حنيفة» أما مذهب مالك رضى الله عنهء فإنه يعتبر الشركة بالمباشرة» ويعتبر الشركة بالتسبب أيضاء والشركة بالمباشرة أوسع من معنى المباشرة عند أبى حنيفة» فيعتبر مباشرا إذا حضرء سواء اشترك فى القتل فعلا أم لم يشترك» وسواء أكان عمله قليلا أم كان عمله كثيراء فما دام قد تمالاً معه على القتل وحضرء فإنه يعد قائلا ولو لم يباشرء لأنه ما ترك العمل إلا لكفاية الآخر لهء ومكائرته له بالحضور لها أثرها فى نفس المقتول» ثم هو مستعد للإعانة إذا استعان به. وإذا كان الشريك غير مباشر للقتل» ولا حاضراً للقتل» ولكنه أعان عليه بأن منع المغيئين من أن يغيثوا المجنى عليههء فإنه يعد شريكاء وقد قالوا: إن قتيل صنعاء الذى اشترك سبعة فى قتله» وقتلهم عمر جميعاء وقال: لو تمالا أهل صنعاء عليه لقتلتهم جميعا - كان بعضهم ربيئة يمنع إغاثة المغيثين. وهكذا نرى مذهب مالك. لا يفرق بين المباشرة والإعانة» وكذلك التحريض يجعل المحرض مسئولا وحده إذا كان ذا سلطان على من حرضه. ولو سلطانا أدبيا كسلطان الأب على ابنهء» وقد علمت أن الحنفية لا يعتبرون التحريض إلا إذا كان إكراها ملجئاء وإذا أمسك رجل آخر فقتله القاتل يعد مباشرا للقتل عند مالك ما دام متفقا معه على القتل» وما دام قد قصد بإمساكه القتل. وهو يعلم مقصد القاتل» وذلك واضح لأنه إذا كانت المباشرة تثبت بمجرد الحضورء فأولى أن تثبت إذا صحب الحضور عمل إيجابم 00 , )١(‏ راجع فى هذه حاشية حجازى ص2705 وفى حال إمساك رجل لآخر ليقتله» وقد كان يعلم ذلك وأنه لولا الإمساك ما كان القتل - اختلف الفقهاء على ثلاثة آراء: الحنفية ومعهم أهل الظاهر يعتبرون القاتل هو الذى قتل» ويعزر الآخر تعزيرا شديداء ويقول ابن حرم: إنه يحبس حتى يموت» وروى فى ذلك د لكا وإذا أمر شخص آخر وكان كلاهما عاقلاء فإنهما يقتلان معا عند مالك رضى الله عنه لأنهم تمالئوا على القتل . وخلاصة نظر الإمام مالك من الاشتراك فى جريمة القتل أنه إذا كانت الجريمة نتيجة ممالأة» سواء أباشروها جميعا أم باشرها بعضهمء وكان الآخر معينا له» أو مانعا من الإغاثة» أم كان أحدهما آمرا والآخر مأمورا وكلاهما عاقل رشيد مقدر للأمورء فإنه فى كل هذه الصور يسند القتل إلى كل واحد منهماء ويكون اشتراكا فى الجريمة إلا فى حال الآمر إذا كان ذا سلطان على المأمورء فإنه يعتبر الآمر هو المسئول وحده. ش ويترتب على هذا النظر أنه لو كان الاشتراك سلبيا بأن كان أحدهما قد ألقى صغيرا فى ماء عميق» وهو لا يحسن السباحة» وسكت الآخر وهو قادر على الإنقاذ يعد شريكاء إن كان ثمة اتفاق» وإن لم يكن ثمة اتفاق فالأمر موضع نظرء والمسئول هو المباشر وحده» وإن كان الآخر آثما ويعزر لهذا السكوت. 417- ومذهب الشافعى وأحمد فى الاشتراك يتلاقى مع مذهب أبى حنيفة فى بعض نظره ويختلف عنه تضييقا فى معنى الاشتراك وتوسعة. فهو يعتبر المباشرة اشتراكا إذا كانت كل ضربة كافية للقتل وحدهاء فلو ضربه كلاهما ضربة بحيث لو ترك مات منهاء وضربه الآخر ضربة مميتة اعتبر كلاهما قاتلا إذا كانا ففى وقت واحدء وكذلك إذا كانت كل ضربة لا تميت بأن يكون القتل نتيجة مجموعة الضربات» ولو كانت واحدة لا تكفى» وبذلك يتلاقى المذهب الحنفى مع المذهبين الحنبلى والشافعى» فى أنه لابد أن تكون كل ضربة قاتلة بنفسهاء ولكنه قبل أن يموت ضرب الآخر مثلهاء ويختلف أحمد عن أبى حنيفة فى الاشتراك بالمعاونة والتسبب بالأمر أو التحريض» فقد تبين أن أبا حنيفة لا يعتبر المسئول إلا المباشر إلا إذا كان ثمة إكراه ملجئ» فإن الذى يعتبر مباشرا هو المكره.» وهذا يخالف ما عند الحنايلة . أما بالنسبة للمعين بأن أمسكه حتى قتله الآخرء فهناك رواية عن أحمد أنهما يقتلان به كمذهب مالك لأنهما شريكان. وقد جاء فى المغنى «الاجتماع على أن يقتل» (أى الماسك)؛ لأنه لو لم يمسكه ما قدر على قتله» وبإمساكه تمكن من قتله» فالقتل حاصل بفعلهماء فيكونان شريكين فيه» فيجب القصاص كما لو جرحاه». ومذهب الشافعى هو مذهب أحمد. وهو أن القصاص على من فتل فقط فالاخر ليس بشريك؛ أما بالنسبة للآمر فقد قال أحمد والشافعى: إن القصاص إنما يكون من القاتل فقطء إلا إذا كان صبيا أو مجنوناء فإن القصاص يكون على الآمرء وأبو حنيفة يقرر - قول النبى يَِة: «إذا أمسك الرجل الرجل» وقتله الآخر يقتل الذى قتل» ويحبس الذى أمسك»؛ (المحلى جا ص051)» وعند المالكية أنهما يقتلان إذا ثبت القصد من الممسكء» لأنهما شريكان كما بيناء وهناك رأى عند المالكية أنه ما دام قد أمسكه فإنه يقاد مع الآخرء من غير حاجة إلى إثبات قصد القتل عنده. "0 أنه لا قصاص على واحد منهما بل الدية على الآمر إذا كان فى المشتركين من لا يقتص ٠‏ “11 4- قد كان الكلام كله فى حال ما إذا كان المشتركون جميعا يمكن أن يقتص منهمء ولم نتعرض إلا قليلا إذا كان أحد الشركاء لا يمكن أن يقتص منه. ولنتكلم الآن فى هذه الصورة» وهى صورة ما إذا كان أحد الشركاء لا يمكن أن يقتص منه؛ لأن الشريك قاصر عن تحمل تبعة الجريمة إذا كانت التبعة قصاصاء أو الشريك كان مخطتاء والآخر كان متعمداء أو لأن الشريك كان مدافعا عن نفسهء والآخر كان متعدياء أو لأن الشريك كان أصلا من أصول المقتول لا يقتص منه» والآخر لا توجد عنده هذه الغلاقة. وخلاصة القول فى هذه الصورة أن الفقهاء لهم نظريات ثلاث فيها : 164 أولها نظرية الحنفية : وهى أنه لا يقتص من أحدهم إذا كان أحدهم لا يمكن القصاص منه لأى سبب من الأسباب» لأن الجريمة مشتركة وقعت من الجميعء فإذا كان بعضهم لا يقتص منه فمعنى ذلك أن فعله لا يوجب القصاصء ويكون القصاص على فعل الآخر منفرداءوهو وحله لم يكن مكونا لجريمة القتل» فإنما تكونت جريمة القتل من مجموع الفعلين. ويقول صاحب البدائع فى ذلك: لو اشترك اثنان فى قتل رجل » أحدهما ممن يجب عليه القصاص لو انفرد تمن ذكرناء كالصبى مع البالغ» والمجنون مع العاقل» والمخطئ مع العامدء والأب مع الأجنبى» لا قصاص عليهما عندناء لأنه تمكنت شبهة عدم القتل فى فعل كل واحد منهما؛ لأنه يحتمل أن يكون فعل من يجب عليه القصاص لو انفرد مستقلا فى القتل» فيكون فعل الآخر فضلاء ويحتمل القتل» وهذه الشبهة ثابتة من الشريكين الأجنبيين» إلا أن الشرع أسقط اعتبارهاء وألحقها بالعدم فتحا لباب القصاص وسدا لباب العدوان» لأن الاجتماع يكون ثمة أغلب» وها هنا أندرء قلم يكن فى معنى مورد الشرع بهء» وعليهما الدية لوجود القتل. هذا توجيه حسن» ومؤداه أن مقتضى القياس ألا يجب القصاص عند الاشتراك» ولكن كان القصاص من الجماعة؛ لأن الغالب أن يستعين القاتل بغيره لتنفيذ جريمته» فلو ترك الشركاء لانسد باب القصاصء وفتح باب الفساد؛ ولذلك أفتى الصحابة بقتل الجماعة بالواحد» واشتراك من لا يجب عليه القصاص نادر» فلا يثبت فيه مورد الحكم الذى بنى عليه . 6- ونظرية مالك رضى الله عنه أن اشتراك من لا يجب عليه القصاص لا يسقط القصاص عمن يجب عليه؛ وذلك لأن كلا يشترك بمقتضى ما تتحقق به مستوليته؛ فإذا ضرب أحدهما مخطياء والآخر متعمدا سقط القصاص عن المخطئّ» ووجب ا" القصاص من المتعمدء وإذا كان أحدهما قاصرا والآخر بالغا فإن القصاص يكون من البالغ» ولا يكون من القاصرء وإذا كان أحدهما أبا لا عقوبة عليه لأنه لم يقصد قصدا ثابتا قتل ابنه والآخر أجنبى فإن القصاص يكون على الأجنبى» وحجة مالك فى هذا أن القصاص عقوبة تثيت على الجانى جزاء لفعله» فمتى كان فعله عدوانا عمدا موجبا للقصاص عليه لو انفرد به» فإنه يقتص منه إذا كان معه شريك» ولا نظر إلى كون فعل الشريك موضع مؤاخذة» أو ليس موضع مؤاخذة؛ لأن الأصل أن الإنسان يؤخذ بفعلهء لا بفعل غيره. وذلك القول هو أحد قولى الشافعى رضى الله عنه وهو أيضا رواية عن أحمد رضى الله عنه. 37- هذا نظر مالك رضى الله عنهء والنظرية الشالثة نظرية أحمد بن حنبل رضى الله عنه فى المشهور عنهء وأساس هذه النظرية هو النظر إلى قعل الشريك الذى سقط عنه القصاصء» فإن سقط القصاصء لمعنى خارج عن الفعل» بأن كان الفعل فى ذاته موجبا للقصاص. لأنه صادر عن مسئول يتحمل تبعة فعله» ولأنه عدوان مقصود لا عذر فيه» ولكن سقط القصاص لمعنى فى الشخص لا فى الفعل» كأن كان المشترك هو الأب فقد كان سقوط القصاص لمعنى الأبوة لا لأصل الفعل» فإنه فى هذه الحال لا يسقط القصاص عن الشريك الأجنبى» لأن الفعل من الجانبين كان يوجب القصاص. وكان القياس أن يحكم به» ولكن منعته علاقة الأبوة» وكذلك كل قصاص يمتنع لمعنى فى الشخصء» وقد قال فى ذلك صاحب المغنى ما نصه: كل شريكين امتنع القصاص فى حق أحدهما لمعنى فيه من غير قصور فى السبب فهو فى وجوب القصاص على شريكه كالأب وشريكه» مثل أن يشترك مسلم وذمى فى قتل ذمى» وحر وعبد فى قتل عبد عمدا عدواناء فإن القصاص لا يجب على المسلم والحر ويجب على الذمى والعبد؛ لأن امتناع القصاص عن المسلم لإسلامه» وعن الحر لحريته» وهذا المعنى لا يتعدى إلى فعله. ولا إلى شريكه فلم يسقط القصاص عنه. هذا إذا كان امتناع القصاص لمعنى فى الشخصء لا لمعنى فى الفعل» أما إذا كان امتناع القصاص لمعنى فى الفعل» بأن كان الشريك الذى لا يجب عليه القصاص فعله يعتبر كالخطأ أو خطأء بأن كان مخطتاء أو كان صغيرا أومعتوهاء أو مجنوناء فإن امتناع القتصاص يكون لمعنى فى ذات الفعل» لا فى الشخص فقطء. وفى هذه الحال يسقط القصاص عن الشريكين أو الشركاء» فإن اشترك مخطئ أو قاصر ومتعمد بالغ عاقل فى قتل شخص فلا قصاص على أحد عند أحمد وعلى قول فى مذهب الشافعى رضى الله عنه . ل وذلك النظر ينى على أساس أن الفعلين قد أحدثا القتل» وبإحدائهما له وجب القصاص من كل منهمل والأساس أن يكون كلا الفعلين فيه إثم واعتذداء وتعمد» وبما أن أحد الفعلين لا إثم فيه إذ لا تعمد فيه ولا قصد إلى القتلء فالفعل الثانى قد انعد لم في ِ فى 8 شطره الذى يكمله» وهو وحلده لم يكن سبب القتل. فيكون غير صالح لإثبات القصاص؛ إذ الشركة منتفية . ويختلف هذا عن الحال الأولى» وهى ما إذا كان الشريك الذى سقط عنه القصاص لعنى فيه لا فى الفعل» بأن كان فعل هذا الشريك فيه اشتراك فعلى فى الجريمة» لأنه عدوان كامل من الشريكين» وصدر الفعل موجبا فى ذاته القصاص وهو علة له ولكن وجد مانع يملعهء وهو الأبوة أو عدم التكافؤ فى الدماء على مذهب -4١/‏ هذه النظريات الثلاث فى الشركاء إذا كان أحدهم لا يقتص منه» وهذه توجيهاتهاء ولا شك أن أحزم الآراء مذهب مالك» وأقربها إلى القياس الفقهى مذهب أبى حنيفة» وهو الذى نختاره لأنه لا معنى للقصاص بفعل لم يكن وحذه موجيا للقصاص . الاشتراك فى غير جرائم القتل 4- هذا كله إذا كان الاشتراك فى الاعتداء على النفسء أما إذا كان الاشتراك فى الاعتداء على ما دون النفس » وكانت العقوية فيه تورجب القصاص» فإن الفقهاء لهم فيها نظريتان: إحداهما : نظرية الحنفية» وهى أن الاشتراك فى جرائم القصاص فيما دون النفس لا يوجب القصاص من كل واحد من الشركاء» وأساس هذه النظرية يقوم على ثلاثة أولها : أن القصاص فى الأطراف يوجب التساوىء فلا يقطع باليد الواحدة يدان ولا يقطع بالرجل الواحدة رجلان» بل يعتبر التساوى فى السلامة. فاليد الصحيحة لا تقطع باليد الشلاعء ولا كاملة الأصابع بناقصة الأصابع» ولا معذودهة الأصابع بغير زيادة بذات الأصابع الست. وأما القصاص فى النفس فلا يلاحظ فيه التساوى فيقتل الصحيح بالمريض والسليم بالمقعد. والمبصر بالأعمى» وهكذاء ولما كان التساوى غير ملاحظ جاز أن يقتل الجماعة بالواحد. الثانية : إن قتل الجماعة بالواحد ثبت بإجماع جمهور الصحابة على خلاف القياس» إذ موجب القياس كان يوجب ألا يقتل بالواحد إلا الواحدء ولكن قيل بقتل الى الجماعة لهذا الإجماع» وما جاء على _خلاف القياس يقتصر فيه على مورد النص» ولا يتجاوزه إلى غيره. وعلى فرض أن موضوع الإجماع معقول المعنى يمكن القياس عليه ويتعدى الحكم إلى غير موضعه. فإن المعنى فيه هو الانزجارء ومنع الفسادء والاحتياط للدماءء لأنه فى الكثير لا ينفرد القاتل بالقتل» بل يستعين بغيره» فلو لم تقتل الجماعة بالواحد لأهدرت الدماء» ولشاع الفساد فى الأرض» وهذا المعنى غير متحقق فى الاعتداء على الأطراف» لأن الاستعانة فى الاعتداء نادرة» فلا فساد إذا نفذ قانون المساواة كاملا . 1 الثالثة : أن قتل النفس لا يتجزأء وما لا يقبل التجزئة يكون بعضه ككله. بخلاف قطع الأطراف» فإنه يتجزأ بقطع البعض» وترك البعضء فكان لا بد من التساوى المطلق. وقد ذكر هذا الأصل الزيلعى فقال: (إن زهوق الروح لا يتجزأ فأضيف إلى كل واحد منهما كمالاء وقطع العضو يتجزأ ألا ترى أنه يمكن أن يقطع البعض» ويترك اليعض الآخرا. 48- هذه نظرية الحنفية وهى الأولىء أما نظرية الأئمة الثلاثة فهى أن الاشتراك فى جرائم القصاص فيما دون النفس تكون كجرائم الاشتراك فى النفس» وهذه النظرية تقوم على دعائم ثلاث أيضا كسابقتها: الأولى : أن على بن أبى طالب روى عنه ما يدل على جواز قطع يدين فى يد واحدة. فقد روى أن شاهدين شهدا عنده على رجل بالسرقة فقطع يدهء ثم جاءا باخر فقالا هذا هو السارق وأخطأنا فى الآول» فرد شهادتهما على الثانى.» وغرمهما دية الآول»ء وقال: لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكماء فأوجب القصاص على كل واحد منهما لو تعمذا قطع يد واحدة. وبهذا يشبت أن قاضى الصحابة وهو الإمام على رضوان الله تبارك وتعالى عنه الذى قال فيه النبى يلد أقضاكم على - قد رأى أن الاشتراك فى قطع عضوء كالاشتراك فى قتل نفس» كلاهما يوجب القصاص من كل الشركاء. الثانية : أنه ثبت بالإجماع أن القصاص يتعدى إلى كل الشركاء فى حال قتل الجماعة بالواحد» فيجب أن يكون متعديا أيضا بالنسبة إلى قطع عضو من الأعضاء لأنه إذا كان قتل الجماعة بالواحد جائزا فبطريق الأولى قطع الجماعة بالواحد» لأن النفس يجب الاحتياط لها أكثر من الاحتياط للأطراف ومع ذلك جاز القصاص. الثالثة : أن الانزجار يثبت عند اعتداء الشركاء بقطع طرف كل واحد بطرف المعتدى به» وإلا تذرع كل من يريد الاعتداء على طرف من الأطراف بأن يستعين بغيره لكيلا يتم القصاصء وبذلك يفتح باب من الشر واسعء فيجب سده بهذا القصاص .م" العادل» والعبرة فى العقويات بأثرهاء لا بأصل المساواة المجردة» وإن الاعتداء يرد بما يماثله» وإن ثبت قصد كل واحد منهم فى قطع الطرف وتم قطعه بفعلهم» فإن كل واحد يعد قاطعا معتديا بالقطع فيقتص منه. الاشتراك فى جرائم الحدود - إذا أخذنا بمقتضى قياس المذهب الحنفى ننتهى إلى أنه لا يعتبر الاشتراك فى الحدود» وإنه لا يتصور الاشتراك فى الحدود إلا فى حد السرقة»)وحد الحرابة . أما الحرابة فهى عمل مشترك بطبيعتهاء بل هى لا توجد إلا حيث الاشتراك كما يتبين ذلك فى بحث جرية الحرابة بحثا خاصاء أما جريمة السرقة فإن الاشتراك فيها مقصودء ولكن بمقتضى المذهب الحنفى لا بد أن يكون كل واحد قد سرق نصاباء لأن هذا النصاب فى مقابل العضو إذا إثم» على حد التصوير الفقهى» ولا يمكن أن تقطع يد فى أقل من نصاب. وفوق ذلك فإنه بمقعضى المذهب الحنفى لم يرد اعتبار الاشتراك المساوى فى العقوبة إلا فى قتل الجماعة بالواحد» وقد ثبت على خلاف القياس» فلا يقاس عليه غيره. هذاء على مقتضى مذهب أبى حنيفة» أما على مقتضى مذهب الأئمة الثلاثة الذى أجازوا القصاص من الشركاء جميعا فى كل الجراح» كما أجازوه فى قتل الجماعة بالواحدء مستدلين بما استدلوا من أدلة» فإنه يتصور عندهم الاشتراك فى جريمة السرقة. وقطع كل من المشتركين» ولكن علينا أن نقرر أن الشركاء يجب أن يكون كل واحد قد نال ما يساوى نصايا. هذا والحدود الأخرى لا يتصور فيها الاشتراك كما بيناء إذ هى جرائم شخصية انفرادية . فالزنى جرعكة شخصية لا يتصور فيها الاشتراك» وكذلك الشرب» وكذلك القذفء ولو أن جماعة قذفت واحدا فكل واحد قد قذفء. والأمر فيها ليس اشتراكاء إذ الاشتراك فى جرائم التعزير -0١‏ إن جرائم التعزير المرجع فى عقوبتها هو الإمامء وهو يقدرها بما يراه أصلح للجماعة» وأردع للمجرمين فيهاء فإذا اشترك جماعة فى أمر ضار بال جماعة بأن حاولوا ترويج بضاعة مغشوشة. فاشتراها أحدهم وخلطها آخرء وباعها ثالثء» فإن الجميع مجرمونء وولى الأمر يقدر لكل واحد عقوبة يراها رادعة لثله. ميكل المعاملة الآثمة وضع ولى الأمر من العقوبة ما يردع كل هؤلاء» وكذلك من يصنع الخمورء ومن يبيعهاء فإنهما شريكان» وولى الأمر يضع من العقوبات ما يراه أكثر زجرا ومنعا للشر. الركن الثالث تتحصل التبعة 5- تحمل التبعة هو ما يسمى فى لغة القانون بالمسئولية الجنائية» وإن هذا الركن فيه نظر إلى الجريمة» لا من حيث نتائجها المادية» ولكن ينظر إليها من حيث أهلية المرتكب لتحمل التبعات. والتكليف الدينى والاجتماعى؛ وذلك لأننا إذا نظرنا إلى الجريمة نظرا ماديا من حيث إنها فعل ضار فى شيوعه فسادهء أو اعتداء على حقوق الغيرء نجد تلك الحقيقة وآثارها تثبت بمجرد وقوع الفعل المادى» أما من ناحية مقدار ما يتحمله الجانى من النتائج . ومقدار إدراكه وقصلذه لهذه النتائج فإنه لا بد من النظر إلى مقدار تحمله لهذه التبعة» فربما لا يكون له قصد مطلقا إلى هذه النتائج كالمكره إكراها ملجئا فإنه يكون كالريشة فى يد من أكرههء والقصد قصده إذ هو الذى يرتب التتائح» وهوالذى يتحمل تبعتهاء وقد يكون للفاعل قصدء ولكنه قصد غير معتبر لعدم العقل الذى يميز به الضار من النافع بحيث لا يكون قصده مبنيا على إدراك النتائج والغايات» وترتيب التتائج على المقدمات» وقد يكون عند الفاعل عقل كامل ولكنه عند الفعل لم يكن فى حال صحوء إما لأنه سكران» وإما لأنه كان نائماء أو مغمى عليهء وفى هذه الأحوال لا يوجد القصد مطلقاء سواء أكان قصدا يتحمل فيه النتائج» أم كان قصدا ليس وراءه عقل يعرف به النتيجة» ويقدرها حق قدرها. وكيفما كان فالعقل والإرادة الحرة المختارة هما مناط تحمل التبعة تحملا كاملا من حيث النتائج والغايات» ولذلك أجمع الفقهاء على أن العاقل الكامل العقل المريد المختار الذى يعلم النتائج ويرتضيها عليه تبعة كاملة» فيتحمل العقوبة» سواء أكانت عقوبة مالية أم كانت عقوبة بدنية بالقصاصء أم إقامة الحد لأن القصد كاملء والرضا بالنتائج ثابت . 47- وإن الشريعة الإسلامية لا يثبت التكليف فيها إلا على من أوتى عقلا كاملا بأن كان بالغا عاقلاء ورفع فيها الإئم عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليهء ولقد قال له : «رفع القلم عن ثلاث: عن الصغير حتى يحتلم» وعن النائم حتى يستيقظ. وعن المجنون حتى يفيق» . | وقد قام التكليف فى الإسلام على العقل الكامل. لا على مجرد التمييزء وبما أن الجريمة هى معصية منهى عنهاء فإنه لا يخاطب بهذا النهى إلا من أوتى عقلا كاملاء ولا حكن يكون فى موضع المؤاخذة الكاملة إلا من قعل المنهى عنهء وهو فى حال صحو كامل» ولقد قال الزيلعى فى مقام من التكليف: إن الله سبحانه وتعالى جعل البشر أشرف خلقه. وجعلهم بكمال حكمته متفاوتين فيما يمتازون به على الأنعام» وهو العقل» وبه يسعد من سعدء وذلك لأن الله تبارك وتعالى ركب فى البشر العقل والهوى» وركب فى الملائكة العقل دون الهوى» وركب فى البهائم الهوى دون العقل» فمن غلب من البشر عقله على هواه أفضل من الملك لما يقاسى من مخالفة الهوى ومكابدة النفس» ومن غلب هواه على عقله كان أردأ من البهائم» قال تبارك وتعالى: طأُولّتك كَالأَنْعام بَلْ هم أضّل 22174 فجعل بعضهم ذوى النهى» وجعل منهم أعلام الدين وأئمة الهدى» ومصابيح الدجى» وابتلى بعضهم بما شاء من أسباب الردى كالجنون الموجب لعدم العقلء والصغر والعته الموجبين لنقصانهء فجعل تصرفهم غير نافذ بالحجر عليهم» ولولا ذلك لكانت معاملتهم ضررا. وإن الإسلام لذلك لم يجعل لهؤلاء خطابا بالأمر والنهى» وبذلك يسقط التكليف» فلا يصح أن يوصف الفعل منهم بأنه معصية أو جريمة» لأن أساس العصيان الخطاب والتكليف.». ولا خطاب ولا تكليف» وأساس الجريمة أن يكون الفاعل له قصد كامل يعرف به المقدمات والتتائج» ويقصد إلى النتائج من وراء المقدمات. 4- وقل د بين الآمدى فى الإحكام قصور الصغار والمجانين والمكرهين عن أن يتحملوا التبعات. فقال رضى الله عنه: «اتفق العقلاء على أن شرط المكلف أن يكون بالغا عاقلا فاهما للتكليف؛ لأن التكليف خطابء. وخطاب من لا عقل له ولا فهم محال كالجماد والبهيمة» ومن وجد له أصل الفهم لأصل الخطاب دون تفاصيله من كونه أمرا أو نهياء ومقتضيا للشواب والعقاب» ومن كون الآمر هو الله تعالى» وإنه واجب الطاعة. وكون المأمور على صفة كذا وكذا كالمجنون والصبى الذى لا يميزء فهو بالنظر إلى تفاصيله كالجماد والبهيمة بالنظر إلى أصل فهم الخطاب» ويتعذر تكليفه أيضا إلا على رأى من يجيز تكليف مالا يطاق؛ لأن المقصود من التكليف كما يتوقف على فهم أصل الخطاب يتوقف على فهم تفاصيله؛ وأما الصبى المميز» ٠‏ وإن كان يفهم مالا يفهمه غير المميز» غير أنه أيضا غير فاهم على الكمال ما يعرفه كامل العقل من وجود الله تعالى» وكونه متكلما مخاطبا مكلفا العباد» ومن وجود الرسول الصادق الأمين» والمبلغ عن الله تعالى» وغير ذلك مما يتوقف عليه مقصود التكليف» فنسبته إلى غير المميز كنسبة البهيمية فيما يتعلق بفوات شرط التكليف» وإذا كان مقاربا لحال البلوغ بحيث لم يبق بينه وبين البلوغ سوى لحظة واحدة» فإنه وإن كان فهمه كفهمه الموجب . ١94 : الأعراف‎ )١( لتكليفه بعد لحظة. غير أنه لما كان العقل والفهم فيه خفياء وظهوره فيه على التدريج» ولم يكن له ضابط يعرف بهء جعل له الشارع ضابطاء وهو البلوغء» وحط عنه التكليف قبله تخفيفا عليهء ودليله قوله كله : رفع القلم عن ثلاث: عن الصبى حتى يبلغء وعن النائم حتى يستيقظ. وعن المجنون حتى يفيق». وعلى هذا فالغافل عما كلف» والسكران المتخبط لا يكون تكليفه فى حال غفلته وسكره أيضاء إذ هو فى تلك الحال أسوأ حالا من الصبى المميز فيما يرجع إلى فهم خطاب الشارعء وحصول مقصوده منه» نما يجب عليه من الغرامات والضمانات بفعله. واختلفوا فى الملجأ إلى الفعل بالإكراه بحيث لا يسعه تركه فى جواز تكليفه ذلك الفعل إيجادا وعدماء والحق أنه إذا خرج بالإكراه إلى حد الاضطرارء وصارت نسبة ما يصدر عنه من الفعل إليه كنسبة حركة المرتعش إليه كان تكليفه إيجادا وعدما غير جائز إلا على القول بتكليف مالا يطاق» وإن كان ذلك جائزا عقلاء لكنه ممتنع الوقوع سماعاء لقوله عليه الصلاة والسلام: ا(رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» والمراد منه رفع المؤاخذة» وأما إن لم ينته إلى حد الاضطرارء فهو مختارء وتكليفه جائز عقلا وشرعا. 065- وهنا نجد الشريعة تتنجه فى تحميل التبعة ابتداء إلى الناحية الخلقية التى تتصل بضمير من يرتكب أمرا فيه ما يضر المجتمع أو يلحق بأحد آحاده الأذى» وأساس هذه التبعة هو الحرية والاختيارء والإدراك الصحيح للنتائج» والقصد إليها قصدا صحيحا؛ ذلك لأن الأخلاق لا تحكم على فعل بأنه شر إلا إذا توافرت عناصر ثلاثة : هى الإدراك الصحيح ء وحرية اللاختيار حرية كاملة؛» والقصد إلى النتتائج التى تضر وتؤذى» وإن لم تكن فى اعتباره هو كذلكء» فإذا تخلف عنصر من هذه العناصر لا يعد الشخص قد ارتكب إثماء ولا يوصف فعله بأنه شر» وإن كان يوصف بأنه ضار. فالفرق بين الضرر والشر أن الضرر ما يترتب عليه أذى وفوات نفع سواء أقصد إليه الفاعل أم لم يقصد إليهء والشر ما قصد فيه إلى الإثم والخطيئة سواء أترتت عليه ما قصدء أم لم يترتب عليه مقصده. بل إنه قد يعد شرا ولو ترتب عليه نفع» وكذلك الفرق بين الخير والنفع» ففعل الخير ما قصد فيه إلى النتائج النافعة» ولو ترتب عليه ضرر غير مقصودهء والنفع ما تحقق فيه النفع» ولو لم يقصد إليهء فبين الخير والنفع» والشر والضرر عموم وخصوص من وجهء فهما يجتمعان فى صورء وينفرد كل واحد منهما فى صورء فيجتمعان فيمن يقصد إلى الشرء وتترتب على فعله نتائج قصدهء فيكون العمل شرا وضاراء كما يجتمع الخير والنفع فيمن يقصد إلى فعل نافع قاصد ما فيه من نفع» ويتحقق ما فيه من نفع نتيجة لهذا الفعل المقصود فيكون العمل خيرا ويكون نافعاء وينفرد الضر عن النفع فى الفعل الضار غير المقصود ضرره من فاعله إما ين لفقد الإرادة أو لإرادة فعل نافع وترتب غيره» كمن يصوب بندقية نحو ثعبان ليحمى منه إنساناء فتصيب البندقية الإنسان بدل الشعبان» وقد يكون الفعل نافعاء وهو بحسب مقصده شرء كمن يقصد إلى قتل إنسان» فلا يصيبه» ويصيب ثعبانا كان قريبا منه يهم بلدغه». فيكون الفعل فى ذاته نافعاء ولكنه بالإسناد إلى فاعله ومقصده يكون شرا على حسب ليثة . 57- وبذلك يتحرر أن الشريعة تتجه فى تحميل التبعة إلى تحرى تحقق القصد المريد المختارء وعلى ذلك لا يحمل التبعة من لا إدراك عندهء أو ليس عنده إدراك كالصبى المميز وغير المميزء والمجنون والمعتوهء وكذلك لا يتحمل التبعة من يكون ساعة الفعل فى غير وعىء ولو كان عنده أصل الإدراك» كالنائم» ومن يكون فى حال إغماء»ء لأن هؤلاء وإن كان عندهم فى مجموع أحوالهم وعامة شتونهم إدراك. لكنهم فى حال الفعل قد فقدوا الوعى» ففقدوا معه القصد الصحيح الذى يتجلى إلى ترتيب النتائجح على الأفعال. وكذلك لا يعد مجرما من يكون فى حال إكراه ملجئ إلى فعل من الأفعال الضارة؛ ذلك لأن الضرر لم يكن مقصوداء إذ إنه لا بد لكى يكون مقصودا ألا يقصد إلى مجرد الفعل فقطء بل لا بد أن يقصد إلى النتائج ويريدهاء ويرضى بها. وبهذا ننتهى كما قررنا إلى أنه لا يعد فى صفوف المجرمين من تقع منهم الأفعال التى يترتب عليها ضرر عام أو خاصء ما داموا لا يتحقق فيهم عناصر الإدراك» وحرية الإرادة» والقصد إلى النتائج قصدا كاملاء وتكون على هذه الصفات الآتية مانعة من وصف الإجرامء وهى الصغر والجئونء والعتهء والسكرء والإكراهء والنوم» والإغماء. والخطأ. 4717- إن هؤلاء بلا شك لا نجد الناحية الإجرامية فيهم ثابتة إذا نظرنا تلك النظرة الخلقية دون سواهاء ولكن هل ننسى حق المجبتمع فى حمايته من الأضرار الناجمة عن الأفعال المؤذية فى ذاتها من غير نظر إلى قصد الفاعل وإرادته وإدراكه» فهل يترك أولئك يعيثون فى الأرض فسادا من غير أن يحملوا أو ذووهم جريرة لعمل من الأعمالء إن المجنون إذا قتل فقد أنزل بلا ريب ضررا بالجماعة عامة» وبذوى المقتول خاصةء ومن حق الجماعة أن تحمى من مثل هذا الضررء وكذلك السكران»ء وكذلك المخطئ والنائم والغافل. فإن أفعال هؤلاء بلا شك تنزل ضررا شديدا بالمجتمع أحيانا من قتل أو قذف. فهل يتركون إذا قتلوا أو سرقواء أو قطعوا من غير أى عقاب ينالهم؟ تلك مسألة كانت موضع نظر من قديم» فقد فكر فيها القانونيون الأقدمون والفلاسفة» وترددوا فى ترجيح أى جانب: جانب الشخصء. أم جانب المجتمع . م 4- وقد قررت بعض الشرائع القديمة مسئولية المجئنون والصغير» وتنوعت تبعاتهما على درجات: إحداها : أن يسألا أنفسهما عما ارتكبا من أعمال ضارة» وقد أحذت بذلك بعض الشرائع القديمة. فكانت تقرر عقوبة بدنية على الصغار والأطفال» ولكن لم يأخذ بهذا إلا قليل من الحكام. ولم يأخذ بها إلا فى بعض الجرائم الخطيرة» وفى كثير من الأحوال كانت العقوبة أخحف من عقوبة العاقل والبالغ . ومن هذه الشرائع شريعة الصين القديمة» فمما جاء فيها أن المجنون إذا قتل أحد أبويه وقعت عليه العقوبة التى يحكم بها على العاقل» وهى أن يقتل بتقطيغ جئته جزءا جزءاء وإذا قتل المجنون غير أبويه كانت عقوبته السجن والشد بوثاق من حديد. ومثل المجنون فى هذا الحكم الصغار. ويظهر أن القانون الرومانى كان يعاقب المجانين فى مثل هذه الحدودء ذلك لأنه فى أواخر القرن الثانى بعد الميلاد أصدر مرقس أورليوس إمبراطور الدولة الرومانية أمرا يحظر عقاب من ثبت جنونه فى صورة قاطعة» وهذا الأمر يدل دلالة ضمنية على أن محاكم روما كانت تعاقب المجانين الثابت جنونهم»ء بأى نوع كان العقاب27" . والمرتبة التالية للمرتبة السابقة : أن يضمن الصغير والمجنون نتيجة جرائمهما فى مالهماء فعقوبتهما تكون مالية لا بدنية» فإذا قتل أحدهما لا يقتل ولكن يغرم فى مالهء وإذا أتلف مالا لغيره ضمن فى ماله» وقد أخذت بذلك الشريعة الإسلامية بالنسبة لتلف الأموال» أما تلف غيرها فلبينه قريباء إن شاء الله تعالى. والمرتبة الشالثة : أن تسأل أسرة المجنون أو الصبى عما ارتكب» ويعاقب عليها بالعقوبة الجسمية التى يحكم بها القضاء. وقد قال الدكتور على عبد الواحد وافى عن هذا النوع من العقاب «قد أخذ بمبدأ المسئولية الجمعية فى صورة تشمل العقلاء والمجانين أمم كثيرة من أشهرها قدماء اليونان والصينيين» فشريعة قدماء اليونان تقر هذا المبدأ فى جريمة النيانة الوطنية والاعتداء على حرمة الدين» وتوجه المسئولية والجزاء إلى أفراد أسرة المجرم جميعا - لا فرق فى ذلك بين العاقل منهم والمجنون» والقانون الصينى القديم يقر هذا المبدأ كذلك فى جرية الخيانة الوطنية والجرائم التى تشبههاء وفى بعض جرائم القتل» ويوجه المسئولية والجزاء إلى جمصيع أقرباء المجرم» وإلى بعض طبقات منهم. حسب اختلاف الجزاء بدون تفرقة بين العقلاء منهم والمجانين. ونرى من هذا أن المجنون أو الصغير لا تتحمل الجماعة فقط نتيجة جرمهء بل هو يتحمل معها نتائجح جرم غيره» باعتباره واحدا من هذه الأسرة التى تتعاون لا فى جلب المنفعة العامة فقط. بل إنها تحمل وزر أى واحد من أعضائها . حك والمرتبة الرابعة : أن يشترك المجنون أو الصغير مع أسرته فى غرم مالى نتيجة لما ارتكبه بعض آحادهاء وقد أخحذت بهذا الشرائع القديمة» فترى جميع هذه الشرائع تتجه المسئولية فيها وعقوبتها المالية إلى آحاد أسرة المجرم» وفى معظمها لا يفرقون فى ذلك بين العقلاء والمجانين. 84- ومن هذا نرى أن الشرائع القديمة كانت تتجه إلى إلقاء تبعات على المجانين والصغارء وفى بعضها تعلو التبعات فى بعض الجرائم إلى درجة العقلاء تماماء وفى أكثرها لا تتجاوز التبعات المالية التى يشترك فيها المجنون مع غيره من أقاربه. ولقد خلفت الشرائع القديمة الشرائع الأوروبية فى القرون الوسطى. فكانت تنحو الناحية المادية للجرية من غير نظر إلى مرتكبهاء وكونه أهلا لتحمل التبعات أو ليس بأهل» واستمرت الحال كذلكء» وكانت الجماعة تؤخحذ بجرم الواحدء» حتى جاءت القوانين التى خلفت الشورة الفرنسية» فحدث مبدآن كانا جديدين فى أوروباء وإن لم يكونا جديدين فى الشرق. أول هذين المبدأين : أن أساس التجريم للأفعال هو أن يكون عند الشخص إرادة حرة ممختارة» وأن يكون له قصد إلى النتائج التى تكون لفعله حتى يمكن: أن تسند هذه الجرائم إليه» وأن يعتبر هو سببا لهاء قد قصد إليها وأرادها. المبدأ الثانى : أنه لا يؤخذ شخص بجريرة شخصء ولا جماعة بجريمة واحدء ولا أسرة بجناية فرد من أفرادهاء فلا تتحمل الأسرة تبعات من يجرم من آحادها. وأن المجانين والصغار لا عقاب عليهم فيما يرتكبون دائما بل ثمة مسئوليات مدنية على من تركهم من أولياء نفوسهم» وتكون تلك المغارم المالية لتقصيرهم فى المحافظة عليهم» ومنع أذاهم عن الناس» فالأولياء لا يعاقبون على جرائم المجانين» وإنما يضمئون ما ترتب على تقصيرهم. - هذه هى النظريات القديمة وما تولد عنها بالنسبة لتحمل تبعة الأفعال التى تؤذى المجتمع أو تؤذى الآحاد» فما هى نظرة الشريعة إلى أفعال أولئك الذين تسبق أعمالهم إلى الأذى من غير أن يكون لهم قصد خاص؟ كان للشريعة فى هذه المسألة اتجاه مستقل منفصل عن كل الاتجاهات السابقة» ونشير هنا إلى ما قررته بالنسبة لناقصى الإدراك من الصغار والمجانين والمعاتيه . إن الشريعة كانت وسطا بين إهمال العقاب بالنسبة للمجانين وأشباههم ممن ذكرناء وبين الذين فرضوا عليهم العقاب كالعقلاء» ولو فى بعض الجرائم» وذلك لأنها لم تعف أفعالهم من أى عقاب. ولم تعاقبهم كالعقلاء على سواءء ولم تجعل العقاب على الولى على النفس» أو من يكون الصغير أو المجنون فى حمايته» ويحافظ عليهم . انا وقد جعلت الشريعة جرائم هؤلاء قسمين: أحدهما : ما يكون فيه اعتداء على المال» وذلك يكون الضمان فيه من ماله هوء إذ الغرم بالغنم» وما يكون فيه اعتداء على النفس أو الأعضاء أو يكون بالجروحء مما يستوجب القصاص إن أمكن القصاصء فإنه يكون عليه الدية» ولا يدفعها هوء بل تدفعها العاقلة» وهم العصبات من ذوى قرابته. -١‏ وإن هذا فيه معنى العقاب الجمعى فى الأسرة» ولكن هو فى حقيقته نوع من التعاون» وإن كان لا يخلو من أن فيه حملا للأسرة على الاحتياط من أفعال الذين لم يرزقوا حظا من العقل يجعلهم يحملون التبعات بأنفسهم» ولقد قرر الفقهاء أن الدية التى تجب فى الخطأ من البالغ العاقل» أو نتيجة أفعال قاصرى الأهلية وفاقديها بشكل عام تشبت على مرتكب الفعل» ثم ينتقل الوجوب إلى الأسرة من قبيل التعاون بين آحادهاء ولقد قال فى ذلك أبو بكر الرازى الشهير بالجصاص فى أحكام القرآن ما نصه: القد تواترت الآثار عن النبى كله فى إيجاب دية الخطأ على العاقلة (ومثل الخطأ عمد القاصرين). واتفق السلف وفقهاء الأمصار عليه فإن قيل: قال الله تعالى: ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تور وازِرة وزرَ أُخْرَئ 2074 وقال النبى وَل «لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه»» وقال لأبى رمثة وابنه: «لا يجنى عليك ولا نجنى عليه»» والعقوبة أيضا تمنع أخذ الإنسان بذنب غيره» قيل له أما قوله تعالى: #ولا تسب كل نفس إلا عليها ولا ترر وازرة وزْرَ أُخْرَئ 4. فلا دلالة فيه على نفى وجوب الدية على العاقلة» لأن الآية إنما نفت أن يؤخذ الإنسان بذنب غيره» وليس فى إيجاب الدية على العاقلة أحذهم بذنب الجانى» إنما الدية عندنا على القاتل» وأمر هؤلاء القوم بالدخول معه فى تحملها على وجه المواساة له من غير أن يلزمهم ذنب جنايته» وقد أوجب الله تعالى فى أموال الأغنياء حقوقا للفقراء من غير إلزامهم ذنبا لم يذنبوه» بل على وجه المواساة» وأمر بصلة الأرحام بكل ما أمكن ذلك» وأمر ببر الوالدين» وهذه كلها أمور مندوب إليها للمواساة وصلاح ذات البين» فكذلك أمرت العاقلة بتحمل الدية.. على جهة المواساة من غير إجحاف بهم وبهء وإنما يلزم كل رجل منهم ثلاثة دراهم أو أربعة دراهم. يجعل ذلك فى أعطياتهم إن كانوا من أهل الديوان ومؤجلة إلى ثلاث سنين» فهذا ثما ندبوا إليه من مكارم الأخلاق» وقد كان تحمل الديات مشهورا فى العرب قبل الإسلام» .وقال النبى وَلِْةٌ: «بعثت لأتهم مكارم الأخلاق» فهذا فعل مستحسن فى العقولء مقبول فى الأخلاق والعادات. . وكذلك قول النبى كلم «لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه. ولا بجريرة أخحيهء ولا يجنى عليك» ولا تجنى عليه». لا ينفى وجوب الدية على العاقلة على هذا النحو الذى ذكرناه من معنى الآية من غير أن يلام على فعل الخ 227 , ويذكر رضى الله عنه بعد ذلك الوجوه التى شرع لأجلها وجوب الدية على العاقلة» فيقول: «ولوجوب الدية على العاقلة وجوه سائغة مستحسنة فى العقول: أحدها: أنه جائز أن يتعبد الله تعالى بدءا بإيجاب المال عليهم لهذا الرجل من غير قتل كان منه» كما أوجب الصدقات فى مال الأغنياء( . الثانى : أن موضوع الدية على العاقلة» إنما هو على النصرة والمعونة» ألا ترى أنهم يتناصرون على القتال والحماية والدفاع عن الحريم» فلما كانوا متناصرين فى القتال والحماية أمروا بالتناصر والتعاون على تحمل الدية ليتساووا فى حملهاء كما تساووا فى حماية بعضهم بعضا عند القتال. الثالث : أن فى إيجاب الدية على العاقلة زوال الضغينة والعداوة من بعضهم لبعض إذ كانت قبل ذلك» وهو داع إلى الألفة وصلاح ذات البين» ألا ترى أن رجلين لو كان بينهما عداوة» فتحمل أحدهما عن صاحبه ما قد لحقه لأدى ذلك إلى زوال العداوة» وإلى الألفة وصلاح ذات البين» كما لو قصذه إنسان بضرر فأعانه وحماه انسلت عنه سخيمة قلبه وعاد إلى سلامة الصدر والموالاة والنصرة. الرابع : أنه إذا تحمل عنه جنايته حمل عنه القاتل إذا جنى أيضا لم يذهب حمله للجناية عنه ضياعاء» بل كان له أثر محمود يستحق مثله عليه» إذا وقعت منه جناية» فهذه وجوه كلها مستحسنة فى العقول غير مدفوعة» وإنما يؤتى الملحد بمثله من ضيق عقله» وقلة معرفته وإعراضه عن النظر والفكر. والحمد لله على حسن هدايته وتوفيقه. 57 - نقلنا كلام ١‏ لجصاص مع طوله لثلاثة أسباب: أولها: أن فيه تحليلا دقيقا لمعنى وجوب الدية على عصبات الأسرة» أو كما يعبر فقهاء المسلمين على العاقلة. وأنه لا يتنافى مع ما قرره الإسلام فى عبارات صريحة من أنه لا يسأل عن الجناية إلا الجانى» ولا يؤخذ أحد بجريمة أحد. ثانيها : أنه قد دافع عن الأصل العام وهو أن الجانى وحده هو الذى يتحمل التبعات» وأن كلامه يدل على أنه وجد من الملاحدة من يطعن فى حكم الدية من أنها لا توافق قاعدة 8 ولا تر وازرة وزر أخرئ 74 , وأن ا كل امرئ بما كسب رهين 247#. وإن هذا الكلام يدل على أنه كان من المنقررات المسلمة عند المسلمين عدم مسئولية الأسرة عن 200 أحكام القرآن» الجصاص ج؟ ص 77١5‏ طبع الأستانة . (؟) معنى هذا الوجه أنه يجوز أن يوجب الله تعالى عليهم مالا لمن وجب عليه المال ابتداء من غير جناية . (*) الأتعام: 3254 . (:) الطور : 5١‏ . ل جناية واحد منهاء ولو رجعنا إلى التاريخ لوجدنا أنه فى الوقت الذى كانت تجرى فيه هذه المناقشات بين فقهاء المسلمين. كان الأوربيون يطبقون نظريات فى القانون الرومانى التى كانت تأخذ الأسرة أحيانا بجناية بعض آحادهاء أو كانت تحمل المجانين والمعاتيه والصغار تبعات أعمالهم» ويعاقبون كما يعاقب العقلاءء وهذا يدل على سبق الفكر الإسلامى فى هذا الباب سبقا بعيدا. السبب الثالث : أن نضع بين يدى القارئ صورة واضحة بينة لتفكير المتقدمين من فقهاء المسلمين» وكيف كانوا يدرسون الموضوعات دراسة تجمع بين العقل والنقل والرواية والدراية . *237- وإن تحويل جرائم الصغار والمجانين إلى تبعات مالية» وإشراك الأسرة أحيانا فى تحمل التبعات هو رأى شيخ الفلاسفة أفلاطون فى غير جريمة القتل» فقد قرر أنه إذا ارتكب المجنون أو الصغير جريمة غير القتل لا توقع عليه إلا غرامات مالية فى نظير ما أصاب الغير من ضررء حتى ولو كان الجرم المعاقب عليه خيانة وطنية» أو انتهاكا لحرمة الأشياء الدينية» وقد قال الدكتور على عبد الواحد: إن رأيه بصدد هذين المجرمين يختلف عن القانون الذى كان يجرى عليه العمل فى عهده. فقد رأينا فيما سبق أن الشريعة اليونانية كانت تدخل الطفل والمجنون فى نطاق المسئولية الجمعية لأسرته» إذا ارتكب أحد أفرادها إحدى هاتين الجريعتين» فتحكم عليهما بالقتل كما تحكم على كبار أفراد الأسرة وعقلائها. هذا رأى أفلاطون فى الجرائم التى تكون دون القتل» أما القتل فإنه يقرر فى كتابه القوانين: إن الطفل إذا ارتكب جريمة قتل حكم عليه بالنفى سنة كاملة» فإن هرب من منفاه حكم عليه بالسجن سنتين27" . وإن هذه العقوبة تشبه ما يجرى الآن من عزل الأطفال الذين تقع منهم اعتداءات إجرامية فى إصلاحيات الأحداث» فهو أشبه بالعزل منه بالعقاب. وكذلك يشبه عزل المصابين الآن فى عقولهم فى مصاح خخاصة بهم ليمنع عن الناس شرهم» ويأمن ذووهم عليهمء فهو عزل لا يعد عقاباء ولكنه مصلحة لأولئك المئوفين فى عقولهمء ومصلحة للناس. 4- تلك هى العناصر التى توجب تحمل التبعة» وآولئك هم الذين لا يتحملون هذه التبعة» ومعاملة الشرائع القديمة لهمء وقد اخحتصت الشريعة الإسلامية بمعاملة تجمع بين درء الضرر الناجم عن أفعالهم ما أمكن ذلك وتعويض المجنى عليه» وملاحظة حالهم من أنه ليس فى قدرتهم تحمل تبعات أعمالهم» فيؤخذ من مالهم أو (0) المسئولية والجزاء ص9؟ . حكن مال أسرتهم ما يعوض المجنى عليه» ويدفع عنه الأذى» وقد يقول قائل: إن إيجاد غرم مالى يؤخذ من أموالهم فى جرائم الأموال بحيث إنهم إذا أتلفوا مالا أخذ من مالهم» يعد مؤاخذة لهم على ما ارتكبوا من جرائم اعتداء على المال» مع أنهم لا يتحملون مسكئولية» ولا يصلحون لأن ينزل بهم عقاب بمقتضى ذلك النقص » لأنه إذا أتلف المجنون مالا يعوض صاحب المال من مال المجنون» فالحكم لا يختلف إذا أتلف العاقل لغيره مالاء وكذلك إذا اغتصب ولا يظهر الفرق إلا فى مثل السرقة . ذلك قول يقال» واعتراض قد يورده بعض الذين يكتبون فى الفقه» ولكنا نجيب عنه بأن الاعتداء على مال الغير قد يكون معه عقوبة تعزيرية» وقد تكون عقوبته حداء فالمجنون أو الصغير لا يعاقب هذه العقوبة التعزيرية ولا يقام عليه الحدء أما تعويض المجنى عليه» فإن الأمر فيه ينظر إليه من ناحيتين» من ناحية تلف قدر من المال لا بد أن يذهب هدرا على أحد شخصين» وهو صاحب المال الذى اعتدى عليه فى ماله فيذهب المال ولا يعوضء والمجنون أوالصغير لا يغرم شيئاء وإما أن يغرم هذان مثل ذلك المال» ولا يذهب المال هدرا عن صاحبه» ولا شك أن النظرية العادلة توجب أن يكون التعويض فى مال المتلف.» لأنك إن قلت إنهما لم يذنباء فكيف يضمتان» فسيقول الحق والعدل» وإن هذا الذى ذهب ماله ضياعاء ما ذنبه وما جريريته» حتى يضيع ماله من غير تعويض» فكان مقتضى العدالة الطبيعية الفطرية أن يأخذ نظير حقه. وفوق ذلك قد قرر الفقهاء أن الاعتداء على مال يوجب ابتداء ضمان مثله إن كان مثليا وقيمته إن كان قيمياء فبمجرد الإتلاف يثشبت ذلك الضمان فى ذمتهء ويسمى ذلك ضمان الفعل» وهو يقابل ضمان العقد» فالقاصرون لا يتحملون ضمان العقد. ولكن يتحملون ضمان الفعل» إذ بمجرد الإتلاف يجب المثل أوالقيمة فى ذمتهم» وإن لهم ذمة تتحمل الواجبات» وتثبت لها الحقوق» وبهذا الاعتبار وجبت أعواض الأموال فى مالهمء لا على أنه من قبيل العقاب بل على أنه من نوع الضمان الذى قرره الفقهاء» وفوق ذلك هو العدل فى ذاته. 6 - ولخلاصة القول إن الذين لم يستوفوا شروط تحمل التبعة هم الذين فقدوا أهلية الأداء» أو كانت عندهم قاصرة» أو كانوا فى حال تجعل إدراكهم فى وقت من الأوقات غير ثابت» أو لم يكونوا مختارين فيما يفعلون» وقد أحصى علماء الأصول هؤلاء عددا وقرروا الأحوال التى تجعلهم غير قادرين على تحمل التبعة» وهى الصغر والجنون والعته» والنوم والإغماء» والسكرء والإكراه والجهل» والخطأء والغلط كما ذكرنا. هؤلاء هم الذين تكلم الفقهاء فى تحملهم تبعات ما يقع منهم من أذى» وقد أعفوهم أو بعضهم من الحدود والقصاص والتعزيرات» وإن لم يعفوهم من الديات على لكين تفصيل واختلاف فى الإعفاء وفى مداه بالنسبة لكل حال من هذه الأحوال» ولذلك كان لابد من تفصيل القول فيها بأن نتكلم عن كل حال من هذه الأحوال ونذكر أقوال الفقهاء فيها متفقين أو مختلفين. ش وكان لا بد قبل ذلك من أن نتكلم فى مقدار تحمل البالغ العاقل الواعى لتبعة أحدهما : فى مقدار تحمل من سلم من عوارض الأهلية فى الفقه وفى القوانين الحديثة . الثانى : فى مدى تحمل هؤلاء الذين عرض لأهليتهم ما عرض» ومقدار تحملهم لهذه التبعة إذا نقص الإدراك أو فقد الرضا. تحمل التبعة فى القوانين الحديثة 5- قلنا أن أساس تحمل التبعة الإدراك وحرية الإرادة والقصد إلى النتائح» وتلك العناصر أو بعضها غير متوافرة كاملة فى الذين ذكرناهم ممن أصيبوا بآفة» أو كانوا فى حالة مانعة من الإدراك أو الاختيار» أو لم يتكامل نموهم حتى تتوافر فيهم أسياب تحمل المسئولية» ذلك أمر يتفق عليه بين فقهاء الإسلام» وفقهاء العصر الحديث» أما البالغ المدرك المريد فقد جرى فى شأن تحقيق الاختيار فيه كلام فى العصر الحديث يتجه إلى إسقاط التبعة أو تخفيفها بالنسبة للبالغ العاقل ذى الإرادة الحرة الذى يعتقد الناس أنه مختار مريد فيما يفعل وفيما يترك. وأساس الكلام فى هذا المقام أنهم قالوا إن تحمل التبعة الذى يكون معه الشخص محاسبا على ما يفعل - يوجب أن يكون الفعل صادرا عنه منسوبا إليه من الناحية المادية والنفسية.» فمن الناحية المادية يكون واقعا مله مختارا غير مكره عليه وهو عاقل كامل العقل» ومن الناحية النفسية تكون ثمة صلة بين نشاطه العقلى والفعلى الواقع منه بحيث يكون ناشكاأ عن استعمال ملكاته العقلية. وهو يعلم أنه متجاوز حدوده قاصد إلى ذلك» فكان لابد من توافر عناصر ثلاثة: أولها : الفعل المادى من غير إكراه ظاهر. ثانيها : أن يكون فى حال نشاط عقلى بحيث يمكن أن يقال إنه قد استعمل فى الأمر كل ملكاته ومواهبه. ثالثها : أن يكون الفعل من الناحية النفسية فيه خطيئة وإثم لمخالفته القوانين ويقول فى ذلك الأستاذ على بدوى: «تلك هى المغانى الثلاثة التى يتكون منها الركن الأديى فى الجريعة. وهى وإن اختلفت متصلة متداخلة يتوقف بعضها على بعض» "1 فلا يكون الشخص مسغولا عن جريمة إلا إذا كانت منسوبة إليه» ولا يصح نسبتها إليه إلا إذا كان مخطئاء فالمسئولية تفترض قيام النسبة» والنسبة تتضمن الخطيئة» . ويفسر لنا الأستاذ على بدوى معنى الجزء المعنوى فى النسبة» يقول: «والمقصود بالإسناد المعنوى هو ثبوت نسبة الواقعة الإجرامية إلى خطأ الجانى» وليس إلى نشاطه المادى فقطء فالإسناد المعنوى يتطلب أن يكون الجانى قد أخطأً بارتكابه الجريمة)17 . والذى يفهم من مجموع الكلامين أنه لكى تكون التبعة كاملة يجب أن يكون آثما مرتكبا خطيئة» ولا يتحقق ذلك الوصف فيه إلا إذا كان قد فعل ما فعل» وقد كان متجها بقواه وملكاته وهى سليمة إلى ذلك الاتهجاه المنحرف. - غير أن تحقق هذا تحققا كاملا أمر ليس متوافرا دائما فى الجرائم التى ترتكب» فهل يعفى مرتكبوها من كل العقاب إلا إذا قام الدليل على قيام هذه العناصر عند الارتكاب» وإن ذلك قد يتحقق» وفى كثير من الأحيان لا يتحقق . ولذلك تشعيت اتجاهات مختلفة وتكون من كل اتجاه مذهب» فانجهت بعض الشرائع إلى الناحية المادية من حيث مقدار ما يترتب على الجريمة من ضرر من غير نظر إلى كون الفاعل استخدم كل مواهبه وملكاته فى الجريمة للجريمة» ويكون الفاعل عاقلاء وكونه قد قصد إلى الفعل» أما كونه متأثرا بأحوال ووراثات أثرت فى مقدار اختياره» فإن ذلك لا يلتفت إليهء لأنه من الخير للجماعة المقصود حمايتها بالعقاب تحميل الجانى تبعة ما جنى . ويقول الأستاذ على بدوى فى تقرير ذلك المذهب: «هذا المذهب يرجع إلى فلسفة الاختيار فى التصرفات» واعتبار كل شخص عادى بعد بلوغه سنا معينة يتمتع بملكة التمييز بين الخير والشر. وبملكة الاختيار بينهماء فهو يشعر بالأعمال المحرمة وإرادته القيام بها والامتناع عنهاء ولمثل هذا الشخص يوجه القانون أوامره ونواهيه» فإن أساء استعمال هذه الملكات العقلية وخالف القانون أصبح مسئولا عن جريته. لأنه يملك توجيه سلوكه فى المجتمع» ولأنه يدرك صفة الجريمة» ولكان ممكنا له وواجبا عليه أن يدركهاء أما إذا كان فى حالة من الحالات التى تجعله عاجزا عن تمييز معنى الإجرام فى سلوكه» أو عن ضبط تصرفاته فإنه لا يحاسب على فعله»2©7. فهذا المذهب على هذا التقرير البيّن يتجه إلى المضار الاجتماعية التى تترتب على آثار الجريمة» وكون الجانى قد قصد إلى الفعل وهو بكامل قواه العقلية فهو مسئول عما . 5 ١ موجز القانون الجنائى ص”‎ )١( . 39*37 , "1١ (؟) الأحكام العامة فى القانون الخاص ص‎ نض ارتكب» سواء استخدم مواهبه وملكاته فى تقدير الجريمة وآثارهاء أم لم يستخدمهاء لأنه إذا لم يستخدمها كان فى قدرته استخدامهاء وهو مسئول عن إهمالهاء كما هو مسئول عن نتيجة ذلك الإهمال» وهى الأضرار التى نزات بالمجتمع من جريرة ما ارتكب» ومن جريرة ما أهمل من تفكير فى النتائج والغايات. - هذا هو المذهب الذى يتجه إلى تقرير حرية الاختيارء ويقابله مذهب هو أقرب إلى آراء أصل الجبر من علماء الكلام» وإن كان الجبر فيه لم يبن على الناحية الدينية» بل بنى على الناحية النفسية» والخضوع للمؤثرات» وقوانين الوراثة.» وقد قال الأستاذ على بدوى فى تقرير هذا المذهب: إن الفلسفة الوضعية الحديئة قد اتجهت إلى الأخذ بمبدأ الجبرية فى الإجرام بمعنى أن أعمال الشخص التى تصدر عنه محتمة عليه بعوامل لا دخل لإرادته فيهاء كالوراثة والمرزاج الخلقى» وتأثير البيثة والتعليم» فليس له فى الحقيقة اختيار فيما يرتكبه» وبالتالى لا خطيئة عليهء وذلك لأن الإرادة لا أثر لها فى البواعث النفسية» بل هى ثمرة هذه البواعث. وهى خاضعة لمؤثرات نفسية وخلقية ومادية خضوعا لا مفر منه . فإن لم يكن للإنسان احتيار فى جرائمه. فليس للمجتمع كذلك اخحتيار فى عقابه وقاية لكيانه مما يهدده. وحينئذ يصبح العقاب وظيفة حتمية للنظام اللاجتماعى لكنها وظيفة ألساسها الدفاع عن المجتمع لا تحقيق معنى العدل. ويعاقب على الجريمة لا بوصف أنها أمر مناف للوجدان الخلقى» بل باعتبارها أمرا ضارا بالمجتمع الإنسانى» وإذا كان المرء يأخذ قسطه من ثمرات النظام الاجتماعى فعليه تبعة أعماله الضارة بهذا النظام » سواء أكان مختارا أم كان غير مختار. وإن الذى يستفاد من ذلك الكلام أن هذا المذهب يفرض الجبر فى الجريمة» كما يفرض الجبر فى العقوبة» فالجريمة لا اختيار فيهاء والعقوبة لا مناص منهاء فإذا كان المرتكب واقعا تحت تأثيرات مختلفه توجه إرادته» ولا تسيطر عليها هذه الإرادة فلا يستطيع الامتناع» فكذلك المجتمع لابد أن يحمى نفسه بالعقوبة الرادعة دفعا للأذى» ومنعا للضررء وبذلك ننتهى إلى أن الجريمة أثر نفسى ليس للإرادة دخل فيه والعقوبة مظهر اجتماعى لدفع الأضرارء وإنه بمقتضى تطبيق هذا المذهب لا مناص من العقاب سواء أكان عاقلا أم كان مجنوناء فإنه إذا كانت الجريمة من العاقل لا إرادة له فيهاء وهو مع ذلك مسئول عنهاء وبمقتضى هذا المنطق يجب أن يكون المجنون أيضا مسئولا لأنه لا فرق بين فقد الإرادة وفقد العقل. 8- والمذهب الثالث وسط بين الاختيار والجبر» وأساس هذا المذهب أن الإنسان يحس بأنه يملك فى تصرفاته قسطا من الإرادة يوجههاء وإن كانت ثمة عوامل أخرى من البيئة والوراثة» والحال التى يكون عليها الشخصء فإنها لا تمنع أنه مريد 1 يفعل ما يريد» ويطلق على هذا المذهب اسم مذهب الاختيار السبى» فهو لا يقرر أن للإنسان اختيارا مطلقا من كل قيد من قيود البيئة والوراثة» ولا يقرر أن الوراثة والبيئة والأحوال التى يكون عليها الشخص من فقر أو غنى» ومن تعلم أو جهل من شأنها أن تسلب الإرادة» فهو مريد يستطيع أن يتحمل مسئولية ما يفعل» وإنه يكفى لكى يوصف الفعل بأنه خطيتة أن يتحقق ذلك القدر من الإرادة» ويقرر بعض أنصار ذلك الرأى أن معنى الخطيئة والإرادة التى يتحمل بها المسئولية بعيدة عن نظرية الاختيار» وإن هذه النظرية داخلة فى دائرة العقيدة» لا فى دائرة القانون» ويقول الأستاذ على بدوى فى ذلك: «ويذهب البعض إلى أن معنى الخطيئة والإرادة مستقل عن نظرية الاختيارء لأن مسئولية الشخص فى الحياة الاجتماعية إنما ترجع إلى أهليته للسلوك الاجتماعى من حيث وجوب اتفاق تصرفاته مع حاجات المجتمع الذى يعيش فيه» ومتى قامت هذه الأهلية فى الشخصء فللدولة أن تعتبر فى سلوكه غير الاجتماعى خطيئة إذا شاء توجيه أهليته» ولها أن تهدده أو تزجره بالعقاب حتى يعود إلى الانسجام مع المجتمع فى سلوكه» أما من لم يكن له حظ فى هذه الأهلية فلا مسئولية عليه)7' . وإنه بمقتضى هذا المذهب لا يتحمل من لا عقل له تبعة ما يفعل» ولكن يجب على الدولة أن تعزل الجناة من فاقدى الآهلية أو ناقصيهاء ليكون المجتمع فى أمن منهم» فالقانون الجنائى يطبق على من يتحملون التبعات فيما يفعلون بالعقوبات الزاجرة» وعلى من لا أهلية عندهم بالعمل على الأمن من أفعالهم. ٠‏ 44- هذه مذاهب ثلاثة» وكلها يتجه إلى تحميل الجانى تبعة ما يفعل بعقوبة مقررة» أو أن تكون العقوبة لدفع الأذى والضرر على المجتمع فالعقاب فيها لدفع الضرر» ولدفع الأذى. ويجب أن نذكر هنا أن هناك مذهبا رابعا» ولعله متشعب من المذهب الثانى» وأساس ذلك المذهب أن الجانى مريض قد أصيبت مشاعره بآفة قد نفرت فيما بينه وبين المجتمع» وجعلته ينظر إلى المجتمع على أنه عدو له» فهو يستحق العلاج بإيجاد عنصر الألفة الذى يربطه بالمجتمعء ليشفى من مرضه الذى أدى إلى هذا الإجرام» وحماية المجتمع منه ومن أشباهه. ليس بالعقاب ينزل به» ولكن لعلاجه هو وأشباهه ممن أصيبت مشاعر هم بأدواء جعلتهم ينفرون ولا يحسون بأنهم من المجتمعء وقديما كان العرب يسمون المجرمين بالشذاب» لأنهم يبتعدون عن الجماعة ويتربصون بها الدوائرء وإن تلك القسوة التى تبدو فى أعمال المجرمين إنما كانت لأنهم فقدوا الإحساس بأنهم من الجماعة يعيشون فيها. . الأحكام العامة فى القانون الجنائى ص”””‎ )١( لضن ولقد قال الأستاذ محمد فتحى فى هذا المعنى: «لقد لفت نظرى فى أثناء حياتى القضائية وزياراتى المتكررة لإصلاحية الرجال ما شاهدته من تدهور محسوس فى الصحة البدنية والعقلية لدى عدد غير يسير من هؤلاء المجرمين» وما كان يبدو على مسلك بعضهم فى الجلسة من شذوذ كان مدعاة لاشتباهى فى سلامة قواهم العقلية أحيانا بما حملنى على التماس فحصهم طبيا بمعرفة مستشفى الأمراض العقلية» فكانت نتيجة الفحص مؤيدة ظنى بهم» فحجزوا جميعا بالمستشفى تحت العلاج باعتبارهم غير مسئولين» وإنى أعتقد أن كثيرين غير هؤلاء ثمن تضمهم جدران السجون الآن هم مرضى بعقولهم» أو مرضى نفوس لم تكتشف حالهم لرجال القضاء أو المحققين» فى حين أن مستشفى الأمراض العقلية» أو مصاح العلاج النفسى أولى بحمايتهم وأحرى بشفائهم من ظلمات السجن270؟ . -١‏ ولقد قسم الأستاذ محمد فتحى - الذى يحمل فى مصر لواء هذا المذهب - المجرمين إلى أربعة أقسام: . أولهم : المجرم العصبى» وهو الذى يرجع إجرامه إلى أسباب نفسية وهو من يعانى نضالا بين نفسه وضميرهء أو بعبارة أخحرى بين ضميره ونزعاته الاجتماعية» وهو نضال منشؤه التربية الأولى ومؤثرات مكبوتة فى قرارة نفسه تحركها عوامل البيئة» ومؤثرات طارئة» كما هى الحال فى الأمراض العصبية . ومن أظهر جرائم هؤلاء: السرقة والحريق» والبلاغات الكاذبة. ويقرر أصحاب هذا المذهب أن هذا النوع من المجرمين لا يجدى فيه عقاب السجن وربما زاده فى الإمعان. لأن إجرامه وليد مؤثرات مكبوتة كبتا مرضياء والسجن من شأنه أن يزيد الكبت شدة واحتداماء ولأن المريض من جهة أخرى يعتبر العقوبة كفارة لجرائمه» فهو يخرج من السجن مؤديا ما عليه من دين للمجتمع ليفعل ما يوؤجب تكفيرا جديداء وخير علاج لهذا الفريق من المجرمين هو التحليل النفسى مع العفو عن الجرعة . ثانيهم : المجرم العادى» وهو الذى يرجع الإجرام فيه إلى أسباب اجتماعية» لأن البيئة الاجتماعية التى يعيش فيها وتقاليدها وعاداتها هى المسئولة عن إجرامه. وهذا النوع لا يزيده السجن إلا عقوقا وفساداء وخير وسيلة لعلاجه تغيير البيئة وتعهده بالتربية الاجتماعية الصحيحة. الثهم : المجرم المريض» وهو الذى يرجع الإجرام فيه إلى علة خلقية أو مرض عقلى» ومصير هؤلاء هو مستشفى الأمراض العقلية بغير شك» وتقدير مسئوليتهم الجنائية ليبس مشكلا. (1) علم النفس الجنائى جا ص18 . جضن رابعهم : المجرم العرضى» وهو الذى يتورط فى جريمة بحكم أمر عارض أو تحت ضغط العوامل والانفعالات النفسية التى قد تنتاب الإنسان فى بعض المواقف فتغلبه على أمره» فلا يقوى على كبح جماح ثورته» وكل إنسان معرض لحكم هذا النوع من الإجرام فهو لا يرجع إلى عيب فى الشخص أو أخلاقه العامة بقدر ما يرجع إلى الحرج الذى أثار انفعاله. ويدخل فى ضمن هذا النوع من الإجرام جميع الجرائم الناشئة عن خطأ أو إهمال . فإذا ما زج بأمثال هؤلاء فى السجن عند أول جريمة انحدروا إليهاء كان فى ذلك القضاء المحتوم على مستقبلهم» إذ يخرج منه موصوما بطابع الجريمة27' . 5 - هذا تقرير ذلك المذهب الرابع» ومن تقسيمه للمجرمين وبيان حال كل مجرم يتبين أن الاجرام مرض يصيب النفس أو العقل» أو يحدث فى حال لا يكون الشخص فيها مقدرا كل التقدير ما يترتب على فعله». وإنه فى كل الأحوال يحمل عذزه عند ارتكابه ما ارتكب» وإن العقاب لا يبرئه من مرضههء بل يزيده إمعانا فى الطريق الذى يسير فيه» فإذا كان الإجرام نتيجة لمرض عصبى أو لمرض نفسى» فإن العقاب يزيده حدة وشدة» وإن كان الإجرام نتيجة لعوامل فى البيئة» كالفقر» والتمرد على نظم المجتمع » فإن العقاب يزيده نفرة» وكلما ازدادت نفرته اشتد تمرده» وانتهز أقرب فرصة للانقضاض على فريسة جديدة من فرائسه التى يترصدء وإن كان الإجرام لأمر عارض » ولم يكن الأمر مستكنا فى نفسه يدفعه فإن العقاب يفقده الكرامة» وإذا فقد الكرامة هانت على نفسه الجريمة» لأن الجريمة هوان تسهل على الهين ولا تسهل على الكريم» ولو أن الإجرام العارض أقيل عثرة صاحبه لاستوى قائماء وكان من كرامته حصن يحول بينه وبين الوقوع فيما وقع فيه. 57 5- وإنه بالموازنة بين هذا المذهب والمذاهب التى سبقته نجده يقصر دائرة تفكيره على المجرم وحده» وكون العقاب علاجا لنفسه» أو يكون ثمة علاج آخر أجدى فهو ينظر إلى العقاب من زاوية المجرم» وكونه إصلاحا له أو غير إصلاح» ولا ينظر إليه من دائرة المجتمع الذى هو فيه إلا من ناحية أن العقاب سيفقد المجتمع عضوا كان يرجى منه الصلاح» ويمكن أن يكون نافعا بدلا من أن يصير عبئا عليه إلى نهاية حياته . أما المذاهب الأخرى فإنها تنظر إلى العقاب على أنه للزجر العام» وللاقتصاص من المرتكب» ليتساوى الفعل مع نتائجه. فإذا كانت النتائج ضارة بغيره فلينزل به من الفعل ما تتكافاً نتائجه مع نتائج ما أحدث» وخصوصا أن المجنى عليه قد نزل به من . 1595 4141١ + ١78ص‎ " علم النفس الجنائى‎ )١( بوذن الظلم قدر لا يصح إهماله» فإذا كانت حال الجانى تحمل عذرا له فإن الآخر ما ذنبه» فإذا كانت الرأفة بالجانى سوغت تلك النظرة الغافرة لذنبه فإن هذه النظرة هى القاسية على المجنى عليه؛ لأنها تركته فريسة الإجرام؛ من غير نظر راحم له ولا زاجر للجانى» وهى فوق ذلك تشجع الإجرام وتفتح أبوابه. وكون المجرم مريضا فى أعصابه أو فى نفسه» لا يمنع أن يؤاخذ مادام عنده أصل الإداك والشعورء وأن العقاب وإعلانه وإحساس كل امرئ بأنه عرضة له إذا ارتكب أمرا هو موضع مؤاخذة يجعل ضعاف النفوس وذوى الهياج العصبى يضبطون أعصابهم» فهو يقوى إرادته» ويشحذ عزيمتهء أما إذا كانت النظرة العاطفة إلى المجرم هى المسيطرة» ويجد المعاذير تساق بالجزاف لكل مجرم أثيم» فإن العصبيين المدركين ينفلت زمامهم» ويذهب كل -ضبط نفسى» وبذلك يعم الفسادء» ويستشرى الشرء ولا عاصم ولا منجاة - فالعقاب فوق أنه شفاء لنفس المجنى عليه» وعدل وقسطاس» وحماية للمجتمع - هو تقوية لإرادة ضعاف الأعصاب ومرضى النفوسء» إذ يكون الخوف من العقاب مدعاة للتفكير والامتناع عن الأذى. ولقد قال فى ذلك بنتام : «إن المرء لا يقدم على الجرائم» إلا وهو يأمل الفرار من العقاب ولو كان متحققا من أن العقاب يناله عند كل جريمة لامتنعت الجرائم»7 . وإن الذين يدعون إلى منع العقاب يفتحون باب الإجرام لكل من عنده نزعه إلى الإجرام لحقد على الجماعة أيا كان السبب» إذ يعفونه من العقاب. :- وإنه وإن كان الذى يدعو إليه الذين يعتبرون المجرم مريضا لا يستحق عقابا - يتجهون بجدهم العلمى وبحوثهم المستفيضة للعمل على منع الجريمة بمعالجة الأعصاب المريضة» والنفوس المعقدة» لكان لكلامهم جدوى عظيمة. وعلى ذلك تحارب الجريمة بثلاثة أنواع: أولها : التعليم ورفع مستوى الحياة» وتسهيل الأسباب لكل من تظلهم الدولة» والعمل على تكافؤ الفرص لكل ذى كفاية. وثانيها : معالجة الذين يرى فيهم شذوذ نفسىء أو عصبى لم يصل إلى درجة الجنون؛ حتى لا تقع منهم جريمة بسبب المرض. وثالشها : العقاب إذا وقعت الجريمة, ليكون الردع» والزجر العام» ومحاربة الفساد وتقوية عزائم من عندهم استعداد للشرء وليكافحوا دوافع الإجرام بما يرون من عقاب يترصدهم. إن وقعوا فى الإجرام . "16 موقف الشريعة من هذه النظريات 06- هذا هو الفكر الحديث فى أصل تحمل التبعة ومشروعية العقوبة» وقد رأينا اختلاف الأنظارء والشريعة كما نوهنا من قبل لم تتجه إلى منع المؤاخذة بالعقوبات البدنية» بالتسبة لمن كانوا فاقدى الإدراك وناقصية» أو لم تكن لهم إرادة» ولكنها اعتبرت العقلاء البالغين المريدين مسئولين مسئولية كاملة عن أعمالهم» وهى بهذا قد اتجهت إلى اعتبارهم مختارين فى ارتكاب الجريمة غير مجبرين. 7- وإن كلام فقهاء المسلمين فيما يختص بحرية الإرادة انقسموا فيه إلى ثلاثة مذاهب: جبرية» واختيارية مطلقة» واختيارية نسبية. وإن سيب الجبر قد اخمتلف عما يقرره الفقهاء المحدثون» إذ الفقهاء المحدثون يردون أسباب الجبر إلى عوامل الوراثة والبيئة والأحوال النفسية وما يحيط بالشخص من أحوال ساعة الارتكاب» والذين يخالفونهم يقررون أن هذه العوامل لا يمكن أن تمنع الاختيار المطلق» والذين يتوسطون بين الفريقين يعترفون باثار الوراثة والبيئة» والملابسات التى أحاطت بالارتكاب» ولكنهم يقررون أنها لا تمحو الاختيار» ولا تمنع المسئولية بل بقى مع ذلك قدر من الاختيار يستطيعون به أن يتحملوا تبعات ما يفعلون» ويكون عليهم جزاء ما يكسبون. هذا محور الخلاف بين فقهاء القانون فى الفكر الحديث» أما محور الخلاف بين علماء المسلمين فيما يتعلق بالجبر والاختيار» فأساسه إرادة الإنسان المحدودة مع إرادة الله سبحانه وتعالى وقدرته على كل شىء» وكون كل شىء بارادة الله تعالى» ولا يخرج شىء عن إرادته سبحانه . فقد قرر بعض علماء الكلام أنه مادامت إرادة الله تعالى شاملة لكل شىء؛ وعمله محيطا بكل شىء.ء فإن الإنسان لا إرادة له فيما يفعل» بل هو فى هذا الوجود كالريشة فى مهب الرياح» وكل شىء بقضاء الله وقدره» وهو المنشئ المكونء فالإنسان وقدرته وإرادته وأعماله - تخلق لله سبحانه وتعالى» ولا إرادة له فى شىى» والذين قالوا ذلك هم الجبرية. وقرر آخرون أن الله خالق كل شىء» وخلق فى الإنسان قدرته على العمل والإنشاء» فهو ينشئ فى الكونء ولكن بقوة أودعها سبحانه وتعالى إياه» فالمعاصى إنما تقع بإرادة العبد التى مكنه الله منها بالقوة التى أودعها الله تعالى إياه» وذلك تحقيق لمعنى العدالة الإلهية» لأنه تعالى لا يعاقب العبد على أمر ليس من فعلهء فلا بد أن تسند المعاصى إليه حتى يتحمل تبعتهاء ويعاقب عليها فى الدنيا بما وضع الله عليها من حدود وقصاصء. وفى الآخرة بما أعده للآثمين من عقاب أليم. حلصن فهؤلاء العلماء فرضوا للإنسان إرادة مختارة اختيارا مطلقاء» ولذلك كانت محاسية الله للنفس على ما ترتكب» وكان لها ماكسبت» وعليها ما اكتسبت» فوق ذلك فإنهم يرون من مقتضى الحكم العقلى أنه لا يجوز أن ينهى الله تعالى العباد عن فعل» ويكون ذلك المنهى عنه واقعا فى الوجود بإرادته سبحانه وتعالى» كما أنه ليس من المعقول أنه يأمر العبد بفعل ويمتنع العبد عن تنفيذه بإرادة الله سبحانه. والذين قرروا ذلك الرأى هم المعتزلة . وبجوار هاتين الطائفتين وجدت أمة مقتصدة» لم تفرض فى الإنسان الإرادة المطلقة المختارة التى يكون بها الإنسان فعالا لكل ما يريد» ومسئولا عن كل ما يفعل كما لا تنفى عنه كل إرادة» ويزول عنه كل اخجتيار» بل قرروا أن الأفعال كلها لله تعالى والعبد له فيها الكسب الذى يختار به ويريد» وفى الجملة أنه عند الشخص نوع من الاختيار يستطيع به أن يكون مسئولا عن كل ما يفعل» وإلا تعطلت الشرائع» وألغيت الأوامر والنواهى. /ا5- وإنه يجب أن نقرر أن العلماء مع اختلافهم فى مسألة الجبر والاختيار لم يكن لذلك أثر فى التكليف وتقرير العقاب الدنيوى والحساب الأخروىء ولقد تهكم القرآن الكريم على الذين أرادوا أن يلقوا عبء المسئولية عنهم فى شركهم بأنه مشيئة الله تعالى لا مشيئتهم» وإنهم بذلك لا تبعة عليهم» فقد قال تعالى فى هؤلاء: « سيقول لين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنًا ولا حرمنا من شيء كَذَلك كذ الذين من قبلهم حتى ذَاقُوا بأسنا قل هل عندكم مَن عل فتحْرِجُوه لنَا إن تمبعُون إل الّن وإن أنتم إل تخرصون +420 قل فَللّه اْحجّة البالعغَة فلو شاء لهداكم أجمعين 174 . فهذا النص الكريم يبين لنا أن المشركين سيعتذرون عن شركهم بأن الله لو أراد ما وقعء وإن الله يرد عليهم بأنهم ما فعلوا ذلك لأن الله أراده بل فعلوه لأنهم أرادوه» وما كان عندهم علم بأنه بإرادة الله» وأن عملهم على هذا الأساس سبب فى تحملهم تبعة ما يعملونء وأن الله سبحانه وتعالى له مشيكته الكاملة» ولو شاء لهداهم أجمعين. وبهذا تعزز الآية الاختيار النسبى» لا الاختيار المطلق . - وقد حدث فى عهد الصحابة أن بعض المرتكبين لموجب الحدود كانوا يعتذرون بقضاء الله وقدرهء وأنهم لم تكن لهم إرادة فيما يفعلون» وإنه يروى أن الذين تألبوا على الخليفة الشهيد عثمان بن عفان» وحصبوه»ء وهو يخطبء وجه إليهم لوم فى . 3١594 21١58: الأنعام‎ )١( خرون هذاء فقالوا: ما حصبناه» بل حصبه اللهء وقالوا له: «الله هو الذى يرميك» فقال رضى الله عنه : «كذبتم. . لو رمانى الله ما أخطأنى». وفى عهد على رضى الله عنه كثر الذين يتكلمون فى إرادة الإنسان مع إرادة الله تعالى» وظن بعضهم أن الحكم بالقدر يسقط الجزاء والحساب» وقد قام شيخ يقول لعلى رضى الله عنه : «(أخبرنا عن مسيرنا بالشام أكان بقضاء ء الله وقدره؟» فقال على رضى الله عنه: ١ما‏ وطئنا موطئا ولا هبطنا واديا إلا بقتضاء الله وقدره» فقال الشيخ: «فعند الله أحتسب عناى» ما أرى لى من الأجر شيئا» فقال الإمام: «لقد عظم الله أجركم فى سيركم وأنتم سائرون» وفى منصرفكم وأنتم منصرفونء ولم تكونوا فى شىء من أحوالكم مكرهين ولا مضطرين؟. هذه العبارة من الإمام على رضى الله عنه تقرر أيضا مبدأ تحمل التبعات» واستحقاق الجزاء عند الإحسان» لأن الإنسان حر مختار» ولكنه مع ذلك يقرر أنه اختيار 4- وننتهى من هذا إلى أمرين: أحدهما : أن جمهور علماء المسلمين يرون أن الإنسان له اختيار نسبى يتحمل به تبعات ما ارتكب من معاص يعاقب عليها فى الآخرة» ويعاقب على بعضها فى الدنيا. ثانيهما : أن البالغ العاقل لا يعفى من نتائج أعماله التى يعملهاء وهو فى صحوة من غير غفلة . وعلى ذلك لا معذرة لمرتكب المعصية ما دامت له إرادة واختيار وعقل» فلا معذرة بعقدة نفسية» ولا بحال عصبية مادام يعد عاقلا مسئولاء مجزيا بما يفعل» ومادام يطلب الجزاء إن عمل خيراء فعليه أن يتحمل العقاب إن عمل شراء وكل امرئ بما كسب رهين» وإنه مادام يطالب بالمكافأة فى موضعها فعليه أن يتحمل نتيجة شره إن أساء وإنه لا يعفى من العقاب بأن السيئات قد شاعتء والمفاسد قد ذاعت. فإن شيوع الفساد يوجب تشديد العقاب ولا يسوغ تسامح فيه» لأنه كلما عمت البلوى» وجب التذرع بكل الوسائل لمنع الشرء ومن هذه الوسائل فرض عقابء كما بينا. - ولكن هل تهمل الشريعة سلطان البييئة فى الحكم بتجريم شخصء فلا يعذر بسبب البيئة ويعفى من عقاب؟ إن البيئة الفاسدة لا تبرر الجريمة» وليست معذرة لآثم قطء ولكن إذا ثبت أن البيئة ألجأته إلى عمل آثم إلجاءء فإن الجريمة حينئذ تسقطء ولا تثبت» وقد ذكر فقهاء المسلمين ذلك فى أمرين يصح أن يقاس عليهما ما يشبههماء ولا يتجاوز الاستثناء إلى حكم عام بفرض سلطان مطلق للبيئة بحيث إنه يكون عذرا لإسقاط العقاب. كحضن ردم فالأمر الأول من هذين الأمرين : أن الحنابلة قد أفتوا تابعين للإمام عمر رضى الله عنه بأنه لا يقام حد السرقة فى المجاعة» فإن الإمام عمر رضى الله عنه» قد منع إقامة حد السرقة فى عام الرمادة» إذ كانت مجاعة شديدة». وحدث أن غلمان حاطب بن أبى بلتعة قد سرقوا ناقة ونحروها وأكلوهاء فلم يقم عليهم عمر الحد. وغرم حاطبا ضعف ثمنهاء وقال فى ذلك: «أعلم أن حاطبا يجيع غلمانه) فكانت هذه السرقة للجوع الشديدء وكانت دعوى الجوع مظنة التصديق لهذه المجاعة التى عمت البلاد العربية»ء وقد زعم بعض الكتاب فى الفقه أن عمر رضى الله عنه أسقط الحد برأيه واجتهاده. وقد أخطئواء فإن عمر رضى الله عنه ما أسقط حدا قد ثبت» ولكنه لم يحكم بالحد. لأنه ثبت أن الفعل لم يكن باختيارهم. فسقطت التبعة لهذا الإكراه. الأمر الثانى : أن فقهاء المسلمين قد قرروا أنه لو كان اثنان فى صحراء أو فى سفر مطلقاء وقد نفد من أحدهما زاده أو ماؤه. والآخر معه فضل من الزاد أو الماء ولكنه منعه من صاحبه. فإن الآخر له أن يأخذ بالقوة ما يدفع ضرورتهء ولو قاتل زميله فقتله فلا شىء عليه حتى الدية. ولقد قال أبو سعيد الخدرى: كنا فى سفرء فقال النبى كَكِيْ: «من كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له ومن كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له»؛ ثم أخذ يعد من أصناف المال» حتى ظننا أن ليس لنا فى مالنا إلا ما نحتاج إليه. وفى كل هذه الأحكام كانت بيئة السفر ملجئة. -0١‏ ويصح أن يضاف إلى حكم البيئة بالنسبة للجرائم أيضا ما يباح للضرورة» وما يباح للحاجة. وما ورد عن مالك رضى الله عنه فى شأن من كان يعيش فى أرض قد عمها الحرام» فإنه قد تقرر فى الشريعة أن المحرم لذاته يباح للضرورة كأكل اللميتة» وشرب النمرء وأكل لحم الخنزير» وارتكاب الزنى إذا أكره الشخص با يعرض النفس للتلف» والحرام لغيره يباح للحاجة - فرؤية داخل المرأة يباح للطبيب. وقد روى أن مالكا قرر أن من يعيش فى أرض عمها الحرام يباح له بعض المحرم لذاته للحاجة لا لمجرد الضرورة» فقد جاء فى الاعتصام للشاطبى أنه لو طبق الحرام الأرض» أو ناحية يعسر الانتقال منهساء وانسدت طرق المكاسب الطيبة» ومست الحاجة إلى الزيادة عن سد الرمق» فإنه يسوغ لآحاد الناس» إذا لم يستطيعوا تغيير الحال وتعذر الانتقال إلى أرض تقام فيها الشريعة» ويسهل الكسب الحلال أن ينالوا كارهين من بعض هذه المكاسب الخبيثة دفعا للضرورة وسد الحاجة. إذ لو لم يتناولوا لكانوا فى ضيق أكبر ومشقة» فكانوا كالمضطر إذاخاف الموت» إن لم يأكل من المحرم كالميتة ولحم الخنزيرء بل لهم أن يتناولوا ما فوق الضرورة إلى موضع سد الحاجة» إذ لو اقنصروا على الضرورة لتعطلت المكاسب والأعمال» ولاستمر الناس فى مقاساة ذلك إلى أن يهلكواء ولكنهم فض علاجا حال شاذة غريبة على شرعة الإسلام» وهى غلبة الحرام على أحد بلدان المسلمين. ولقد قال الشاطبى فى بيان أن هذا الحكم ملائم لمقاصد الشريعة: «هذا ملائم لتصرفات الشرع. وإن لم ينص على عينه» فإنه قد أجاز للمضطر أكل الميتة والدم وحم الخنزيرء وغير ذلك من الخبائث»)» وحكى ابن العربى» الاتفاق على جواز الشبع عند توالى المخمصة. وإنما اختلفوا إذا لم تتوال أيجوز الشبع أم لاء وأيضا فقد أجازوا أخذ مال الغير عند الضرورةء فما نحن فيه لا يقصر عن ذلك. . - هذا أمر واضح قد قرر فيه الإسلام سلطان البيئة» بيد أنه يلاحظ فى ذلك أولهما : أن الإسلام لاحظ سلطان البيئة فى وصف الفعل» لا فى أصل المسئولية والتبعة. فبعد أن كان الفعل حراماء صار بحكم هذه البيئة فى موضع العفوء وذلك للتيسير على الناس». ولكيلا يكون على المؤمنين حرج» وكما قال تعالى: وما جعل لسصة 5٠‏ 7 8 ام )1 عليكم في اللدين من حرج ١١#‏ . وذلك النظر يخالف ما يقرره الذين يتكلمون فى أثر البيئة؛ أن الذين يتكلمون فى أثر البيئة يقررون أن وصف الفعل من حيث التحريم لا يتغيرء ولكن لشيوع الرذيلة فى البيئة» أو لسلطانها فى تفكير الشخص سلبا أو إيجابا تضعف المسئولية» ويضعف الأمر الثانى : الذى تجب ملاحظته. أن الشارع الإسلامى نظر فى البيئة» التى من شأنها أن تغير وصف الحكم فى الحل والتحريم إلى أمر مادى واقع يجب علاجهء لا إلى أوهام وخيالاات» أو أمور ظنية» فالحرام مطبق إطباقا مادياء ولا يمكن لمؤمن أن ينال قوته الضرورى من الحلال» ولا يستطيع الانتقال من هذه الأرض الخبيثة إلى أرض أخرى طيبة يقام فيها الشرع وتنفذ فيها أحكامه. 457- وإنا بعد هذا نقرر فى الخلاصة أن الشريعة نظرت إلى معنى جليل» وهو التناسب بين الفعل وجزائهء وهى - من ناحية - عادلة» فإنه من المقررات الثابتة أن نتائج الأفعال تشبه ثمرات الشجر وغللات الزرعء فمن يزرع يحصد. وحصاده من جنس ما زرعء ومن يغرس ينل جنى غرسه» وجناه من جنس ما غرس » فمن طبائع الأشياء إذن أن يجزرى المسىء بإساءته » والمحسن بإحسانه» ولا تستوى احسنة ولا السيئة» ومن . الجج :4لا‎ )١( إرفض يعمل سوءا يجز بهء ولقد قال النبى يَللّ: «من لا يرحم لا يرحم»» فإذا. كانت الجريمة قسوة إنسانية» فالعقوبة جزاء»ء ونتيجتها رحمة. ولذلك قررت الشريعة ميدأ تحمل التبعات لمن يكون أ أهلا لهاء ولا تمتذر عن أن ولا تنظر بالرحمة ‏ إلا إلى المجنى )00 سأ 00 َيه 4 ٠‏ وقال سبحائه : ( إن حسم حسم لأنفسكُم وإذاً) 3 هذا هو المبدأ العادل الثابت» وهو أن يكون الجزاء من جنس العمل» وهو الذى يتفق مع طبائع الأشياء» ومع سنة الوجود. ومع النصوص فى كل الديانات السماوية. - وهناك مبدأ آخر تجب ملا حظته. وهو شقاء نفس المجنى عليه » فإننا لو التمسنا المعاذير للجانى» فتركناه لمرض فى أعصابه مع قدرته على تحمل التبعات» أو لمرض فى نفسه مع ذلك أيضاء أو لأن عارضا دفعه إلى الجريمة دفعاء أو لأن البيئة من شأنها أن ترهق النفوس» فيدفع بعض الناس تحت تأثيرها الإيجابى أو السلبى إلى ارتكاب مالا يحسن.ء لو تركناه لأمر من هذه الأمور فإنه لا يسكت المجنى عليه» بل يندفع ليثأر لنفسهء وإذا اندفع كل مجنى عليه لأخذ المجرم بيده لكانت الفوضى» ولسرى بين الناس الشرء ولكان الضعيف فريسة» لأنه لا يهاب إلا من يستطيع الدفاع عن نفسهء ويذلك تذهب معانى الحكومة» فإنها ما كانت إلا لتوزيع العدل بين الناس» والأحذ للضعيف من القوى» وإنه على عكس ما يقول أولئك الذين ينظرون إلى المجرم نظرة عاطفة لو ترك الجانى لاستمرأ دماء الناسن» بينما لو عوقب لكان فى ذلك معاونة له على ضبط نفسهء فيأمن الناس شره؛ ولذلك قال الله تعالى: طولَكُمْ في الّقصاص حيَاة 04 أى حياة هادئة رفيقة لا يعكرها أذى الإجرام» ولا يتقدم كل مجنى عليه ليأحذ بثأرهء» فيكون قانون الغابة هو الذى يفصل. فيأكل القوى الضعيف» ويكون الثم الدائم» فعلى الذين يرحمون من لا يستحق الرحمة أن يفكروا فى المجنى عليه الذى ينادى ربه بوجوب الرحمة به. 6 - هذا وإن الشريعة مع هذه الاعتبارات الكثيرة التى توجب أن يؤخذ المجرم بجريرة فعله أخذاء تقرر نظرية حق المجتمع فى إنزال القصاص العادل بالمجرم؛ ذلك لأن المجرم روع الناس أجمعين» ٠‏ فالسارق يروع المحى الذى نزلت جريمته بساحته» والزانى يفسد الصلات بين الرجل والمرأق. فتكون العلاقات الآثمة. وبذلك تضيع الأنساب» والقاذف يشيع الفاحشة فى الذين آمنواء وهكذا. .. فيكون من حق المجتمع أن يضح لهؤلا لعي الادعة الى تكرت كفء لجريستهم؛ وايمع غبرهم من التفكير فى مثل ما وقعوا فيه. 94 : فصلت :45 . (9) الإسراء : 7 . () البقرة‎ )١( نض وإن قانون المصلحة مع قانون العدالة يوجب عقاب الجانى بأقصى أنواع العقاب الذى يتناسب مع الجريمة» فإننا لو ترددنا بين مصلحة الجانى التى تسوغ إعفاءه من العقاب» .ومصلحة الجماعة التى توجب العقاب لوجدنا أن الجماعة أولى وأبعد أثراء ومن قوانين المنفعة أن منفعة الأكثر تقدم على منفعة الأقل» ولا شك أن منفعة الجماعة فى ذاتها أكبر كماء وأبعد أثراء فعلى الذين يذهب بهم فرط رأفتهم بالجانى أن ينظروا نظرة رحمة بالمجتمع» وإلى من يكونون فرائس للإجرام إن ترك المجرم» ويجب أن يلاحظ أن ترك المجرم يرتع ويلعب من شأنه أن يوجد فى الناس عدوى الإجرام» وعدوى الإجرام كعدوى الأمراض» تسير حيث يكثر ظهور الإجرام. 57- إن الإسلام يشدد العقاب كلما كانت الجريمة ظاهرة معلنة لحماية المجتمع» وإننا لو تركنا المجرمين من غير عقاب لمعذرة يعتذرون بها مع أنهم عقلاء يتحملون التبعات» لأعلنت الجرائم» ولم يكن من النفوس ضابط» وبذلك يذهب الحياء الاجتماعى الذى يجعل الشخص يمتنع عن الأذى استحياء من الناس» ولقد اعتبر النبى يكللهِ فقد الحياء أساس الجريمةء ولذلك قال كلد مانصه: «إن الله إذا أراد أن يهلك عبدا نزع منه الحياء فلم تلقه إلا مقيتا ممقتاء فإذا لم تلقه إلا مقيتا ممقتا نزعت منه الأمانة» فإذا نزعت منه الأماتة لم تلقه إلا خائنا مخوناء فإذا لم تلقه إلا خائنا مخونا نزعت منه الرحمة» فإذا نزعت منه الرحمة لم تلقه إلا رجيما ملعناء فإذا لم تلقه إلا رجيما ملعنا نزعت منه ربقة الإسلام». والعقاب من شأنه أن يجعل النفوس التى تتحدث بالشر فى جنباتها لا تطهره. فلا تنطق به» ولا تعملهء فإذا ظهر فقد هتك حجاب الحياء» وبذلك تنحدر فى مهوى الجرية فيبتدئ بفقد الأمانة» ثم بفقد الرحمة ثم بخلع كل فضيلة خلقية. 7 - والعقاب فى الشريعة الإسلامية من قبيل الأمر بالمعروف والنهى عن المتكرء فعقاب الجريمة من استنكارهاء واستنكارها حث على الفضيلة والدعوة إليهاء والأمر بالمعروف والنهى عن المتكر هو السبيل لإيجاد جماعة فاضلة» ولقد وصف القرآن الكريم أمة محمد يَلكِْةِ بأنها خير أمة أخرجت للناس» ما استمسكت بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» ولذلك قال الله تعالى: « كنتم خَيْرَ م أخرجت للناس تَأَمرُون بالمعروف وتنهون عن الْمكَر وتؤمنون بالله 174" . وإذا كانت العقوبة من هذا القبيل بمقتضى تلك الأوامر الدينية» فإنها أمر لابد منه لصلاح المجتمع» وكون الغقوبة من هذا القبيل يشير إلى معنى اجتماعى رائع» وهى أنها للتهذيب. وتكوين رأى عام فاضل تختفى فيه الرذيلة ولا تظهر فيه إلا الفضيلة. 231١١ : آل عمران‎ )١( لضن العوارض التى تضعف المسئو لية أو تسقطهاء أو تزيل و صف الجريمة - تكلمنا فى الموضوع السابق فى الشخص المكتمل العقل والإرادة إذا فعل أمرا فيه إيذاء لغيره» ويقصد نتيجة فعله راضيا بالنتائج ومدى تحمله لتبعة ما ارتكب»ء وكلام الفقهاء فى العصر الحديث فى شأنه. وكلام فقهاء المسلمين فيه» ونظر الشريعة نظرة غير راحمة إلى من ينتهك الحرمات» وله عقل وإرادة. والآن نتكلم فى الذين لم يكونوا فى حال تجعلهم يتحملون التبعة كاملة لنتقص فى قواهم العقلية والنفسية» أو يكونون كاملى العقل» ولكن لم يكن لهم رضا بما يفعلون ولم يقصدوا إلى نتائج أفعالهم راضين بهاء أو كانوا فى حال لا يعد فعلهم معها جريمة . وعلى ذلك نقول إن هؤلاء ينقسمون أقساما ثلاثة: القسم الأول : هم الذين تكون لهم أهلية لتحمل التبعات» ولكنها أهلية ناقصة. فلا يتحملون العقاب الذى يكون على المريد العاقل» ولكن تنقص تبعاتهم. وهؤلاء هم الصغار والمجانين» والمعاتيه» ومن يكون فى حال جهل وهم المخطئ والغالط» ومن يفقدون الوعى وهم: السكرانء والنائم» والمغمى عليهء على خلاف بين الفقهاء فى بعض هؤلاء. القسم الثانى : هم الذين يعفون من عقوبة الجريمة» وإن كان الفعل فى ذاته اعتبر جريمة ونسبت لغيره» إذا كان على غيره العقاب. وهذا يكون فى حال الإكراه على ما سنبين إن شاء الله تعالى. القسم الثالث : من ينزلون الأذى بغيرهمء ولكن يقترن الفعل بحال يمحى فيه وصف الجريمة وهؤلاء أنواع أربعة هم: أ - من يكون فى حال دفاع عن النفس أو المال. ب - من يفعل فعلا هو فى أصله موضع عقاب جريمة. ولكنه وقع منعا لاستمرار جريمة . ج - ارتكب الجريمة برضا المجنى عليهء على خلاف فى ذالك سنبينه فى د - ارتكاب أمر يعتبر فى ذاته جريمة» ولكن دفع إليه العارء كمن يقتل إحدى محارمه لتأكده أنها تزنى . 414- هذه هى الأقسام الثلاثة» وترى فيها أن التبعة تخف فى أولها من غير أن يسقط أصل العقاب» ثم تخف التبعة أكثرء فيزول العقاب ليتحمله غيره» ثم تزول حضن التبعة فيكون الفعل فى محل العفوء وقد تكون ثمة عقوبة أو لا تكون جريمة يعاقب الفاعل عليها أو يعاقب غيره. ولنتكلم فى كل قسم من هذه الأقسام : الأهلية الناقصة لتحمل التبعة : -5٠‏ يسمى الفقهاء ء طائفة من الناس قد عرض لهم ما ينقص أهليتهمء ٠‏ غير كاملى الأهليةء وهذا الذى يعرض لهم يسمونه عوارض الأهلية»ء ويقسمون عوارض الأهلية إلى قسمين : عوارض سماوية» وعوارض غير سماوية» أى مكتسبة» ويقول فى ذلك فخر الإسلام البزدوى: «العوارض نوعان: سماوى» ومكتسبء أما السماوى فهو الصغر والجنون والعته والنسيان» والنوم والإغماء. . . وأما المكتسب فنوعان منه (أى من الشخص نفسه) ومن غيره (أى من غير شخصه). وأما الذى منه فالجهل والسكر والهزل والسفه والخطأ والسفرء وأما الذى من غيره فالاكراه بما فيه إلجاء»(2 . ويلاحظ فى هذا التقسيم أن بعض ما اشتمل عليه لا دخل له فى الجرائم كالسفرء فإن السفر ليس له أثر فى حكم الجرائم لا سلبا ولا إيجاباء فجريمة المسافر كجريمة المقيم» ولا فرق بين جريمة الحضر وجريمة السفرء مادامت أركان الجريمة قد تحققت» فالسفر لا ينقص التبعة ولا يخففها. كما يلاحظ أن بعض هذه الأقسام لا تخفف العقوبة» بل تسقطهاء وهى الإكراه فهو القسم الثانى من تقسيمناء وإن تقسيم فخر الإسلام غير مقصود على الأمر بالنسبة للجرائم » بل إنه يشمل كل أنواع التكليفات» سواء أكانت عبادات أم كانت معاملات» وسواء أكانت تتعلق بحقوق الله تعالى أم تتعلق بحقوق العبادء وسواء أكانت خاصة بأهلية الأداء فى العقودء أم كانت متعلقة بتحمل تبعات الأفعال» ولذلك كان تقسيمه سليما بالنسبة لمقصده. ولعموم مورده. لكنه لا يسير على مقتضى تقسيمنا المقيد بموضوعنا. ا الجنون والعته : -١‏ الجنون والعته كلاهما يذهب بسلامة الإدراك وتقدير الأمور تقديرا صحيحاء بيد أن الجنون يصحبه عادة هياج واضطراب» بينما العته يصحبه عادة خمول أو هدوء» والعته قد يكون معه تمييزء فقد يكون المعتوه مميزاء وقد يكون غير مميزهء أما المجنون فإنه لا يكون مميزاء أو على الأقل لا يعطى حكم المميز مادام فى حال جنونه. وبعض العلماء يعتبر العته حالا من أحوال الجنونء فإن المجنون قد يستفيق فى بعض الأوقات» وإن كان جنونه مطبقا من حيث الحكم والاستمرارء إذ إن الجنون إذا 202 القسم الرابع من أصول فخر الإسلام البزدوى ص ١1787‏ . فض استمر شهرا يعد مطبقاء ويستمر يأخذ حكم المجنون ولو استفاق فى بعض أوقاته» حتى يثبت شفاؤه تماماء وفى حال استفاقته يكون معتوها أو على الأقل يأخذ حكم المعتوه . هذاء وإن العته والجنون عرضان يقومان ببعض الأشخاص» ويظهران فى التصرفات بوضوح» وإن كان العلماء قد اختلفوا فى حقيقتها. كما اختلف الأقدمون فى حقيقة العقل» وموضعه. ومن أتحسن ه.ا قرأت للفقهاء فى بيان حقيقة العقل والجنون ما كتبه الشيخ البخارى فى حاشيته على أصول فخر الإسلام فقال رضى الله عنه: «والعقل حقيقة يمكن الاستدلال بها من الشاهد على الغائب» والاطلاع على عواقب الأمور» والتمييز بين الخير والشرء ومحله الدماغ. . . والموجب لانعدام آثاره» وتعطيل أفعاله الباعث للإنسان على أفعال مضادة لتلك الافعال من غير ضعف فى عامة أطرافه» ومن غير فتور فى سائر أعضائه - يسيمى جنونا» . هذا تعريفه للعقل والمجنون والتعريف على هذا الوضع يدخل فيه العته؛ لأن كليهما لا يكون معه تمييز بين الخير والشرء ولا معرفة الغائب من الشاهد» أى تقدير نتائج الأمور فى مستقبلها بما يراه من نتائج أمثالها الواقعة» فيقيس بذلك ما هو مغيب فى المستقبل على ما هو حاضر مشاهد بين يديه» فيعرف أن من يقتل يقتل ؛ لأنه يرى أن الذين اعتدوا على غيرهم قد قتلواء ويعرف أن من يسرق تقطع يداه أو يحبسء لأنه يرى أن الذين سرقوا قطعت أيديهم» أو حبسواء وهكذا. . ولا يكتفى البخارى ببيان حقيقة العقل» » بل يقسم الجنون إلى ثلاثة أقسام: جنون جاء مع الخلق والتكوين» ويقول فيه: إنه نقصان جبل عليه دماغه» وطبع عليه فى أصل الخلقة» فلم يصلح لقبول ما أعد له وهذا النوع مما لا يرجى زواله» ولا منفعة ' فى الاشتغال بعلاجه» . والقسم الثانى من الأقسام الثلاثة التى ذكرها هو الجنون الذى يكون سببه زوال الاعتدال الحاصل للدماغ خلقة. بأن يعرض للعقل ذاته ما يجعله فى اضطراب مستمر» فيزول الاعتدال الذى كان يمكنه معه أن يقدر الأمورء يقول فى هذا القسم: (إنه عارض أوجب زوال الاعتداء الحاصل للدماغ خلقة» وهذا النوع مما يعالج بما خلق الله تعالى من الأدويةء وفى النوعين تيقن بزوال العقل لفساد أصلى أو عارض فى محله» كما يتيقن بزوال القوة الباصرة عن العين العمياء لفساد فيها بأصل الخلقة أو لعارض أمر أصابها» . والقسم الشالث من أقسام الشيخ البخارى رضى الله عنه هو ما عبر عنه بقوله: «إنه استيلاء الشيطان عليههء فيخيله الخياللات الفاسدة. يفزعه فى جميع أوقاته» فيطير رضنا قلبه» ولا يجتمع ذهنه مع سلامة فى محل العقل خلقة» وبقائه على الاعتدال» ويسمى هذا النوع ممسوساء لخبط الشيطان إياه» وموسوسا لإلقائه الوسوسة فى قلبه)(21 . وإن هذا القسم الأخير قد يكون موضع غرابة عند العلماء الماديين الذين يكادون يتكرون الروح» سواء أكانت طيبة أم كانت شريرة» وقد سحر الناس أمدا طويلا بأقوال أولئك الماديين» ولكن ظهر فى العلم الحديث» وفى أوساط المادية من يثبت الأرواح» ويقوم بتحضيرهاء ويثبت أن ثمة أرواحا شريرة» وأرواحا طيبة» وأن بعض الأرواح قد يمس الشخص فيكون العلاج روحانيا بإزالة هذا المسء» وإن علاج هذا بما يشبه التعاويذ والرقى» وقد قرر البخارى أن ذلك هو العلاج. ٠‏ وإن البخارى يقرر أن ذلك الشخص سليم العقل» إذ إن الجوهر سليم ولكن الاضطراب يسبب المس فى أحوال دون أحوال» وكثير من هؤلاء المصابين ينالون .درجات علمية» وهو بهذه الحال مما يدل على أن جوهر التفكير سليم» ولكن آفة أصابت المشاعر» فأوجدت الاضطراب. ْ 7- وفى الواقع أن الآفات العقلية متعددة» وكل واحدة لها أثر فى التفكير وتقدير الأمورء فمنها ما يجاوز أثره أن يجعل الشخص يغلب غضبه» وإذا غضب يكون فى هياج شديدء ثم لا يلبث أن يهدأء ويعود إلى سيرته الأولى» ولكنه يكون على استعداد لأن يستفز بغير ما يوجب الاستفزاز» ويضطرب فى حال غضبه اضطرابا لا يقدر معه الأأمورء ولا يعد هذا جنونا. وقد تكون هذه الحال نتيجة لمرض جسمى أثر فى الأعصاب» وقد يكون نتيجة وراثة» كما قد يكون نتيجة لعارض من عوارض الحياة كخيانة زوجية» أو فساد أولاد أو نحو ذلك من شتئون الحياة» وإن هذا وأشباهه لا يمكن أن يعدوا فى صفوف المجانين ولا تخفف عنهم تبعات الأعمال التى يرتكبونها» لأنهم يستطيعون أن يضبطوا أنفسهم ويعملوا على عدم الانسياق وراء الغضبءولآن هؤلاء إذا تركوا من غير عقاب استرسلواء وإحساسهم بأنهم إن اعتدوا عوقبوًا يعملون على ضبط أنفسهم» فالعقاب إعانة لأشباه الجانى على أن يعالج نفسه» ويمنع استرسالها فى انفعالاتهاء ولأنه إذا فتح ذلك الباب كانت الفوضى» إذ كل مجرم لا يمكن أن يكون فى حال عادية وقت ارتكابه» إذ لو كان كذلك ما عوقب جان» ولا كان الانزجار العام» إنه لا حد يفصل بين الغضب الجامح الذى ينقص التبعة» وغير الجامح الذى لا ينقصها. 7 5- إننا إذا تتبعنا أحوال الناس نجد الأعراض التى تصيب الناس فتفقدهم التقدير الكامل تتدرج من غضب أو إصابة النفس بحال سوداوية تجعلهم يمقتود . 11785 ٠ راجع هذا التحقيق فى حاشية فخر الإسلام» القسم الرابع ص1185‎ )١( هف الناس» ثم تتدرج هذه الصورة فى المجتمعء حتى تصل فى بعض الأشخاص إلى فقد التقدير لخلل أصاب القوى العقلية» أو ستر للعقلء ومنع للتفكير السليم فى عامة الأحوال. فإذا وصل شخص إلى هذه فإنه بهذا يعد مجنونا أو معتوهاء وتخفف عنه تبعات الأعمال. وإن الشخص الذى يصل إلى هذا الحد قد يكون جنونه مطبقاء وقل يكون غير مطبق» فإذا استمر جنونه شهرا فإنه يكون جنونا مطبقاء وإذا استمر أقل من شهر فإن أحواله» ولو كان فى وقت قد استيقظ فيه لأنه فى حال إفاقته لا تكون إفاقته كاملة يتحمل معها المسئولية. حتى يثبت شفاؤه شفاء تاما. أما إذا كان الجنون غير مطبق فإنه فى حال إفاقته يكون مسئولا عن أفعاله فاقد الأهلية بشكل عام. +5 وإن الشريعة الإسلامية لا تشبت الحدود على المجنون ولا على المعتوف لذن شرط قيام الحدود بالاتفاق» إذ إن الحدود حفوق اللّه تعالى» وهى تكليفات شرعية» والمجنون ليس مكلفا هذه التكليفات الشرعية» وهو ليس أهلا للمطالب» وإن كانت له ذمة تتعلق بها الحقوق والواجبات فهى ذمة ماليةقء لأنه يثبت له الميراث وتصح له الوصايا والهبات إذا قبلها الولى المالى. ولكن مع ثبوت هذه الذمة لا يثبت عليه التكليف الشرعى بما هو حق من حقوق الله تعالىء إذ إن ذلك كالعبادات» والعبادات لا تصح إلا من عاقل. وفى حاشية الأصول لفخر الإسلام البزودى ما نصه: الإن صحة التكليف مبنية على العقل الذى هو آلة القدرة»20© . وعلى ذلك فإذا زنى المجنون أو قذف» أو شرب فلا شىء عليه وإذا سرق فإنه لا يقام عليه حد السرقةء وإذا كان المال الذى سرقه قائما أخذ منه» وإن كان غير قائم ضصمن فى ماله. 6 - هذا ما يتعلق بالحدودء أما ما يتعلق بالجنايات التى توجب القصاص أو الديات أيا كان مقدارهاء فإنه أيضا لا يقتص من ولكن يحول حكم الجريمة المقصودة إلى حكم جريمة الخطأ فتجب الديةق أى يجب القصاص معنى لا صورة. فجرائم المجنون فى حقوق العباد لا تذهب هدراء كجرائم الحدود. بل تكون فيها العقوبة المالية . . ١79.0 حاشية الشيخ البخارى على أصول فخر الإسلام جة ص‎ )١( يفن والسبب فى ذلك أن حقوق العباد لا تقبل السقوط بخلاف حقوق الله تعالى» فإنها فى أصلها تقبل السقوط فى حال العذرء كالصومء وكالحج» وغيرهما من العبادات» فإن الأعذار تؤثر فى وجوب أدائهاء ويقاربها فى معناها جرائم الحدود. وإذا كانت حقوق العباد لا تسقطها الأعذار» ولا سبيل لأن يؤاخذ المجنون فى أفعاله» فإنه جمعا للأمرين تجب العقوبة المالية دون العقوبة الأخرى» ولكيلا يذهب حق الناس» ولا نشتط فنحمل شخصا تبعة كاملة وهو ليس عنده أداة المسئولية وهى العقل . وفوق ذلك فإن الحقوق المالية التى تكون للمجنون تثبت» فيثبت له حق الإرث» ويثبت له حق النفقة على غيره» ويعتبر مالكا أمواله إذ إن له ذمة تثبت له الحقوق» وبمقتضى التنسيق المنطقى تكون عليه أيضا الواجبات المالية» فالواجبات المالية تثبت فى ماله» ولذا لو كان له قريب تجب عليه نفقته . وإذا كانت الواجبات المالية تثشبت فيهء فهو أهل إذن لتحمل المغارم المالية» وعلى ذلك تعرض فى ماله العقوبات على تفصيل وخلاف» لأن ذمته أهل لتحمل الواجبات» كما هى أهل لتحمل الحقوق. وأيضا فإن فعله يشبه الخطأء إذ إن الذى تقع منه جريمة خطأ قد فقد القصد إلى التتيجة لأن الفعل كان يتجه اتجاها آخرء فتحرف إلى هذا الاتجاه» أو كان القصد يتجه نحو شىء على وصف معين فيتبين أنه على خلافه. ويتقارب من هذا المعنى فعل المجنون إذ إنه يقصد إلى الأمور قصدا غير سليم» فأوهامه تصور له الأشخاص على أوصاف» وليسوا عليهاء فتكون جريمته كالعاقل الذى يقصد شخصا بالقتل يحسبه من الأعداءء فتبين له أنه من قومهء وهو معصوم الدم. ولذلك قالوا: إن المجنون عمده خطأ عند الأكثرين. 75- وتكون على ذلك عقوبته عقوبة الخطأ عند جمهور الفقهاءء. إذ إنهم لا يعتبرونه متعمذا لأن قصده باطل» فهو لا قصد له إلى الجريمة» وقد خالف فى ذلك الشافعية فى قول عندهم» وقد قال فى ذلك ابن قدامة: «عمد الصبى والمجنون خطأ تحمله العاقلة. وقال الشا-فعى فى أحد قوليه: لا تحملهء لأنه عمد يجوز تأديبهما عليه» فأشبه القتل من البالغ العاقل» ولنا أنه لا يتحقق منهما كمال القصد»ء فتحمله العاقلة» ولأنه قتل لا يوجب القصاص لأجل العذر فأشبه الخطأ)10؟ . . المغنى جلا ص77 طبع المنار الطبعة الثانية‎ )١( ضرضن ويلاحظ فى هذا أمران: أحدهما : أن الشافعى فى أحد قوليه لاحظ الناحية المادية» وهى وجود قصد فعلى وإن كان غير معتبرء وأن التأديب يجب أن يكون فى مالهء ولعله قاس الديات على إتلاف الأموال» فإنه إذا أتلف مالا وجب فى مالهء فلما تحولت أحكام الجريمة من قصاص إلى دية وجب أن تكون فى ماله. كما أنه إذا أتلف المال وجب فى ماله. الأمر الثانى : أن ثمرة الخلاف تظهر فى وجوب الدية على العاقلة» وهم عصبة الجانى أو وجوبها فى ماله» والشافعى أوجبها فى ماله على ذلك القول» والجمهور قد أوجبها على العاقلة كدية الخطأ. /41- ومع أن الجمهور قد قرروا أن عمد المجنون كالخطأ من حيث وجوب . الدية على العاقلة قد اختلفوا فيما بينهم فى وجوب الكفارة إذا كان المقتول مؤمناء فإن من المقررات الشرعية أنه إذا كان قتل المؤمن خطأ تجب الكفارة وهى عتق رقية مؤمنه» أو صوم ستين يوماء فهل تجب هذه الكفارة إذا كان القاتل مجنونا؟ . قال أبو حنيفة: «لا تجبء لأن هذه الكفارة عبادة. وهو غير مخاظب بالعبادات» وإنه ليرى أن أحد البدلين فيها لا يكون من المنطق تكليفه إياها وهو صوم شهرين متتابعين» فإنه ليس مخاطبا بأصل فريضة الصوم لرفع التكليف عنه. وإذا كان غير مخاطب قطعا بأصل الخطاب لأحد البدلين» فالمعقول آلا يخاطب بالآخر لأنهما متساويان» فسقوط أحدهما يقتضى سقوط الآخر لا محالة» . ويقول المغنى فى توجيه الحنابلة والشافعية وهو وجوب الكفارة: «ولنا أنها (أى الكفارة) حق مالى تتعلق بالقتل فتعلقت به كالدية وتفارق الصوم والصلاة» لأنهما عبادتان بدنيتان» وهذه مالية أشبهت نفقات الأقارب. ولكن يرد على هذا النظر ما قررناه من أن بعض هذه الكفارة عبادة بدنية محضة» وهو الصومء فهو بدل عتق الرقبة إن لم يملك رقبة فكيف يجب؟ قالوا: إنه لا يجب الصومء بل يجب المال الذى يعد فدية الصومء وهو إطعام ستين مسكينا» . وذلك كلام من الناحية الفقهية يحتاج إلى نظرء لأن البدل لا يجب إلا إذا وجب المبدل منه» والمبدل منه صوم» وهو لا يمكن أن يخاطب به مجنون حال جنونه. 4- هذه أحكام الدماء إذا كانت من المجنون» أما أحكام الجرائم الخاصة بالأموال فإنه يتحمل تبعاتها فى ماله بالاتفاق» إذ إنها وجبت من أول الأمر فى أمواله باتفاق الفقهاءء» فهى تجب بدلا عن غيرهاء ذلك بأن جناية المجنون فى الدماءء الأصل فيها القصاصء» ولكن لما تعذر القصاص لعدم توافر القصد الصحيح وجب العقاب فى المالء فهو قد وجب بدلا عن غيرهء وهذه البدلية تثبت مقترنة بتخلف القصد فتكون فسن كالخطأ تجب على العاقلة عند الجمهورهء أما هذه فلأن له ذمة تتحمل الواجبات المالية» فإن المال يجب فى ذمته عوضا لما أتلف من الابتداء. الجنون العارض : 48- وهنا يرد سؤالان بالنسبة للحدود ولجرائم الدماء؟ وهما: إذا ارتكب وهو مجنون ثم رشد بعد ارتكابه؟ وإذا ارتكب وهو عاقل ثم جن بعد ارتكابه» وقبل استيقاء القصاص منه؟ . أما الإجابة عن السؤال الأول» فهو أنه يقع عليه العقاب المالى بالنسبة لجرائم الدماء» ولا يقع عليه عقاب بالنسبة للحدود إلا فى ضمان المال المسروق فى السرقة» ٠:‏ وذلك لأنه عند الارتكاب لم يتحقق معنى الجريمة الموجب للقصاص فى حقوق العباد ولا الموجب للحدود فى حقوق الله تعالى» إذ إنه كان يفقد القصد الصحيح فى النوع الأول من الجرائمء ويفقد التكليف الشرعى الذى هو الأصل فى المخاطبة بحقوق الله . - أما الإجابة عن السؤال الثانى» فهو أن الجنون لا يمنع العقاب مادامت الأدلة قائمة ثابتة» سواء أكان الجنون العارض قبل الحكم أم كان بعد الحكمء وهذا عند الشافعى وأحمدء وذلك لأن الأساس فى العقاب عند الحنابلة والشافعية هو استيفاء شرط التكليف وقيام القصد الصحيح وقت الفعل لا وقت الحكم ولا وقت التنفيذل» إذ إن العبرة بتحقق سبب العقاب» والقصد الصحيح المنتج للعقاب الكامل ثابت وقت الارتكاب». وهو السبب فى عقوبة القصاص وفى إقامة الحدود»ء وإذا تحقق السبب وزال المانع»ء فإن العوارض لا تبطله» وكما أن جنون الشهود لا يبطل الشهادةء فكذلك جنون المجرم لا يزيل أثر إجرامه . وذلك كله عام فيشمل ما إذا كان الإثبات بالبينة» وما إذا كان طريق. ثبوت الجريمة هو الإقرارء مادام الإقرار قد صدر مستوفيا شروطه الشرعية, فإن الثابت لا يزول بعارض من العوارض» وأشباه ذلك كثيرة فى الأحكام الفقهية» فلو علق الطلاق وهو كامل العقل» ولم يقع المعلق عليه إلا وهو مجنون. وقع الطلاق. ولو فوض امرأته بالطلاق وهو عاقل» فلم توقع الطلاق إلا وهو مجئون يقع. هذا نظر الشافعى وأحمدء أما الحنفية ففى الحدود على مقتضى مذهبهم لا يقام الحد بالجنون العارضء لأن إقامة الحد من باب التكليف الواقع عليهم» وهم ليسوا ممخاطبين وقفت التقاضى» أو وقت التنفيذ» والشروط التى تتعلق بالتكليف تتعلق بالابتداء والبقاء» فإذا كان التكليف شرطا لاستحقاق العقاب وقت الارتكاب فهو شرط يجب استمراره إلى وقت إنزال العقاب؛ إذ خروجه عن التكليف فى أى وقت من هذه الأوقات يؤدى إلى عدم أهليته للعقاب فيسقط». وإنه من المقرر فى المذهب الحنفى أن ارفرننا الشهود إذا خرجوا عن أهلية الشهادة بعد أدائهاء وقبل التنفيذ لا يقام الحدء لأن هذه الشبهة تسقط الحدء فأولى إذا خرج من يجب عليه الحد عن التكليف ألا ينفذ عليه. هذا ما يقرره الحنفية إذا كانت الجريمة توجب حداء أما إذا كانت الجريمة توجب قصاصاء قبل الحكمء أو بعد الحكم وقبل تسليمه لأولياء الدم لينفذوا الحكم فيه بإشراف القاضى - فإن الحكم بمقتضى الاستحسان ينقلب دية بدل القصاص» وكأن القياس كان يوجب أن يقتص منه لاستيفاء شرط القصاص» فى حقوق العباد. والاستحسان هو ما ذكرء وأساس الاستحسان» أنه يجب أن يكون الجانى وقت التقاضى وبعذه مكلفا تكليفا كاملا. حتى يستوفى العقاب من بدنه» ولما كان يمكن الاستيفاء من ماله كان ذلك جمعا بين حقوق العباد وما يجب أن يكون عليه الشخص من تكليف وقت قيام العقوية البدنية؛ إذ العقوية البدنية كالعبادة الدينية شرطها التكليف. هذا مذهب أبى حنيفة رضى الله عنه» أما مذهب مالك. فيقرر: أن المحاكمة لا تستمر إذا عرض الجئنون بعد الارتكاب» وقبل الحكم حتى يفيق . وأن التنفيذ لا يتم حتى يفيق. فأساس التقاضى والتنفيذ العقل عندهء فإذا كان اليأس من إفاقته إذا كانت العقوبة حدا سقطت العقوبة» وإن كانت العقوبة قصاصا انقلب إلى دية إذا كان الجنون قبل الحكم. وإن عرض الجنون بعد الحكم» ففى المذهب المالكى رأيان: أحدهما : أن ينقلب القصاص إلى دية قياسا على حال الجنون الميئوس من شفاته قبل الحكم. والثانى : أن يسلم إلى أولياء الدم لينفذوا الحكم تحت إشراف القضاء ونرى أن هذا المذهب يتقارب مع المذهب الحنفى فى هذه المسألة» والخلاف بين المذهبين فى جزئيات تفصيلية» لا فى أصل المبدأء إذ أساس المبدأ فى المذهبين أن لا تقاضى ولا تنفيذ» والجنون قائم إلا فى بعض الجزئيات» وهذا غير المبدأ الذى قام عليه المذهب الشافعى والحنبلى» إذ أجاز الاستمرار فى التقاضئ والتنفيذ مع الجنون العارض . -0١‏ هذا وإن العقوبات التعزيرية كلها شرطها العقل. فلا تعزير يقع على المجنون» كما قرر الكاسانى فى البدائع» وذلك أن التعزير تأديب وتهذيب» وزجر عام وهذا لا يتحقق مع المجنون» فيكون تعزيره إيذاء لا جدوى فيه. ولا يتفق مع الإنسانية وهو مريض يعالج بالرفق» ولا يعالج بالعنف» والله سبحانه وتعالى ولى التوفيق . كرون 5- هذه أحكام جرائم المجنون بمقتضى الفقه الإسلامى.ء ولننظر: أ هذا الفقه مع الفقه الحديث أم يجانبه: ولبيان هذا نقرر ا إحداهما : أن أن يتحمل المسئول عن المجنون نتيجة أخطائه على أنها مسئولية مدنية» فلا يؤخذ التعويض المالى من مال المجنونء بل يؤخذ من مال القائم على شئونه ؛ لآن المجنون لا يعد مسئولا عن شىء» وقد فقد الإرادة التى تتحمل تبعات الأفعال» فلا يؤاخذ بشىء مما يفعل» وإنما على القوام عليه أن يقى الناس من سوء فعله. أو يودعه إحدى المصاحء أو مكانا يحبجز فيه لك لا يقع منه أذى. فإذا قصر فى ذلك.» ولم يفعل وكان يستطيع» فإن ثمة مسئولية تقصيرية تلقى عليه نتائجها مدنيا لا جنائياء إلا إذا كان ثمة تحريض» فإن عقوبة المسئول عنه تكون على التحريض لا على أنه مسئول بالأصالة عن فعل المجنون الذى كان يمكنه أن يمنعه» ولم يعمل على منعه. وإن هذا المبدأ يتفق مع القواعد العامة للمسئولية المدنية فى القانون المصرى, وقد قال الدكتور على راشد: (لا يمنع الجنون أوالعاهة العقلية من إمكان قيام المسئولية المدنية عن الأضرار الناشئة عن العمل الإجرامى فى مواجهة الشخص المسكول عن المتهم المصاب بالجنون» أى المكلف برعايته» وذلك تطبيقا للميادئ العامة فى المسئولية المدنية عن فعل الغير)(" . والنظرية الثانية: أن المجنون هو المسئول مدنيا عما يترتب على أفعاله من أضرار فتؤخذ من ماله إذا كان له أموال» وبهذا آخذ القانون الألمانى والقانون السويسرى» بل إن هذين القانونين يسوغان مسئولية المجنون جنائيا ومدنيا إذا كان لإرادته دخل فى جنونه» كأن يكون الجنون نتيجة تناول المسكرات والمواد المخدرة. وإن هذه النظرية تقارب نظرية الشريعة فى الجملة» وقد أخذ القانون المدنى المصرى بأخذ التعويض عن الأضرار الناشئة عن عمل المجنون من مال المجنون نفسهء إذا لم يكن له ولى مسئول عنه يحافظ عليهء فقد أجازت المادة ١74‏ من القانون المدنى الجديد «للقاضى أن يحكم بتعويض عن الأضرار فى مال المجنون إذا لم يوجد شخص مسئول عنه» أو وجدء ولكن تعذر الحصول منه على تعويض». وبهذا نجد القانون المصرى قد أخذ بالنظرية الأولى. وأضاف إليها شطرا من النظرية الثانية لكيلا يضيع مال هدراء فهو يعتبر الولى هو المسئول الأول» وإن لم يستوف الحق منه أخذ من مال المجنون نفسه. وبذلك قد قبض فى هذا المقام قبضة من الشريعة. 7 غ- وإن الحكم بالدية أو ضمان المتلفات فى مال المجنون لا يمنع ولى الأمر من أن يعمل على حجزه ه فى أماكن بعيدة عن أن ينال الناس بالأذى» فإنه لا يؤمن بقاؤه . 527١ص موجز القانون الجنائى‎ )١( ايفن بين الناس» وذلك من الحسبة الإسلامية» وقد كانت البيمارستانات قائمة فى ربوع الديار الإاسلامية لمعالجة الأمراض بكافة أنواعهاء وإن هذا احتياط أوجبه القانون المصرى فى المادة 7”557. ونصها: «إذا صدر أمر بأن لا وجه لإقامة الدعوى» أو حكم ببراءة المتهم» وكان ذلك بسبب آفة فى عقله تأمر الجهة التى أصدرت الأمر أو الحكمء إذا كانت الواقعة جناية أو جنحة عقوبتها الحبس - تأمر بحجز المتهم فى أحد المحال المعدة للأمراض العقلية إلى أن تأمر الجهات المختصة بإخلاء سبيله» . الصضر 14- للصغر دوران: أولهما دور يكون فيه فاقد التمييزء ويسمى الطفل فى هذه الحال صبيا غير مميزء والدور الثانى إذ يبلغ حدا يميز بين الضرر والنفع» ويكون فى هذا الحال صبيا مميزاء» وحد التمييز يعرف بمقدار قوة العقل والإدراك» وقد قال الفقهاء فى تعريف الصبى المميز: هو أن يعرف مقتضيات العقود بالإجمال ليعرف أن البيع يقتضى خروج المبيع من ملك البائع إلى ملك المشترى» وأن الشراء يقتضى دخول المبيع فى ملك المشترى فى نظير مال يدفعه » ولذلك يقول الفقهاء: إن من أمارات التمييز أن يعرف أن البيع سالب» وأن الشراء موجب» بمعنى أن الشراء يدخل فى ملكه شيئاء وأن البيع يخرج من ملكه شيئاء وهكذا. ولكن جعل الفقهاء للعميز حدا أدنى لا يتصور تسبيزه عادة قبله: وهو سبع سنين» فلا يتصور تمييز قبل سبع سنين» ولكن إن تجاوز السنين السبع فقد يكون التمييز » فلا يبلغ حده إلا بعد مدة أخرى. ولذلك نقرر أن التقدير بسبع سنين هو تقدير للحد الأدنى» ويتصور أن الصبى يبلغها ولا ينال حظا من التمييز» فيستمر فى حقيقته وفى الشرع صبيا غير مميزء حتى يدرك الأمورء ويفهم البدهيات التى تعد علم النفس الأساسى . 06- وإذا بلغ الصبى حال التمييز انتقل إلى الدور الثانى» وهوالصبى المميز ويستمر فى هذا الحال إلى أن يبلغ والبلوغ فى تقدير الفقهاء هو البلوغ الطبيعى الذى يكون بمظاهر الرجولة أو الأنوثة» وهى أول ما تبدو فى أعضاء التناسل» لأن بها يبتدئ فيدخل فى دور الرجولة أو الأنوثة. ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى ظهور ما يدل على التناسل علامة ترك الصبا. حيث يقول سبحانه وتعالى: 9 وابتلوا اْينَامَئ حت إِذَا بلَغُوا التكاح فَإن آنستم منهم رشدا فَاذقعُوا إِليهم أموالهم 204 . دلق النساء : 5 كرون فأول تقديرللبلوغ هو البلوغ الطبعى بالنسبة للفتى والفتاة معاء فبلوغ الفتى حد الرجولة الأدنى بذلك» وبلوغ الأنثى ذلك الحد أيضاء لأنها تخرج به من مرتبة الصبية إلى مرتبة المرأة المكتملة كل أجزاء الجسم» واكتمال الجسم دليل على بلوغ العقل حد تحمل التبعات فى الأقوال والأفعالء» وإن كان قابلا للنمو من بعد ذلك. كما يقبل وإن لم تظهر الأمارات التى تدل على مجاوزة حد الصباء فإنه يكون البلوغ بالسن» وهو خمس عشرة سنة عند جمهور الفقهاء. سواء أكان الطفل فتى أم كان فتاة فإنه ببلوغ الخامسة عشرة يكون الشخص قد بلغ حد البلوغ الطبعى» إذ إن أقصى مظاهر البلوغ العلبعى هو هلم السن فى نظر جمهور الفقهاء . تكون ببلوغ القن ثمائى عشرة سنة» وبلوغ الفناة سبع عشرة سئة. وعلى هذا يكون من لم يبلغ هذه السن» ولم تظهر عليه الأمارات الطبعية فى 35 الصباء ويكون ناقص أهلية الأداء بالنسية للمعاملاات المالية» وغير مسئول جنائيا ام- والقوانين المصرية اعتبرته ناقص ١‏ الآداء بالنسبة للمعاملاات المالية. حتى يبلغ الحادية والعشرين» وذلك لتعقد الحياة المادية» وتنوع الأسباب الاقتصادية. وضعف سلطان الأسرة. وإن ذلك لا يبتعد كثيرا عن النص القرآنى الكريم لأن النص اخراقى الى الوا من لل 0 بل اتسترمر قانونا ونظاما يشمل كل الأحوال: ولا يشذ عنه إلا النادرء فيدر هن تكو عنذه القدرة الكاملة على إدارة أمواله التى تحتاج إلى إدارة قبل الحادية والعشرين» ويندر من يحتاج إلى مدة أطول من ذلك . أما بالنسبة لتحمل التبعات الجنائية» واعتباره مسئولا عن جرائمة ككل العقلاءع» فإنه اكتفى ببلوغه خمس عشرة سنة» فإن هذه السن كافية لإدراك العمل الذى يليق بالمجتمع » والعمل الذى لا يليق» والعمل المؤذى المفسد» والعمل غير المؤذى وغير المفسد. وإن العبرة بهذا السن وقت الارتكاب» ولكن لا يحكم بعقوبة الأشغال الشاقة أو الإعدام إلا على من كان قد بلغ السابعة عشرة وقت الارتكابس. > : النساء‎ )١( يف ا - وأحكام الصغير بالنسبة للجرائم تتشابه مع أحكام المجنون ولا يفترق عنه الصبى المميز فى شىء» لأنه فاقد التمييز مثله» لذلك كان حكمهما واحداء وكذلك الصبى المميز حكمه كحكم المجنون» ولا يفترق عنه إلا فيما يتعلق بالتعزير. وفى الجملة فإن حكم المجنون والصغير واحد لفقد الإدراك أو لنقصان العقل» وقد قال فى ذلك الشيخ البخارى» والصغر فى أول أحواله مثل الجنون» فيسقط عنه ما يسقط عن المجئون لأنه عديم التمييز والعقل» كالمجنون, والتمييز معنى يعم جميع الحيوانات» به تعرف ما تحتاج إليه من المنافع والمضار التى يتعلق بها بقاؤهاء ركبه الله فى طباعها. والعقل يختص بالإنسان» وبه يدرك عواقب الأمور وحقائق الأشياء» وقد عدم الصغير كليهما فى أول أحواله» فكان مثله مثل المجنون» بل أدنى حالا منه؛ لأنه قد يكون للمجنون تمييزء وإن لم يكن له عقل»: وهو عدم الأمرين» أما إذا عقل». أى ترك الصبا من أولى درجات الصغر إلى أوساطها وظهر فيه شىء من آثار العقل؛ فقد أصاب ضربا من أهلية الأداءء فكان ينبغى أن يثبت فى حقه وجوب الأداء بحسب ذلكء» ولكن الصبا عذر مع أنه قد أصاب ضربا من الأهلية» لبقاء الصباء وعدم بلوغ العقل غاية الاعتداء» فسقط بهذا العذر مالا يحتمل السقوط عن البالغ من حقوق الله تعالى لكن لا يسقط ما يحتمل السقوط27؟ . ويقول رضى الله عنه : «إن الصبا من أسباب المرحمة طبعاء فإن كل طبع سليم يميل إلى الترحم على الصغار» وشرعا لقوله كلد «من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا فليس منا»ء فجعل الصغر سببا للعفو عن كل عهدة تحتمل العفوء أى جعل سببا لإسقاط كل تبعة وضمان يحتمل السقوط عن البالغ بوجه.. واحترز عن حقوق العباد» فإنها حقوق محترمة تجب لمصالح المستحق وتعلق حقه بهاء فلا يمتنع وجوبها بسبب الصباء كما لا يمتنع فى حق البالغ بعذر.. ويكون الصبا سببا للعفو عن كل عهدة تحتمل العفو. فلا يحرم الصبى من الميراث بسبب القتل حتى لو قتل مورثه عمدا أو خطأ يستحق ميراثه» لأن موجب القتل يحتمل السقوط بالعفوء بأعذار كثيرة» فيسقط بعذر الصباء ويجعل كأن المورث مات حتف أنفه. ولأن الحرمان يثبت بطريق العقوبة» وفعل الصبى لا يصلح سببا للعقوبة لقصور معنى الجناية فى فعلهء بخلاف الدية فإنها تجب لعصمة المحل وهو أهل لوجوبه عليه إذ الصبا لا ينفى عصمة المحل»” . - هذا كلام واضح فى أن الصغير مميزا أو غير مميز يعطى حكم المجنون فى الحقوق التى تترتب على أفعال الأذى التى تصدر عنهء حتى إنه لا يحرم من الميراث إذا قتل مورثه عامدا أو غير عامد. لأن الحرمان عقوبة» وأفعاله لا تصلح محلا )١(‏ حاشية فخر الإسلام ج؛ ص1795. (؟) الكتاب المذكور ص17 كرفا للعقاب. ولأن القتل المانع من الميراث هو القتل الذى يترتب عليه عقاب عند فقهاء الحنفية» وقتل المجنون والصبى لا يوجب كفارة عندهم» فلا يمنع من الميراث عندهم. وقد خالف فى ذلك الحنابلة والشافعية على ما هو مبين فى موضعه. 8- ويلاحظ أن الصبى المميز يجوز تعزيره بما يناسبه» بخلاف المجنون والصبى غير المميزء فقد جاء فى البدائع ما نصه: «وأما شروط وجوب التعزير فالعقل فقط. فيعزر كل عاقل ارتكب جناية ليس لها حد مقدور»سواء أكان حرا أم كان عبدا ذكرا كان أم أنثى مسلما أو كافرا بالغا أو صبيا بعد أن يكون عاقلاء لأن هؤلاء ليسوا من أهل العقوبة إلا الصبى العاقل» فإنه يعزر تأديبا لا عقوبة». وإن هذا النص يستفاد منه أن الصبى المميز يؤدب تعزيرا ولا يعد ذلك من قبيل العقاب» بل يعد من قبيل التهذيب والصيانة» والتوجيه نحو الخيرء بتعويده اجتناب الأذى وعوده أخحضر. -٠‏ وإن هذا الاتجاه يتقارب من اتجاه القانون المصرى بشأن الصغار فى آخر أدواره» فإن قانون التشرد الذى صدر فى سنة ١1108‏ والذى عدل بالقانون رقم ١54‏ لسنة ١959‏ يتجه إلى حماية اللأحداث» وحياطتهم من كثير من الشرور الاجتماعية التى يتعرضون لها7١'‏ . وإن قانون حماية الأحداث بهذا الاتجاه التهذيبى لم يتقيد بحد أدنى للسنء» فلا فرق فيه بين سن السابعة وما فوقها وما قبلهاء فلم ينص القانون على حد أدنى» وهو وضع مقصودء حتى لا يتقيد تطبيق القانون ببلوغ الصغير سبع سنوات كما هو الشأن فى المسئولية عن الجرائم» لأن المجال ليس مجال مسئولية عن جرائم يرتكبها الصغير» فإن حالات التشرد المنصوص عليها فى القانون لا تعد من قبيل الجرائم» ولا تعد التدابير المقررة به عقوبات» وإنما طرق تهذيبية للحدث لا تتصل بالمسكولية الجنائية بأية صلة”" . -0١‏ ونرى من هذا أن قانون التشرد يتجه إلى تهذيب المتشردين بشكل عام ولا يتجه إلى عقابهم» ولذا لا يفرق بين سن وسن مادامت حال التشرد قد ثبتت» وهى التى يفقد فيها الحدث رعاية الأسرة وقوامها عليه لتجنبه الزلل» وتهديه وترشده فلا فرق فيها بين مميز وغير مميز. ولكن مع ذلك اعتبر القانون للصغار جرائم» وذلك إن كانوا مميزين» وإن لم يبلغوا الخامسة عشرة» وقد تطورت القوانين فى ذلك , فقانون سنة ١8417‏ جعل للإنسان ثلاث مراحل: . 5١9ص الأحكام العامة فى قانون العقوبات ص8- 65 . (؟) الكتاب المذكور‎ )١( اخوون الأولى : تبدأ من الميلاد إلى ما دون السابعة» وفيها لا يسأل الصغير جنائيا فلا تقام الدعوى عليه» وجاء ذلك فى المادة 554 . والثانية : من السابعة إلى الخامسة عشرة» وفيها يختلف الحكم تبعا لما إذا كان الصغير مميزاء أو غير مميزء فإذا ثبت للقاضى أن الصغير الذى يكون فى هذه الفترة قد فعل ما فعل بغير تمييز» فإنه لا يحكم عليه بعقوبة مطلقاء بل يحكم بتسليمه إلى أهلهء أو لمن يقبل أن يتكفل به من ذوى الشرف والاعتبارء أما إذا ثبت أنه ارتكب الفعل بتمييز فتوقع عليه العقوبة التأديبية مع تخفيفها وجوبا فى الجنايات إلى عقوبة الحبس على اختلاف قدرها تبعا للعقوبة المقررة فى القانون للجريمة التى وقعت». وفى الجنح إلى قدر دون ما يحكم به على من يكون بالغاء أما المرحلة الثالئة فهى مرحلة الرشد الكامل» وتبدأً ببلوغ الخامسة عشرة» فيسأل الجانى عن كل ما يرتكب من جرائم مسئولية كاملة. تلك هى أحكام قانون العقوبات الصادر فى سنة »١4057‏ والقانون رقم 717 لسنة /7 - وقد حدثت تطورات فيه آخرها القانون رقم ١60١‏ لسنة ١96٠‏ متضمنا إنشاء محاكم خاصة بالأحداث». وقد ميزهم بأحكام خاصة فى الإجراءات» وبذلك صارت لهم أحكام خاصة. وقد قسم الصغار إلى أربع مراحل: أولها من الميلاد إلى السابعة» والثانية من السابعة إلى الثانية عشرة» والثالثة من الثانية عشرة إلى الخامسة عشرة» والرابعة من الخامسة عشرة إلى السابعة عشرة. والمرحلة الأولى لا مسئولية فيهاء والثانية تكون عقوبته تهذيبية تأديبية» وليست عقوبة بالمعنى الدقيق» وفى المرحلة الثالشة يعاقب الصغير» ولكن تكون عقوبته أخف من عقوبة البالغ العاقل» ومع ذلك يجوز للقاضى أن يستبدل بالعقوبة وسائل أخرى تقويمية» وأما المرحلة الأأخيرة»وهى التى تكون فى الخامسة عشرة إلى السابعة عشرة» فإن المسئولية تكون كاملة» ولكن لا يحكم عليه بالإعدامء ولا الأشغال الشاقة المؤقتة أو المؤبدة10؟, ٠‏ 7- هذه خلاصة موجزة أشد الإيجاز لأحكام القانون الجنائى المسصرى» ولنترك الحكم فيما بين الخامسة عشرة والسابعة عشرة» فهو حكم لا يتلاقى مع مذهب من الذاهب الفقهية» لأنه اعتبر المسئولية كاملة» ولكن منع عقوبة القصاص فى النفس» وبذلك اعترف بالمسئولية الكاملة» ولم يرتب عليها كل نتائجهاء ولو كان قد أغفل المسئولية الجنائية كاملة إلى السابعة عشرة لكان فى ذلك مقاريا من مذهب أبى حنيفة رضى الله عنه الذى خالفه فيه الصاحبان وجمهور الفقهاء. . الكتاب المذكور ص 450 » وما بعدها‎ )١( بختنا أما فيما عدا هذه من المراحل» فإنه يتفق مع الفقه فى إعفاء الطفل الذى لم يبلغ السابعة من أى مسئولية جنائية» بيد أن الشريعة لم تعفه من المغارم المالية على ما أشرناء وفيما بعد السابعة إلى الثانية عشرة يتفق تماما مع الشريعة من حيث إن الجزاء على ما يرتكبه يكون تهذيبياء فإن ذلك ما صرح به الفقهاء» من أن التعزير الذى ينزل بالصغير المميز يكون للتأديب» لا للعقاب. أما فى الفترة بين الثانية عشرة والخامسة عشرة» فإن القانون يلقى تبعة على الصغير» ويجعله مسئولا مستحقا للعقاب». ولكن عقابه دون عقاب الكبيرء وإنه فى هذا يبدو بعيدا عن الشريعة» ولكنه قد يكون قريبا منهاء ذلك لأن سن الثانية عشرة هى سن المراهقة» وهى السن التى يكون فيها أحيانا البلوغ الطبيعى بنمو أعضاء التناسل فى الأنثى والذكرء والشريعة تعتبر هذه المظاهر هى أمارات البلوغ ابتداء» وبذلك لا تتباعد الشريعة كثيراء وفوق ذلك قد أعطى القاضى حق جعل الجزاء تقويمياء ولا يمنع من ذلك فى هذه السن. ولذا يصح لنا أن نقول إن كل ما فى القانون فى فترات ما قبل البلوغ من قبل تنظيم التعزيرء وبذلك لا يكون مخالفا للشريعة. 587- بقى أن ننظر: هل تقر الشريعة أحكام قانون التشرد للأحداث الذى لا يتقيد بسن خاص؟ ونقول فى الجواب عن ذلك: إن هؤلاء الأطفال المشردين من الصغر سواء أكانوا مميزين أم كانوا غير مميزين إذا نظرنا إليهم نظرة فاحصة نجدهم أطفالا ليس لهم أولياء على النفس يقومون بصيانتهم وتهذيبهم وتربيتهم» أو لهم أولياء تخلوا عن واجبهم» فكانوا بحكم الشرع فى حكم المعزولين عن هذه الولاية» وبذلك تكون الولاية عليهم لولى الأمرء لأن القاعدة الفقهية: أن السلطان ولى من لا ولى لهء فإذا كانت الدولة قد تولت تنظيم أحوال الأطفال المشردين» فقد تولت أمرا هو لهاء وهو من قبيل تنظيم ولايتها. الغلط والخطأ والجهل 4- قلنا إنه لابد لكى يتحقق ركن الجريمة كاملاء أن يقصد الجانى إلى الفعل الذى يترتب عليه الأذى قصدا صحيحا كاملا لا يفسده إكراهء وإلى النتائج قصدا صحيحا كاملاء فيضرب بالسيف ليقتل» لا ليهددء ويصوب السهم لينفذ إلى القلب» لا ليتمرن على الضرب» أو يخيف المضروب» فإن تحقق هذا النوع من الفعل فقد تكاملت الجريمة» وينقص منها بمقدار النقص من القاصد. ولا عبرة فى تقدير الجريمة من الناحية الدنيوية إلى الباعث عليها ما دامت هى فى ذاتها غير عادلة» وما دام الشارع قد قرر أصل الإثم فيها. فالعبرة فى الجريمة الكاملة التى تستوجب العقوبة كاملة أن تكون معصية وإثما قد نهى عنه الشارع» وأن يكون القصد إلى الفعل ونتائجه ثابتا ثبوتا كاملا . وقد نوهنا فى كلامنا إلى أن الباعث عند جمهور الفقهاء ليس له دخل فى تقدير العقابء. فلا فرق فى جريمة القتل بين قتل للاغتصاب أو الاستلاب» وقتل القذف والطعن» فإن ذلك كله قتل» وعقوبة القتل المتعبمد العدوان هى القود بإجماع الفقهاء. ما دام الفعل قد وصف بأنه معصية» فإذا كان الباعث يخرج الفعل عن كونه معصية كمن قتل رجلا وجده مع امرأته أو رآه يزنى بإحدى محارمه» أو قتل إحدى محارمه التى ثبت زناهاء فإن الفعل فى هذه الحال يخرج عن معنى المعصية» فلا تكون ثمة جريمة» ولا يكون ثمة عقاب. وقد بينا فى الماضى القصد إلى الفعل والقصد إلى نتائجه. وذكرنا ذلك خاصة فى القصد إلى القتل العمد وشبه العمد. والتسبب والخطأ. 5- ولابد أن نشير هنا إلى تقسيم القصد إلى معين وغير معين» لأنه لابد لبيان معنى الغعلط من ذلك,» فنقول إن القصد إلى الفعل مع نتائجه قد يكون معينا فى غايته وفى موضوعه. فيكون معينا فى غايته إذا قصد بالفعل الوصول إلى النتيسجة المعلومة» فيقصد بالفعل قطع اليدء أو فقء العين» أو إزهاق الروح» وذلك النوع من القصد يعرف بالآلة» ويعرف بما يحيط بالفعل من قرائن» كمن يلقى على جماعة مادة متفجرة فى مكان محدود فإنه بلا شك يفرض أنه قصد قتلهمء ولم يقصد تفريقهم . ويكون الفعل معينا فى موضوعه إذا عين شخصا معينا بالأذى» وقصد إليه كاملاء بأن قصد الفعل وقصد نتائجه. ويكون القصد غير معين إذا قصد الفعل., ولم يقصد شخصا معيناء بل قصد الجريمة؛ وليس لها موضوع معين» ويفرض ذلك فى صور كثيرة كمن يحفر فى الطريق العام بئرا يقصد بحفرها سقوط من يمر فيهاء ويكون القصد معينا بتوافر القصد إلى النتيجة غير معين بالنسبة لموضوعه لأنه لم يقصد أى شخص معين. 7- وإذا توافر القصد إلى معين ثم تخلف القصد بأن قصد إلى قتل معصوم الدم فغلط وقتل غيره» يكون قد وقع فى الإثم بلا شك» وارتكب عملا إجرامياء لأن الاعتداء على النفس الإنسانية واحدء لا فرق بين نفس ونفس» وشخص وشخص» وكذلك إذا قصد أن يقطع يد شخص معين فحصل غلطء وقطع يد شخص آخرء فإن الجريمة قد ثبتت. خسن الغلط /81- هذا هو الغلطء فالغلط أن تقصد شخصا معينا بالأذى فيكون الأذى على غيره» فهل هذا الغلط له أثر فى عقوبة الجريمة. ولكن قبل أن نخوض فى بيان أحكام الغلط يجب أن نفرض ثلاثة فروض: أولا : أن يكون الغلظ فى قصد أمر لا معصية فيه فيقع فى أمر فيه معصية كمن يخطئ فيطأ فى الظلام امرأة أجنبية على أنها زوجته» وهو ما يسمى فى عرف الفقهاء الوطء بشبهة» والحكم فى هذه الحال أن ذلك يكون داخلا فى حكم الخطأ لأنه لم يقصد إلى جريمة» ولكنها وقعت بغير قصدء فتكون فى حقوق الله تعالى موضع عفوء وفى حقوق العباد يكون التعويضء أو بعبارة أخرى تكون الدية. الفرض الثانى : أن يكون الغلظ فى القصد إلى حرام هو معصية فيتبين أن الفعل حلال كمن يقصد إلى قتل شخص على أنه مؤمن عدو له وهو معصوم الدمء فيتبين أنه حربى حلال الدم» وهذا قد قررنا أن يكون آثما فيما بينه وبين الله تعالى غير معاقب فى الدنياء لأن الحكم فى الدنيا على ما ظهرء وقد ضرينا على ذلك الأمثال عند الكلام فى الجرائم المقصودة وغير المقصودة. الغرض الثالث : هو أن يكون القصد إلى معين يكون القصد إليه معصيةء ولكن تبين أن من نزلت به الجريمة كان غير المقصودء وهو معصوم الدم بلا ريب» فإن ذلك موضع الكلام. 4- وإن الموضوع الذى يقتضى القول هو الغلط فى الفرض الثالث» وهو أن يكون القصد إلى الجريمة بالنسبة لمعين» فيكون الغلط فى غيره» فهل ينظر إلى معنى الاعتداء المجرد من غير نظر إلى موضوعه؟ إنه بالنسبة للاعتداء على الأطراف لا فرق فى ذلك؛. وكذلك بالنسبة للحدود فيما هو الظاهر من أقوال الفقهاءء لأنه لا فرق فى الاعتداء على حقوق الله تعالى» إذ إن حقوق الله تعالى ليس المقصود بالعقوبة فيها حق الشخص. إنما المقصود بالعقوبة فيها هو دفع الفساد ومنع الشرء وكذلك الأمر فى العقوبات التعزيرية لا على ذات الفعل من غير نظر إلى من وقع عليه» إذ هى لمنع الشر فى المجتمع من غير نظر إلى من يقع عليه» وهى من قبيل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكرء فهى لمنع المنكر أيا كان من ينزل به هذا المنكر. 8- إنما الأمر الذى اختلف فيه الفقهاء هو بالنسبة للغلط فى جرائم القتل بأن يقصد بالقتل العدوان شخصا معصوم الدم.ء فتبين خلافه وهو معصوم الدم أيضاء فهل يعد هذا جريمة قتل متعمد تكون عقوبته القصاص صورة ومعنى؟ هذا مجال نظرهمء فإن القصاص عند البعض أساسه أن يكون الاعتداء مقصودا والمعتدى عليه معينا يتعمد القاتل قتله» إذ القصاص لا يكون إلا على قتل متعمد يخين والتعمد يقتضى تعمدا يقصد فيه الشخص ولا يقصد فيه الفعل فقط» هذا نظر إلى الناحية الشخصية فى المجنى عليه» وذلك نظر لبعض الشافعية» ويعتمدون فى ذلك على معنى التعمد» وعلى معنى القصاصء. فإن التعمد معناه قصد إلى شخص معين» لا إلى مجرد شخص» وذلك يقتضى أن يكون المقتول مقصودا بذاته ويعدون هذا شبه عمد. ونظر بعض آخر من الشافعية» وبعض الحنابلة نظرا آخرء وهو يقرر أن ذلك يعد من القتل الخطأء ذلك أنهم يعدون من يقصد قتل إنسان ولو كان معصوما فيصيب غيره من قبيل القتل ا-لخطأء وهذا نص ما جاء فى المغنى فى هذا المقام: «وإن قصد فعلا محرما مثل أن يقصد قتل بهيمة أو آدمى معصوم.ء فيصيب غيره خطأ لأنه لم يقصد قتلهء وهذا مذهب الشافعى» وكذلك قال ابن المنذر»0" . ويفهم من هذا أن القتل العمد على مقتضى هذا النظر يجب أن يكون الشخص فيه معينا مقصوداء ويصيبه القاتل بفعله. ذانك نظران كلاهما يعفى القاتل من القصاص الكامل . والنظر الأول يعتبره شبه عمد لوجود القصد إلى الجريمة» وإن لم يصب هدفهاء والثانى يعتبره خطأء لأن الهدف المقصود لم يصبه. - وهذا هو ظاهر عبارات الحنفية فهم يعتبرونه خطأء ولا يعتبرونه عمداء ولا شبه عمدء فإن شبه العمد عندهم ما يكون بآلة غير محددة» أو بآلة ليس من شأنها أن تقتل عادة» والخطأ أن يكون الفعل غير مقصود أصلا أو قصد به غيرهء» فأصاب معصوم الدم» وقد قال الكاسانى فى تعريف الخطأ: «فالخطأ قد يكون فى نفس الفعل» وقد يكون فى ظن الفاعل» أما الأول فنحو أن يقصد صيداء فيصيب آدمياء وأن يقصد رجلا فيصيب غيره» فإن قصد عضوا من رجل فأصاب آخر منه فهذا عمد وليس بخطأء وأما الثانى فنحو أن يرمى إلى إنسان على ظن أنه حربى أو مرتد فإذا هو مسلم»2"7. وإن هذا النص يستفاد منه أن يرى إنسانا معصوم الدم» قيصيب الهدف معصوما آخر يعد القتل خطأ. وعندى أن اعتباره شبه عمد أولى لثلاثة أسباب: أولها : أن قصد المعصية ثابت» وقصد المعصية يتنافى مع المعنى الشرعى للخطأ لأن الخطأ مرفوع الإثم» فنص الحديث الشريف: «رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه). . 77 طبعة المنار» الثانية . زفق البدائع جلا ص4‎ 70١ المغنى جلا ص‎ )١( >31 ثانيها : أن قصد الجريمة ثابت» والمقصود متلاق فى معناه مع النتتيجة؛ لأن القصد معصية انتهت بجريمة تشبه المقصودة تماما. الثها : أن الأمر فى هذا لا يمكن أن يكون محل عفو عند الله تعالى؛ لأن قصد المعصية ثابت مؤكد. ٠‏ -0١‏ هذه هى المذاهب الثلاثة» ومذهب المالكية هو التفرقة بين القتل المباشر»ء والقتل بالتسبب» فالقتل المباشر لا عبرة فيه بادعاء الغلط». فإذا قصد شخصا معصوما وأصاب غيره فهو عمد يعاقب عليه عقوبة العمد» إذ إنه قصد. معصوما وأصاب معصوماء فيعد قاتلا متعمداء أما إذا كان القتل بالتسبب لا بالمباشرة» فإن القتل لا يعد عمدا إلا إذا أصاب المقتول الذى قصدهء لأن إصابة غيره تجعل قصده موضع احتمال» إذ إنه لا يباشر القتل بنفسه» بل يباشره غيره» فلا يمكن إثبات القصد إليه. 5- هذا هو الغلط.ونرى بعض الفقهاء يدرجه فى أحكام الخطأء بيد أنه يفترق عنه بفرق جوهرى.» فإن الخطأ يكون فيه اعتداء فى الفعل» ولا يكون اعتداء فى القصدء أما الغلطء فإنه لا بد أن يكون فيه اعتداء فى القصدء وربيما يكون فيه اعتداء فى الفعل» فيكون غلطا إذا قصد الاعتداء على معصوم الدم» فأصاب غيره»ء وقد يكون العصيان فى القصد. ولا يكون فى الفعل عصيان» كمن يقصد الزنى بامرأة فتبين أنها حليلته. وعلى ذلك يكون الفرق جوهريا بين الخطأ والغلطء إذ الخطأ يكون فيه الاعتداء فى الفعل دائماء والقصد يكون سليما لا معصية فيهء أما الغلط فالقصد آثم دائماء والفعل قد يكون فيه اعتداء» وقد يكون خاليا من الاعتداء . 0 اللخضا *497- ذكرنا فى ماضى قولنا معنى الخطأً وأقسامه عندما تكلمنا فى الجرائم المقصودة والجرائم غير المقصودة» ولا نكرر هنا ما قلناه هناك» ولكن لابد أن نشير إلى نوع من الخطأ لم نتكلم عنه فى الماضى» وهو الفعل الذى يكون فى ذاته مباحاء ويقصد الشخص فيه إلى الفعل قصدا معيناء ولكن يترتب على الفعل المقصود نتائج غير التى يريدهاء فالقصد سليم والعمل سليم» ولكن ترتب عليه ما ليس فى الحسبان. ومن ذلك من يضرب ولده أو حفيده تأديباء فيصيبه بجرح أو تلف عضوء أو تلف نفسء فإن مالكا رضى الله عنه يعتبر هذا من الخطأء لأن الجرائم عنده إما عمدء وإما خطأء ولا وسط بينهماء فليس عنده جريمة تعد شبه عمدء» كالفروض التى فرضها الفقهاء فى جرائم القتل» وإذا لم يكن هذا عمدا لعدم قصد الاعتداء فإنه يكون مندرجا فى ضمن الخطأء ومثله كل تعليم يترتب عليه تلف النفس أو عضوء سواء أكان من الأب أم كان من غيره. مين وبعض الذين كتبوا فى الفقه الإسلامى حديثا يقرر أن ذلك غير ما يقرره أثمة المذاهب الثلاثة الأخرى». ولكن يظهر أنهم جميعا يعتبرونه من حيث نتيجته فى معنى الخطأء ولا يعتبرونه كشبه العمد» ولذا جاء فى المغنى ما نصه: «وإن سلم ولده الصغير إلى السابح ليعلمه السباحة فغرق» فالضمان على عاقلة السابح» لأنه سلم إليه ليحتاط فى حفظه. فإذا غرق نسب إليه التفريط فى حفظهء وقال القاضى: قياس المذهب آلا يضمنه» لأنه فعل ما جرت العادة به لمصلحته» فلم يضمن ما تلف. كما إذا ضرب المعلم ضربا معتاد التلف بهء فأما الكبير إذا غرق» فليس على السابح شىء إذ لم يفرطء لأن الكبير فى يد نفسه لا ينسب التفريط فى هلاكه إلى غيره . 15- وإن هذا النوع من الأخطاء يكون ابتداؤه حقاء بل يكون واجباء كما هو الشأن فى تأديب الرجل ولده أو الجد حفيده» وهو من قبيل استعمال الحق المفضى إلى التلف» وإن الفقهاء قد تكلموا فى هذا بإفاضة فى موضعين: أحدهما : فى التأديب إذا أدى إلى تلف . ثانيهما : فى الطبيب إذا أدى تطبيبه إلى تلف كان نتيجة لخطئه. وهذا نوع جديد من الخطأء أساسه الخطأ فى التقدير لا فى العمل» وهو أشبه بالخطأ فى ظن الفاعل. خطاأالتأديب 5- النوع الأول : وهو الضرب الذى يكون القصد منه التأديب إذا أفضى إلى الموت أو إلى تلف عضو من الأعضاء» ومن المتفق عليه أنه لا يوجب قصاصاء لأن قصد العدوان غير قائم» ومن ذلك ضرب الوالد ولده» وضرب المعلم بإذن الولى تلميذه» وذكروا أن من ذلك ضرب الزوج زوجته. على نظر فى ذلك سنقرره فيما بعد. هذا بالنسبة للقصاصء. أما بالنسبة لضمان الدية» فقد اتفقوا على الضمان فى تأديب الزوجة» لأن ضرب الزوجة إذا تعين سبيلا لمنع نشوزها مقيد بوصفء فلم يؤذن فيه بإطلاق» بل أذن فيه مقيدا بأن يكون ضربا غير مبرحء فإذا ضربها ضربا مبرحاء فقد جاوز الحد المرسومء ولا يكون قد فعل الفعل المأذون فيه» بل تجاوزه» ولذلك اتفقوا على أنه يضمن الدية» على أن شرط إعفائه من القصاص هو أن يتوافر شرطان: أولهما : أن تكون ناشزا وأن يكون الضرب قد تعين للتأديب» بأن كان قد وعظها ثم هجرها فى المضجع ولم ترتدع» فضربهاء فإنه فى هذه الحال يكون الضرب قد تعين للتأديب ويكون أصله مباحاء ولكنه تجاوز الحدء أما إذا كانت غير ناشز فضربها اعتداء أو مغاضبة كما يفعل بعض الأزواج» فإنه فى ظاهر الشريعة يكون معتديا فيكون مدنا قتله شبه عمد على الأقل. ولا يكون خطاء وعند مالك رضى الله عنه الذى لا يفرض فى القتل نوعا اسمه شبه عمدء فإنه يكون قاتلا عمدا ويقتص منه. ومثل ذلك إذا كان الضرب لم يتعين سبيلا لمنع النشوزء. ويجب أن يعلم الذين يريدون أن يعرفوا مقاصد الشريعة أن الضرب ضرر وإيذاء يلحق الزوجة» وإن الضرر بوجه عام لا يباح إلا لوقوع ضرر أشدء وهو النشوز الذى يؤدى إلى قطع الحياة الزوجية» فإذا أدى إليه ولم يتعين لدفع النشوز إلا هو أببح فى تلك الحدود التى سنها النبى كَكة. الشرط الثانى: لمنع القصاص فى ضرب المرأة ألا يكون الضرب غير مبرح ابتداء فإن ضربها بعصا ضربا شديدا فإنه لا يكون مباحاء فيكون شبه عمدء ولا يكون خطأء ويعزر تعزيرا شديدا على مذهب الأئمة الشلاثة» وبمقتضى ظاهر مذهب مالك يكون عمذا يوجب القصاصء» ولكن إذا لكزها فأثر ذلك فى نفسها فماتت فإن هذا هو الذى يعفى فيه من القصاص على مذهب مالك. ولا يكون شبه عمد على مذهب الثلاثة إذ يكون قد وضح فيه الخطأ. 57- هذا هو ضرب الزوجة للتأديب إذا أفضى إلى الموت» أما ضرب الأب أو الجد أو الولى على النفسء أو المعلم بَإذِنِ واحد من هؤلاء» إذا أفضى إلى الموت فقد اختلف فيه أبو حنيفة رضى الله عنه مع جسمهور الفقهاءء فرأى أبو حنيفة أنه يضمن الأب والجد والولى سواء أكان أبا أمْ كان غيره ممن أوتوا سلطان التأديب» ورأى الصاحبان مع بعض الفقهاء أن المؤدب: لا يضمن . وحجة الصاحبين تقوم على أصلين: أحدهما: أن التأديب فعل مأذون فيه ممن له سلطانه» بل إنه واجب» وإن الموت جاء نتيجة لفعل مأذون فيه. والمتولل من المأذون فيه لا يعد اعتداء» وخصوصا أن الأولياء لهم من الشفقة ما يحول بينههم وبين قصد الأذى. وكذلك الشأن فى المعلمء فإن ذلك عمله. وهو بمقتضى عمله اللي خصص له لا يفرض فيه الاعتداء؛ فيكون فعله مأذونا من الولى فل ضمان. 1 والأصل الثانى: أن التأديب وا علي أمران مطلوبان على جهة فرض العين بالنسية للأب أو الولى» وعلى وجه الكفاية بالشسية. لغيرهماء ولو كان ثمة عقاب إذا أدى ' اتنس لامتنع هؤلاء عن القيام بواجبهم خشية الضمانء ويقول فى ذلك: «إن ١ ١‏ وسعه التحرز عنها يمتنع عن التعليم فكان الت إليه». ويقرر الكاسانى فى هذا الموضوع قضية عامة» فيقول: «والأصل فى هذه الجناية أنها إذا وردت على ما ليس بمضمونء» فالسراية لا تكون مضمونة» لأن الضمان يجب بالفعل السابق» والفعل السابق صادف محلا غير مضمون». وحجة أبى حنيفة فى تضمين الأب والجد والولى على النفس بشكل عام أن الأب والجد مأذون لهما بالتأديت لا بالتلف»ء والفعل فى الأصل لم يبتدئ مأذونا فيه إذا أدى إلى التلف» إذ إن إفضاءه إلى التلف دليل على تجاوز حده. ويقرر الكاسانى أن رأى أبى حنيفة عدم تضمين المعلم» لأنه إن لم يعف من الضمان قد يؤدى الأمر إلى امتناعه عن التعليم» فسقط عنه الضمان عند أبى حنيفة لهذا الاعتبار» أو لهذه الضرورة العامةء» ولا يتحقق ذلك فى الأب والجد لوفرة شفقتهماء فهى مهما يكن الأمر تدفعهما إلى التأديب ولو ضمناء وإذ هما يخشيان عليه الفساد. وهذه الشفقة توجب عليهما التحرز فى الفعل. /91- وخلاصة الفرق بين نظر أبى حنيفة ومعه بعض الفقهاء ونظر الصاحبين ومعهم فريق آخر - أن أبا حنيفة - ينظر إلى نتيجة الفعل فيحكم على الفعل بمقتضاه فإن كانت النتيجة تلف النفس أو العضو تبين أن الفعل لم يكن مأذونا فيه» وإن أعفى من الضمان فى هذه الحال فلضرورة أخرى غير كون الفعل مأذونا فيه أو غير مأذون» وإن كانت النتيجة لم تصل إلى تلف عضو فالفعل مأذون فيه فلا ضمان. ش أما الفريق الآخر من الفقهاء فينظر إلى أصل الفعل» والغرض الذى كان من أجله والمهمة التى يحققهاء فإن كان لغرض شرعى مطلوب» فإنه يكون مأذونا فيه» وتكون النتيجة غير مضمونة» ولو ترتب عليها تلف مادام يخرج عن الحد المعتاد للفعل» وإن كان الفعل غير مأذون فيه ولا يحقق فى جملته مقصدا من مقاصد الشرع فإن العبرة 4- إن خطأ الطبيب قسمان: خطأ فى التقديرء وخطأ فى الفعل» أما خطأ التقدير فذلك بأن يشخص المرضص» ويكتب الدواء وهو يظن فيه الشفاء» فيتبين أن المرض غير ما شخصء وأن الدواء غير ما وصف. وقد تأخر العلاج بسبب ذلك» فترتب عليه زمانة المرض» أو ترتب عليه تلف عضو من الأعضاء أو جزء من عضو ثم يكون خطأ فى التقدير» فتبين أن المرض كان يمكن علاجه بدواء من غير قطع» فإن التلف الذى أصاب الجسم لم يكن فى هذه الحال من الفعل فقطهء بل من خطأ التقدير. ش ش وإن الحكم فى الصورة الأولى كما هو واضح من المبادئ الفقهية المقررة الثابتة عند الفقهاء أنه لا ضمان فيه ما دام الطبيب قد ثبتت كفايته» وليس ممنوعا من أن يتولى لتقن أعمال التطبيب الذى يكون على هذا الوصف دواء فترتب عليه تلف العضو أوتلف الجسمء فلا ضمان عليه لأنه يكون موتا أو تلفا بفعل مشروعء وعند الحنفية أن مثل ذلك لا ضمان فيهء إذ إن الموت يتناول المريضء» ولا يعتبره الحنفية من التسبب» ولذا قالوا: لو وضع رجل سما لآخر فمات فلا ضمان فيه» فبمقتضى قواعدهم لا ضمان فى هذه الصورة» وإن ثمة فرقا واضحاء بين من يصف دواء فيترتب عليه أذى» ومن يضع السم» والتفرقة تؤكد منع الضمان» أما المالكية وغيرهم الذين يعتبرون وضع السم من القتل بالاعتداءء فإنهم يعفون الطبيب» لأنه لم يكن فى عمله اعتداء» بل عمله واجب وقد أخطأ فى التقدير» ومثله مثل المجتهد إن أخطأ فله أجرء وإن أصاب فله أجران» ولو أنه ضمن فى هذه الحال لأدى ذلك إلى أن يمتنع الناس عن الطب» خشية أن تكثر عليهم الضمانات فينزل بهم الأذى» والطب فرض كفائى بإجماع الفقهاءء لأنه لرفع ضرر الأمراض عن الناس» والتضمين تعطيل لفرض من الفروض الكفائية المسجمع عليها. ولا شك أن انتفاء الضمان فى هذه الصورة وأشباهها من كل الصور التى يعفى فيها من الضمان لا بد فيه من شرطين: أحدهما : أن يكون الطبيب غيرممنوع من مزاولة عمله كما أشرناء لأن ولى الأمر له منع الطبيب الجاهل». وسمى الفقهاء ذلك حجراء إذ هو فى حقيقته حجر فعلى» ولذلك كان من المقررات عنذهم أنه يحجر على الطبيب الجاهل» والمفتى الماجن» والمكارى المفلس» فالطبيب الجاهل ثالث ثلاثة يفسدون فى المجتمع» ولا ينفعون. الشرط الثانى : أن يبذل الجهد فى تعرف المرض» ويخطئ فى التقدير بعد بذل الجهد. وعلى ذلك إذا ثبت أن الطبيب قصر فى فحص المريض» ثم وصف دواء كان سببا فى مضاعفة الداء» فإنه بلا ريب يكون ضامناء لأن الأساس فى إعفائه أنه اجتهد وأخحطأل فإذا كان لم يجتهد. فإنه بلا شك موضع للإعفاءء ومثله كمثل الفقيه الذى لا يعنى بدراسة ما يعرض له من مسائل» ويفتى فيخطئ. فإنه لا يعد مجتهدا يكون له ثواب الاجتهاد. إن أخطأء إنما يعد غير أهل للفتياء بل يعد ماجناء وإن كانت عنده القدرة على الاجتهاد. 86- هذه هى الصورة الأولى من خطأ التقدير عند الطبيب» أما الصورة الثانية» وهى أن يكون خطأ التقدير قد أدى إلى قطع عضو من الأعضاءء بأن قرر وجوب قطع العضو لأكلة» وأنه إن ترك يكون الموت المؤكدء ثم تبين أن ذلك التقدير خطأء فإنه فى هذه الحال يكون أيضا خطأ فى الاجتهادء ويكون الفعل الذى أدى إلى تلف العضو مأذونا فيه من حيث إنه قد أدى إليه من أهل الاجتهادء وإن القطع فى ذاته >26 كان عملا مقصودا ولكن لم يتوافر فى الفعل ركن الاعتداء. إذ إنه لا بد للحكم بأن الفعل جريمة من توافر شرطين: أحدهما: أن يكون معصية فى ذاته»وأن يكون قصد الاعتداء ثابتاء وقد انتفى قصد الاعتداءء فقد قصد السلامة» ولم يقصد الأذى» وانتفى وصف أن الفعل معصية» ‏ لأنه قد أدى إليه اجتهاده. كمن قاتل من يحسبهم من الأعداء فتبين أنهم من الأولياءء وما دام الفعل ليس بمعصية بوجه من الوجوهء فإنه لا ضمان فيه والتضمين فيه يؤدى إلى الإحجام عن التطبيب. | وإنه يشترط فى هذا أن يكون غير ممنوع من الطب». وأن يكون قد بذل الجهد كما أشرناء فإنه لاغضاضة فى أن يخطئ» إنما الإثم كل الإثم فى ألا يبذل الجهد فى علاج أجسام الناس . : -2٠‏ هذا خطأ التقدير» وهو أشبه بالخطا فى الظن أو فى القصد فى حال الخطأ كمن يقصد شبحا يحسبه ليس بإنسان» فيتبين أنه إنسان معصوم الدمء أو يرى . إنسانا يحسبه غير معصوم الدمء فيتبين أنه معصؤم الدم . أما الخطأ فى الفعل بالنسبة للطبيب» وهو أن يجرح للعلاج فيؤدى الجرح إلى تلف الجسم كله.ء كمن يقطع عضوا أصابته الآكلة فيترتب عليه تلف الجسم كلهء وكمن يختن طفلا أو جارية فيترتب على ذلك “مؤت المختون» فإن هذا النوع من الخطأ يشبه الخطأ فى الفعل فى القتل» وقد أجمع المقهاء على أنه لا يضمن إذا لم يكن ممنوعا من الجراحةء. وقد بذل أقصى الجهد والاحتياط» وجاءت النتيجة عكس ما يريد» بأن أدى فعله إلى تلف الجسم بدل سلامتة . وقد اتجه الفقهاء ء اتجاهين فى تعليل عدم ضمانه : الاتحاه الأول : وهو نظر أبى خنيفة رضىة الله عنه الذى يقرر أن الفعل ينظر فيه إلى نتائجه. فإذا كانت النتيجة ضررا فإن الفعل فى الأصل غير مباح» أو بالتعبير الدقيق غير مأذون فيهء وإن كانت النتيجة خيرا فإن الفعل مأذون فيهء بل مأمور به على وجه الحتم واللزوم إذا كان فيه سلامة الأجسام من الآفات والأضرارء وهو غالب عمل الأطباء»ء وبمقتضى هذا النظر كان ينبغى تضمين الأطباء عن كل ضرر يلحق الجسم بأفعالهم » ولكن أبا حنيفة نظر نظرة عامة أخرى أوسع أفقا من هذاء وهو أنه إذا نجم عن كل ضرر ينال الجسم لعلاج الطبيب» أو جراحته أن يضمنء يؤدى ذلك إلى ضرر اجتماعى إذ هو أمر لا يمكن التحرز عنه مهما يؤت الطبيب من حذق لمهمته؛ لأن فى يده جسما حيا تسييره بقدرة الله العلى الخبير لا بقدرة أحد من العبادء فمهما يبذل الطبيب من جهد فى الاحتياط فوراء ذلك القدر المسيطرء فلو كان التضمين قاعدة عامة ٠ 57 لامتنع الأطباء عن العلاج ليقوا أنفسهم ذلك الضرر المالى الذى يتعرضون له بشكل مستمر» وفى ذلك إهمال فرض كفائى» وهو التطبيب» وعلى ذلك نستطيع أن نقول إن أبا حنيفة يرى أن القياس كان يوجب أن يضمن الأطباء نتائح أعمالهم الضارة ولكن الاستحسان ألا يضمنوا إذا كان الضرر لم يكن نتيجة لإهمال أو لأمر لم يكن فى الإمكان توقيه. هذا الاتجاه الأول فيمنع ضمان الأطباء لنتائج ما يرتكبون من أخطاء بذلوا الجهد لترقيهاء وجاءت الأمور بعكس ما يقدرون. أما الاتجاه الثانى: وهو اتجاه الصاحبين وجمهور الفقهاء فإنهم يرون أن عمل الطبيب مأذون فيه»ء وما دام مأذونا فيه فقد خرج عن أصل الضمان لأنه لا يجمع بين الضمان والإذن»ء وما دام الفعل فى أصله مأذونا فيهء وقام به صاحبه على الوجه الأكملء ولم يترك سبيلا فى قدرته أن يسلكها إلا سلكهاء واتخذ كل أسباب الاحتياط - فلا ضمان عليه. --١‏ إذا كان سقوط الضمان للإذن على مقتضى نظر جمهور الفقهاء فمن أين جاء هذا الإذن؟ أهو من أمر الشارع بالطب أمرا عاما باعتباره من الفروض الكفائية» أم جاء الإذن من المريض أو وليه أم جاء الإذن من ولى الأمر الذى أذن للطبيب بمزاولة هذا العمل الشريف الذى هومن ألزم الأعمال لحماية الجسم الإنسانى من الأمراض التى تفتك به» ولكيلا تعرض الجماعة للتهلكة التى نهى عنها نهيا عاما فى قوله تعالى: «ولا تلقوا بأيديكم إلى اهلك 974 . لقد اتفق الفقهاء على ضرورة إذن المريض أو وليه إذا كان قاصراء أو كان المريض فى حال لا يتمكن فيها من الاستئذان» فإن لم يكن له ولى يستأذن وجب استئذان الحاكم إذنا خاصا باعتباره الولى لهذا المريض الذى لا يستطيع الاستئذان» أو الذى تقعده مداركه الطبيعية عن أن يأذن أولا يأذن؛ لأن الحاكم ولى من لا ولى لهء وكان فى حاجة إلى من يتولى أمره» ولكن لا يغنى هذا الإذن من المريض أو من له الولاية عليه من إذن عام لهذا الطبيب بأن يزاول مهنة الطب لما تبين» وما نقلنا من أن ولى الأمر له أن يحجر على الطبيب الجاهل فيمنعه من مزاولة ذلك العمل الخطير. ولكن ما مناط الإذن المؤثر فى هذا الفعل» أهو إذن المريض أو وليه الخاص أم الإذن العام بمزاولة المهنة. .١9406 البقرة:‎ )١( ه١‎ قال الشافعى وأحمد: إن المناط فى الإذن بالجراحة أو التطبيب هو الإذن الخاص» لأن أجزاء الجسم لصاحبه فلا عبرة بإذن غيره لسقوط الضمان» ولقد جاء فى المغنى فى تقرير هذه القاعدة: «وإن قطع طرفا لإنسان فيه أكلة بإذنه وهو كبير عاقل فلا ضمان عليهء وإن قطعه مكرها (أى بغير إذنه) فالقطع وسرايته مضمون بالقصاص» سواء أكان القاطع إماما أو غيرهء لأن هذه جراحة تؤدى إلى التلف» والأكلة إن كان بقاؤها مخوفا فقطعها مخوفء» وإن كان من قطعت منه صبيا أو مجنونا وقطعها أجنبى فعليه القصاصء» لأنه لا ولاية عليه» وإن قطعها وليهء وهو الأب أو وصيه أو الحاكم أو أمينه المتولى عليه» فلا ضمان عليهء لأنه قصد مصلحتهء وله النظر فى مصالحه. فكان فعله مأمورا به فلم يضمن ما تلف به21(0 . وبهذا يتبين أنه لا عبرة فى زوال الضمان بالإذن العام بمزاولة المهنة. لأن الإذن العام يمنع تولى الجهلة من المتطببين» ونفى الضمان الأساس فيه هو الإذن الخاصء» وإنه بمقتضى هذا النص ينتفى الضمانء ولو كان الطبيب غير مأذون له بالمزاولة» وإن كان يعاقب لسبب آخرء لا لهذا السبب بالذات لتوافر الإذن الخاصء» والمريض يجب أن يتحمل تبعة إذنه للجاهل» وكان عليه أن يتحرى فلا يمكن من جسمه إلا عالما مأذونا له. 7-- هذا نظر الشافعى وأحمد. أما نظر مالك رضى الله عنه فَلهْه يعتبر الإذن الذى يسقط معه الضمان هو الإذن العام والإذن الخاص معاء فلا بد من إذن الولى» ولابد من الإذن العام ليسقط الضمان» وعلى ذلك لا يعتبر فعل الطبيب مأذونا فيه إذنا يسقط عنه التبعة إلا إذا توافر فيه هذان الإذنان معاء فإذا أذن المريض أو وليه لشخص لم يؤذن له إذنا عاما بمزاولة الطب» وترتب على ذلك تلف عضوء أو تلف النفس» فإن من تولى الجراحة ضامنء وكذلك إذا تولى علاجه من غير إذنه فيترتب على العلاج ضرر بجسمهء فإنه ضامن أيضاء وعلة هذه الصورة ظاهرة مما بيناه فى شرح نظر أحمد والشافعى رضى الله عنهما - أما الضمان فى حال الإذن من المريض وعدم الإذن العام» فالسبب فى ذلك أن إسقاط المسئولية يقتضى أن يكون الفعل من الطبيب غير معصية» ولا شك أن منع ولى الأمر من مزاولة ذلك العمل لجهله إياه وحيئئذ يكون عاصيا إذا فعله مع هذا النهى الذى توخى فيه ولى الأمر مصلحة الناس ووقاية أجسامهم من ضرر جهله؛ وإذا كان غير مباح بالنسبة له» وبالتالى» كان معصيةء فإنه يكون غير مأذون فيهء. وذلك لا يسقط الضمانء وفوق ذلك فإن ولى الأمر له عقابه» 220 المغنى جلا ص77 طبع المنار» الطبعة الثانية . حنكىا دلا يصح أن يكون العقاب على فعل مأذون فيه. فحق العقاب ينافى أصل الإذن» فتعين أصل الضمان. .م وإنه بمقتضى مذهب أبى حنيفة الذى قررناه من قبل» وهو أن الفعل غير مباح مادام قد ترتب عليه الضررء. ولكن رفع الضمان للمصلحة الاجتماعية الصحية العامة» يشترط الاذن من المريض». ويشترط الإذن العام من ولى الأمر على أساس أن المناط فى رفع المسئولية ليس هو الإذن إنما المناط هو دفع الضرر عن الطبيب إذا لم يكن عاصيا. وإنما اشترط الإذن لأنه لايباح شىء فى ملك الإنسان إلا بإذنه أو إذن وليه وأخص ما يملك الشخص نفسه وجسمه. واشترط إذن ولى الأمر لكيلا يتولى ذلك العمل الجليل جاهل به. الخطأالفاحش : 00- اتفق الفقهاء على أن الخطأ يوجب الضمانء وليس الأساس فى تقدير الخطأ الفاحش وغيره هو مقدار الأذى الذى نزل بالمريض فإن كل أذى ينال الجسم بالتلف أو ينال عضوا منه يعد خطيرا فى ذاته» ولا يمكن أن يعد يسيرا. وإنما المراد بالخطأ الفاحش هو الخطأ الذى يقع عسن إهمال كان يمكن الاحتياط منه أو الحذر من النتائج ولم يفعلء فإذا لم يبذل الجهد الذى يوجبه عليه العلم» وتوجبه عليه الذمة والضميرء وترتب على هذا التقصير ضرر أصاب الجسمء أو أصاب جزءا منهء بأن جرحه مثلاء ولم يتبع أصول الجراحة فتلف عضو من الأعضاءء أو أعطاه مصلاء ولم يتوق ما علق به من أوساخ فتلف العضوء فإنه بلا شك يكون ضامنا مسئولا مسئولية خاصة بالنسبة لهذا المريض» ومسئولية عامة بالنسبة لعمله كطبيب» ويجب الحجر عليه من هذا العمل الجليل إن استمر على هذا الإهمال. وكذلك الحكم إذا كان المريض مصابا بضغط الدم ومرض آخر ففحصه الطبيب ولم يتعرف مقدار الضغطء ووصف له دواء قد يفيد المرض الذى فحصه. ولكنه يعرض المنريض المضغوط لأضرار جسمية» ترتبت على ذلك» إنه يكون مسئولا بلا شك. وإن الفقهاء قد ضربوا مثلا للخطأ الفاحش بطبيب شق رأس فتاة شقا غير معتاد» ولا يجيزه مهرة الأطباء.ء فترتب على ذلك وفاة المريضة» فقد قالوا إنه يضمن». بخلاف ما إذا راعى كل ما يراعيه الحذاق من الأطباءء وماتت مع ذلك فإنه لاا يضمن مادام شق الرأس بإذن من المريضة أو أوليائها(2 . )١(‏ حاشية الطهطارى جلا ص707/5. اوننانا 5-5 وإن المتتبع لأقوال الفقهاء فى المذاهب المختلفة ينتهى إلى أن الطبيب فى صناعته كالفقيه فى اجتهاده» فإذا بذل غاية الجهد وأخطأ فلا تبعة عليه وهو مغفور له بل هو مثاب على اجتهاده» إن قصد بعمله وجه الله سبحانه واحتسب النية» وإن لم يبذل الجهدء وحدث بسبب ذلك ضرر فإنه لا محالة مسئول أمام الله وأمام المريض وأوليائه عن خطئه الذى أدى إلى هذه النتيجة» وهو الذى يسميه الفقهاء» خطأ فاحشا. 6-- وننتهى من هذه المسألة إلى قاعدة عامة» وهى أنه لا ضمان على الطبيب فى الفقه الإسلامى إذا كان العلاج أو الجراحة بإذن من المريض أو أوليائه» وكان الطبيب مأذونا له إذنا عاماء وبذل أقصى الجهد فى العلاج» فإن تخلف جزء من هذه الأمور فإن عليه التبعة؛ وخصوصا بالنسبة للجزء الأخير»ء وإنا لنتتضرع إلى الله سبحانه وتعالى» وقد وصل الطب ما وصل إليه من وسائل مختلفة للعلاج أن يحرص الأطباء على بذل أقصى الجهد لعلاج من يطبون لهم من أسقامهمء ومن يزيلون آلامهم بمبضعهم» والله سبحانه وتعالى ولى التوفيق. الجمل 625- الجهل بالأحكام الشرعية لا يعد بشكل عام عذرا مسوغا لمخالفتهاء وإن الأحكام المقررة بالكتاب والسنة لا يسع أحدا مخالفتهاء ولا يعد الجهل بها عذرا مسوغا لإسقاط عقوبتهاء فلا يصح لأحد يقيم فى الديار الإسلامية من المسلمين أن يدعى أنه يجهل تحريم الخمرء أو يدعى أنه يجهل تحريم الزنى» ففرض العلم بالشريعة وأحكامها أمر ثابت لا يسع مسلما يقيم فى بلاد المسلمين الجهل به» وعلى ذلك لا يعد الجهل عذرا ولا يسقط جريمة أو عقوبة. بيد أن العلم نوعان: علم عامة وهو العلم بأصول الفرائض العامة التى علمت من الدين بالضرورة» وهذا هو أحكام الشريعة العامةء وهذه لا يعذر فيها جاهل» لأنه لا يسع مسلما ألا يعلمه. والنوع الثانى علم بالشريعة لا يدركه إلا الخاصة الذين وقفوا أنفسهم لدراستها وتعرف أحكامها. ويقول الشافعى فى هذا التقسيم فى رسالته ما نصه: «العلم علمان: علم عامة لا يسع بالغا غير مغلوب على عقله جهله» مثل الصلوات الخمسء» وأن لله على الناس صوم رمضان وحج البيت إذا استطاع» وزكاة أموالهم. وأنه حرم عليهم القتل والزنى والسرقة والخمرء وما كان فى معنى هذا مما كلف العباد أن يعلموه ويعملوا به» ويعطوه من أنفسهم وأموالهم» وأن يكفوا عما حرم الله عليهم منهء وهذا الصنف كله من العلم موجود نصا فى كتاب الله تعالى» وموجود عاما عند أهل الإسلام ينقله عوامهم عمن مضى من عوامهم» ويحكونه عن رسول الله كله ولا يتنازعون فى حكايته ولا وجوبه عليهم» وهذا العلم الذى لا يمكن فيه الغلط من الخبر ولا التأويل» ولا يجوز التنازع فيه». 2: «هذه درجة من العلم ليس تبلغها العامة ولم يكلفها كل الخاصة. ومن احتمل بلوغها من الخاصة فلا يسعهم كلهم أن يعطلوهاء وإذا قام بها من خاصتهم من فيه الكفاية لم يخرج غيره ممن تركها إن شاء الله تعالى» والفضل فيها بمن قام بها على من عطلها» . /17.-ه6- ومن هذا يتبين أمران: الأمر الأول : أن الأصول العامة للمحرمات فى الإسلام كالخمر والخنزير والزنى والسرقة يعتبر كل مسلم يقيم فى الديار الإسلامية على علم بهاء لأنها ثابتة بالكتاب والسنة ولا نزاع بين العلماء فى أى أمر من أمورهاء ومن خالف فيها فقد خلع الربقة. الإسلام جهلهاء وذلك لسببين: أحدهما : أنهم يقيمون مع المسلمين إقامة دائمة» فيفرض بلا ريب أنهم يعلمون الزواجر الاجتماعية التى جاء بها الإسلامء فيعلمون أن السارق تقطع يدهء وأن الجروح قصاصء وأن النفس بالنفسء وأن الخمر حرام وأن الخنزير محرمء وأن أكل أموال الناس باطل» وغير ذلك من نظم الاجتماع والتعامل . السبب الثانى : أنهم أقاموا مع المسلمين على أساس أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين» ولا شك أنهم يجب عليهم أن يعلموا ما لهم وما عليهم. وهذا العلم قد توافرت أسبابه بالإقامة فى ديار الإسلام وبجوار المسلمين. الأمر الثانى : الذى يدل عليه الكلام الذى نقلناه عن الشافعى رضى الله عنه أن الأحكام التفصيلية لا يعرفها إلا الخاصة من علماء الشريعة المتخصصين فى الدراسات الفقهية . وإن ذلك شأن كل القوانين القائمة» فإن التحريم الذى يشتمل عليه قانون العقوبات يجب أن يعرفه كل من يطبق عليهم ذلك القانون بلا فرق بين عالم وجاهل» فتحريم المخدرات بشكل عام يجب أن يكون معلوما لكل مصرى. وهكذا كل الأحكام العامة التى يشتمل عليها القانون» أما التفصيلات الخاصة من أسباب التخفيف وأسباب التشديدء ومتى تسقط الجرائم» وطرق إثباتهاء وقوة الإثبات» وغير ذلك من الدقائق التفصيلية والأحكام الفقهية» فإن ذلك علم فقهاء القانون والذين يطبقونه. 4--- وإن الذى ننتهى إليه من ذلك هو أن العلم بالتحريم أمر لابد منه للتأثيم» وأن المراد هو العلم بأصل التحريم لا بتفصيله» وأن إمكان العلم كاف لثبوت العلمء وعدم قيام عذر الجهل» وأن ذلك بلا ريب يفرض كاملا بالنسبة لأحكام القرآن والسنة التى انعقد الإجماع عليهاء ولا يسع مسلما الجهل بها. مه أما غير هذه الأحكام فإنها تفصيلات تجرى فيها اختلافات الفقهاء. وما يختاره ولى الأمر منها للتطبيق يعلنه للناس» وإذا أعلنه يكون فى إمكان كل واحد من أهل الإقليم الذى يطبق فيه أن يعرفه فلا يعذر من بعد ذلك جاهل . وأكثر ما يكون هذا فى الجرائم التعزيرية» إذ إن جرائم الحدود والقصاص والديات ثابتة فى أصلها بالكتاب والسنة المجمع عليهاء فلا مساغ فيها لاختلاف إلا فى جزئيات تتعلق ببعض العقوبات ولا تتعلق بأصل التحريم . 4-- وإنه من هذا الكلام يستفاد أن بعض الجهل قد يكون سيبا لإسقاط العقوبة» أو لتحويلها من حال إلى حالء. ولذلك كان الجهل فى الأحوال له حكم خاص . قسم الفقهاء هذا الجهل ببعض الأحكام إلى أربعة أقسام» كل قسم منها له حكم خاص. والأقسام هى: جهل لا مسوغ له. وجهل فى موضع تأويل. وجهل فيه شبهة» وجهل يعذر فيه الجاهل . القسم الأول : جهل لا يعذر فيه صاحبة ولا شبهة فيه كالردة بعد إيمان أو ارتكاب ما نص القرآن نصا قاطعا على تحريمه معتقدا حله» وهو مسلم» كالجهل بأن الزنى فى ذاته حرام. وكالجهل بأن السرقة حرامء وكالجهل بأن القذف حرام» وغير ذلك من المحرمات المنصوص عليها بنص قطعى لا يحتمل التأويل» فإن الجهل فى ذلك إثم فى ذاته» والإثم لا يبرر الإثمء وهكذا كل جهل بأمر من الأمور التى ذكر الشافعى. أنه لا يسع مسلما أن يجهلها. وقد ذكروا من هذا القسم جهل غير المسلم بوحدانية الله تعالى» وجهله برسالة الرسول يَلِْةٌ بعد أن بلغته الرسالة المحمدية على وجهها الصحيح فإن هذا جهل لا يعذر فيه صاحبهء وهو جحود فى مقام البينات الواضحة الظاهرة التى لا مساغ لإنكارها. ولكن هل يعد من ذلك جهل غير المسلم بالأحكام التى جاءت بها الأدلة القاطعة الثابتة التى لا مجال للشك فيهاء فنقول فى ذلك» إن جهل المسلم بأحكام الجنايات الإسلامية التى يكون فيها اعتداء على حقوق العباد ليست موضع عذر بالاتفاق» وكذلك بالنسبة للحدود عامة. أما المحرمات التى تتصل بالنواحى الشخصية» ومثلها تحريم المحرمات من النساء فإن التحريم لغير المسلم غير ثابت من حيث التعامل وتطبيق الأحكام لا من حيث أصل الوجوب, وعلى ذلك لا يصح لمسلم أن يتلف خحمرا لذمى» أو خنزيرا وتحترم ملكيته لهء وذلك عند أبى حنيفة. فقد قرر أنه لا يتعرض لهم إذا تزوجوا ليان بالمحارم» وكانت دياناتهم تبيح ذلك. كالمجوس الذين كانوا يبييحون للرجل أن يتزوج بنته أو أمه. ولا د يصح للحاكم أن يضع لهم عقوبات تعزيرية» كما لا يصح أن يفرض عليهم العقوبات التى مكون لللسلمين على مثل هذا الفعل: ولا يعد ذلك زنى بحيث يقام الحدء بل إنه يثبت النسبء ولو ترافعوا إلى القاضى المسلم يحكم بمقتضى الزواج» ولا يتعرض لصحتهء فيحكم بالميراث بالنسب,» وبالنفقة للزوجة» ولا يحكم بصحة الزواج» وإن كانت بعض آثاره تنفذ.ء وذلك كله عند أبى حنيفة» وقد خالف فى بعض ذلك الصاحبان وجمهور الفقهاء . -٠‏ هذا هو القسم الذى لا يكون الجهل به سببا لعذر أو موجدا شبهة. وإن كان قد تبعه بعض الأحكام» فليس ناشئا عن أن الجهل عذرء إنما نشأ من ترك الحرية الدينية الشخصية لكل من تظلهم الأرض الإسلامية» حتى لا يكون ثمة إكراه فى الدين؛ وتلك نظرة أبى حنيفة الحر الذى كان يحمى به بفقهه الحرية الشخصية ما استطاع إلى ذلك سبيلاء وخالفه جمهور الفقهاء كما أشرنا. أما القسم الثانى : وهو الجهل الذى يكون فى موضع اشتباه» فإنه يشمل أمرين: أحدهما : الجهل فى المسائل التى يحتاج فهمها إلى ضرب من التأويل والتفسير» وتكون هى محتملة» وإن الحق فيها بالتأمل والفحص والدراسة, كتأويل بعض الناس صفات الله تعالى بما لا يتفق مع ما قرره السلف» فإن هذا جهل له تأويل» وصاحبه لا يعاقب على تأويله ولا على رأيه» ولا يعد كافرا بهذا التأويل ما دام لا ينكر شيئًا علم من الدين بالضرورة» ولكنه يعاقب تعزيرا إذا أخذ يدعو إلى رأيه» لأنه إذا كان عذر فى رأيه للجهل بعلم التأويل» أو بأحاديث النبى عله أو لم يأخذ برأى السلف الصالح فإنه لا يترك ينشر ضلاله بين الناس» فيفسل تفكيرهم» واعتقادهم. فليس العقاب فى موضوع جهلهء إنما العقاب لتضليله. الأمر الثانى : الذى يعذر فيه الجاهل للشبهة هو فى حال البغى» فالباغى هو الذى يخرج على الحاكم العادل بتأويل باطل» وهذا الباغى إذا تكونت له حوزة ودولة قائمة بذاتها يحكم فيهاء فإن ما يتلفه من مال أو نفس تكون فى ظل دولة الحاكم العادل لا يضمن إذا قدر عليه» وقد قرر ذلك الحنفية فى فقههم وخالف فيه الشافعية من جمهور الفقهاءء وحجة الحنفية فى نظرهم أنه لما صار له منفعة وقوة أصبح غير داخل فى ولاية الإمام العادل فعلا وحسا وحقيقة» فكان تأويله الفاسد هو المسيطرء وقد قررتا فيما أسلفنا أن شرط العقاب على الفعل أن يكون الفاعل عند الارتكاب يمكن بحكم الولاية الفعلية تنفيذ العقاب فيهء هذا نظر أبى حنيفة وأصحابه وهو يتفق مع منطقهم الفقهى الذى شرحناه فى باب سريان القانون على المكان. /اه ؟ وحجة الجمهور فى عدم سقوط جرائم الباغى على الأموال والأنفس. ولو صار له منعة وقوة أنشاً بها دولة - أنه مسلم ملتزم بحكم الإسلام أن ينتفذ أحكامه. وهو بحكم الولاية الإسلامية فى سلطان الحاكم العادل ولو تمرد عليه» ولا شك أن إتلاف الأنفس والأموال لا يجوز بأى اعتبارء فالبغى لا يسقط ذلك الحق الثابت بحكم القرآن الصريح» والسنة المقطوع بهاء إذ البغى إثم فى ذاته» والإثم لا يبرر سقوط حقوق الشرع الواجبة النفاذ» وجهله الأحكام لا يسوغ اعتداءهء ولذلك لا يعد الجهل فى هذه الحال عذرا يسقط العقاب. وكيفما كان الحكم الدنيوى. فالائم ثابت لأنه يخالف أحكام الشرع الشابتة -١‏ هذا هو حكم الجهل الذى يكون فيه الشخص فى حال اشتباه بسبب سوء التأويل فى نصوص قد تقبل فى ذاتها التأويل أو فى أعمال قد تتجاذبها أوجه النظر المختلفة» والحق فيها مع ذلك يمكن معرفتهء وهو مأثور فى السنة الصحيحة» وإن كانت قد غابت عن الجاهل الذى أول وخالف تأويله منهاج السنة وما عليه السلف الصالح . أما القسم الثالث : فهو الجهل الذى يكون عذراء وقد قرر الشارع اعتباره عذراء وذلك هو الجهل فى موضع الاجتهاد أو الجهل الذى يكون سبب العلم فيه غير متوافر توافرا تاماء أو يكون الجهل فى موضوع تكون فيه الشبهة مسقطة للعقاب» وعلى ذلك يكون هذا النوع من الجهل له ثلاث شعب: إحداها : إذا كان الأمر موضع اجتهادء وتنازعه دليلان. الثانية : ألا تتوافر أسباب العلم. الثالثة : أن يكون الجهل موجدا الشبهة فى جريمة تسقط عقويتها بالشبهة . أما الشعبة الأولى : فهى أن يكون فى الأمر دليلان: أحدهما : يوجب تحريم الفعل» ويترتب على التحريم عقاب إن خولف» وهذا الدليل هو القوى» ويعارض هذا دليل آخر ضعيف. فإذا عمل بالضعيف جهلا فإن ذلك يكون عذرا مسقطا للعقاب» ولنضرب لذلك ثلاثة أمثلة جاء بها الفقهاء . أحدها : أن الفقهاء قد قرروا أن القصاص يسقط بالعفو من أحد الأولياءء فإذا حكم القاضى بالقصاصء وكان المقتول له ثلاثة إخوة أشقاءء فعفا أحدهمى فإن القصاص يسقط لقوله تعالى: «فَمن عفي لَه من أخيه شيء قَاتبَاعَ بالمعروف وأداء إَِيْه بإحسان 274 فاعتير بعض العفو عفوا كاملاء فإذا جاء أحد الأخوين الآخرين وقتله )١(‏ البقرة : 4لا ١‏ . مهم بحكم القصاص الذى صدر عن القاضى جاهلين أن بعض العفو كالعفوء وزاعمين أن حق كل واحد منهم منفرداء فإذا أسقط أحدهم حقه لا يسقط حق الآخرين» فإن ذلك جهل يعذر فيه ولا يقستص منه لهذا القتل» لأن جهله كان فى موضع من مواضع الاجتهاد التى يكون للرأى فيها مجال» وخصوصا أن بعض فقهاء المدينة قد قالوا ذلك القول» فقد جاء فى التهذيب أن القصاص إذا ثبت لاثنين كان لكل واحد منهما أن ينفرد بقتله عند بعض أهل المدينة» حتى لو عفا أحدهما كان للآخر أن يقتله7١‏ . ثانيها : أنه من المقررات أن الدخول بملك اليمين جائزء وإذا دخل الشخص بجارية لا يملكها يكون زنى» ولكن قرروا أنه إذا دخل الرجل بجارية ابنه لا يعد ذلك زنى» ولا يعاقب عقوبة الزانى» لأنه ثمة شبهة ملك لهء إذ النبى كَلِةٌ يقول: «أنت ومالك لأبيك»» فكان هذا النص مثبتا لشبهة الملك وإن لم يشبت الملك» ويكون الجهل فى هذا عذرا أسقط الحدء بل يقول الفقهاء إنه يمحو وصف الزانى» ولا يسقط العقوبة فقط . المثل الثالث : إذا أسلم حربى ودخل دار الإسلام» وشرب الخمرء فإذا قال: إنى كنت أجهل التحريم لا يقام عليه الحدء لأنه قريب عهد بالإسلام وديار الإسلام» والحربى الذى أسلم يختلف فى هذا عن الذمى الذى أسلمء لأن الأخير يقيم فى الديار الإسلامية فلا يعذر بجهل تلك الأحكام. - هذه شبهات من شأنها أن تجعل الجهل مسقطا لذات الجريمة» فلا يعد الرجل فى الأول قاتلا يستحق القصاصء. ولا فى الثانى زانياء ولا فى الثالث فاسقا لشربه الخمر. الشعبة الثانية : عدم توافر أسباب العلم بأن كان لا يعلم أصل العلاقة المحرمة فى الزواج مثلا. الشعبة الثالثة : أن يكون الجهل غير مزيل للجريمة» ولكنه مسقط فقط للعقوبة» ومن ذلك نكاح المحرمات على وجه التأبيد إذا كان الشخص يجهل ذلك التحريم» وكان فى الديار الإسلامية»ء فإذا تزوج الرجل أخته أو بنته» وهو يجهل التحريم»ء كأن يكون مجوسيا ذميا أسلم» وهو يجهل التحريم فإن العقد يكون باطلاء» ولكن إن دخل بها كان ذلك الفعل زنى» ولا يأخذ عقوبة الزانى» فالمرأة والرجل يوصفان بأنهما زانيان» ولا يقام عليهما الحدء ولهذا قرر الفقهاء أنه لا عدة من هذا الدخولء» لأنه زنى» ولا عدة من الزنى. . وقالوا: إنه لا يثبت النسب كقاعدة لأن الزنى لا يشبيت نسباء ووصف الزنى لم تمحه هذه الشبهة. إنما كل الذى أوجدته هو سقوط العقوبة . ١595 حاشية فخر الإسلام البزدوى - المجلد الرابع ص‎ )١( 4 لقوله مَلِْةّ: «ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم»» ومع ذلك قال بعض الفقهاء: يثبت النسب» والنظر فى ذلك هو لمصلحة الطفل . ومن النوع الذى يعتبر فيه الجهل مسقطا للعقوبة فقط من غير أن يمحو وصف الزنى زواج المسلمة بغير المسلم إذا كانا يعتقدان الحلء كأن تسلم الزوجة وزوجها غير مسلم فيدخل بهاء فإن هذا يعتبر زنى» ولكن لا يقام الحد لهذه الشبهة». ومن هذا القبيل أيضا زواج الرجل بمن هى فى عدة الغير أو فى عصمته. إذا كان يجهل حكم ذلك» فإن ذلك كله يعد زنى» ولا حد عليه لمكان الشبهة» ولكن يجب أن يستثنى ما إذا كان ثمة دليل جعل الجاهل معذورا عذرا كاملا» كأن يشهد اثنان لامرأة أن زوجها قد مات». فتزوجها شخص آخر على هذا الحسبان. ثم تبين أنه حى يرزق» فإن هذه الشبهة يكون الجهل فيها من الجهل الذى يعد عذراء لا من الجهل الذى يوجب الشبهة فقطء وعلى ذلك لا يعد الفعل زنى» فلا يوصفان بأنهما زانيان» وهذا يعد من الشعبة الثانية لأنه جهل مبنى على دليل . ومثل ذلك ما إذا تزوج رجل امرأة على أساس أنه لا علاقة» أى أنه لا يعرف علاقة بينهما توجب التحريم بأن كان لا يعرف أنه أخوها أولا يعرف أنها رضعت من أمهء ثم تبينت تلك العلاقةء فإن الجهل فى هذه الحال يكون جهلا مزيلا لمعنى الجريمة» ولا يكون مسقطا للعقاب فقطء إذ هو مبنى على دليل استصحاب حال الحل» وهو من الشعبة الثانية . 7 0- وخلاصة التفرقة بين هذين النوعين الأخيرين من الجهل. أن الجهل إن كان جهلا بالحكم لقيام الدليل وإن كان ضعيفاء أو لم يكن جهلا بالحكم» ولكن كان الجهل بسبب الحكم كالجهل بالعلاقة المحرمة أو بتحريم الجارية على الاباء. فإن الجهل عذر قوى يمحو وصف الجريمة» ويم حو العقاب» ففى مسألة جارية الابن» ومسألة الرضاعة» والجهل بالعلاقة المحرمة والجهل بحياة الزوج - لا يكون الدخول زنى» ولذا يثبت المهر ويثبت النسبء وتثبت العدة» ولا يقام الحد. أما إذا كان الجهل جهل بالأحكام من غير دليل يستند إليه كأن يظن أن أحته حلال» فإن الدخول فى هذا الحال لا عقاب عليه» ولكن لا يمحى وصف الجريمة» ولذا يثبت المهرء لأن الدخول فى دار الإسلام لا يخلو من مهر أو حدء فإذا سقط الحد وجب المهرء ولا تثبت العدة» لأن الزنى لا يثبت عدة عند جمهور الفقهاءء أما النسب فلا يثبت عند الأكثرين» ويثبت احتياطيا للولد عند غيرهم. 4- هذا هو القسم الثالث من أقسام الجهل» وهو الجهل الذى يعذر فيه» وقد يكون قويا إلى درجة أنه يمحو وصف الجريمة إذا كان مبنيا على دليل» وقد يكون ا العذر فيه ضعيفا فيزيل العقاب» ولا يمحو الجريمة» ولذلك قالوا: إنه فى هذا النوع الثانى يجب على ولى الأمر أن يفرض عقوبة تعزيرية للمرتكب. أما القسم الرابع فهو الجهل بالأحكام الإسلامية فى غير ديار الإسلامء فإن الأقسام الثلاثة السابقة كان الجهل فيها فى الديار الإسلامية» حيث يكون فى الإمكان معرفة الأحكام بالتفصيل» وقد كان نطاق الجهل محدودا وكان اعتباره عذرا فى أضيق الحدود. أما القسم الأخير فإمكان العلم عسيره والجهل كثيرء وقد قال فى هذا صاحب كشف الأسرار: الفرق بين هذا القسم والقسم الثالث أن هذا القسم مبنى على عدم الدليل» والقسم الثالث مبنى على اشتباه ما ليس بدليل دليلا لذا فعل» فالجهل فى دار الحرب من مسلم لم يهاجر يكون عذرا فى الشرائع». حتى لو مكث مدة لم يصل فيها أو لم يصمء ولم يعلم أن عليه الصلاة والصوم» ولا يكون عليه قضاؤهماء وقال زفر رحمه الله : يجب عليه قضاؤهماء لأنه بقبول الإسلام صار ملتزما لأحكامه» ولكن قصر عنه خطاب الأداء لجهله به» وذلك لا يسقط القضاء بعد تقرر السبب الموجب كالنائم إذا انتبه بعد مضى وقت الصلاة» ونحن نقول إن الخطاب النازل فى حقه لعدم بلوغه إليه حقيقة بالسماع» ولا تقدير باستفاضته وشهرتهء لأن دار الحرب ليست بمحل استفاضة أحكام الإسلام» فيصير الجهل بالخطاب عذراء لأنه غير مقصر فى طلب الدليل» وإنما جاء الجهل من قبل خحفاء الدليل فى نفسهء حيث لم يشتهر فى دار الحرب يسبب انقطاع ولاية التبليغ عنهه(" . 65- ونرى أن هذا القسم يتميز عن الأقسام الثلاثة السابقة بأن الجهل فيها كان لعدم توجيه الخطاب مع قيام الدليل» أو لوجود الدليل مع اشتباه فى فهمه من غير خفاء فى ذاته» وإمكان العلم متوافر» ولكن ضعفت فى الشخص وسائلهء أما القسم الأخير فالخفاء ليس شخصيا. ولكن الخفاء كان فى ذات الدليل» وعدم المعرفة»ء لعدم إمكانهاء لا لحال شخصية منعت من المعرفة. ولكون الخفاء فى الدليل لا بطريق الاستدلالء اختلف الفقهاء فى أن التكليفات الشرعية يسقط أداؤها أم تسقط فى ذاتهاء فيسقط أداء الزكاة فى حينها على أن تؤدى إذا علم الحكم وانتقل إلى الديار الإسلامية» فيؤدى ما سبق أن وجب عليه» أم أن الوجوب فى ذاته يسقطء فلا يؤدى زكاة وجبت عليه» وهو فى غير الديار الإسلاميةء» وكذلك الجزائم أبقط عفناك فقط أم يسقط أصل التجريم الذى أوجب العقاب» لقد قرر 22384 كشف الأسرار ج 4 س55‎ )١( للحن الجمهور أنه ما دام الجهل فى الديار غير الإسلامية قد صار عذرا لعدم بلوغه الدليل» وعدم إمكانه معرفته بطريق الاستفاضة والاشتهارء فإن الخطاب بالتكليف ساقط فيسقط أصل التجريم عليه لا العقاب فقطء وعند زفر وبعض الفقهاء التجريم ثابت بالنسبة له ولكن لا يعاقبء» لأن المؤدى بإسقاط التجريم أن يكون الفعل مباحا بالنسبة لهء والشارع لا يبيح أمثال هذه المنكرات بحال من الأحوال» إنما أقصى ما يؤدى إليه التسامح الإسلامى أن تكون هذه الأمور فى مرثبة العفوء والعفو يقتضى سقوط العقاب» لا ثبوت الحل. 71- وقد قيل فى كل فعل يجهل الفاعل سبب تحريمه إذا وقع منه قبل العلم بالتحريم» أنه يعذر فى الجهل لفخاء الدليل عليه فى ذاته» وقد ضربوا لذلك مثلا فى الجنايات» أن العبد إذا جنى جناية يخير مولى العبد بين دفع العبد»ء ودفع أرش الجناية» أى عقوبتها المالية» وإن باعه بعد علمه بالجناية ينفذ البيع» ويعد قد اختار أن يدفع غرامة الجناية» ولكن إذا تصرف فى العبد قبل أن يعلم يعد معذورا فى جهله. ولا تجب عليه الغرامة» بل يجب عليه أقل المقدارين: قيمة العبدء ومقدار الغرامة التى أوجبتها الجريمة . ش وهكذا يكون الجهل بالسبب الموجب إذا خحفى كالجهل بالدليل فى موضع الخفاء» ولعله قد يعد من هذا النوع ما ذكرناه فى الشعية الثانية من القسم الثالث» وهو من يقوم به سبب التحريم بينه ومن عقد عليها ولا يعلم به» كأن يعقد على أخته وهو لا يعلم أنها أخته. أو على بنت أخته» أو على بنت أخيه رضاعا وهو لا يعلم هذه العلاقة فإن ذلك يكون جهلا بالسبب فى موضع خفاء فيكون كجهل الدليل الخاص فى موضع خفاء» إذ إن سيب التحريم يعد دليلا خاصا فى هذه الجزئية» وقد ذكرنا ذلك فى النوع الثالث» ويصح هنا أن نقول إنه يتجاذبه النوعان» ولكل وجه. وعلى ذلك يصح لنا أن نقول إن الجهل بالسبب إذا كان خفيا يصح أن يكون من القسم الثالث باعتبار أن الدليل العام قائم وأنه كان فى الإمكان معرفة السبب الخاص فى الجزئية المحرمة» ويصح أن نعتبره من القسم الرابع باعتبار أن جهل السبب فى موضع الخفاء يكون جهلا بالدليل فى ذاته» ولا يكون سبب الجهل من الشخص . /اله- هذه أنواع الجهل التى تكون عذرا ومقدار قوة العذر فيهاء ونرى أن الشارع الإسلامى قد كان رفيقا بالناس» وهذا كله كان الجهل فيه بالأحكام الشرعية الثابتة من الكتاب والسنة» ولم يكن الاعتماد فى أصل تحريمها على قول فقيه من فقهاء المسلمين» أو جمع من هؤلاء الفقهاء» إنما ثبت تحريم أصلها بالينبوعين الأصليين للشريعة ذاتهاء ونرى أن الشريعة كانت سمحة كريمة» وأن الفقهاء قد فصلوا القول فى أنواع الجهل بما لم يكن معلوما فى قانون قبلهاء ذلك أن أحوال الجهل مختلفة متباينة» خض وقد وضعوا الحدود للجهل الذى يعذر فيه الجاهل» والجهل الذى لا يعذرء وقد يكون فيها ذات الجهل يستحق العقاب. فضلا عن أن يكون مسوغا لسقوط العقاب. 4- وإذا كان الجهل ليس موضوعه أمرا من الأمور التى تعتبر من أصول الإسلام الثابتة بالكتاب والسنة» بل كان أمرا هو موضوع اجتهادء واخشيار ولى الأمر بأحد الأقوال» فإن ذلك لا يكون الجاهل به غير معذور إلا إذا كان العلم من الشيوع بحيث لايسع أحدا أن يجهل ما سنه ولى الأمر فى هذاء ووسائل الإعلان مختلفة تختلف: باختلاف الأحوال والعصورء فقد يعلن ولى الأمر ذلك فى المساجدء أو يعلنه الولاة كل وال فى ولايته. وفى مصر يكفى الإعلام بالإعلان فى الصحيفة الرسمية»ء وفى إمكان كل شخص أن يعرفء ويصحب الإعلان ذكر الصحف المختلفة له» فتكون الاستفاضة والاشتهار الذى يمكن كل شخص من أن يعرف». فلا يعذر بجهله. ومثل هذه الأحكام الاجتهادية كل الأحكام التعزيرية» فإنه لا عقاب فيها إلا بعد إعلان خاص لهاء لأنها ليست أمرا فى كتاب الله وسنة رسوله يله بل هى أمر من اجتهاد ولى الأمر للمصلحة العامة قلا يعاقب فيه قبل سنه» ولا يعاقب عليه أحد إلا بعد إعلانه» وقد نقلنا لك من قبل ما حكى عن عمر أنه ضرب رجلا لأنه طاف بالكعبة مع النساءء وقد نهى عمر عن ذلك» فاحتج عليه الرجل بأنه لم يعلم عزمته. ويظهر أن عمر رضى الله عنه لم يكن قد أعلنها بقدر كاف لنفى الجهالة. بحيث يكون خير النهى من الذيوع والاشتهار حتى يكون فى إمكان كل طائف أن يعلم» ولذلك قبل عذر الرجلء وطلب منه العفو عما أصابه من أذاه . 48- وقد يقول قائل: إن اجتهاد المجتهدين راجع إلى الكتاب والسنة» وكل أصل لاستنباطهم إنما يعود فى نهايته إلى الكتاب والسنة» فما يبينونه فعن الكتاب والسنة يصدرونء وليسوا شارعين حتى يفصل حكم ما يقولون عن حكم القرآن والسنةء وكذلك الأحكام التعزيرية مرجعها المصلحة»؛ وهى أمر معروف من القرآن الكريم والسنة بحكم البداهة» وإذا كان ذلك كذلك فلم لا يفرض فى الناس العلم بهذا ولا يعذر جاهل. لأن فى إمكانه أن يعلم بسؤال من يعلم» والإنسان قادر بقدرة غيره إذا كان القادر قريبا منهء لا يجد مشقة فى الوصول إليه» والجواب عن ذلك ذو شعبتين: الشعبة الأولى : أن نعود بالقارئ إلى ما قررناه من تقسيم الشافعى العلم بالفقه الإسلامى قسمين: : أحدهما : لا يسع أحد جهلهء وهو العلم بالمنصوص عليه بالقرآن الكريم» وما جاءت به السنة المتواترة أو المستفيضة المشهورة. وهذا لا عذر فيه لجاهل إلا فى الحدود التى رسمناهاء وفى الأنواع التى بيست» وبمقدار ما فى كل نوع من عذر ومذاه. ينض أما القسم الثانى : فهو ما يكون موضع استنباط المجتهدين» وهذا لا يكون العلم به بطريق اختيار ولى الأمر.لبعض ما.وصل إليه الفقهاء فى اجتهادهم . والشعبة الثانية هى : أن الفقهاء مختلفون فى غير المنصوص عليه بنص قاطع متواترء ولا إلزام لمسلم باختيار واحد منها إلا بملزم» فإذا جهل به فقد جهل بما لا يلزم بعلمه» ولا يكون الإلزام إلا باختيار ولى الأمرء فلا بد أن يكون العلم بإعلامه المستفيض المشهور وحدهء وكذلك الأحكام التعزيرية هى فى أكثر أحوالها اختيار من أقوال بعض الفقهاء» وفى بعضها اجتهاد من ولى الأمر فى مصلحة المسلمين» فتكون المعرفة بإعلانه هوء لا بأصل نص القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة. العقلاء الذين يفقدون الوعى 0- هذه أحكام الأفعال من أشخاص هم فى أنفسهم عقلاء» ولكنهم فى حال يفقدون فيها الوعى »وفقله فى هذه الحالء» إما لنوم أو إغماء» وإما لتناول مواد من 1 شأنها أن تفقدهم الوعى وهم السكارى. النوم والإغماء : -١‏ النوم والإغماء بالنسبة للجرائم يأخذان حكما واحداء وإن كانا من حيث العبادات والتكليفات الشرعية لا يأخذان حكما واحداء فإن النوم لا يسقط به التكليف» بينما الإغماء يسقط به التكليف» فالصلاة مثلا إذا مضى فيها صلاة وهو مغمى عليه لا تجب » وبعض الفقهاء ء أعطى الإغماء حكم النوم كاملا فلا يسقط به فرض مهما امتد. والجرائم من النائم والمغمى عليه تأخحذ حكم جرائم المخطئ, فإذا انقلب نائم على طفل فقتله. كانه ب الذي لطر وكذلك المغمى عليه ولذلك يسمون القتل فى هذه الحال جاريا مجرى الخطأ. وعلى ذلك نقول إن جرائم النائم أو المغمى عليه إن كانت تتعلق بحقوق الله تعالى فإنها فى مرتبة العفوء لآن المؤاخذة تقتضى اليقظة» وقد رذ فع القلم عن النائم حتى يصحوء كما ورد فى الأثر الصحيح. أما جرائ تمهم التى تتعلق بحقوق العباد فإنها ليست موضع عفوء لأن حقوق العباد لا تقبل السقوطء ولذا تكون عقويتها مالية. وبتطبيق هذا القول نقرر أنه لو زنى وهو نائم» أو شرب الخمر وهو نائم» فإنه لا يعاقب؛ لأن ذلك موضع عفو الله تعالى» ولكن إن قتل وهو نائم فإن فعله يكون نائم » فإنه يجب عليه أن يؤدى مثله . لضن السكران 5- السكر هو ستر الإدراك بتناول المواد التى تحدث ذلك سواء أكانت سائلة أم كانت جامدة» ويعتبر الشخص سكران إذا فقد وعيه» وصار لا يعقل شيئا قط. حتى إنه لا يعرف الرجل من المرأة» وهذا رأى أبى حنيفة زضى الله عنه» فمادام الرجل فى حال وعى ولو كان تسبياء فإنه لا يكون سكران ولا يفقد التبعات. وعند الصاحبين وجمهور الفقهاء أن السكران هو الذى يغلب على كلامه الهذيان» والأصل فى ذلك قوله تعالى: «إيا أَيْهَا الّذِينَ آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارئ حتَّئ تَعلّموا ما تقولُوني(23, فالحد الفاصل بين السكر والإفاقة هو أن يعلم الشخص ما يقول» وفسر ذلك أبو حنيفة بأن يكون واعيا ولو وعيا نسبياء وفسر ذلك غيره بأن يكون بعيدا عن الهذيان فإن من يهذى فى قوله لا يعلم ما يقول. ولقد جاء فى كشف الأسرار فى بيان السكر: «قيل هو سرور يغلب على العقل بمياث شرة بعض الأسباب الموجبة له» فيمنع الإنسان عن العمل بموجب عقله من غير أن يزيله» ولهذا بقى السكران أهلا للخطاب» فعلى هذا القول لا يكون ما حصل من شرب الدواء مثل الآأفيون من أقسام السكر لأنه ليس بسرور» وقيل هو غفلة تلحق الإنسان مع فتور فى الأعضاء بمباشرة لبعض الأسباب الموجبة لها من غير مرض وعلة» وقيل: هو معنى يزول به العقل عند مباشرة بعض الأسباب المزيلة» فعلى هذا القول يكون بقاؤه مخاطبا بعد زوال العقل أمرا حكميا ثابتا بطريق الزجر عليه لمباشرته المحرم» لا أن يكون العقل باقيا حقيقة» لأنه يعرف بأثره» ولم يبق للسكران من آثار العقل شىء فلا يحكم ببقائه)27 . هذه تعريفات متختلفة تبين ماهية السكر» وقد بينا حدوده الشرعية النى تجعل الشخص سكران» وقد ذكرنا أن أبا حنيفة يرى أن حده فقد الوعى» والصاحبين مع جمهور الفقهاء يرون حده ألا يعلم ما يقول. 7- ومع اختلاف الفقهاء فى حد السكرء واختلاف العلماء فى ماهيته» فقد اتفق الفقهاء على أمور ثلاثة تتعلق به: أولها : أن السكر حرام فى ذاته» وأنه إذا تناول الشخص سببه مختارا أثم وأقيم عليه الحد إذا كان من المشروبات التى توجب حداء ولا يأثم إذا تناوله مكرهاء أو فى حال ضرورة كألا يجد ماء» وهو فى حال عطش شديد يخشى منه على نفسه الهلاك» كما لا يأئم إذا كان قد تناوله لأجل جراحة أو نحو ذلك من الأسباب التى تكون فى دائرة الحلال. . ١570س‎ 5 النساء : "4# . (7) كشف الأسرار ج‎ )١( 6س”م الثانى : أن الفقهاء قد اتفقوا على أن الخطاب موجه إلى السكران» إما لأن العقل لم يزل بالسكرء بل اعترته غفلة» واعتراء الغفلة لا يمنع توجيه خطاب التكليف إلى السكران؛ وإما لأن العقل قد زال بفعله. فهو مسئول عن الضلال الذى وصل إليه بشرب ما شرب أولاء ومسئول ثانيا عن نتائج ذلك السكر من إهمال بعض الواجبات» وإما لأن المسئولية للزجر والمنع» إذ لو رفع عنه الخطاب بسبب سكره لأدى ذلك إلى الإفراط فى الشراب من غير رادع ولا زاجر. وإن عدم رفع الخطاب عنه ثبت بالنص القرآني الكريم» إذ يقول سبحانه وتعالى: «يَا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارئ حتَى تَعلموا ما تقولون 2١١4‏ فإن هذا النص يدل بصريحه على أن السكران مخاطب بالصلاة» إذ إن النهى منصب على الصلاة وقت السكرء فهو يدل على استمرار وجوب الصلاة وعدم سقوطها بالسكرء ولكن لا تؤدى وقت السكر. ثالثها : أن العقوبات لا تنزل وقت السكرء ولا تكون المقاضاة وقت السكر لكى يستطيع الدفاع عن نفسهء فعساه يكون قد ارتكب ما ارتكب مضطرا لا مختاراء وعساه يكون قد أخذه ليستعين به على تخفيف آلام جراحة» ونحو ذلك من الأغراض. 4 - هذه أمور ثلاثة قد اتفق عليهاء ولكن النظر أيعتبر السكر عذرا يعفيه من بعض التبعات» وقد اتفق الفقهاء أبضا على أن السكر إذا كان بمباح» أو كان قد أخذه مكرهاء ومثال الأول البنج لجراحة» ومثال الثانى الشرب لضرورة شديدة لعطش أو جوع ولا غذاء ولا رى فى سواهء وقد قالوا فى هذا النوع من السكر أنه لا مؤاخذة فيه ولا فيما يترتب عليه من أفعال إلا بمقدار مؤاخذة المخطئ والنائم والمغمى عليهء أى أن حقوق الله تعالى تكون فى مرتبة العفوء وحتقوق العباد لا يقتص منه فيهاء ولكن يترتب عليها المغارم المالية. هذا أمر متفق عليه. وإنما موضع الخلاف هو فيما إذا سكر بحرام وتناوله مختارا من غير أى عذر فيما يفعل» فقد اختلف الفقهاء فى ذلك على نظريتين : إحداهما : أن السكران مؤاخذ بأفعاله مؤاخذة كاملة» فعقوده نافذة عليهء وطلاقه واقع» ويقتص منه إذا ارتكب جناية توجب القصاص. وفى الجملة كل ما يعاقب به السكران». وإن كان العقاب لا ينفذ إلا بعد أن يصحوء وهذه النظرية تقوم على أمرين: أحدهما : أن الإثم لا يبرر الإثم.ء فالسكر إثم لا يبرر ما يترتب عليه من آثام. فمن سكر وقذف فقد ارتكب إثم السكر وإثم القذف. ومن سكر وقتل فقد ارتكب إثم السكر وإثم القتل. )١(‏ النساء : م ف ثانيهما : أنه لا عذر فيما يترتب على سكره من آثام وضياع حقوق. لأنه إذا أقدم مختاراء وهو يعلم أن السكر يفقد الوعى» وقد يحدث عن فقد الوعى ارتكاب بعضص الجرائم» فيكون بهذا متحملا كل تبعات أعماله» وفوق ذلك فإن السكر إذا كان سبيا لهذه الجرائم» فقد أقدم على السببء وهو يعلم نتائجه» والإقدام على السبب إقدام على المسبب» ويعتبر القصد الذى يتحقق به العمد فى القصد إلى السبب مختاراء وفى القصد إلى الجريمة وهو سكران فيعتبر مباشرا للجريمة بفعله» وبقصده الثانى حال السكر مضافا إلى القصد الأول. وهو القصد إلى السكر. ولقد جاء فى أصول فخر الإسلام البزدوى» ما نصه: «وإذا أقر بالقصاص أو باشر سبب القصاص لزمه حكمه.ء وإذا قذف أو أقر بالقذف لزمه حكمه» وإن زنى فى سكره حد إذا صحاء وإذا أقر أنه سكر من الخمر طائعا لم يحد حتى يصحوء وإنما لم يوضع عنه الخطاب ولزمه أحكام الشرع؛ لأن السكر لا يزيل العقل» لكنه سرور غلبه؛ فإن كان سببه معصية لم يعد عذراء لأن المعصية لا تصلح سببا للتخفيف» وإذا كان مباحا جعل عذرأ)20 . ولقد جاء فى مبسوط السرخسى: «فإذا قذف السكران رجلا حبس حتى يصحوء ثم يحد للقذف», ثم يحبس حتى يجف عليه الضرب» ثم يحد للسكرء لأن حد القذف فيه معنى حق العباد» فيقدم على حد السكرء ولا يوالى بينهما فى الإقامة لثئلا يؤدى إلى التلف؛ وسكره لا يمنع و_جوب الحد عليه بالقذفء لأنه مع سكره يخاطبء ألا ترى أن بعض الصحابة رضى الله عنهم أخذوا حد الشرب من حد القذف على ما روى عن على رضى الله عنه أنه قال: «إذا شرب هذى,. وإذا هذى افترى»» وحد المفترين فى كتاب الله ثمانون جلدة. ولايعد السكر شبهة مسقطة لحد أو قصاص لأنه معصيةء ولأن الحدود يسبب المعاصى» وهذا ما نص عليه صاحب كشف الأسرار» «السكر لا يصلح شبهة دارئة» لأنه حصل بسبب هو معصية» فلا يصلح سببا لتخفيف الحدء لكن الحد يؤخر إلى الصحوء لأن المقصود هو الانزجار ولا يحصل بإقامة الحد فى حال السكر)7؟؟ . 06- هذا شرح النظرية الأولى التى تجعل مسئولية السكران كمسئولية الصاحى تماما بلا فرق بينهماء وهى تتجه بالمجتمع نحو الفضيلة» فإذا كان الجنون عذرا يوجب العفو عن العقاب البدنى لأنه آفة سماوية» فليس من المعقول أن يكون السكر مثله» لأنه آفة يصيب بها الإنسان نفسهء فتبعتها عليه . .١580ص أصول فخر الإسلام على هامش كشف الأسرار جة‎ )١( 8 ١ 576 كشف الأسرار جح ص‎ 000 ينض هذه النظرية حمل لواءها الحنفية ووافقهم بعض الشافعية» وكثير من المالكية وبعض الحتابلة . ' أما النظرية الثانية فهى أن السكران الذى لا يعى ما يقول لا تصح عقودهء لأن التى تسقط الشبهةء وهى الحدود والقصاص. لأنها عقوبات تدرأ بالشبهة.» وفقد الوعى وقفت الارتكاب يخل بمعنى العمد. أو على الأقل شبهة فى القصد الكامل» وعلى ذلك لا تنبت عقوبة القصاص وقد تثبت مع هذا عقوبة تعزيرية لمنع الفساد والزجرء أما إقامة الحدود فهى أمر مناف للحديث الشريف الذى يقول: «ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم» ولا شبهة أقوى من السكر فى منع إقامة الحدء وعلى هذا النظر الشافعى فى أحد قوليه» وأحمد. وقول فى مذهب مالك رضى الله عنه. | وإن هذه النظرية تتفق مع القوانين الحاضرة» فإنها لا تعاقب السكران بعقوبة الإعدام إذا ارتكب ما يوجبهء وإن القوانين الحاضرة قد يكون لها ما يبرر نظرتهاء لأن الخمر فيها مباحء فالسكر دائما فيها بأمر مباحء ومادام بأمر مباح. فإنه لا يكون مؤاخذا بكل أفعاله كالصاحى تماما. 1- وقد ذكر ابن تيمية هذه النظرية الأخيرة بالتفصيل فقال: «(الفهم شرط التكليف»ء فلا يكلف المجئنون ولا السكران» فعلى هذا لا يقع طلاق السكران» ولا يجب عليه القصاص فى القتل» فإن قيل : إذا سكر ثم قتل» فإنه يأئم على السكر والقتل» فترتب الإثم يدل على التكليف لأن غير المكلف لا إثم عليه» فالجواب من وجهين: أحدهما : منع ترتب الإثم على القتل» بل إنما هو مترتب على الشرب والسكرء وهذا قول من يقول إنه كالمجنون فى سائر أقواله وأفعاله» إلا أنه وجب تكليفه . الثانى : أنه لو ترتب الإثم على القستل والسكر لتساوى من قتل وهو صاح ثم سكر» مع من قتل وهو سكران» وهذا لا يقوله أحد. فإن السكران الذى لا يفهم كيف العقاب)237 , فى الواقع جزء من الدعوىء لأن الذين خالفوا هذا النظر وهم الحنفية قرروا أن التساوى واجبء لأن الإثم لا يبرر الإثم» والمعصية لا تسقط معصية أخرىء» ولذا أوجبوا على السكران كل ما يجب على العاقل بلا فرق بينهم . 0 66 مختصر الفتاوى المصرية ص‎ )١( لضن 17- وإن ابن تيمية إذ يناصر فقه الذين يمنعون عقوبة السكران بعقوبة الصاحى فى العقوبات التى تدرأ بالشبهة يفرض صورة دقيقة» وهى صورة من شرب ليقتل» إذ إنه اتخذ السكر طريقا للقتل» وإما لآنه توقع ألا يقتص منه إذا سكرء كما قرر الفقه الذى يراه ابن تيمية» وإما لأنه لا يجد فى نفسه الشجاعة الكافية وهو فى صحوء فيسكر ليتهور فيرتكب الجريمة» وإنه إذ فرض هذه الصورة ذكر أنه يتتجاذبها نظران: أحدهما : يوجب أن يكون العقاب عقاب الصاحىء والآخر أن يدرأ عنه القصاصء» لأنه سكران» ولتترك الكلمة له يشرح وجهة نظره شرحا كاملا فقد قال: «ويحتمل أن إثم السكران الذى قتل فى حال سكر أكثر من إثم من سكر فقط ولم ينته إثمه إلى من قتل وهو صاح ثم سكرء ويحتمل أن يقال إن السكران إن كان قصده القتل أو الزنى أو غير ذلك من المحرمات قبل السكرء ثم فعل ذلك فى حال السكر» ٠‏ فإنه يكون إثمه مثل إثم من فعل فى حال الصحو وأكثر منه» وإن لم يكن قصده ذلك. بل ابتدأه غيره بالمهابشة فقتله» فإن إثمه يكون أقل من ذلك». ونرى من هذا أن ابن تيمية اتجه إلى هذا الفرض الدقيق» وهو من كانت عنده نية القتل أو الزنى أو غير ذلك من الجرائم» قبل السكرء وتساهل فى اعتبار جريمته كجريمة الصاحى. وعلى ذلك تكون عقوبته كعقوبته» واعتبر ذلك احتمالا فى النظرء ولم يقرره رأيا واجب التنفيذ. 8 ولقد تكلم القانونيون فى عصرنا الحاضر فى جرائم السكران» وكان نظرهم قريبا من نظر ابن تيمية» ففريق منهم اعتبره غير مسثول عما يرتكب» وبعضهم لم يعتبره عامداء وبعضهم اعتبره مسكولا مسئولية ناقصةء وأدقها من فرق بين السكر لارتكاب الجريمةء وبين السكر من غير قصدء ثم يجىء الإجرام تبعا للسكرء ولقد قال فى ذلك الأستاذ الدكتور محمد مصطفى القللى ما نصه: «ويتطرف بعض غلاة هذا الرأى الذى يمنع العقاب. فيقولون: إن الشخص لا يعاقب فى هذه الحال» ولو تناول السكر بقصد ارتكاب الجريمة» والواقع أن هذه منطقية لرأيهم» فما دام السكر يعدم التمييز والإدراك فلا محل للمسئولية» غير أنه كما يقول الأستاذ جارو: هذا مجرد فرضص نظرى» فالشخص يصمم على ارتكاب الجريمة» ثم يتناول مادة مسكرة بقصد التشجيع على ارتكابهاء ثم يرتكبها بعد سكره.ء هذا القول لا يمكن القول معه بأنه فقد الشعور تماماء فهو ينفذ ما صمم عليه من قبل» فكيف نقول إنه فقد وعيه». 84- وخلاصة القول بالنسبة للسكران أن كثيرين من الفقهاء قد حملوه تبعة الجرائم التى يرتكبهاء بل صححوا كل العقود التى يعقدها مهما عظمت تبعاتها عليه» لأن الإثم ليس سببا فى سقوط التبعات الدنيوية أو الأخروية» وفريق أسقط عنه التبعات التى لا تثبت مع الشبهةء فلم يثبت عليه الحدود التى تدرأ بالشبهات» ولا القصاص» لضن وى فى شرح قانونهم» والله سبحانه وتعالى هو الهادى إلى الصواب. الإاكراه 0- الإكراه متلاق فى أصل الاشتقاق مع الكراهية » فالأصل اللغوى لمعنى الإكراه هو حمل الشخص على فعل شىء يكرهه» وإنه فى الشريعة متلاق مع هذا المعنى تمام التلاقى» فالإكراه فى الشريعة حمل الشخص على فعل أو قول لا يريد مباشرته» وبذلك يتبين أن الإكراه والرضا لا يمكن أن يتلاقيا؛ لأن الأصل فى الاشتقاق أن يكون الشىء المكره عليه مكروها غير محبوب للفاعل» والشريعة وسعت المعنى فقررت أن الشىء المكره عليه يكتفى بألا يريد مباشرته. ويكفى ذلك لتحقيق معنى الإكراه. والإكراه فى أصل معناه الشرعى يشمل الحمل على فعل لا يريد مباشرتهء إذا كان أصل الفعل مباحاء كما يشمله إذا كان غير مباح» فعقد الإجارة فى ذاته عقد مباح » وكذلك عقد الزواج مباح» أو سنة على رأى جمهور الفقهاء » والحمل عليه بالتهديد بإتللاف الجسم » أو المال» أو عضو من الأعضاء إكراة» ولو كان موضوعه مباحا. والإكراه بلا شك يتضمن التهديد بأذى ينال المكرهء إما فى ماله» أو فى جسمه» ما يترتب عليه مهانته على نظر فى هذا القسم الأخير. -١‏ والإكراه على الجرائم الذى يؤثر فى اعتبار المرتكب جانيا أو يؤثر فى مقدار جنايته - لابد فيه أن يكون الأمر المكره عليه غير مباح» فهو مقصور على نوع من الإكراه» ولذلك قرر الفقهاء أنه لابد لتمام الإكراه فى الجرائم من توافر أركان أربعة . أولها : يثبت فى المكره المهددء وهو أن يكون قادرا على إيقاع ما هدد بهء فإنه إذا لم يكن قادرا على ذلك» ويعلم من هلده أنه غير قادر» فإن التهديد لغو لا يلتفت إليه . الركن الثانى : لتحقيق معنى الإكراه أن يقع فى نفس المكره أن المهدد سينفذ ما هدد به» ويقع منه الفعل تحت تأثير ذلك الخوف. فإنه إذا لم يكن كذلك لم يتحقق أنه فعل ما فعل غير راض . الركن الشالث : أن يكون الأمر الذى هدد به متلفا للجسم ومؤذيا لهء أو متلفا ور الركن الرابع : أن يكون الفعل الذى أكره عليه محرماء بأن يكون هومعصية فى ذاته» وأن يكون ممتنعا عن فعله قبل الإكراه» فإذا هدد شخص آخر بأذى يلحقه فى جسمه أو ماله إن لم يقتل فلانا و_قرر ذلك» وقد هم هذا بقتله من تلقاء نفسهء فإنه لا معنى للإكراه فى ذلك . ولقد قالوا فى تعريفه تعريفا جامعا لهذه الأركان: هو حمل الغير على أمر يمتنع عنه بتخويف يقدر عليه الحامل على إيقاعه فيصير الغير خائفا به. 5- ويقسم الفقهاء الإكراه إلى ثلاثة أقسام : أولها : الإكراه الملجئ وهو التهديد بما يعرض النفس أو عضوا من الأعضاء للتلف كالتهديد بالقتل» والتهديد بقطع عضو من الأعضاءء والتهديد بضرب يؤدى إلى شىء من هذاء وقد ألحق بعض العلماء بهذاء التهديد بإتلاف المال كلهء وهذا النوع يسمى إكراها تاماء لأنه يجعل المكره - فى يد المكره - كالالة فى يد الفاعل» والسيف فى يد الضارب . النوع الشانى من الإكراه : هو الإكراه غير الملجئ الذى يزيل أصل الرضاء وقد فرضوه فى التهديد بما ينزل بالمهدد فلا يتلف النفس ولا العضو ولا كل المال كالتهديد بتلف بعض المال» وكالتهديد بضرب لا يتلف الأعضاء» وكالتهديد بالحبس والقيد» ونحو ذلك». وهذا النوع من الإكراه يسمى إكراها ناقصا. النوع الثالث من الإكراه : وهوالذى لا يؤثر فى أصل الرضاء أى لا يعدمه.» وهو التهديد بالأذى ينزل بأحد أصوله أو فروعه أو أحد أقاربه بما دون إتلاف النفس أو ' إتلاف العضوء فإن هذا الإتلاف يعد من النوع الأول أو الثانىء أما التهديد بحبس أحد أبويه أو زوجه فهو من القسم الثالث. وفى هذا النوع اختلاف» أهو إكرأه معتبر أم غير إكراهء فقد جاء فى المبسوط فى باب الإكراه ما نصه: «لو قيل له لنحبسن أباك أو ابنك فى السجنء» أو لتبيعن عبدك هذا بآلف. ففعل. ففى القياس البيع جائز لأن هذا ليس بإكراه» فإنه لم يهدده بشىء فى نفسهء وحبس أبيه لا يلحق به ضرراء فالتهديد به لا يمنع صحة بيعه وإقراره وهبته. وكذلك فى حق كل ذى رحم محرمء وفى الاستحسان ذلك إكراهء ولا ينفذ شىء من هذه التصرفاتء لأن حبس أبيه يلحق به من الحزن والهم ما يلحق به حبس نفسه أو أكثرء فإن الولد إذا كان بارا يسعى فى تخليص أبيه من السجن» وإن كان يعلم أنه حبس ربما يدخل السجن مختارا ويجلس مكان أبيه ليخرج أبوهء فكما أن التهديد بالحبس فى حقه يعدم تمام الرضاء فكذلك التهديد بحبس أبيه) . وبهذا التقرير يتبين أن السرخسى فى مبسوطه يختار أن التهديد بحبس أحد المحارم يؤثر فى الرضاء ويفسد العقود كالقسم الثانى» وإن كان قد قال إنه هون الاستحسان.ء وذلك لأن القياس أن التهديد المعتبر يكون على النفس» وهذا النوع من التهديد ليس على نفسه» ووجه الاستحسان أن هذا التهديد نازل بمن هو فى منزلة النفس» وهو ذو الرحم المحرم» فكان على النفس من هذا الطريق غير المباشر» ومن المقررات الشرعية أنه إذا تعارض الاستحسان مع وجه القياس» كان المعمول به هو الاستحسان. هذا نظر السرخسىء ويقول فخر الإسلام البزدوى: إن الإكراه بحبس ذى الرحم المحرم لا اعتبار به ولا أثر له فى العقود. وهذا نص عبارته: «ونوع لا يعدم الرضا وهو أن يهدد بحبس أبيه أو ولده» أو ما يجرى مجراه» أى غيرهما من ذوى الرحم. وهذا الكلام يستفاد منه بلا شك أنه ما دام أصل الرضا قا-ثماء فلا عبرة فيه بالإكراه لا فى العقود ولا فى الأفعال» لأنه قد _فعل ما فعل وعنده ر_ضا فلا يفسد العقد» ولا تسقط تبعة الفعل. *6- وإنه بعد هذا التقسسيم الذى ذكره الشرعيون يرد سؤال» وهو خاص بالإكراه الأدبى» ألهذا الإكراه مقام فى الشريعة» أم أن الشريعة لا تعترف إلا بالإكراه المادى الذى يكون فيه التهديد ماديا بالقتل أو الحبسء وغير ذلك من الأمور المادية؟ والجواب عن ذلك أن الشريعة لم تهمل الإكراه الأدبى فالتهديد بحبس الأب أو حبس الأم» أو حبس الأخ أو الأخت ليس أذى ينال جسمههء ولكنه أذى ينال نفسهء فهو إن كان ماديا بالنسبة لهؤلاء الأقارب ذوى الرحم المحرم هو أذى نفسى وأدبى بالنسبة له. وعلى ذلك نستطيع أن نقوؤل إن القياس كان يوجب ألا يكون إلا الإكراه المادى. ولكن الاستحسان الذى قرره السرخسى يوجب أن يكون الإكراه الأدبى له أثر فى صحة العقود. | وبهذا يصح أن نقول إن فى المذهب الحنفى قولا يعتبر الإكراه الأدبى من أنواع الإكراهء ولكنه من قبيل الإكراه الناقص لا الإكراه التام . وفى الجملة أن بعض الفقهاء يعتبر كل أذى يصيب النفس» ويعمل الشخص على توقيه يكون من قبيل الإكراه إذا كان ثمة تهديد به» والناس يتفاوتون فى ذلك» ولقد لاحظ الحنابلة هذاء ولقد جاء فى المغنى: «فأما الضرب اليسير فإن كان فى حق من لا يبالى به فليس بإكراه» وإن كان من ذوى المروءات على وجه يكون إحراجا لصاحبه وغضا له وتشهيرا فى حقه كضرب الكبير فى حق غيره». وهذا بلا شك فيه ملاحظة للإكراه الأدبى. 514- والشخص تحت تأثير الإكراه يخاطب بالتكليفات الشرعية لا يسقط عنه بالتكليف بالإكراه» ولكن بعض الواجبات المعينة تصبح بالإكراه مخيرة» فمثلا حرام فض على الرجل أن يشرب الخمرء وواجب عليه أن يترك شربهاء وهو واجب متعين لا تخيير فيه» فإن كان تحت إكراه ملجئ كان متزددا بين واجبين» واجب المحافظة على النفس وواجب الامتناع عن الحرام» والزنى حرام وتجنبه واجب. وإذا أكرهت امرأة على الزنى صارت مخيرة بين واجبين أحدهما المحافظة على النفس التى تتعرض بالإكراه الملجئ للتلف أو لتلف عضو منهاء وواجب اجتناب المحرم؛ والإيمان بالله ورسله أوجب الواجبات» ولا مناص منه» ولكن رخص للرجل تحت تأثير السيف أن ينطق بكلمة الكفر» كما قال تعالى: إلا من أكْره قله مُطْن بالإيمان 274 . وهكذا نجد الإكراه ولو كان تاماء وهو الذى يسمى إكراها ملجئا - لا يسقط أصل التكليف فى الموضع الذى كان فيه الإكراه» بل إنه يحول الواجب إلى واجب مخير بعد أن كان معيناء أو ينزل به إلى مرتبة المستحب بعد أن كان فرضا كإعلان الإيمان عند الإكراه» فإنه ينزل به إلى مرتبة المستحب بعد أن كان أوجب الواجبات. - وبهذا التقرير ينتهى فقهاء الحنفية إلى أن الإكراه لا يتنافى مع الاخستيار وإن كان يتنافى مع الرضاء وذلك لأن الاختيار والرضا معنيان مختلفان عندهم. فالاختيار عندهم القصد إلى الفعل أو إلى القولء والرضا معناه قبول نتائج الفعل أو العقدء وبتعبير أدق: الاختيار هو القصد إلى الفعل أو القول الذى هو سبب النتائج» والرضا قصد إلى النتائج وقبولها. وإن بعض الفقهاء يقرر أن الرضا هو أقصى درجات الاختيار» وكأن الإنسان عند الإقدام على أمر له اختياران: اختيار أدنى وهو القصد المجرد إلى السبب تحت تأثير إرادة حرة أو تحت تأثير ضغط أيا كان نوعه» والاختيار الأعلى أن يتجه الشخص إلى المسبب وهو النتائج ويقصد إليهاء ولآن هذا الاختيار أعلى مراتب الاختيار» قال صاحب كشف الأسرار إن الرضا هو امتلاء الاختيارء تلك عبارته القيّمة: «الرضا عبارة عن امتلاء الاختيار» أى بلوغه نهايته» بحيث يفضى أثره إلى الظاهر من ظهور البشاشة فى الوجه ونحوهاء كما يفضى أثر الغضب إلى الظاهر من حماليق العين» وتغير الوجه بسبب غليان دم90" . وإن فقهاء الحنفية هم الذين يفرقون بين الإكراه الملجئ والإكراه غير الملجئ. وهم الذين يفر_قون بين الاختيار والرضا تلك التفر_قة» أما جمهور الفقهاء فإنهم لا يفرقون بين الرضا والاختيارء فليس عند المكره اختيار» لأنه ليس عنده رضاء فهما معنيان متلازمان» أوهما حقيقة واحدة. . 1١60 (؟) كشف الأسرار جْ 4 ص5‎ . ١١5: النحل‎ )١( اتفذنا 5- وكل أنواع الإكراه المعتبرة تفسد الرضاء أو بالأحرى تعدمه» لأن الرضا بالنتائج يقتضى الإقبال عليهاء وذلك لا يتفق بحال من الأحوال مع الإكراه مادام أصل الإكراه قد تحقق . إنما يفرق بين نوعى الإكراه الملجئ وغير المجئ بالنسبة للاختيارء فالإكراه غير الملجئ لا يؤثر فى الاختيار قط. وإن كان يعدم الرضاء أما الملجئ فإنه يعدم الرضا ويفسد الاختيار» إذ إن الملجئ تهديد بما يمس الحياة نفسهاء فإن قصد إلى ما فيه من حفظ لهاء فهو ليس مخيرا تخييرا كاملا فى ذلك القصدء إذ إن مقتضى الفطرة أن يحافظ على نفسه. وليس ثمة موازنة كاملة بين ضررين متقاربين» بل ثمة ضرر مؤكد لا مناص منه إلا بالفعل أو القول. ولهذا المعنى قرر الحنفية أن الملجئ يفسد الاختيار ويعدم الرضاء ومعنى إفساده الاختيار أن الاختيار يكون ناقصاء أما غير الملجئ فإنه لا يؤثر فى الاختيارء لأن من يهدد بضرب غير متلف» يتخير بين ضررين كلاهما محتمل» وهو أن يصبر على الأذى الذى يهدده المنزل بهء أو يسبل الإقدام على الأمر الذى يكرهه. والإقدام فى ذاته أذى فهو يراجح بين ضررين قابلين للاحتمال» وأيهما يختاره فاختياره صحيح على مقتضى مذهب أبى حنيفة» ولكنه فى كلتا الحالتين لا يعتبر راضياء ولا مريدا للنتتائج بإرادة حرة» لأن العقلاء لا يمكن أن يرضوا بالإضرارء ولو كانت نتيجة الترجيح بين ضرر وضرر. 5777- ولا فرق بين الإكراه الملجئ والإكراه غير الملجيئء بالنسبة للعقود. لآن العقود أساسها الرضاء وخصوصا العقود المالية» إذ إن الله سبحانه وتعالى يقول: فيا أيهَا الْدين آمنوا لا تأكنُوا واكم بِينَكُم بالبَاطل إلا أن تَكُون تجار عن راض سكم ه00 والنبى يَكْدٌ يقول: ١لا‏ يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس». والمكره لا يمكن أن يكون طيب النفس بما فعل. وإن العقود وسائر التصرفات لا يمكن أن تنسب لغير ذ اعلهاء فهى تنسب لصاحبهاء فأحكامها له أو عليه ولذا لا ينبت الالتزام عليه لعدم الرضاء ولا يثبت الالتزام على المكره. لأن القول لا يمكن أن ينسب إليهء فلا يكون ثمة التزام بالعقد. هذا بالنسبة للأقوال لا فرق فيها بين الملجئْ وغيره» أما بالنسبة للأفعال فإن الإكراه التام» وهو الإكراه الملجئ الذى يكون فيه إتلاف النفس أو عضو من الأعضاء يسقط المسئولية على المكره» والإكراه غير الملجئ لا يسقط عنه التبعة» وعلى ذلك يكون موضع التفرقة بين الإكراه التام والإكراه الناقص فى الجرائم المؤاخذ عليها. )١(‏ النساء: 59؟. ين 4- وهنا يرد سؤال: هل يسقط الخطاب عن الأفعال المؤاخذ عليها فى حال الإكراه الملجئ بمعنى أن الفعل يكون ساقطا غير مؤاخذ عليه بأى نوع من أنواع المؤاخذة؟ لقد أجاب عن ذلك الفقهاء الحنفية» فقرروا أن الفعل يصدر وهو مؤاخذ عليه غير ساقط الاعتبارء فلا يجعل فعل المكره هدرا لغواء كفعل البهيمة إذا أتلفت مالاء كما ورد عن النبى ككل «العجماء جبار؛ أى فعلها هدر لا مؤاخذة عليه إلا إذا كان فعلها نتيجة إهمال صاحبها أو سائقها. وإنما أثر الإكراه فى نسبة الفعل إلى الذى أكره على الفعل بدل أن ينسب إلى الفاعل المكره الذى باشر الفعل» وقد قال بعض الفقهاء: إن الفعل ينتقل من الفاعل إلى الذى أكرههء وقد قال السرخسى: إن هذا القول غير سليم»ء لآن مؤداه أن ينتقل الفعل بما هو عليه إلى المكرهء فإذا كان الفاعل ساقط التسبعة من حيث القصاص الحقيقىء فإنه ينتقل كذلك. والحقيقة أنه قد يكون الفاعل غير مؤاخذ على الفعل إذا فعله اختيارا كالصغير» فإذا قتل مضطرا وجب القصاص على من اضطره وأكرهه إكراها تاما ملجئاء فالنسبة إذن تتصل ابتداء بمن أكرهه» ولا تنسب له ثم تنتقل إلى المكرهء ولقد حلل السرخسى هذا المقام تحليلا جيدا فقال: 2 ' «قال بعض مشايخنا: إن أثر الإكراه التام فى الأفعال يكون فى تقل الفعل من المكره إلى المكره» وهذا ليس بصحيح.ء فإنه لا يتصور نقل الفعل الموجود من شخص إلى غيره» والمسائل تشهد بخلاف هذا أيضاء فإن البالغ إذا أكره صبيا على القتل يجب القود على المكره» وهذا الفعل فى محله غير موجب للقودء فلا يصير موجبا بانتقاله إلى محل آخرء ولكن الأصح أن تأثير الإكراه فى جعل المكره آلة للمكره؛ فيصير الفعل منسويا إلى المكره بهذا الطريق» وجعل المكره آله بالإكراه ينعدم الاختيار منه أصلاء ولكن لأنه يفسد اختياره به» لتحقق الإلجاءء فالمرء مجبول على حب حياته» وذا يحمله على الإقدام على ما أكره عليه» فيفسد اختياره من هذا الوجهء والفاسد فى معارضة الصحيح كالمعدومء» فيصير الفعل منسوبا إلى المكره لوجود الاختيار الصحيح منه» والمكره يصير كالآلة لانعدام اختياره حكما فى حال معارضة الاختيار الصحيح . . .2170 . 8- إذا تبين هذا الذى شرحنا ونقلنا معناهء فإن الإكراه غير التام لا يسقط أى عقوبة» ولو كانت من العقوبات التى تدرا بالشبهات لوجود القصد التام المختار من الفاعل عند الحنفية» إذ لا شبهة فى أنه ارتكب وهو مختار قد اختار لنفسه أخف الضررين فليتحمل مغبته» وقد استثنى بعضهم من ذلك زنى المرأة تحت تأثير الإكراه على ما سنبين. يض أما الإكراه الملجئع فى الأفعال فهو الذى يسقط المؤاخذة إسقاطا كاملا ففى بعض الأحوال» ولا يسقطها من كل الوجوه فى بعضها الآخر. ولقد قسم فقهاء الحنفية وغيرهم الموضوعات التى يتناولها الإكراه فيؤثر فى المؤاخذة وإن اختلف المقدار إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول : أن يحول الإكراه التام الفعل من كونه منهيا عنه موضع عقاب دنيوى وأخروى إلى مباح بل إلى واجب أحياناء وذلك إذا كان موضوع الإكراه أمورا تباح عند الضرورة بنص الشارع» وبالمقررات الثابتة من مجموع الأحكام الشرعية» ومن ذلك أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وشرب الخمر ء فإن هذه الأمور تباح عند الضرورة بألا يجد ما يأكله أصلا أو يشربه سوى واحد من هذه الأمور. وخشى على نفسه الموت جوعا أو عطشاء فإنه يباح بمقتضى النصوص أن يتناول من هذه الأشياءىء وهذه الأمور إذا كانت موضوعا لإكراه ملجئ فإنه فى هذه الحال يباح له أن يتناول» وعلى ذلك من شرب بإكراه تام» فقد شرب غير آثم» وبذلك لا يكون الأمر مجرد إسقاط للعقوبة» بل يكون الأمر فيه أن الفعل أصبح حلالا لا إثم فيه» فأصل النهى قد زال فسقطت الجريمة»؛ ويقول الكاسانى فى نتائج الإكراه فى هذا النوع: «المكره على الشرب لا يجب عليه الحد إذا كان الإكراه تاماء لأن الحد شرع زاجرا عن الجناية فى المستقبل» والشرب خرج من أن يكون جناية بالإكراه» وصار مباحا أو واجبا عليه» وإذا كان ناقصا يجب, لأن الإكراه الناقص لم يوجب تغير الفعل عما كان عليه قبل الإكراه. فلا يوجب تغير حكمهء والله سبحانه وتعالى أعلم170" . - هذا هو القسم الأول: وهو الإكراه فى موضع يقسبل عند الضرورة تحويله إسقاط» أى أن النهى يسقط بهذه الضرورة» أو بهذا الإكراه. أما القسم الثانى : فهو الإكراه فى موضع لا يقبل النهى فيه الإسقاطء كالنطق بكلمة الكفر» أو بسب النبى كلل أو الاعتداء على مال شخص معصوم ماله أى ليس حربياء والإكراه فى هذه الحال لا يسقط النهى» ولكن يرخص للمكره مع ذلك أن يجيب من أكرهه» ويقرر الفقهاء فى موضوع هذا النوع من الإكراة» فيه رخصة ترفيه» لأن النهى فى الموضوع ما زال قائماء وإن كان الله سبحانه وتعالى قد جعل الفعل تحت تأثير الإكراه محل عفو. والدليل على أنه يرخص لمن أكره على النطق بالكفر أن ينطق» قوله تعالى: ف إنْما يفتري الكذب الذين لا يؤسنون بآيات الله وأولتك هم الكاذبون ]> من كفر باللّه من . البدائع جلا ص778‎ )١( كا بعد إيمانه إلا م من أكره وقَلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفرٍ صدرا فَعليهِم عضب من اللّه ٠‏ ولهم عذَاب عظيم +« م 104 , ولقد روى أن عمار بن ياسر أكرهه المشركون على الكفر بما جاء به محمد» فلما رجع إلى النبى يَللِيهّ قال له: ما وراءك يا عمارء فقال: شر يا رسول اللّهء ما تركونى حتى نلت منك» فقال رسول الله مَلَِْةّم «إن عادوا فعد». ومثل ذلك الاعتداء على مال الغير» فإنه من المقررات أن الإنسان إذا كان فى مخمصة أو عطش شديد وبجواره شخص معه فضل زاد وفضل ماءء فإن له أن يطاليه بأخذ فضل من زادمفء أو فضل من مائه. ولو تقاتلا على ذلك فقتل العطشان الجوعان صاحبه فإنه لا إثم عليه» و كان الأولى ألا يقاتله . -0١‏ ومظهر الفرق بين هذا القسم وسابقه يبدو فى أمرين: أولهما : من ناحية الثواب الأخروى» فإن من يصبر على الأذى ولا ينطق بكلمة الكفر يثاب على ذلك» وكذلك من يمتنع عن الاعتداء على مال غيره تحت تأثير الإكراه التام حتى ينزل به الآمر المهدد به يثاب على ذلك . وإنه ليروى فى ذلك أن خبيب بن عدى قد أخذه المشركون من أهل مكة فجعلوا يعذبونه ليذكر الأصنام بالخير ويسب النبى علد 0 فامتنع عما أرادواء وكان لا يذكر الرسول إلا بالخير حتى قتلوه. فلما هموا بقتله قال: ولست أبالى حين أقتل مسلما على أى جنب كان فى الله مصرعى ولما بلغ ذلك رسول الله يَكةِ قال: «هو أفضل الشهداءء وهو رفيقى فى ١‏ الجنة200؟ , ومثل ذلك من امتنع عن أكل مال الغير حتى قتل. بخلاف من امتنع عن شرب الخمر حستى قتل» أو أكل الخنزير حتى قتل أو ماتء» فإنه يأثم ولايئاب» وذلك لأن النص قد ورد بالإباحة فى حال الاضطرار» ومثل حال الضرورة بعدم وجود الحل حال الاضطرار بالإكراه التام» أما إتلاف مال الغيرء أو النطق بكلمة الكفر فلم ترد نصوص بإياحتهء وإن وردت نصوص بالترخيص فيهاء وفرق بين الترخيص برخصة الترفيه والإباحة» فإن هذا الترخيص لا يسقط النهى الأولء ولذا يبقى للكف مع الإكراه ثوابه أما الإباحة فقد وردت فيها النصوص. فلا يبقى للنهى وجود فى حال الاضطرار بالإكراه التام» أو بحال الضرورة. . لك () المبسوط ج؟” ص55‎ 20٠١6 النحل:‎ )١( ينض الأمر الثانى الذى يبدو فيه الفرق بين القسمين» هو الحكم الدنيوى فإن من أتلف مال الغير تحت تأثير إكراه تام فإن الإكراه يعفيه من الضمان» ولكن إن أكرهه على أكل مال الغير» ولو إكراها تاما فإن ذلك فيه الضمان على الحال» وبذلك يتبين الفرق بين الإكراه على أكل الخنزير فإنه لا ضمان فيه». والإكراه على أكل مال الغير ففيه ضمان» «المكره على إتلاف مال الغير إذا أتلفه يجب الضمان على المكره دون المكره إذا كان الإكراه تاماء أن المتلف هو المكره من حيث المعنى وإنما المكره بمنزلة الآلقع على معنى أنه مسلوب الاختيار إيثارا وارتضاء» وهذا النوع من الفعل مما يمكن تحصيله بآلة غيره بأن يأخذ المكره فيضربه على المال فأمكن جعله آلة للمكرهء فكان وي ا ولو أكره على أن يأكل مال غيره فالضمان الإكراف لآنه + يتور حصي بآلة أخرى » ذكان طائعا فيه» فكان الضمان عليه»90) . وإنه مما لا شك فيه أن سرقة مال الغير تعد من قبيل إتلافه» وعلى ذلك لا يجب الحد فى السرقة التى يكون السارق فيها مكرها إكراها تاما» ويكون تلف المال فى المكرف ولا يجب عليه الحد» لأن الحدود تدرأ بالشبهات . ؟4- ومن هذا القسم الإكراه على الزنى» فإن الإكراه عليه كالإكراه على النطق يكلمة الكفر» فلا يستباح الزنى بالإكراه التام عليه وإن كان الإكراه مسقطا للحد» هذا بالنسبة للمرأة بالاتفاق» أما بالنسبة للرجل فقد قيل إنه من القسم الثالث» وقيل إنه من هذا ١‏ القسمء وعبارة الكاسانى تفيد أنه يميل إلى اعتبار الزنى من النوع الثالث» وإن كان 047- القسم الثالث من الإكراء: هو الإكراه فى موضوع لا يرخص فى انتهاكه ولا يباح» بل إن المكره يكون آثماء ولو فعل تحت تأثير الإكراه التامء ومن ذلك الإكراه على ضرب الوالدين» أو قتل معصوم الدم» أو قطع طرف من أطرافهء فإن الإكراه لا يجعل الفعل مرخصا فيه. ولا يبيحه. أما ضرب الوالدين فإن النهى عنه أبدى خالد» إذ يقول سبحانه : «فلا تقل لَهمَا أف ولا تتهرهما وقل لَهمَا قولا كريما 20> واخفض لَهِمًا جتاح الذّل من الرحمة وقل رب ارحمهما كَمَا ربيّاني صغيرا 57 (2 4”". ولأن الإحسان إلى الوالدين الذى أمر به القرآن الكريم أمرا محكماء لا مجال لتسخه - يوجب أن يؤثر أذى نفسه مهما يكن مقداره على أذاهما مهما قل مقداره» ويقول 58 البدائع جلا ص 198 . (5) الإسراء: ا‎ )١( لذن الكاسانى فى ضرب غير الوالدين: «وأما ضرب غير الوالدين إن كان مما لا يخاف معه التلف كضرب سوط ونحوه فيرجى ألا يؤاخذ به. وكذلك الحبس والقيد» لأن ضرره دون ضرر المكره بكثيرء فالظاهر أنه يرضى بهذا القدر من الضرر لإحياء أخيه» . +- وإن الإكراه بالقتل أو قطع عضو من الأعضاء لا يبيح للمكره ذلك» ولو فعل يكون آثماء لأن النبى يَلِْهٌ يقول: : #كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضهك1 ولأن الله سبحانه وتعالى يقول: والّذين يؤذون المؤمنين والْمُؤّمنات بغر ما اكتسبوا ققد احتملُوا هاا وما ينا 2ه 2104. ولأن الله تعالى يقول: «إ ولا تَقتَلُوا الس الي حَرَم الله إلا بالْحق 204 . ولأن الأساس فى الترخيص وزوال الإثم بالإكراه أن المكره إكراها تاما يفعل ما يفعل محافظة على حياته من غير أن يكون فى الصادر عنه إتلاف لحياة غيرف فكان الترخيص له فى فعل ما يفعل تحت تأثير الإكراه لدفع الضرر الكثير عن نفسه بالضرر اليسير» الذى ينال غيره بفعله. أما فى الإكراه على قتل الغير أو قطع عضو من أعضائه. فإنه ليس فى الترخيص دفع ضرر كبير باحتمال ضرر يسير» بل فيه دفع ضرر متوقع بضرر واقع ثابت يماثله أو يزيد عليه» ولا يصح ارتكاب ضرر كبير واقع لدفع ضرر مثله متوقع» ولذلك لا يباح بحال من الأحوال الاعتداء على النفس أو العضو تحت تأثير الإكراه . ولقد قالوا إنه لو أذن الشخص بإنزال الأذى لا يجوز للمكره أن ينزله فلو أذن الشخص الذى أمر المكره ه بقتله أو بقطع عضو من أعضائه أن يفعل به ما أمر المهدد ما أبييح للمكره ذلكء. وهذا لأن النفس والأعضاء ممالايباح بالإباحة» ألا ترى أن الإنسان لا يباح له أن يقتل نفسهء أو يقطع عضوا من أعضائه. فكذلك لا يجوز له أن يبيح ذلك لغيره» ولو فعل فأباحه» كانت إباحته باطلة . 6- ومن هذا القسم الزنى كما يقرر الحنفية على الخلاف فى ذلك وقد قالوا إن زنى الرجل لا يباح بالإكرام» بل يستمر الإثمء فالإكراه لا يوجد رخصة فى الفعل» ولا ينقله من منهى عنه إلى مباح» والسبب فى ذلك أن الزنى محرم تحريما ثابتا قاطعاء لا مجال للشك فيهء» ولم تنبت إباحته للضرورة» ولم يرد نص من الشارع بالترخيص فيه فى حال الإكراه. واللّه سبحانه وتعالى يقول: ولا تقربوا الى إِنَه كان فاحشة وساء سبيلاً 027 4 2 وفوق ذلك فإن الإكراه إنما يؤثر بالإباحة دفعا للضرر الكبير بضرر أقل مله ) وإن الأضرار التى تنجم من الزنى كثيرة» لا تقل عن الأضرار التى تنزل بمن أكره عليه إكراها تاما. .317 الإسراء:‎ )*( .16١ الأحزاب: 8ه. (1) الأنعام:‎ )١( لذن هذا قول الفقهاء بالنسبة لزنى الرجلء أما زنى المرأة» فقد قال بعض الفقهاء إنها لا تأثم إذا مكنت رجلا من نفسها تحت تأثير الإكراه التام؛ ولكن انتقد ذلك النظر الكاسانى وقال فيه: «وهذا عندى فيه نظر لأن فعل الزنى كما يتصور من الرجل يتصور من المرأة» ألا ترى أن الله سبحانه وتعالى سماها زانية. . . فاحتمل الوصف بالحظر والحر-مة» فينبغى ألا يختلف فيه حكم الرجل والمرأة» فلا يرخص للمرأة» -كما لا يرخص للرجل»1" . وإنه إذا لوحظ أن السبب فى عدم تأثير الإكراه بالنسبة للزنى هو أنه لم يرد ما يدل على الترخيص أو الإباحة فى حال الضرورة كما ورد فى القسمين السابقين» فإنه كما قال الكاسانى - لا فرق بين الرجل والمرأة فى التحريم والمأثم» فلا يختلفان من حيث الحكم بالترخيص» وأما إن نظرنا إلى أن الرجل لا يمكن أن يكون آلة فى يد المكره بالنسبة للزنى» إذ إنه يفعل ما يفعل لنفسه» والفعل منسوب إليهء ولا يمكن أن يكون منسوبا للمكره» وهذا المعنى لا يتحقق بالنسبة للمرأة» فإنه قد اختار السرخسى فى المبسوط التفرقة بين الرجل والمرأة فى هذا. 4- وهذا القسم حكمه الدينى الإثم بلا شك» لأنه لم يشبت ترخيص فيه قط فبقى أصل النهى على ما كان» وبذلك يتحقق العصيان» ومع العصيان الإثم» ولكن من ناحية العقاب الدنيوى» فهو موضع خلاف بين الفقهاء» والاختلاف ليس فى أصل العقاب» إنما الخلاف فى مقدار العقاب. وعلى من يقعء أيقع على الفاعل أم يقع على الحامل على الفعل؟ ولنذكر أولا حكم الزنى» لقد قالوا مع ثبوت الإثم» لا يثبت الحد» لأن الحدود تدرأ بالشبهات» وذلك إذا كان الإكراه تاماء أما الإكراه غير التام فقد بينا من قبل أنه لا أثر له فيما يتعلق بالجرائم» ولا يعتبر شبهة مسقطة للحدء أو مانعة للقصاص» وذلك هو رأى الصاحبين» وهو لا يفرق بين الرجل والمرأة» وولى الأمر يجب عليه أن يفرض عقوبة تعزيرية على الفاعل والحامل معا فى حال سقوط الحد. وعن أبى حنيفة روايتان: إحداهما : أنه لا يجب الحدء لا على الرجل ولا على المرأة» وقال بعض الفقهاء: إن هذه الرواية هى القوؤل الأخير الذى رجع إليه. وفى رواية أخرى» وهى القول الأول - يجب الحد على الرجل وحجة هذه الرواية أن الزنى لا يتحقق من الرجل إلا مع الرغسبة والإقبال عليه ومع الرغبة الرضاء والإكراه والرضا معنيان متضادان لا يتحقق أحدهما مع وجود الآخرء وإذا كان الرضا متحققا فهو يعتبر قد فعل طائعاء ولم يفعل مكرهاء والدليل على أن الزنى لا يثبت إلا مع الإقبال والرضا )١(‏ البدائع: جلا ص178. كلا أن الزنى مع الرجل يقتضى قوة إيجابية منهء أى يقتضى _حالا خاصة -فيه لا تتم إلا بالإقبال والرضاء فكان الزنى من الرجل يلازمه الرضاء لما يقتضيه الطبع. ويظهر أن الرواية الأولى التى لا توجب الحد ولا تفرق بين الرجل والمرأة هى الراجحة عن أبى حنيفة لأن الإكراه فيهما يفقد معنى الرضا بالعمل وليس وجود القوة الواقعة من الرجل تستلزم رضاه بالزنى؛ لأن كثيرين من الرجال عندهم تلك القوة الدافعة إلى الفعل» ولكنهم لا يرضون أن يرتكبوا إيثارا لرضا الله وقدعا لهذه الشهوة العنيفة . ولكن فقهاء الحنفية أوجبوا المهر على الرجل ما دام الحد لا يقام عليه لأن الدخول فى دار الإسلام لا يخلو عن عَفْر أو عقرء ويجب المهر على الفاعل ولا يجب على الحامل» لأنه لا يتصور أن يكون الفاعل آلة فى يد المكره إذ إن الفعل منسوب إليه» ولا يتصور أن يكون منسويا إلى الحامل» ويقول الكاسانى فى هذا المعنى: «وإنما وجب العقل على المكره دون المكرف» لأن الزنى مما لا يتصور تحصيله بآلة غيره» والأصل أن كل ما لا يتصور تحصيله بآلة غيره فضمانه على المكره». ومعنى هذه العبارة أن القتل عند الإكراه التام ينسب إلى الحامل» يعد هو القاتل» أن المكره آلة فى يده» إذ إن القتل تتعدد آلاتهء أما زنى رجل معين بامرأة معينة» وهو نسبة بين هذا الرجل وتلك المرأة» فلا يتصور أن تكون ثمة آلة غيرهء ولذا لا ينسب إلى الحامل» بل ينسب إلى الفاعل . وعلى ذلك فلا فرق بين الرجل والمرأة» بالنسبة للإكراه التام» أما الإكراه الناقص فهو الذى فرق بين الرجل والمرأة» فالرجل يقام عليه الحدء لأن الاختيار صحيح وقد قضى وطره» ولم يكن التهديد بما يخشى منه على النفس أو عضو من الأعضاءء فهو ارتضى أن يحمى نفسه من ضرر يسير بارتكاب أشد أنواع الفحشاءء ولا شبهة تسقط الحدء أو تمحو وصف الجريمة» أما المرأة فإن الإكراه الناقص كالإكراه التام يعفيها من الحدء لأنه أوجد شبهة»ء وفى البدائع: «أما فى حق المرأة فلا فرق بين الإكراه التام والناقص» ويدراً الحد عنها فى نوعى اللإكراه» لأنه لم يوجد منها فعل الزنى بل الموجود هو التمكين» وقد خرج من أن يكون دليل الرضا بالإكراه» فيدراً عنها الحد)237 . 17- هذا هو الإكراه على الزنى» وأما الإكراه على القتل» أو على قطع عضو من اللأعضاء. فإنه كما قررنا لا يسقط إثم الفعل من حيث الحكم الدينى» ولكن هل . 7١ص البدائع ج لا‎ )١( 8١ يسقط القصاص بهذا الإكراه؟ وإذا كان لم يسقط فعلى من يجب القصاصء أى من يعتبر القاتل» الضارب أم الحامل؟ باعتبار أن الضارب آلة فى يد الحامل . ونقول إن الفقهاء اتفقوا بالنسبة لجريمة القتل أو قطع عضو من الأعضاء على أن الفعل لا يخلو من عغقوبة بدنية» وجمهورهم على أن العقوبة تكون القصاصء. ولم يخالف فى ذلك إلا رأى فى المذهب الحنفى ونسب إلى أبى يوسف فقد قرر أن الواجب هو الدية باعتبار أن القتصاص يدراأ بالشبهة . ولكن من يقتص منه أهو المباشر للقتل للقتل والقطع أم الحامل عليه؟ قال أحمد ومالك رضى الله عنهما: إنه يقتص منهما معا باعتبارهما شركاء فى الجريمة هذا بإكراهه وذلك بمباشرته. لأن المكره تسبب فى الفعل» ومثله مثل من ألقى رجلا فى زبية أسد». وهو يعلم أنه سيفترسه لا محالة» فإنه فى هذه يقتص منه. إذ إن ذلك من أضرب التسيب التى توجب القود فى هذين المذهبين الجليلين. وبالنسبة للمباشر تحت تأثير الإكراه فلأنه قتله عمدا ظلما لاستيقاء نفسهء وإنه متمكن من الامتناعء وإنما قتله عند الإكراه لأنه يظن أن فى القتل نجاته. وما كان هذا الظن مسوغا للاعتداء على نفس حرم الله قتلها ولذا كان آثما باتفاق الفقهاء. وإذا كان القستل فى أصله من غير إكراه غير موجب. للقصاص فإن الدية تكون عليهما. وكذلك الشأن فى الاعتداء على الأطراف بالنسبة للقصاص والدية» هذا مذهب الإمامين أحمد ومالك» أما مذهب الشافعى(١2‏ ففيه وجهان: أحدهما: كمذهب أحمد ومالك» والآخر: أن القصاص على الحامل دون المباشر كرأى أبى حنيفة الذى سنبينه . 4- ومذهب الحنفية فيه ثلاثة آراء: أولها: رأى زفرء وهو أن القصاص فى الاعتداء على النفس والأعضاء إن كان الفعل يوجب فى أصله القتصاص يكون من المباشر دون المكره؛ وذلك لأن الفعل منسوب إليهء وهو فعل ظالمء والله تعالى يقول : « ومن قل مَظلُوما فد جنا لوليه سلطّانا فلا سرف في القت كا منصورا 14 . والمراد من السلطان هو استيفاء القصاصصى. وإن هذا الكلام يق يقتضى أمرين : أحدهما : أنه ينسب الفعل إلى المباشر. . المغنى جلا ص545 طبع المنار‎ )١( (5) الإسراء : #” 0 بذكن والثانى : أنه وصف بأنه ظلم» والدليل على الأول وهو نسبة الفعل إلى المباشرء فلأن الفعل المحسوس وقع منهء وهو قد أطاع من أكرههء فيعتبر قد اخحتار أهون الأمرين على نفسه. فينسب الفعل إليه» أما الدليل على الأمر الشانى» وهو كون فعله ظلما فلأن الإجماع منعقد على أنه آثم بما يفعل» والإثم يقضى بأن يكون ظالما("' . الرأى الثانى : رأى أبى يوسف وهو أنه لا قصاص لا على المباشر ولا على من أكرههء بل تجب الدية على المكره» وحجته أن المكره لا يعد قاتلاء وأقصى ما يوصف به فعله أنه متسبيب» والتسبب لا يوجب القصاص بمقتضى نظرية الحنفية» وكونه لا يعد مباشرا واضح لأن الفعل لم يقع منه والحس شاهد بذلكء» وإنكار المحسوس مكابيرة» وعلى ذلك لا يعد قاتلاء وإنما يعتبر من المباشرء والمباشر ليس قاصدا للنتائج ولا راضيا بهاء فلا يمكن أن يعد عامداء ولا قصاص إلا مع العمد. وإذا سقط القصاص وجبت الدية» وإذا وجبت فإنما تجب ضمانا للنفس» والضمان المالى يقع على الحامل فى الإكراه الملجئ. الرأى الثالث : وهو الراجح فى المذهب الحنفى - هو رأى أبى حنيفة ومحمد» وهو أن القصاص يكون على الحامل دون المباشرء ويقول السرخسى فى توجيه ذلك الرأى : #احجة أبى حنيفة ومحمد أن المكره ملجاً إلى هذا الفعل». والإلجاء يجعل الملجأ آلة للملجئ فيما يصلح أن يكون آلة له كما فى إتلاف المال» فإن الضمان يجب على المكره ويصير المكره آلة حتى لا يكون عليه شىء من حكم الإتلاف» ومعلوم أن المباشر والمتسبب إذا اجتمعا فى الإتلاف فالضمان على المياشر دون المتسبب» ولما وجب ضمان المال على المكره علم أن الإتلاف منسوب إليه» ولا طريق للنسبة إليه سوى جعل المكره آلة للمكره.» فكذلك فى القتل (ومثله قطع الأطراف) لأن المكره يصلح أن يكون آلة للمكره فيه» بأن يأخذ بيده مع السكين فيقتل- به غيره» وتفسير الإلجاء أنه صار محمولا على ذلك الفعل بالتهديد بالقتل» فالإنسان مجبول على حب الحياة» ولا يتوصل إلى ذلك إلا بالإقدام على القتل فيمسد اختياره بهذا الطريق» ثم يصير محمولا على هذا الفعل» وإذا فسد اختياره التحق بالآلة التى لا اختيار لهاء فيكون الفعل منسوبا إلى من أفسد اختياره وحمله على هذا الفعل» لا على هذه الآلة» فلا يكون على المكره شىء من حكم القتلء قصاص أو دية أو كفارة» ألا ترى أن شيئا من القصد لا يحصل للمكره» فلعل المقتول من أخص أصدقائه. فعرفنا أنه بمنزلة الآلة» وأما الإثم» فإن بقاءه لا يدل على بقاء الحكم»9 . . ص'"لا . () المبسوط ج 5" صاكلا‎ ١5 راجع المبسوط للسرخسى ج‎ )١( نكن وإن هذا بلا ريب توضيح قيم لرأى أبى حنيفة ومحمد الذى اعتبر.الإلجاء ملغيا للتبعة فى الدنيا عن المباشرء ولكنه مع ذلك آثم أمام الله سبحانه وتعالى» وإنه ليفرق فى هذا بين الحكم الدنيوى والحكم الدينى» فيقرر أن الإثم يتجه إلى محل الجناية» وهو الشخص المعصوم الدم والمالء فالجناية عليه إثم لا شك فى ذلك» وهو ينسب إلى الفاعل. والأمر يتعلق بهء أما الضمان الذى يكون مظهره القصاص أو الدية فإنما يكون أساسه اعتبار النسبة إلى الحامل من الإتلاف» وتغير النسبة من حيث الضمان لا يزيل الإئم من حيث الموضع» ومن جهة أخرى أنه لو كان الضمان والإثم كلاهما على المكرهء ولا شىء من الإثم على المكره لكان ذلك إهدارا لآدميتهء وإزالة لتكليفه. وقد تقرر فى الفقه الحنفى أن الإكراه لا يزيل الخطاب» ولا يهدر الآدمية. 4- هذا هو حكم الإكراه فى الفقه الإسلامى». ونرى معه أن الإكراه غير الملجئ لا يترتب عليه إسقاط التبعات الجنائية» أما الإكراه الملجئ فهو الذى يؤثر فى تحمل التبعة من الناحية الجنائية على التفصيل الذى وضحناه وبيناه» وقد بنى كلام الفقهاء على ثلاث قواعد: أولى هذه القواعد : أن الإكراه بالنسبة لحق الله أو العباد لا يغير الحكم فى ذاته فيحول الجريمة من كونها أمرا محرما إلى كونها أمرا مباحاء فلا يقال إن الزنى حرام ويكون فى حال الإكراه مباحاء ولا أن مال الغير حرام إلا أن يؤخذ بطيب نفسهء فينقلب بالإكراه مباحاء وأن دم المعصوم حرامء فلا ينقلب بالإكراه مباحاء وإذا استثنينا من ذلك حال الاضطرار فى أكل لحم الخنزير أو الميتة أو شرب الخمرء والإكراه الملجئ على ذلك من حيث إن العمل ينتقل إلى مباح بعد أن كان حراماء فإن السبب فى ذلك أن الفعل لا يتعدى إلى غير المكره أو المضطرء فإن اعتبر فى الأصل جريمة فهو جريمة غير متعدية إذ هو لا يتجاوز الشخص إلى غيره» فكان الأمر بين أن يأكل المحرم أو يصبر حتى يموت» ويعمل هو أيهما أنفع لهء ولا شك أن الإكراه الملجئ يجعل الأنفع له هو الأكل بدل الصبرء فلا يكون مأجورا فى الصبر» بل يكون آثما فيه على ما أجمع عليه الفقهاء . القاعدة الثانية : أن الإكراه غير الملجئ لا يغير نسبة الفعل من المياشر إلى الحامل على الفعل» وأما الإكراه الملجئ فإنه عند الحنفية يغير النسبة من الفاعل إلى الحامل إذا كان فى أمر يصلح الفاعل لأن يكون آلة فيه بأن تتعدد آلاته كإتلاف المال» وكالقتل» وكقطع عضو من الأعضاءء وكالضرب الشديدء ففى كل هذه الصور تنتقل النسبة إلى الحامل على الفعل دون من باشره» أما إذا كان الفعل لا تتعدد آلاته كالقذف وكالزنى فإن النسبة لا تنتقل إلى الحامل على الفعل». لأن هذه أمور شخصية لا تقبل الانتقال منه إلى غيرهء هذا عند الحنفية» أما غيرهم فإن الأمور التى تقبل النسبة إلى 84 إليها النسبة إلى الحامل» فيكونان مشتركين» هذا بالفعل وذلك بالتسبب. القاعدة الثالثة : أن التفرقة بين الإكراه الملجئ وغير الملجئ لا تظهر إلا فى الأفعال عند الحنفيةء أما فى التصرفات المالية وغير المالية» فإن الإكراه الملجئْ وغير الملجئ سواءعء فتفسد كل العقود التى تعقد تحت تأثير الإكراه» ولكن تقبل التصحيح إذا زال سبب الإكراهء وأمضاها فى حال الاختيار» وقال زفر: إن العقد تحت تأثير الإكراه يكون موقوفا على إجازة العاقد وقت زوال الإكراه. - هذا ويجب التنبيه إلى أن الإكراه فى ذاته جريمة ممن تولاه» سواء أكان إكراها ملجئاء أم كان غير ملجئ» ذلك لأنه اعتدى على حرية الغير» وقد علمنا أن من أعظم أغراض الشريعة المحافظة على النفس. ولا شك أن الاعتداء على الحرية اعتداء على النفس» وفوق ذلك فإن الإكراه على المحرمات الدينية فتنة فى الدين» ولقد قال تعالى : « والفتنة شد من الْقَيْل .2١(4‏ فمن أكره شخصا على أن يرتكب أمرا قد حرمه دينه فقد اعتدى بالإكراه فى الدين» وقد قال تعالى: فلا إكراه في الدين قد تبي الرشد من وإذا كان الإكراه فى ذاته جريمة» فإنها تكبر يكبر مقداره» فإذا كان الإكراه ملجكا فإن عقوبته التعزيرية تكون أشد من غير الملجئ. بيد أنه يلاحظ أن الملجئ إذا كانت النسبة قد انتقلت فيه من المباشر إلى الحامل» فإنه فى هذه الحال يكون هو الفاعل» فيعاقب عقاب الفاعل » ولكن لا مناص من أن نقرر أن الإكراه فى ذاته أذى» ولذلك كان لابد من التعزير بجواز ضمان المال إذا كان الفعل إتلاف مال؛ ذلك لأن جريمة الإكراه ذات أثرين: ْ أحدهما: على المباشر» وفيه الاعتداء على حريته . وثانيهما : على محل الجريمة وهو إتللاف المال» فالأول عقوبته التعزير. والثانى عفوبته ضمان المال. وهذا أمر مستخلص من أقوال الفقهاء ومنطقهم» والله خير الحاكمين . من تسقط عقوبتهم أو جر يمتهم الدفاع عن النفس : -0١‏ هؤلاء حافظون لكل قواهم العقلية» وفعلهم لا يمحى عنه وصف الأذى» ولكن بإضافته إليهم تسقط عقوبته» إما لأنهم فى حال تشبه الإكراه؛ وهى حال )١(‏ البقرة : ١91١‏ . (9) البقرة : 585 هم ْ ةا من يكون قد ارتكب فعله دفاعا عن المال» فإنه يكون فى حال تشبه حال المكرف ولكنه يقتل من يكرهه لا أحدا سواهء وإذا كان الإكراه الملجئ قد أسقط العقوبة بالنسبة لمن يعتدى على غير من أكرهه تحت تأثير الإكراف فأولى أن يسقط عقوبة من منع الجريمة عن نفسه» وقد تعين عليه ألا يدفع الأذى عن نفسه إلا بارتكاب ما ارتكب . وينتقل الفعل من حال منع إلى حال حل بل إن جمهور الفقهاء يقولون: إن الدفاع يصبح واجبا لقول النبى يل «من مات دون ماله فهو شهيد». فإذا كان شهيدا إذا مات دون ماله فالدفاع واجب » وعلى ذلك صسقط الجريمة» ولكن ليست المسألة موضع إجماعء بل أكشر الفقهاء يقولون: إن الدفاع عن النفس واجبء والأقلون هم الذين وفى هذا الموضع تفصيل نتركه إلى الكلام فى العقوبة» إن شاء الله تعالى. القتل لمنع استمرار جريمة : 7- هذا نوع آخر من القتل وما دونه يكون لمنع استمرار جريمة» كمن رأى رجلا يزنى بامرأة ولم يستطع منعهما من الاستمرار فى هذه الجريمة إلا بالضرب أو القتل فإن فعله يكون فى موضع العفو. ولقد قال فى ذلك ابن قدامة: «وليس على قاتل الزانى المحصن قصاص ولا دية ولا كفارة» وهذا ظاهر فى مذهب الشافعى. وحكى بعضهم وجها أن على قاتله القود لآن قتله إلى الإمام» فيجب القود على من قتله سواهء كمن عليه القصاص إذا قتله غير مستحقه » ولنا أنه مباح الدم. وقتله يتحتم فصار كالحربى». وقد قرر جمهور الفقهاء أن من رأى امرأته تزنى مع رجل فقتلهما أو أحدهما لا عقوبة عليه ويروون فى ذلك أن عمر بن الخطاب كان يوما يتغدى. إذ جاءه رجل وفى يده سيف ملطخ بالدم. ووراءه قوم يعدون خلفه. فجاء حتى جلس مع عمرء فجاء الآخرون» فقالوا: يا أمير المؤمنين» إن هذا قتل صاحبناء فقال عمر: ما يقولون؟ فقال: يا أمير المؤمنين إنى ضربت فخذى امرأتى » فإن كان بينهما أحد فقد قتلته فالتفت إليهم عمر رضى الله عنهء وقال لهم: ماذا يقول؟ قالوا: يا أمير المؤمنين إنه ضرب بالسيف» فوقع فى وسط الرجل وفخذى المرأة. فأخذ عمر سيف الرجل فهزه» ثم دفعه إليه وقال: (إن عادوا فعد». وإنه على أى حال لابد من أن يثبت سبب الفعل بأن يثبت الزنى بأربعة شهوذ. ويثبت الاعتداء من الغير إن كان الفعل لمنع الاعتداءء لآنه يكون لمنع استمرار جريمة أو تنفيذ جريمة. حي والفعل الذى يرتكب لمنع استمرار جريمة» يعد من قبيل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكرء ولذلك يسقط فيه معنى الجريمة» ولا تسقط العقوبة فقط. القتل لدفع العار: 07- وقد يكون القتل أو الاعتداء على النفس بشكل عام لدفع العارء لا لمنع استمرار الجريمة» كمن يعلم ببينة مثبتة للزنى أن إحدى محارمه تزنى» فإنه إذا قتلها يعذر فى قتلهاء وفى هذه الحال لا تسقط الجريمة إنما تسقط العقوبة فقطء ولذلك لا يجب عليه قصاص ولا دية ولا كفارة» بل إنه لا يحرم من الميراث» وقد صرح بذلك ابن عابدين» لأنه فعل ما فعل لعذر شرعى» وهو دفع العار عن نفسهء وإن العذر مهما تكن قوته لا يمحو وصف الجريمةء وإن كان قد أسقط كل أثرهاء وإذا رأى ولى الأمر أن يفرض تعزيرا لمثل هذه فإنه جائز. والفرق بينه وبين قتل من رأى جريمة ترتكب أن الأول يمنع استمرار فعل محرم» فهو قائم بواجب دينى وهو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكرء والثانى ليس فى حال القيام بهذا الواجب» لأنه يحاسبها على فعل ماض» والمستقبل بيد الله سبحانه وتعالى. وعسى أن تتوب توبة نصوحا. والمحاسبة على الماضى الواقع من عمل الإمام لا من عمله. ولذلك تفصيل نبينه عند الكلام فى العقوبة إن شاء الله تعالى. لايقتل أحد الأبوين بولدهها : 14:- هذا مبدأ مقرر عند جمهور الفقهاءء ولقد أطلقوا القول فيه» وقد وافق الجمهور مالكاء إلا فى حال القتل الذى يكون قد سبقه إصرارء وذلك كما صوره ابن رشد بأن يضجعه ويذبحه فإن مالكا قال: إنه فى هذه الصورة يقتل الوالد بولده» وفيما عداها لا يقتل به» وقد قال المغنى فى ذلك: «جملته أن الأب لا يقتل يولده» والجد لا يقتل بولد ولدهء وإن نزلت درجته» سواء فى ذلك ولد البنين وولد البنات» وممن نقل عنه أن الوالد لا يقتل بولده» عمر بن الخطاب رضى الله عنه» وبه قال ربيعة والثورى والأوزاعى والشافعى وإسحاق وأصحاب الرأى» وقال ابن نافع وابن عبد الحكم وابن المنذر: يقتل به لظاهر آى الكتاب الكريم والأخبار الموجبة للقصاصء ولأنهما حران مسلمان من أهل القصاص» فوجب أن يقتل كل واحد منهما بصاحيه كالأجنبيين» وقال ابن المنذر: قد رووا فى هذا أخباراء وقال مالك: إن قتله حذفا بالسيف ونحوه لم يقتل به وإن ذبحه أو قتله قتلا لا يشك فى أنه عمد إلى قتله دون تأديبه أقيد به)» . «ولنا ما روى عن عمر بن الخطاب وابن عباس أن رسول الله وَدٌ قال: «لا يقتل والد بولده». وقد أخرج النسائى حديث عمرء ورواه ابن ماجه» وذكره ابن عبد البرء نلا وقال: هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق مستفيض عندهم يستغنى بشهرته وقبوله والعمل عن الإسناد فيه» حتى يكون الإسناد فى مثله مع شهرته. تكلفاء ولأن النبى كلد قال: «أنت ومالك لأبيك». وقضية هذه الإضافة تمليكه إياه» فإذا لم تثبت حقيقة الملكية بقيت الإضافة شبهة فى درء القصاصء» لأنه يدرأ بالشبهات» ولأنه سبب إيجاده فلا ينبغى أن يتسلط بسببه على إعدامه» وما ذكرناه يخص العمومات» ويفارق الأب سائر الناس؛ فإنهم لو قتلوا بالحذف بالسيف وجب لهم القصاص والأب بخلافه «بالإجماع) 2١7‏ ومعنى الجملة الأخيرة أن الأخبار المستفيضة عن الصحابة وعن النبى مله من شأنها أن تخصص عموم القرآن الكريم الذى ورد بإيجاب القصاص من القاتل بلا فرق بين الآب وغيره» فوق ذلك فإن الأب مخصوص بحكم باتفاق الفقهاء وفيهم مالك. ذلك أنه بالاتفاق لو حذفه بالسيف لا يقتص به. بينما سيره لو حذف المقتول بالسيف بأن رماه به يقتل به. 65- والجد وإن علا من أى جهة كان مثل الأب» والأم والجدات وإن علون كن مثل الأم» ويلاحظ هنا أن الفقهاء قد اتفقوا على إسقاط العقوبة» وقد اتفقوا أيضا على أن الجريمة لا تسقط. فالإثم ثابت» والتعزير واجب». ولكن الذى يسقط هو عقوبة القصاص فقطء فلا يسقط مجرد عقاب» بل يسقط أقصى العقاب. وظاهر أقوال الفقهاء أن القصاص فى الأطراف مثل القصاص فى النفس» لأنه إذا كان القصاص فى النفس رفع» والجريمة أشدء فالقصاص فى الأطراف وهو أهون يرفع . القتل أو الجرح بإذن المجنى عليه : 7- هذا نوع آخر يسقط فيه العقاب» ولا تسقط فيه الجريمة فقد اتفق الفقهاء على أن الأمر بالقتل أو الجرح لا يبيح واحدا منهما؛ وذلك لأن النفس المعصومة من الأذى بحكم الإسلام لا تحل إلا بسبب من أسباب الحل» وليس من أسباب الحل الإذن بالأذى» لأن أذى المؤمن لنفسه حرام» فإذنه بالأذى لغيره لا يحل لغيره دمه. ولذا يحرم الانتحار» ويحرم على الإنسان إتلاف مال نفسه. وقد اتفق الفقهاء على أن الجرائم التى يسقط عقوبتها الرضا بعد الارتكاب»الإذن فيها قبله يسقط معناهاء فالإذن بأخذ المال يسقط معنى السرقة» ويسقط معنى الغصب» وإن كان فى عقد مداينة ورضى بالزيادة فإنه لا يسقط معنى الرباء لأن حقيقة الربا تتحقق مع الرضا من المدين وقبوله» وإلا ما كان ثمة ربا قط. . المغنى جلا ص515 طبع المنار الطبعة الثانية‎ )١( 88 هذه أمور متفق عليهاء أما الأمور التى هى موضع خلاف بين الفقهاء فهى سقوط العقوبة على الجانى إذا كان القتل أو الجرح بإذن المجنى عليه» فهنا نجد أقوال الفقهاء ثلاثة بالنسبة للإذن بالقتل: أولها : قول الإمام أبى حنيفة وأبى يوسف وأحمدء فقد قالوا: إن الإذن يسقط العقاب» فيسقط القصاص وتسقط الديةء وهذا مروى برواية واحدة عن أبى يوسفء وإحدى الروايتين عن أبى حنيفة» وحجته أن الإذن أسقط القصاص لمكان الشبهةء وأسقط المال لأن الحق يثبت للآذن ابتداء بدليل أنه يورث عنهء وإذا كان قد ثبت ابتداء فالإذن يسقطه. هذا هو القول الأولء والقول الثانى: أن الإذن يسقط القصاص فى القتل ولا يسقط وجوب الديةء وهذا رأى الإمام محمدء وإحدى الروايتين عن الإمام أبى حنيفة رضى الله عنهء» وهو رأى عند الشافعى ومالك» وحجته أن الإذن شبهة منعت القتصاص.» لكنها لا تمنع الدية» لأن العصمة للنفس قائمة لم يسقطها الإذن» فإذا مات نتيجة لإذنه فحق الأولياء ثابت فكانت الديةء» ولأن شبهة العمد والخطأ تجب فيهما الدية» وهذا لا يقل عن واحد منهما. الرأى الثالث : رأى مالك وهو المشهور عنهء وهو رأى زفرء وأحد القولين فى المذهب الشافعى أن العقوبة الكاملة تثبت» فإن كانت العقوبة القصاص فإنه يجب القصاص» وقد وضح حجة هذا الرأى الكاسانى فى البدائع فقال: «إن الأمر بالقتل لم يقدح بالعصمة» لآن عصمة النفس. مما لا يحتمل الإباحة بحال من الأحوال» ألا ترى أنه يأثم بالقولء فكان الأمر ملحقا بالعدمء فأساس هذا القول أن الأمر ملغىء وإذا كان ملغيا فلا عبرة به. والذين منعوا القصاص اعتبروا الإذن مع أنه فى حكم الملغى شبهة يسقط القصاصء والذين أسقطوا الأمرين اعتبروا الإذن مسقطا للعقوبة كلها لأن القصاص يسقط بالشبهة» والآخر يسقط بذات الإذن» لأن الدية تورث» وهى تثبت أولا للمجنى عليه ثم تنتقل إلى ورثته . 007- هذا هو أثر الإذن فى القتلء أما أثر الإذن فى الجرح فقد بيّنا أن الاتفاق بين فقهاء الأمصار على الوثم من : الآذن والمأذون معاء أما من ناحية العقوبة فإنه لا قصاص ولا دية» ولا أرش جراحة عندهم»ء وقد اتفق على ذلك الأئمة الأربعة كما هو مدون فى كتبهمء وذلك لأن الذى يطالب بالقصاص أو الدية أو الأرش هو المسجنى عليه وقد أسقط حقه فى المطالبة بالإذن ابتداء. فليس له الحق فى المطالبة بالتعويض فى أمر قد تم بإرادته. امن وموضع الخلاف هو ما إذا أفضى الإذن بالجرح أو القتل إلى الموت. فقد قال أبو حنيفة ومالك: إن الفعل يسرى عليه حكم القتل العمدء وذلك لأن الإذن لم يكن بالقتل فالفعل الذى أفضى إلى الموت كان قتلا عمدا بغير إذن. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعى وأحمد: إن العقوية المقدرة بنوعيها وهى القصاص أو الدية تسقطء لأن الإذن ثابت ابتداء وإفضاؤه إلى الموت لا يجعله غير مأذون فيه. لأن أصل الفعل كان بإذنء فلا يغيره ما أفضى إليه . 048 ه- هذا ويجب أن نقرر هنا ما ذكرناه من قبل». وهو أن الإذن لا ينقل الفعل من حال تحريم إلى حال إباحة» فالإثم ما زال ثابتاء والجريمة ما زالت قأائمة. وهى فى كل صورها إفساد لا يجوز ولا ييباحء ولذلك يصح لولى الأمر أن يضع عقوبات تعزيرية فى حال سقوط العقوبة المقدرة بنوعيهاء لأن من حقه - بل من واجبه - دفع كل فساد بين الناس» والإذن لا يبيح الفسادء بل إنه يجوز له عند ثبوت الدية أن يقرر حكما تعزيرياء إذا تبين له أن الدية غير رادعة. فالعقوبة التى تسقط بالإذن عند من يرون سقوطهاء وفى أحوال سقوطها هى العقوبة المقدرة بأمر الشارع» وهى الدية أو القصاصء أما العقوبة غير المقدرة فلم يقرر أحد من الفقهاء سقوطهاء إذ إنها منوطة بيقاء وصف الفعل بالإجرامء والوصف ما زال قائماء ولم يلغه الوذن. وإذا كان بعض الفقهاء قد صرح بالعقوبة التعزيرية» فليس معنى ذلك أن الآخرين يخالفونه ؛ لآنه لم يرد عن أحد منهم أنه منع التعزير» وما كان لفقيه أن يمنع التعزير» ووصف الإجرام فى الفعل مازال قائما. المبارزة : 4- وإن المبارزة فى غير الحرب ومع غير حربى» هى من نوع الإذن بالقتل بلا شك إذا كان الغرض منها أن يقتل أحدهما صاحبه» وإنه يجرى فيها اختلاف الفقهاء بلا شك إذا ما قتل أحدهما صاحبه من حيث إن , بعضهم قرر أن العقوبة القصاص» ود بعضهم أسقط كل العقاب المقدر. ود بعضهم أوجب المال المقدر دون القصاص» وإنا نطبق عليها كل ما قلنا فى الإذن» من أن وصف الإجرام فى القتل لم يزل وأن كليهه' آثم» وقد صرح بذلك النبى لَه فى الصحيح المسند إليه» إذ قال كل : «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار». قالوا: يا رسول الله هذا القاتل فما شأن المقتول!! قال الأمين المعصوم: «لأنه كان حريصا على قتل صاحيه» . ونقرر هنا أن لولى الأمر بل عليه أن يضع العقوبات التعزيرية لمنع المبارزة» واعتبار الإقدام عليها جريمة» ولو لم يحدث فيها قتل» بل حدث منها جرح له عقوبة الكل مقدرةء ذلك لأنها جريمة فى ذاتها كما صرح النبى يَكْلْةِ وما هو جريمة فى حكم الإسلامء يجب أن يكون جريمة فى نظر الحكام» وأن نقرر له العقوبات التعزيرية الرادعة المانعة . وإن المبارزة فوق الاعتبارات السابقة بقية من بقايا الجاهلية الأولى» وتحكم الأقوياء فى الضعفاءء وجعل الغلب للقوةء لا للقانون والنظم الثابتة المستقرة» ولهذا وجبت محاربتهاء لأنها لا تتفق مع المقررات الاجتماعية التى أساسها أن يكون الفصل بين الناس للقانون والحق والعدالة» لا لمجرد القوة الجسمية» أو المهارة فى الضرب أو الرماية» فتلك أحكام الغابة لا أحكام القوانين المنظمة للحقوق» الموزعة لها بالحق والقسطاس بين الناس . سقوط الجريمة لإباحة موضوعها : - قد يكون الفعل فى ذاته غير مباح» ولكن يعرض له ما يجعله مباحا؛ لأن موضوعه ليس محل نهى بل محل إباحة» وذلك إذا كان المجنى عليه غير معصوم الدم» فالقتل أمر محرم بمقتضى الشرع والفطرة الإنسانية» ولكن إن كان منه ما يقتضى إباحته كالحربى الذى يقاتل فإن دمه يكون مباحاء وبذلك يتحول الفعل الذى يكون فى أصله حراما إلى مباح» وبعد أن كان جريمة يصبح أمرا مستحسنا أو أمرا مباحا بشكل عام. وقد تكلم الفقهاء فى هؤلاء الذين أهدر الشرع دماءهم. وجعلهم غير معصومين إما أمام الحاكم وحدهء وإما أمام الحاكم والناس. وهؤلاء الذين أهدرت دماؤهم هم المحاربون» أى غير المسلمين الذين يحاربون المسلمين. ولو دخلوا دار الإسلام إذا دخلوها بغير أمانء» فإن دمهم مباح مهدرء وأى مسلم يقتلهم لا عقوبة عليه؛ لأن الحرب أباحت دماءهم . ومثل هؤلاء دم البغاة الذين خرجوا على الإمام العادل ولو كان خروجهم بتأويل. وقد أشرنا إلى ذلك من قبل» وإذا قتل الباغى أهل العدل لا يقتص منه على خلاف فى ذلك بين الفقهاء . ومن هؤلاء الذين يباح دمهم المرتد» ولكنه يباح للومام دون غيره» ومع ذلك إذا قتله غير الإمام لا يقتل به. ولكن يعزر على رأى بعض الفقهاءء منهم بعض المالكية» لأن إطلاق ذلك للناس يؤدى إلى الفسادء ويؤدى إلى الاتهام الباطل بالكفر مع التنفيذ بغير الحقء ويؤدى إلى التناحر والرمى بالفسوق بعد الإيمان» وذلك ما ذمه الله تعالى فى قوله: 9 بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان 274 . )١(‏ الحجرات : 1١١‏ . "91١ وممن أهدر دمهم إذا قتلوا المحاربون الذين خرجوا يقطعون الطريق» فإنهم إذا قتلوا دفاعا عن النفس أو المال لم يكن فى ذلك إثم » وإذا أريد إزالة قوتهم ومعاونة السلطان على ذلك» وحصل قتل فيهم فى هذا السبيل فإنه لا جريمة فيه. وقد قالوا إن الزانى المحصن كالمرتد» لأن الحد فيه الرجمء كما أن الحد فى الردة القتل» ولكن لا يصح أن يتولى التنفيذ العامة قبل الحكم بحال من الأحوال» أما بعد الحكم فإن الذى يتولاه الإمام» فإن تولاه أحد الناس أثم لما يؤدى إليه فعله من فسادء ولكن لا يقتص منه. كل هذه المسائل وأخواتها موضع تفصيل وخلاف طويلء» وموضعه الكلام فى كتابنا العقوبة» إن شاء الله تعالى. ولذلك نرجئ الكلام فى تفصيل هذا الباب كله إلى الكلام فى كتاب العقوبة» والله ولى التوفيق. د يكن : تمهيد - الجريمة تعريفها وأساسها - تعريف الجريمة - الأساس فى اعتبار الفعل جريمة - المصلحة المعتبرة فى الإسلام - أقسام الجرائم من حيث المصلحة المعتبرة - تقسيم الجرائم من حيث مقدار الاعتداء فيها ونوعه -1- جرائم الحدود - الخصومة فى جرائم الحدود -5- الإثبات -- التقادم وأثره فى الجريمة التى توجب حدا -4- أثر عفؤ المجنى عليه فى الحدود - قطع الطريق - جرائم القصاص - القصاص فى المعنى - جرائم التعزير -١-‏ الجرائم الإيجابية والجرائم السلبية ات الجرائم المقصودة والجرائم غير المقصودة - الجرائم الواقعة على الجماعة والواقعة على الآحاد 5 زف كا 78 6م 44 45 ١١5 ١٠١ الموضوع - الجرائم السياسية وجرائم الرأى ١١7‏ ١6 البغى‎ - - أركان الجريمة - لآ جريمة إلا بقانون ولا عقوبة إلا بنص - النص فى جرائم الحدود والقصاص - لا جريمة ولا عقوبة بلا دليل فى التعزير - الجرائم التى تستوجب العقاب - مراتب الأوامر والنواهى ! - الواجب - المندوب - المباح - الحرام - المكروه - أدلة الأوامر والنواهى - القرآن الكريم - السنة النبوية الشريفة - القياس - الإجماع - الاستحسان والمصلحة والذرائع والعرف - اللاستحسان ١١ ايضن 1 ل 1١7‏ الذانا مفهوم اللقب - مفهوم الوصف 1 - مفهوم الشرط 5310 - مفهوم الغاية 310 - مفهوم العدد 516 - القياس فى العقوبات 1 - الألفاظ من حيث قوة الدلالة -1١88‏ حدود ولى الأمر فى العقوبات - الظاهر التى يضعها 514 - بطلان كل حكم من ولى الأمر يخالف النص يفف - الوالى الذى يشرع العقوبة يف - العقوبات التعزيرية واجبة على ولى الأمر وليست حقا 14 - سريان العقوبيات فى الشريعة عرف سريا العقوبة فى الزمان عرف - سريان العقوبات على المكان ١‏ - سريان القانون على الأشخاص بلا تفرقة 0ك - سريان العقوبات على الحكام 2 مم١‏ - جرائم الأمراء 5 - الدولة الإسلامية وغير الإسلامية ٠+‏ 2 تسليم المجرمين 33706 - الركن المادى فق - لا عقاب على النيات ع - التحضير للجريمة 358 - الشروع 7 - قوة هذه الدلالات فى إثبات العقوبات 330 - دلالة المفهوم 51 - دلالة مفهوم المخالفة لمن لك - الجريمة الخائبة - الاشتراك فى القتل - الاشتراك فى غير جرائم القتل - الاشتراك فى جرائم الحدود - الاشتراك فى جرائم التعزير - الركن الثالث (تحمل التبعة) - تحمل التبعة فى القوانين الحديثة - موقف الشريعة من هذه النظريات - العوارض التى تضعف المسئولية أو تسقطها أو تزيل وصف الجريمة - الأهلية الناقصة لتحمل التبعة - الجنون والعته - الجنون العارضص - الصغر - الغلط والخطأ والجهل - الغلط - الخطأ - خطأ التأديب 6 - خطأ الطبيب ينان - الخطأ الفاحش ش وم - الجهل ج00 - العقلاء الذين يفقدون الوعى 8 - النوم والإغماء 0 - السكران ان - الإكراه 0 58 ١ _ 4 ا‎ - من تسقط عقوبتهم أو جريمتهم - القتل لدفع العار يذ -|١١'‏ لايقتل أحد الأبوين بولدهما 2 /المسم - القتل أو الجرح بإذن المجنى "| عليه رم - المبارزة وم - سقوط الجريمة لإباحة '''| موضوعها 84 وفننا /1 نسضن كرون 6 مؤلفات الإمام الشيخ محمد أبو زهرة العالم الحليل الذى أثرى المكتبة الفقهية بموسوعاته» والذى ستبقى ذكراه شعلة وهاجة فى العلم والفقه الإسلامى» تلك المؤلفات الخصبة التى وهبه الله سبحانه وتعالى إياها لتكون منارا يهتدى به العلماء من بعده فى دراسة الفقه الإسلامى. -١‏ خحاتم النبيين كَليِةٍ (ثلاثة أجزاء فى مجلدين). -١‏ المعجزة الكبرى - القرآن الكريم. 7- تاريخ المذاهب الإسلامية (جزءان فى مجلد واحد) . :- العقوبة فى الفقه الإسلامى . 5- الخريمة فى الفقّه الإسلامى. 5- الأحوال الششخصية . 0 أبو حنيفة - حياته وعصره - آراؤه وفقهه. 4- مالك - حياته وعصره - وآراؤه وفقهه. 4- الشافعى - حياته وعصره - آراؤه وفقهه . -١‏ الإمام زيد. حياته وعصره - آراؤه وفقهه. -١١‏ ابن تيمية - حياته وعصره - آراؤه وفقهه. -١7‏ ابن حزم - حياته وعصره - آراؤه وفقهه. 6- أحكام التركات والمواريث. 5- أصول الفقه. -١/‏ محاضرات فى الوقف. - محاضرات فى عقد الزواج وآثاره. 84- الدعوة إلى الإسلام. -٠‏ مقارنات الأديان. -5١‏ مقارنات الأديان. -١‏ محاضرات فى النصرانية . اك تنظيم الإسلام للمجتمع . 1- فى المجتمع الإسلامى. 5"- الولاية على النفس . 5 الملكية ونظرية العقد. - الخطابة «أصولها. تاريخها فى أزهى عصورها عند العرب». 0- تاريخ الجدل (الذى مضى على طبعته ما يقارب الخمسين عاما) . - تنظيم الأسرة وتنظيم النسل. 8- شرح قانون الوصية. - الوحدة الإسلامية . -”١‏ العلاقات الدولية فى الإسلام. ؟*- التكافل الاجتماعى فى الإسلام. 788- المجتمع الانسانى فى ظل الإسلام. ” الميراث عند الجعفرية . وتطلب جميعها من ملتزم طبعها ونشرها وتوزيعها دار الفكر العربى الإدارة : 84 شارع عباس العقاد ‏ مدينة نصر ‏ القاهرة نت : 507/559845. فاكس: 0 51/015105